تاريخيّاً، ومع أخذ تقلّبات الدهر ودوال الدول التي لا مفرّ منها خلال آلاف السنين بعين الاعتبار، حافظت مصر على مكانتها كأغنى وأقوى دول الشرق الأدنى وأكثرها استقراراً حتّى منتصف القرن العشرين على الأقلّ، وأتت تجربة جمال عبد الناصر في الخمسينات والستّينات لتعزّز مكانتها أو هكذا بدت الأمور آنذاك.
هزّ انهيار الوحدة المصريّة - السوريّة في الثامن والعشرين من أيلول سپتمبر عام ١٩٦١ التجربة الناصريّة، وشهد عقد الستّينات مزيداً من التحدّيات في اليمن التي تنازع على أرضها المدّ اليساري ممثّلاً بمصر من جهة، ومحاولة السعوديّة التصدّي لهذا المدّ واحتوائه من جهةٍ ثانية. لم تقتصر متاعب عبد الناصر على المواجهة مع اليمين العربي في السعوديّة وغيرها، بل تعدّتها إلى منافسة اليسار السوري إن لم نقل مزايداته. بقي الزعيم المصري مع كلِّ ذلك أشهر الحكّام العرب وأكثرهم نفوذاً، ناهيك عن مكانة مصر في إفريقيا ومجموعة دول عدم الانحياز.
تغيّرت المعطيات جذريّاً بعد حزيران ١٩٦٧، واضطرّ الرئيس عبد الناصر إلى رأب الصدع مع الرياض والتركيز على إعادة بناء جيشِهِ واقتصادِهِ، ونجح في ذلك إلى درجةٍ لا بأس بها بدلالة ما حصل خلال الأعوام المقبلة قبل وبعد وفاتِهِ.
مضى على نكبة ١٩٦٧ قرابة ستّين عاماً حصل خلالها من الكوارث ما يجعلها، بمفعولٍ رجعي، تبدو من الهنات الهيّنات، خصوصاً وأنّ المهزومين في حزيران استطاعوا بشكلٍ أو بآخر الحفاظ على استقلالِ بلادِهم وسلامة مؤسّساتها إلى أن حصل ما حصل عام ١٩٧٣.
لا يمكن مع ذلك التقليل من حجم هزيمة ١٩٦٧، وليس فقط من ناحية خسارة الأرواح والأرض والأموال. عنت "النكسة"، في جملة ما عنته، انتقال مركز ثِقَل ما يسمّى تجاوزاً بالعالم العربي (علّ تسمية "العوالم العربيّة" أقرب إلى الصواب) من القاهرة إلى الرياض، وإن لم يدرك الناس ذلك في حينِهِ. لا تزال نتائج هذه الطفرة ماثلةً إلى اليوم.
وافت المنيّة جمال عبد الناصر في الثامن والعشرين من أيلول سپتمبر عام ١٩٧٠، أي بعد تسعة سنوات بالضبط من انهيار الوحدة مع سوريّا، وبدأت مع هذا الحدث نهاية اليسار العربي التي اتّضحت معالِمُها في السبعينات ودُقّت آخر أسافين نَعْشِها مع مطلع القرن الحادي والعشرين (*).
غيّر الرئيس السادات السياسات الناصريّة ١٨٠ درجة، بدايةً بتعاونٍ أوثق مع السعوديّة مروراً بطرد الخبراء السوڤييت في تمّوز يوليو عام ١٩٧٢، ونهايةً باتّفاقيّة السلام قبيل نهاية عقد السبعينات التي أهّلته لجائزة نوبل ورفعت شهرَتَهُ على المستوى العالمي إلى مكانةٍ كانت حكراً على عبد الناصر مع فرق أساسي: الغرب الذي صبّ جام نقمتِهِ على جمال هام بحبّ "الرئيس المؤمن".
(*) من سخرية القدر أنّ عبد الناصر، على الرغم من ممارساتِهِ الاقتصاديّة وخطابِهِ الاشتراكي، كان عدوّاً للشيوعيّة.

No comments:
Post a Comment