Sunday, December 31, 2017

قرويّو سوريا والشرق الأدنى، تتمّة


رأينا أنّ العلاقة التاريخيّة بين الريف والمدينة غير متوازنة ولربّما لم يكن من المبالغة القول أنّ المدينة في أغلب الحالات طفيليّة تأخذ من الريف أكثر بكثير ممّا تعطيه ومع ذلك ليست كلّ الأرياف سواسية: جبل لبنان مثلاً أكثر استقلاليّة وأغنى من سائر الريف ولعدّة عوامل أهمّها انفتاحه على المتوسّط والبعثات الغربيّة ووعورته التي جعلت إخضاعه للضرائب بشكل منتظم عسيراً إن لم يكن مستحيلاً، فلّاح غوطة دمشق موسر نسبيّاً ويزور العاصمة بانتظام (العكس غير صحيح: سكّان مدينة دمشق يحتاجون لدليل في متاهات الغوطة)، قد يتمتّع الفلّاح في جبال العلوييّن باستقلال نسبي ولكن بظروف معيشيّة متواضعة، أمّا عن فلّاح السهول الداخليّة فحالته يرثى لها وهو موضع استغلال ملّاك الأراضي وتجّار المدن يبيع محاصيله بأبخس الأثمان كي يحصل على الحدّ الأدنى الضروري لإبقائه على قيد الحياة وهو غالباً لا يملك الأرض التي يزرعها وحتّى إذا ملكها فالموضوع موضوع وقت إلى أن يكره على التنازل عنها للمالك أو التاجر الذي أقرضه بذاره أو قوت يومه. المالك لا يزرع والزارع لا يملك. 



بشكل عامّ لا يعرف الريف السوري حتّى منتصف القرن العشرين الإنارة ولا الكهرباء ولا الطرقات المعبّدة ولا وسائل المواصلات الحديثة. النقل على ظهور الدوابّ أمّا العجلات فهي غير معروفة وفي كلّ الأحوال ليس هناك دروب تصلح لها. لغياب المواصلات أثر بالغ الاهميّة في موضوع التسويق إذ الفلّاح مكره أخاك لا بطل مضطرّ لبيع إنتاجه في أقرب سوق ممّا يجهله تحت رحمة الوسطاء. الإنتاج قليل والتبادل أقلّ.  الغالبيّة العظمى من الفلّاحين أميّون والقرى عموماً محرومة من المدارس والمعابد وفي كلّ الأحوال الفلّاح أفلّ تديّناً -بالمعنى التقليدي وخصوصاً من ناحية ممارسة الطقوس- من أهل المدن وإن تعلّق بزيارة الأولياء والعادات الموروثة القديمة قدم التاريخ. الأمراض تفتك بالريف السوري: البرداء، السلّ، الرمد (سبب هامّ للعمى وقتها)، حبّة حلب.... ويساعد على تفشّيها البيوت الأبعد ما تكون عن التهوية والشروط الصحيّة. وفيّات الأطفال مرتفعة للغاية. 

حاولت سلطات الانتداب الفرنسي جهدها لتحسين وضع الريف السوري وكان فرض الأمن أحد أهمّ منجزاتها ولكنّ جهودها اصطدمت بعدّة عوائق أهمّها:

أوّلاً: نقص رؤوس الأموال. افتقرت سوريا في هذا الوقت للتمويل الضخم الضروري لتنفيذ مشاريع ذوي النوايا الحسنة وأحد الأسباب كان طبيعة الانتداب المؤقّتة حسب متطلّبات عصبة الأمم إذ يقتصر دور فرنسا من الناحية النظريّة على الأقلّ على تحضير سوريا للاستقلال وهذا لا يشجّع المستثمرين الأوروبيّين على توظيف أموالهم عندما يجهلون ما قد يحدث غداً على عكس الوضع السائد في المستعمرات خاصّة الاستيطانيّة كالجزائر مثلاً. 

ثانياً. العوائق الاجتماعيّة والسياسيّة وهي أيضاً محكومة بطبيعة الانتداب المؤقّتة التي شجّعت القيادات السوريّة (وأغلبها قيادات مدن) على المطالبة بالاستقلال كواجب وطني وحدّت من قدرة الانتداب على إجراء إصلاحات جذريّة على غرار أتاتورك في تركيّا (الذي ذهب إلى حدّ منع الحجاب واعتماد الأحرف اللاتينيّة) ورضا خان في إيران.

