شكّلَ هذا السؤال عنوان الفصل الثاني في كتاب الدكتور van Dam، الذي بدأ بالقول بأنّ حلول يوم "الحساب" كان مسألة وقت ليس إلّا، إذا أخذنا بعين الاعتبار تاريخ "النظام" وسلوكِهِ خلال نصف قرنٍ من الحكم. لربّما كان من المفيد هنا التعرّض لبعض "المصطلحات" السياسيّة الدارجة:
١. كلمة "نظام" ظاهريّاً بريئة، ولكنّها تستعمل بمعنى سلبي، ومن جميع الأطراف. "النظام"باختصار حكومة عدوّة أو مغضوب عليها، وأذكر جيّداً عندما هاجمَ الإعلام السوري في السبعينات "الأنظمة" المصريّة والعراقيّة والأردنيّة، وبالطبع كالت هذه "الأنظمة" لحكومة دمشق، أو فلنقل "النظام السوري" الصاع صاعين. عندما تستعمل الإدارة الأمريكيّة هذا التعبير لوصف حكومة شرق أوسطيّة فهذه علامة مشؤومة إلى أقصى الحدود، بدلالة نتائجها في العراق.
٢. "الربيع العربي" مترادفٌ في الإعلام الغربي (على الأقلّ في البداية) مع محاولات الشعوب العربيّة المغلوبة على أمرها التخلّص من حكوماتها المتسلّطة الفاسدة، ولكن إذا استثنينا التوقيت فهناك اختلافات كبيرة للغاية ليس فقط بين أحداث تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريّا والبحرين، وإنّما أيضاً في الطريقة التي تعامل بها "الغرب" مع هذه الأحداث. لا يوجد ما يدعو للاعتقاد أنّ واشنجتون سعت للتخلّص من الرئيس حسني مبارك وإن تخلّت عنه بالنتيجة؛ بالنسبة للبحرين جرى تعتيم إعلامي شبه كامل عندما قمعت "المملكة" المظاهرات مستعينةً بالجيش السعودي؛ في ليبيا أطاحَ المتمرّدون (أو الثوّار) بالقذّافي وقتلوه ومثّلوا بجثّتِهِ في إطار تدخّل عسكري مباشر من الغرب وبعض الدول العربيّة (قطر مثلاً) بحجّة "حماية المدنييّن"؛ أمّا في سوريا فكلّنا نعرف المقاطعة الاقتصاديّة وسحب السفراء والإدانة الدوليّة وما تلاها من دعم "الثوّار المعتدلين" والنتائج المترتّبة على هذه السياسات.
٣. الديكتاتوريّة هي نظام الحكم في الدول المُسْتَهْدَفة من "الغرب الديموقراطي"، أمّا الحاكم في دولة سلطويّة authoritarian صديقة فهو ملك أو شيخ أو رجل قوي strongman ولكنّه بالتأكيد ليس ديكتاتوراً والعياذ بالله.
____________
سلَّمَ المؤلّف في أكثر من موضع (صفحة ٧٤ مثلاً) أنّ المظاهرات بدأت سلميّةً، وأنّ طلباتها كانت معقولةً للغاية، وأنّ "النظام" أجاب بالعنف. صحيحٌ أنّ حكومة الأسد قدّمت، أو بالأحرى عَرَضَت تحت الضغط، بعض التنازلات، بيد أنّ هذه التنازلات كانت غير كافية وأتت متأخّرةً أكثر ممّا ينبغي. تحوّلت المعارضة بالنتيجة إلى العنف، وسيطر عليها ميدانيّاً الإسلاميّون المتطرّفون. للأمانة حرص van Dam على إيراد وجهة النظر المعاكسة، أي الموالية للحكومة السوريّة، بيد أنّ الصوابّ جانَبَهُ - في اعتقادي على الأقلّ - عندما كتب (صفحة ٧٦) أنّ تركيا والسعوديّة والجامعة العربيّة بذلت في البداية "جهوداً جديّة" لإنهاء العنف، ولم تتحوّل إلى فتح حدودها (تركيّا) للمسلّحين، وتمويلهم وتسليحهم (السعوديّة)، إلّا عندما عيل صبرها من عنف "النظام".
شملت طلبات المعارضة "المعقولة" (صفحة ٧٥) "الحقّ في القيام بالمظاهرات السلميّة" دون إذن مسبق من الحكومة (للعلم فقط لا يتمتّع المواطنون في الولايات المتحّدة الأمريكيّة يهذا "الحقّ")، وبناء عليه زار السفير الأمريكي Robert Ford ونظيره الفرنسي Éric Chevalier (صفحة ٨٨) حماة في تمّوز ٢٠١١ لتشجيع "المظاهرات السلميّة"، ضاربين عرض الحائط بأبسط الأعراف الديپلوماسيّة: مهمّة السفير أوّلاً وأخيراً التواصل مع الحكومة المُضيفة وليس مع المعارضة سلميّةً كانت أم غير سلميّة، ولو كانت العلاقة بين سوريّا من جهة وأمريكا وفرنسا من جهة ثانية علاقة أنداد، لطردت دمشق السفراء على التوّ، كما ستفعل فرنسا والولايات المتّحدة دون ذرّةٍ من الشكّ لو تجاسر سفير أي دولة على تشجيع مظاهرات المعارضة في بلادِها.
تجاهلَ المؤلّفُ أو كاد دور الإعلام العربي (القطري مثلاً) في تأجيج العنف والطائفيّة بأبشع صورها، بيدَ أنّهُ سلّمَ أنّ المعارضة الداخليّة لجأت بالنتيجةِ إلى العنف، وإن لم يذكر جيوش الجهادييّن التي أمّت سوريا من أصقاع الأرض: أبو عمر الشيشاني وأبو هريرة الأمريكي وكثيرون ممّن ما كان لهم أن يصلوا إلى سوريّا دون معابر وتمويل وتسليح إلى آخرِهِ. بالنتيجة تحوّلت "الحرب الأهليّة’" إلى "حرب بالواسطة" proxy war بين سوريّا وإيران وروسيا وحزب الله من جهة، والولايات المتّحدة الأمريكيّة (ومن وراء أو حتّى أمام الكواليس إسرائيل) وتركيّا والسعوديّة وقطر وسائر الخليج العربي وفرنسا وبريطانيا العظمى من جهة ثانية. أمّا عن الأغنى موارداً والأكثر عدداً وعدّةً فهذا متروك لحسن تقدير القرّاء.
خَتَمَ الدكتور Van Dam هذا الفصل بالجَزم بأنّ جميع السورييّن (باستثناء بعض الأكراد وبتأييد من إسرائيل)، ورغم كلّ ما جرى ضدّ التقسيم، وأضاف بأنّ الأقليّات حاليّاً موزّعة في كافّةِ أنحاء سوريا: هناك مثلاً نصف مليون علوي في دمشق، والعلويّون قطعاً لا يسعون لإقامة دولة في الساحل كما يزعم البعض (صفحة ٩٤-٩٥)، وأنّ آل الأسد (أباً عن جدّ) خصوصاً ووجهاء العلوييّن عموماً رفضوا عرض فرنسا بإعطاء دولة مستقلّة لطائفتهم في عهد الانتداب.
للحديث بقيّة.

No comments:
Post a Comment