غطّى المؤرّخ والمهندس المعماري الفرنسي Gérard Degeorge، في هذا الكتاب الصادر عام ١٩٩٤، خمسمائة عامٍ من تاريخ سوريّا في ٣٠٠ صفحة، يُضافُ إليها ٣٢ صورة بالأبيض والأسود خارج النصّ، معظمُها لقطاتٌ للمؤلِّف من ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. امتزجت السياسة مع التاريخ في هذا العمل من البداية إلى النهاية، ولرّبما كان هذا أحد المآخذ على الكتاب. فصل الموضوعين تماماً غير وارد بالطبع، بيد أنّ التاريخ أكثر بكثير من السياسة: علاوة على التاريخ السياسي والعسكري، هناك الديني والفنّي والأدبي والعمراني والعلمي وهلمّجرّا). مأخذٌ آخر على هذا العمل القيّم: لهجة الكاتب في أكثر من موضع أقرب إلى العاطفيّة منها إلى الأكاديميّة.
Degeorge معجبٌ بالحضارة العربيّة السوريّة، خصوصاً الإسلاميّة. أدانَ العهد الحميدي والاستعمار الأوروپّي، والطريقة التي "حنث" فيها البريطانيّون "بوعودهم" للعرب، والانتداب الفرنسي. شجب المؤلِّف أيضاً حكم حزب البعث والأسد الذي وَصَفَهُ بالماكياڤلّي، ونعت أساليب وممارسات حكومَتِهِ بالكلبيّة cynicism، واستنكر الطريقة التي قمع فيها مع شقيقِهِ رفعت تمرّد الإسلامييّن في أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن العشرين (ص ١٩٢-١٩٣). دوجورج في نفس الوقت عدوّ للصهيونيّة وإسرائيل. لكل إنسان الحقّ في وجهة نظره ما في ذلك من شكّ، مع التحفّظ على التوسّع والاستطراد في مواضيعٍ أكثر تعلقاً بتاريخ سوريّا السياسي منها بتاريخ دمشق، وإن كانت دمشق عاصمة البلاد.
هذا لا يعني أنّ الكاتب أهملَ تاريخ دمشق أو غمطَهُ حقّهُ. الكتابُ مرجعٌ قيّمٌ اعتمد في إسنادِهِ على الكثير من المصادر الأصليّة في أكثر من لغة. للمؤلِّف كتابٌ آخر عن تاريخ دمشق حتّى المماليك Damas des Origines aux Mamluks (١٩٩٧)، ولسببٍ ما نُشِرَ الكتاب عن الفترة الأقدم أو "الجزء الأوّل من تاريخ دمشق"بعد ثلاثة سنوات من "الجزء الثاني" قيد الحديث.
___________________________________________________________________
دخل سليم الأوّل إلى الشام بعد انتصاره على المماليك في مرج دابق (١٥١٦ للميلاد). لم يكن العهد الجديد في بداياتِهِ سيّئاً، إذ شهد القرن السادس عشر فترةَ استقرارٍ نسبي، اتّسعت خلالها المساحةُ العمرانيّةُ في المدينة وبُنِيَت عدّة أوابد كجوامع الشيخ محي الدين ابن عربي ومراد باشا ودرويش باشا وسنان باشا، والتكيّة السليمانية. مع ذلك أتت دمشق من بين المدن السوريّة، بتجارتها وعدد سكّانها، في المرتبة الثانية بعد حلب.
خفّت وتيرة العمران في دمشق القرن السابع عشر، رغم توسّع المدينة باتّجاه الغرب (القنوات) والجنوب (الميدان وطريق الحجّ). أدى اتّساع الإمبراطورية وبعد المدينة عن الحدود إلى تقلّص التهديد الخارجي، وبالتالي إهمال تحصيناتِها. رُدِمَت الخنادقُ بالتدريج وغزت البيوت السكنية سورَ دمشق. تغيّرت الأمور في القرن الثامن عشر الذي شَهِدَ ولاةً أقوياء (آل العظم) تركوا لنا خاناتٍ فسيحة وعدداً من المعالم علّ قصر العظم أشهرُها.