ثالثاً. المطلوب لتنمية فعّالة ليس فقط تحسين البنية التحتيّة وسنّ القوانين وإنّما ثورة اجتماعيّة شبه مستحيلة وغير موجودة في أي مكان في الشرق الأدنى باستثناء فلسطين تحت الانتداب البريطاني وتحديداً المشروع الصهيوني الذي استورد المستوطنين الأوروبيّين بالجملة وإن سلّم الكاتب أنّ الثمن كان فادحاً للغاية وهذا قبل النكبة بعامين! (مات المؤلّف عام ١٩٤٦ بعد نشر الكتاب بفترة لا تتجاوز الأشهر). مع ذلك يقول أنّ نجاح فرنسا في الريف السوري تجاوز ما حقّقته بريطانيا في العراق وشرق الأردنّ. 

خرجت فرنسا وبريطانيا من الحرب العالميّة الثانية مرهقتان واستفاد الشرق الأدنى من ضعفهما النسبي سياسيّاً لتحقيق استقلاله المنشود كما استفاد اقتصاديّاً طوال فترة تواجد الجيوش الأوروبيّة على أراضيه والتي أدّت لزيادة التبادل التجاري لمصلحة الأهالي ولكن التحرّر من الاستعمار أو الانتداب جاء على أيدي نخبة أهل المدن بالذات وهذا التحرّر السياسي لم يترافق بالضرورة مع تحسّن في الحريّات الفرديّة أو تطوّر اجتماعي واقتصادي إيجابي. يضيف الكاتب أنّ ثمن الاستقلال باهظ إذ يتحتّم على الدولة الفتيّة تحمّل الكلفة الفوريّة لجيش وطني وبعثات ديبلوماسيّة وهذا يأتي على حساب مشاريع التنمية الطويلة الأمد. هكذا على الأقلّ بدت الأمور غام ١٩٤٦.

يخنم السيّد Weulersse فيقول أنّ مستقبل الشرق الأدنى إن خيراً وإن شرّاً يتعلّق بمصير الفلّاح.  


قرويّو سوريا والشرق الأدنى

شكلّ أبناء وبنات الأرياف لآلاف السنين وعلى الأقلّ حتّى منتصف القرن العشرين الأغلبيّة الساحقة من سكّان سوريا. ليس ذلك فقط، بل كان الريف (ولربّما لا يزال) مصدر الثروة الرئيس في البلاد وإليه يرجع الفضل في تزويد المدن بحاجاتها الغذائيّة. حتّى مدينة دمشق وغوطتها الغنّاء كانت تعتمد على حوران في تأمين حنطتها وخبزها منذ قرون. مع كلّ هذا وأكثر يعجز المرء عن العثور على ذكر القروييّن في المصادر التاريخيّة أو يكاد. التاريخ بالدرجة الأولى تاريخ المدن التي كانت عماد الغزاة منذ العهد الهلنستي على الأقلّ والتي استمدّت قسماً لا بأس به من مكوّناتها الديموغرافيّة من دماء الفاتحين بينما كان الريف محصوراً بين مطرقة أعيان المدن وسندان التغلغل البدوي. 



حاول المستشرق الفرنسي  Jacques Weulersse  أن يفي الفلاّح السوري بعض حقّه في هذه الدراسة التي صدرت عام ١٩٤٦ وإن كانت تستند إلى معطيات عام ١٩٤٠ وما سبقه. بالطبع تغيّرت سوريا كثيراً منذ ذلك الوقت إذ تضاعف عدد سكّانها خمسة مرّات على الأقلّ وزادت نسبة سكّان المدن وضواحيها إلى ما يكاد لا يمتّ للماضي بصلة. علاوة على ذلك اتّسعت الكثير من القرى لتصبح مدناً بكلّ ما في الكلمة من معنى كما تشهد بذلك غوطة دمشق السابقة على سبيل المثال. يضاف إلى التغيّرات الكميّة تغيّرات نوعيّة في المواصلات والمكننة والحكم والإدارة والتسويق والتوزيع وهلمّجرّا. رغم كلّ هذا التطوّر -بسبيّاته وإيجابيّاته- يبقى هذا الكتاب مرجعاّ ثميناً ويساعد إلى حدّ كبير على فهم خلفيّة الأحداث التي مرّت بها سوريا خلال السبعة عقود التي انصرمت منذ طباعته بحلوها ومرّها. تقتصر الدراسة على سوريا الانتداب بما فيها لواء اسكندرون ولبنان وإن أمكن تعميم الكثير ممّا ورد فيها على سائر الشرق الأدنى (مصطلح أكثر دقّة من "الشرق الأوسط" الدارج). 

لحق ريف سوريا الكثير من الظلم عبر التاريخ هناك اختلاف جذري بين القروي في أوروبا ونظيره في سوريا. النبالة في أوروبا نبالة أرض "دوق Anjou" أو "ملكة قشتالة" أو "أمير Wales" إلخ. بينما النبالة لدى العرب قبليّة أي الانتماء لعشيرة أو أسرة كما نعرف من الأعداد الهائلة ممّن ينسيون بحقّ أو بغير حقّ إلى الحسين لا بل تسمّى الدول "هاشميّة" أو "سعوديّة" حتّى اليوم. العرب على الأقلّ تاريخيّاً يمجّدون البدوي المحارب ويحتقرون الفلّاح والزراعة. الدولة في الغرب هي وحدة أرض + شعب + جهاز سياسي وإداري وهي تقدّم خدمات لمواطنيها لقاء واجبات تطالبهم بها أمّا في الشرق فالدولة بالنسبّة لأبناء الريف شرّ لا بدّ منه وأقصى ما يمكن أن تقدّمه إليهم حمايتهم من البدو ولقاء هذه الحماية (التي لا تتوافر دوماً) يتعيّن عليهم دفع ضرائب باهظة تتجاوز أحياناً مطاليب البدو. فرق آخر جدير بالذكر: تعتمد الجيوش الغربيّة على القروييّن بينما في الشرق الأدنى (إذا استثنينا مصر محمّد علي) الاعتماد على البدو والغرباء. إذاً الدولة العربيّة دولة دون أرض والقروي فيها فلّاح دون وطن

يمكن أن نضيف إلى ما سبق "طلاق" المدينة والريف إذا جاز التعبير وعلى أكثر من صعيد. على سبيل المثال اللاذقيّة سنيّة مسيحيّة بينما ريفها علوي، أنطاكيا تركيّة بينما ريفها علوي عربي، حماة عربيّة وريفها علوي بدوي إلخ. حماة بالذات لها وضع متميّز كأكثر المدن السوريّة محافظة والتي تسيطر عليها وعلى ريفها أربع عائلات (البرازي والكيلاني وطيفور والعظم لمن يهمّه الأمر). علاوة على كلّ ما سبق العلاقة بين أهل المدن عبر المدن أقوى منها بين المدينة وريفها (أي العلاقة بين الحلبي والشامي مثلاً أقوى منها بين الحلبي مع ريف حلب والشامي مع ريف دمشق). الوحدة طائفيّة أكثر منها جغرافيّة

للحديث بقيّة. 

Friday, December 22, 2017

صور تاريخيّة لمعالم سوريّة من العصور القديمة والوسطى


قررّ المندوب لبسامي الفرنسي في سوريا السيّد Henri Ponsot المساهمة بإحياء الماضي السوري وتعريف المهتمّين من السيّاح وغيرهم بالتراث الأثري السوري العريق عن طريق طباعة ونشر مجلّد فاخر عام 1931 يحتوي على مائة وستّين صورة بالأبيض والأسود من نوعيّة عالية لبعض أهمّ الأوابد في البلاد. الكتاب من تأليف العلماء المستشرقين René Dussaud و Paul Deschamps و Henri Seyrig ويمكن الحصول على نبذة عن حياتهم ومنجزاتهم بالضغط على أسمائهم في الوصلات الفائقة المرفقة. 



سوريا هنا تعني سوريا الإنتداب قبل اقتطاع لواء اسكندرون وتشمل بالطبع لبنان وأمّا عن تقسيماتها الإداريّة وقتها فهي "دول" سوريا والعلوييّن والدروز ولبنان وهي لا تشمل فلسطين ولا شرق الأردن كونها تحت الانتداب البريطاني. مصادر الصور متعدّدة على مدى عشرات من السنوات وفيها بعض اللقطات الجويّة البديعة من مطلع عهد الطيران. يرافق كلّ صورة صفحة من الشرح تعطي ببذة تاريخيّة وفنيّة وعماريّة عن الأثر المدروس وكلّ هذا طبعاً باللغة الفرنسيّة. 

بالطبع لا يمكن تغطية بلد شديد الغنى بالآثار كسوريا بمائة وستّين صورة ولا حتّى بألف وستمائة، لا بل ولا يمكن إعطاء حتّى مدينة سوريّة متوسّطة حقّها بهذا العدد الضئيل من الصور. رغم هذا التحفّظ يبقى هذا الكتاب الجميل مرجعاً لا يقدّر بثمن خاصّة وأنّ العديد من المعالم المصوّرة تغيّر شكلها كثيراً في التسعة عقود التي انقضت منذ نشره.