حَفَلَ القرن التاسع عشر بالتطوّرات في أعقاب حملة بوناپارت، وعهد إبراهيم باشا ابن محمد علي، ومن ثمّ فترة التنظيمات وزيادة التغلغل الأوروپّي، ومذبحة ١٨٦٠، وبوادر الحركة الصهيونيّة. تواترت في هذا القرن تقارير ومؤلّفات الرحّالة والدپلوماسييّن والمستشرقين الأوروپييّن عن دمشق، التي شَهِدَت تنظيم سوقيّ مدحت باشا والحميديّة وساحة المرجة (مركز المدينة الجديد في الغرب) والأبنية المحيطة بها. أصبحت الصالحيّة قبلة الأثرياء والدپلوماسييّن الغربييّن، وتوسّع حيّ الأكراد، وبدأ العمران فيما عُرِفَ لاحقاً بالمهاجرين.
بشّرت بداية القرن العشرين بمستقبلٍ ميمون: زُوِّدَت المدينة للمرّة الأولى بالكهرباء والترام، وشُقَّ الخطّ الحديدي الحجازي. أجهضت الحرب العالميّة الأولى مع الأسف كثيراً من الآمال، وتلتها فترة الانتداب الفرنسي. لا داعي، في هذه العُجالة، للتفصيل في أحداث "الثورة السوريّة الكبرى" عام ١٩٢٥، وحسبنا هنا الإشارة إلى آثارِها على تخطيط وتوسّع المدينة، عندما شقّت سلطات الانتداب خلال وبعد التمرّد، شوارعاً عريضةً هدفُها الُمْعَلن تجميل المدينة وتسهيل المواصلات فيها، و الحقيقي عزل دمشق عن غوطِتها - معقل الثوّار - وتسهيل تنقّل الآليات العسكريّة (ص ١٦٦-١٦٧). حصلت عمليّةٌ مشابهة في مطلع الثمانينات عندما تسارعَ تطبيق خطّة Écochard. ما هي هذه الخطّة؟
طرحَ السيّدان R. Danger و M. Écochard عام ١٩٣٦ مخطّطاً بهدف إنقاذ غوطة دمشق، الحدّ من توسّع السكن العشوائي، وشقّ طرق مُحلِّقة حول المدينة للتقليل من ازدحام السير فيها. عنيَ هذا المخطّط بكشف أهمّ آثار المدينة، بدايةً بالقلعة وضريح صلاح الدين، ولو على حساب النسيج العمراني المحيط بها. بدأ التنفيذ على قدمٍ وساق وواكَبَهُ بناء المتحف الوطني غرب التكيّة السليمانيّة. دفع تزايد السكان في العقود التالية بلدّيةَ دمشق أن تستنجد مجدّداً بخبرة Écochard، وقام هذا الأخير بالاشتراك مع السيّد Banshoya عام ١٩٦٨، بتقديم مخطّط معدّل لتطوير المدينة ركّز على دعم بنيتِها التحتيّة، وأوصى بالتوسّع غرباً باتّجاه المزّة، وشرقاً نحو برزة، بهدف إنقاذ الغوطة. نَصَحَ هذا المخطّط - كسابقِهِ - بكشف أهمّ المعالم ومنها الأموي وعدد من المدارس التاريخية، عن طريق هدم المحيط الحاضن لها. الكلام هنا عن أرباض المدينة التاريخيّة في القنوات وساروجا والميدان وغيرها.
طبّقت الجهات المعنيّة، مع الأسف الشديد، أسوأ توصيات المخطّط، وأهملت أكثرَها فائدةً، وكانت النتيجة دمار الغوطة وتشويه النسيج العمراني العريق. للإنصاف كان هذا إلى حدٍّ كبير نتيجةً مُتوقّعَةً، وإن لم تكن بالضرورة حتميّةً، لزيادة عدد السكّان من ٣٠٠٬٠٠٠ عام ١٩٤٥ إلى ١٬٧٠٠٬٠٠٠ عام ١٩٨٨، مع كلّ ما رافق هذه الزيادة من التلوّث وتداعي البنية التحتيّة في بلدٍ كثير الأعداء ومحدود الموارد. من البدهي أن ما انطبق على دمشق، انطبق بدرجاتٍ متفاوتة على كافّة المدن السوريّة.
صدر عام ١٩٧٢ مرسومٌ بمنع الهدم داخل السور، وأُدْرِجَت المدينة القديمة عام ١٩٧٥ على لائحة اليونسكو للتراث العالمي، وتشكلت لجنةٌ دوليّةٌ لحماية دمشق عام ١٩٧٧. تبقى هذه التدابير رمزيّةً وإن كانت خطواتٍ في الاتّجاه الصحيح.

No comments:
Post a Comment