لا يتعرّض المؤلّفون لجميع المدن السورية وهو أمر مستحيل في حيّز محدود من هذا النوع ولكنّهم ركّزوا على ما اعتبروه أهمّ من غيره تاريخيّاً أو جماليّاً أو عاطفيّاً والمقصود هنا حنين الفرنسييّن إلى عهد الحملات الصليبيّة وفخرهم بها إذ هناك تركيز خاصّ على العمارة العسكريّة الصليبيّة وعلى سبيل المثال يحتلّ الحيّز المخصصّ لقلعة الحصن عدداً من الصفحات يعادل تقريباً تلك المخصّصة إلى دمشق. بالنسبة للمدن التاريخيّة الدارسة ومعابدها هناك تركيز خاصّ -وبحقّ- على بعلبك وتدمر. المساحة المخصّصة للآثار الإسلاميّة محدودة مقارنة مع غيرها. 

مسك الختام أنّ كافّة هذه الصور الرائعة مع النصوص المرافقة موجودة بالمجّان على الرابط التالي مع مصدرها وإسم المصوّر ولكن مع الأسف دون تاريخ الصورة وإن كان من الممكن الحصول عليه من مراجعة المجلّات التي نشرتها أصلاً في مطلع القرن العشرين أو من أسماء بعض المصوّرين مثل Bonfils و Sauvaget وغيرهم. 

Sunday, December 17, 2017

العرب في سوريا قبل الإسلام


يقصد العالم الفرنسي  René Dussaud   بالعرب  هنا بدو الجزيرة العربيّة وبادية الشام تحديداً وبالتالي يستثني جميع الحضر في اليمن وسوريا. Dussaud  (١٨٦٨-١٩٥٨) عالم آثار ومستشرق فرنسي وخبير باللغات العربيّة منها والقديمة كاليونانيّة والعبريّة وغيرها وأخصّائي بالخطوط والنقوش التاريخيّة والأديان الساميّة وله العديد من الكتب والمقالات في الدوريّات العلميّة ويعتبر أحد الروّاد في مجاله أو بالأحرى مجالاته. 

رأى كتابه عن  العرب في سوريا قبل الإسلام  النور عام ١٩٠٧ وهو لا يتجاوز ١٧٠ صفحة طولاً ولكنّه عسير القراءة وموجّه بالدرجة الأولى إلى المحترفين ومع ذلك يمكن للهواة أمثالي أن يستخلصوا منه كمّاً لا بأس به من المعلومات قلّ من تطرّق إليها من المؤرّخين وعلماء اللغة المحليّين وأشكّ في وجودهم أصلاً في بيئة لا تعطي العهود السابقة للإسلام حقّها لسبب أو لآخر وتعاني من نقص مزمن في التمويل المخصّص للبحث العلمي. 



يبحث المؤلّف موضوع تغلغل موجات الهجرة إلى سوريا حرباً أو سلماً وعليها أمثلة كثيرة فيقول أنّه سواء في حالة الأنباط أو العبرانييّن أو العرب المسلمين بدأ الدخول من شرق الأردن قبل الاتّجاه شمالاً وغرباً ولكن المعلومات المتوافرة عن كافّة هذه القبائل جرى جمعها من كتابات وسجلّات دوّنت بعد أن انتقلت هذه الشعوب من مرحلة البداوة إلى مرحلة التحضّر باستثناء وحيد ويتمحور الكتاب حول هذا الاستثناء. 

تتركّز الدراسة على  القبائل الصفائيّة  أو الصفويّة (لا علاقة بإيران طبعاً) نسبة  لتلول الصفا  الواقعة شرق اللجاة في حوران حيث تمّ العثور على كتابات ونقوش على الأحجار باللغة الصفائيّة تركها هذا الشعب عندما كان لا يزال في مرحلة البداوة وفبل أن يتمّ "هضمه" مع لغته وديانته وآلهته من قبل القرى والمدن المضيفة. 

هناك شبه إجماع أنّ الأبجديّة الأولى في التاريخ فينيقيّة (بالأحرى كنعانيّة إذ أنّ الفينيقييّن هي التسمية التي أطلقها الإغريق على الكنعانييّن) ومنها اشتقّت العبريّة والإغريقيّة وحتّى الذين يشكّكون في الأصل الكنعاني للأبجديّة يسلّمون أنّهم على الأقلّ من نشرها وعمّمها وأنّها أقدم الأبجديّات الساميّة إطلاقاً. باختصار نتدرّج من الأبجديّة الكنعانيّة إلى الإغريقيّة القديمة إلى اليمنيّة السبئيّة (مملكة سبأ) إلخ وأمّا عن الكتابة الصفائيّة فهي الأكثر "شماليّة" من كلّ النماذج العربيّة الجنوبيّة وتمتلك كالعربيّة ٢٨ حرفاً.  

ذاب الصفائيّون في المجتمع السوري في القرن الرابع الميلادي وتحوّلت نقوشهم وكتاباتهم إلى اليونانيّة ولكنّهم تركوا لنا من القرون السابقة لانصهارهم معلومات لا تقدّر بثمن لغويّاً ودينيّاً وقد خصّص الكاتب ٤٠ صفحة لآلهتهم منها ما ذكر في القرآن مثل  اللّات  والتي مثلّت لاحقاً الزهرة و Athena في العهد الهلنستي. بالنسبة  للعزّى ومناة اعتبرها Dussaud أقانيماً للّات ولكنّ النقطة الأكثر أهميّة هي أنّ  الله  كإله سبق الإسلام بخمسة أو ستّة قرون ولكن لا دليل أنّ الصفائيّون أو غيرهم مثّلوه بصنم كغيره وإن ارتأى المؤلّف أنّه من الممكن أنّ البعض اعتبر  الحجر الأسود  في الكعبة رمزاً لله bétyle وعلّ هذا يفسّر الاهتمام الخاصّ الذي أحاط به محمّد والمسلمون من بعده هذا الحجر. 

بالطبع ليس كلّ ما كتبه Dussaud قرآناً منزلاً فمثلاً خصّص ١٥ صفحة من الكتاب يؤكّد فيها أنّ قصر المشتى (الأردن حالياً) يعود إلى القرن الخامس الميلادي على أبعد تقدير مع أنّ كافّة الأخصّائييّن اليوم يحمعون أنّه أموي من منتصف القرن الثامن وما ينطبق على قصر المشتى ينطبق على غيره.

قدّر للمؤلّف أن يعيد كتابة هذا العمل ويراجعه ويوسّعه بعد خمسين سنة من نشره استناداً إلى خضمّ من المعطيات والمكتشفات الجديدة ولكن لهذا حديث آخر. 

Thursday, December 14, 2017

البلاذري وفتوح البلدان


رأينا كما سبق أنّ الفضل يرجع للبلاذري في أحد أهمّ وأقدم الكتب التي تؤرّخ الفتوحات الإسلاميّة كما رأينا أنّه مات عام ٨٩٢ للميلاد أي إمّا في نهاية خلافة المعتمد على الله أو بداية عهد المعتضد بالله العبّاسيّين. ماذا عن الفترة الزمنيّة التي يغطّيها كتاب فتوح البلدان؟ 



يبدأ البلاذري من دخول محمّد إلى المدينة (أي بداية التقويم الهجري) ويعطي تفاصيل محدودة ولكنّها ثمينة عن بناء مسجد النبي في يثرب-المدينة وتوسّعاته في العهود اللّاحقة ولكنه لا يتعرّض لغزوتي بدر وأحد بل ينتقل بغتة دون مقدّمات إلى طرد يهود قينقاع الذين "نقضوا عهدهم" دون أيّة تفاصيل عن كيف ولماذا وإن وجب أن نذكر (المقال السابق) أنّ ما لدينا نسخة مختصرة لمخطوط البلاذري. هناك تفاصيل أكثر عن طرد يهود النضير ومن ثمّ قتل وسبي يهود قريظة ومع ذلك بقي هناك وجود يهودي في خيبر ومسيحي في نجران إلى أن طردهم عمر إبن الخطّاب. 

آخر أحداث فتوح البلدان تدور في عهد الخليفة العبّاسي الثالث عشر أي المعتزّ بالله (٨٦٦-٨٦٩) وبالتالي يغطّي الكتاب حوالي ٢٥٠ سنة وعمليّات عسكريّة امتدّت من الجزيرة العربيّة جنوباً إلى تخوم آسيا الصغرى شمالاً ومن السند وتركستان شرقاً إلى شمال إفريقيا وإسبانيا غرباً ولكنّه لا يتعرّض للغارات على فرنسا و"بلاط الشهداء" ولا إلى محاولات الأموييّن المتكرّرة والفاشلة لأخذ القسطنطينيّة. بالنسبة لحروب الفتنة فلا معلومات عنها تستحقّ الذكر باستثناء الردّة ومسيلمة الملقّب بالكذّاب وإذا ذكرت أحداث كوقعة الجمل (بين علي من جهة وعائشة مع طلحة والزبير من جهة ثانية) أو معركة صفّين (علي ضدّ معاوية) أو كربلاء (مقتل الحسين) أو إبادة الأموييّن على يد أبي العبّاس وصحبه أو القتال بين الأمين والمأمون فهي تذكر بشكل عابر وفي سياق لا علاقة مباشرة له بها (أحياناً لا تذكر على الإطلاق).  هناك بالمقابل تيهور من المعلومات عن الأمور الفقهيّة المتعلّقة بتوزيع الأراضي والمياه وغنائم الحرب وأموال الجزية والخراج بين المسلمين حسب قربهم من النبي وإسهامهم في المجهود الحربي. 

يستحيل أن يلخّص المرء بصفحتين أو ثلاثاً أحداثاً كان مسرحها رقعة جغرافيّة بهذا الاتّساع وامتدادها الزمني بهذا الطول وبالتالي أقتصر على بعض الاستنتاجات على الهامش رأيتها جديرة بالذكر والذكرى:

أوّلاً: يخلط الكثيرون بين الفتوحات العربيّة وأسلمة جنوب وغرب آسيا وشمال إفريقبا. الفتوحات العربيّة كانت -على الأقلّ خارج الشرق الأدنى- ذات طبيعة مؤقّتة وكانت أشبه بالغارات منها إلى الفتوحات إذ كثيراً ما اضطر العرب المسلمون إلى "فتح" نفس المكان مثنى وثلاث عندما شقّ عصا الطاعة ورفض دفع الأتاوة-الجزية. النتيجة المنطقيّة أنّ الإمبراطوريّة العربيّة العظمى كانت مهابتها على الورق أكثر من قوّتها الحقيقيّة والعهد الأموي الذي بلغت فيه رقعة هذه الإمبراطوريّة أقصى اتّساعها كان في واقع الأمر زاخراً بالفتن الأهليّة كالتي أشعلها عبد الله إبن الزبير وأخوه مصعب قبل أن يخمدها الحجّاج إبن يوسف الثقفي وقد اضطرّ عبد الملك إبن مروان إلى دفع الجزية لإمبراطور بيزنطة (كما فعل قبله معاوية) كي يتفرّغ لحرب إبن الزبير. ما أنهى الدولة االأمويّة هو فرط التمطّط الإمبراطوري (Paul Kennedy) عندما عجزت مواردها على ضخامتها عن حماية المساحات الشاسعة التي أصبحت عبئاً على الدولة بعد أن كانت مصدر رزق للعسكر الغزاة وذويهم. امتداد الإسلام للهند وإندونيسيا وإفريقيا وغيرها كان لاحقاً وعلى يد التجّار والمتصوّفين (مغامرة الإسلام للمستشرق Marshall Hudgson) الذين نجحوا في تكييف العقيدة لتتلائم مع الأعراف والتراث المحلّي وليس على يد الفاتحين. 

ثانياً: موضوع شهامة وتجرّد الفاتحين المسلمين و"ما عرف التاريخ فاتحاً أرحم من العرب" مبالغ فيه للغاية. كان نصيب سوريا أفضل بما لا يقاس من غيرها -على الأقلّ حتّى مجيء العبّاسييّن- لأنّها كانت مركزاً للإمبراطوريّة ونقطة الانطلاق لكثير من الفتوحات ولكنّ الأقاليم النائية عانت الأمرّين من الفاتحين الذين لم يتورّعوا عن ضرب أعناق القادة وذبح الرجال في سنّ حمل السلاح وسبي النساء والأطفال في العديد من الأمكنة حتّى عندما استسلم "المشركين" وفتحوا أبوابهم. هذا ليس رواية أعداء المسلمين بل روايتهم هم  والبلاذري يذكرها كأمر مسلّم به ونظرته لها أبعد ما تكون عن السلبيّة. عندما قبل العرب الجزية نقداً أو عيناً لجأت بعض الشعوب التي تفتقر إلى المال إلى القبول باستعباد شبابها وفتياتها من قبل العرب الفاتحين كطريقة للدفع. بالطبع عندما خسر المسلمون معركة عاملهم "العجم" و"المشركون" بالمثل. 

ثالثاً: رواية البلاذري أشبه ما تكون بالسجلّات المسماريّة الآشوريّة أو الفرعونيّة القديمة من عدّة نواح منها المبالغة إلى درجة الكاريكاتوريّة في عدد وعدّة الأعداء ويتبع هذا وصف جبن الخصم وبطولات العرب وإن خسروا بعض الشهداء ثمّ وصف مفصّل للأسلاب وكيف تمّ تحصيصها بين الغزاة. يقول الكاتب بكل صراحة أنّ بعض محاربي الفاتحين كانوا يطمعون بالشهادة بينما البعض الآخر انضمّ إلى القتال طمعاً بالغنيمة.

رابعاً: ما يقرّر هدم المعابد "الوثنيّة" أو الإبقاء عليها وقتل "المشركين" أو حقن دمائهم عوامل نفعيّة وعمليّة بالدرجة الأولى إذ قبل الفاتحون في عدّة أماكن الجزية من المجوس وسمحوا لهم بالإبقاء على معابد النار وطبّقوا نفس المنهج مع بعض البوذييّن. أي أنّهم عاملوهم كما عاملوا "أهل الذمّة" المسيحييّن واليهود. 

أخيراً الكتاب منجم ذهب لهواة اللغة العربيّة فمثلاً تعلّمت منه معنى كلمة "العلوج" أو "الأعلاج" حمع علج (من يذكر الصحّاف) والتي ترجمها الدكتور حتّي بالرجل الأغلف (أي غير المختون). وهناك أيضاً بعض التفاصيل الساخنة بلغة شبه إباحيّة عندما اتّهم بعضهم المغيرة إبن شعبة بالزنا ولكن عمر أمر بجلد ثلاث شهود لأنّ الرابع لم ير الجماع بأمّ عينه وهناك أيضاً نادرة عمر عندما صادر أموال "عدوّ الله والمسلمين أبو هريرة" متّهماً إيّاه بالاختلاس.





أصول الدولة الإسلاميّة

يعتبر كتاب فتوح البلدان لأحمد إبن يحيى البلاذري (مات ٨٩٢ للميلاد) أحد أهمّ وأقدم المؤلّفات التي نملكها عن العهد الإسلامي الأوّل إذا سلّمنا أنّه بدأ مع محمّد وانتهى مع نهاية العصر العبّاسي الذهبي في منتصف القرن التاسع. المقصود بالعصر الذهبي طبعاً عصر القوّة السياسيّة وليس الازدهار الفكري والأدبي والفنّي. ترجم هذا الكتاب إلى الإنجليزيّة في مطلع القرن العشرين على دفعتين كما سنرى ويفيد العالم Richard Gottheil (١٨٦٢-١٩٣٦ وهو أكاديمي أمريكي صهيوني من مواليد إنجلترا) في مقدّمة الكتاب أنّ ما نملكه حاليّاً ليس كتاب فتوح البلدان الأصلي الذي اختفى بعد القرن السابع عشر وإنّما مختصر له. 



يعود الفضل في ترجمة هذا السفر النفيس إلى الإنجليزيّة لشخصين: الأوّل الدكتور فيليب خوري حتّي (١٨٨٦-١٩٧٨) الذي نقل ثلثي الكتاب من العربيّة إلى الإنجليزيّة ونشرت Columbia University هذا العمل عام ١٩١٦ أمّا الثاني فهو الدكتور Francis Clark Murgotten أستاذ اللغات في University of Nevada ولم أنجح في الحصول على معلومات تذكر عنه. قامت جامعة Columbia بنشر الجزء الثاني والأخير من الترجمة عام ١٩٢٤. 



ترجمة الجزء الثاني على مهنيّتها والحهد الكبير المبذول فيها لا ترقى إلى ترجمة الجزء الأوّل ولسبب وجيه: ندر من الكتّاب الشرقييّن أو المستشرقين من تملّك اللغتين العربيّة والإنجليزيّة كما فعل الدكتور حتّي الذي أتقن فنّ الرواية والكتابة إلى أقصى الحدود وكان أبعد ما يكون عن اللغة الأكاديميّة الجافّة كما تشهد بذلك كتبه العديدة السهلة المتناول للهواة كما هي للإخصّائييّن. في كلّ الأحوال يبقى القسم الذي ترجمه الدكتور Murgotten رغم أخطائه (التي يمكن تحرّيها دون عناء مع المقارنة بالأصل) أسهل متناولاً  -ويا للأسف- للقارىء من النصّ العربي والسبب هو افتقار هذا الأخير إلى الحدّ الأدنى من الهوامش الضروريّة لفهم نصّ كتب بلغة عمرها أحد عشر قرناً ونيّف. تبقى المخطوطات التاريخيّة الغير مدقّقة والغير معلّقة عاصية على الإنسان المعاصر إذ أنّ حاجتها إل "إخراج" حديث سهل المتناول لا تقلّ عن حاجة القرآن أو الكتاب المقدّس إلى التفسير والشرح اللغوي والتاريخي لوضعها في السياق المناسب. 

يشارك البلاذري أقرانه من مؤرّخي المسلمين الدينييّن والدنيوييّن في إعطاء مكان الصدارة للإسناد "عن فلان إبن فلان عن فلان أبي فلان أنّ فلاناً قال" ويشترك مع كثير منهم في ذكر عدّة أوجه للرواية الواحدة إذا اختلفت سلاسل الإسناد ولكنّ العلميّة والموضوعيّة تتوقّف عند هذا الحدّ ولا يوجد محاولة تذكر للتحليل والنقد ناهيك عن التبرير. 

المؤلّف إيراني من بغداد وبشكل عامّ دور العرب في التدوين والتأريخ وحتّى في العلوم الدينيّة واللغويّة محدود اللهمّ إذا استثنينا قرض الشعر والخطب البليغة وما شابه. يمكن أن نضيف أنّ البلاذري كان عبّاسي الهوى بدلالة استعماله مصطلح "الدولة المباركة" عندما يتكلّم عن السلالة العبّاسية ولكن هذا يمكن تفسيره بأسباب نفعيّة وليس فقط موضوعيّة أو عاطفيّة. 

بالنسبة لمصادر التاريخ العربي كما تعرفه فهي التالية:

أوّلاً: أقاصيص وأساطير العهد السابق للإسلام أو ما يسمّى الجاهليّة.
ثانياً: سير النبي محمّد والصحابة.
ثالثاً: كتب التاريخ ومنها التراجم والمغازي والأنساب والطبقات

بالنسبة لكتب السيرة فأقدمها "سيرة رسول الله" لإبن إسحق (مات ٧٦٧ للميلاد) ولكنّنا لا نعرف هذه السيرة مباشرة وإنّما من خلال إبن هشام (مات ٨٣٤) أمّا بالنسبة للمغازي فأسبقها ما كتبه الواقدي (مات ٨٢٢ م) وفيما يتعلّق بالطبقات فهناك عمل إبن سعد كاتب الواقدي (مات حوالي عام ٨٤٤). 

"فتوح البلدان" للبلاذري إذاً أحد أقدم المصادر الموجودة وهو يستشهد بإبن إسحق مباشرة (أي دون ذكر إبن هشام ) وفيما يلي أسماء أبرز مؤرّخي الفتوحات العربيّة:

- الطبري (مات ٩٢٣ للميلاد) وهو أوّل مؤرّخ حوليّات وأهمّ من كتب التاريخ بعد البلاذري ولكنّه لا يستشهد بهذا الأخير ولا يذكره. 
- إبن الأثير (مات ١٢٣٣). 
- أبو الفداء (مات ١٣٣١). 

إذا كان الطبري لم يستشهد بالبلاذري فكثير من المؤلّفين اللاحقين المؤرّخين منهم والجغرافييّن استشهدوا به كالمسعودي (مروج الذهب) وياقوت (معجم البلدان) والمقدسي (أحسن التقاسيم) والهمذاني (كتاب البلدان). الخلاصة البلاذري مصدر أساسي لا غنى عنه لكل من يهتمّ بالغزوات والفتوحات العربيّة الإسلاميّة وتجدر الإضافة هنا إلى أنّه كغيره يركّز على التاريخ السياسي دون سواه. 

للحديث بقيّة. 


Friday, December 1, 2017

Qasr al-Hayr al-Ghrabi, the Internal façade

Located northeast of Damascus between al Qaryatayn and Palmyra, this 8th century C.E. Omayyad desert palace was constructed during the reign of Caliph Hisham ibn Add al-Malik. It is square shaped 70 x 70 meters and made of two stories with semi-circular towers at the angles and the sides.

The excavation works started in 1936 by the General Directorate of Antiquities and Museums were completed in 1950 and crowned with restoring and reassembling a wing -the most luxurious- that had constituted the central part of the eastern side of the edifice. It includes the façade, the entrance, two apartments, a portico, and a part of the internal courtyard. This complex has found a permanent residence at the National Museum of Damascus since.

Though less elaborate than the external façade, the internal one (attached photo) still represents a milestone in the history of Arab-early Islamic art. Seen is a 16.70 x 2.75 meters wall dominated by six windows of sculpted stucco with figures in relief in-between.



كنوز متحف دمشق الوطني: الواجهة الداخليّة لقصر الحير الغربي

بدأت عمليّة التنقيب في أطلال قصر الحير الغربي عام ١٩٣٦ بمبادرة من المديريّة العامّة للآثار والمتاحف وانتهى ترميم وإعادة تجميع الجناح الأفخم منه (القسم المركزي لجانبه الشرقي) في متحف دمشق الوطني عام ١٩٥٠. يشمل هذا القسم الواجهة والمدخل وشقّتين ورواق وقسم من الصحن الداخلي. بالنسبة للقصر فهو مربّع الشكل يبلغ طول ضلعه ٧٠ متراً وأمّا عن موقعه فهو شمال شرق دمشق بين تدمر والقريتين. بني كما هو معروف في القرن الثامن الميلادي في عهد الخليفة الأموي هشام إبن عبد الملك.

الصورة للواجهة الداخليّة للقصر وهي بطول ١٦٬٧ متر وارتفاع ٢٬٧٥ متر وأبرز ما فيها ستّة نوافذ من الجصّ المنحوت بزخارف متناغمة.