Tuesday, October 14, 2025

يُسْتَصغرُ الحيُّ الحقيرُ وتحتَه أممٌ توهّم أنّهُ جبّارُ

 


سفيرُ أي دولة نكرة في بلادِهِ.


الأمر مختلفٌ تماماً بالنسبة لسفراء القوى العظمى في العالم الثالث. تنظر الدولُ المضيفة إلى هؤلاء بمزيجٍ من الريبة والرهبة، وتعاملُ كلامَهُم وتصريحاتِهم المائعة بمنتهى الاحترام والجديّة، وكأنّ العقدَ والحلّ في أيديهِم. 


لا أدلّ على ذلك من المقابلة المشؤومة بين رئيس العراق السابق صدّام حسين وسفيرة الولايات المتّحدة April Glaspie في الخامس والعشرين من تمّوز يوليو عام ١٩٩٠. ردّت المذكورة على استفسار الرئيس بعبارةٍ مفادُها أنّه لا رأي للولايات المتّحدة في النزاعات الحدوديّة بين الدول العربيّة. اعتبر حسين هذه الكلمات بمثابة ضوء أخضر لاجتياح الكويت، وزاد في ثِقَتِه موقف أمريكا من هجومِهِ على إيران عام ١٩٨٠. لا داعي للتذكير بالكوارث التي حلّت بالعراق والشرق الأدنى ككلّ من جرّاء هذه الهفوة. 


ما لم يفهمه حسين، وكثيرون قَبْلَهُ وبَعْدَهُ، أنّ السفر الأمريكي ما هو في النهاية إلّا موظّف في الخارجيّة، وظيفته بالدرجة الأولى إرسال تقارير إلى رؤسائهِ عن الدولة التي انتُدِبَ إليها، بعبارةٍ ثانية سفير أي بلاد هو "جاسوس قانوني". أكثر من ذلك: وزير الخارجيّة نفسه مسؤول أمام الرئيس، والرئيس مسؤول بدورِهِ أمام من أوصَلَهُ إلى سدّة الرئاسة ولا أعني بذلك الناخبين، بل مصالح الأثرياء ممّن موّل حَمْلَتَهُ الانتخابيّة. 


لا بدّ في هذا السياق من التذكير بالفارق بين رؤساء وملوك الدول العربيّة وما شاكَلَها من جهة، و"نُظَرائِهِم" في الغرب من جهةٍ ثانية. الزعيم العربي، مَلِكاً كان أم أميراً أم رئيساً، هو الحاكم بأمر الله في بلادِهِ، أمرُهُ فرمان شاهاني وكلمَتُهُ قانون. رؤساء دول الغرب أوجه متغيّرة لنفس المصالح التي تحكم من  وراء الكواليس، وملوكُهُ موضع الاحترام الصُوَري تارةً، ومحطّاً للهزء والسخرية طوراً. أذكر عندما أطلق صدّام حسين عياراتٍ ناريّةً في الهواء أمام الحشود احتفالاً بخسارة بوش الأب لانتخابات خريف ١٩٩٢، وكيف شَمِت مؤيّدو الرئيس السابق بشّار الأسد بانتهاء ولاية عدد من الرؤساء الأمريكييّن بينما لا يزال الرئيس السوري باقياً، وفاتهم أنّ الرئيس السوري (أو العربي) هو النظام أو الدولة على مبدأ لويس الرابع عشر، بينما الرئيس الغربي لا يزيد عن كونِهِ ناطقاً باسم النظام 


لا يقتصر الأمر، مع شديد الأسف، على تبجيل العرب المُفْرِط لساسييّ الغرب، بل يتعدّاه إلى الصحافييّن. دَرَج المسؤولون في الشرق الأدنى على موضة إعطاء مقابلات لمشاهير الإعلامييّن في أوروپّا وأمريكا، اعتقاداً منهم، على ما يبدو، بقدرةِ هؤلاء على التأثير على الرأي العامّ في بلادِهِم، وبالنتيجة احتمال تغيير سياسات الغرب لمصلحة العرب أو على الأقلّ حكّام العرب. 


أعود مرّةً ثانية إلى مثال صدّام حسين، الذي منح الإعلامي Dan Rather مقابلةً في الرابع والعشرين من شباط فبراير عام  ٢٠٠٣، أي قبل أقلّ من شهر على بداية "تحرير" العراق في العشرين من آذار من نفس العامّ! اعتقد الرئيس العراقي لسببٍ ما بإمكانيّة تحويل بوش عن عَزْمِهِ إذا أوصل إليه "الرسالة المناسِبة"، أمّا بالنسبة للسيّد Rather فقد اقتصر الموضوع على سبق صحفي ليس إلّا.  


____________


أعطى الأسد بدورِهِ عدّة مقابلات للإعلامييّن الأجانب؛ بالطبع، علام يجشّم نفسَهُ عناء اللقاء مع الصحافة المحليّة التي تقتصرُ أخبارُها على "استقبل السيّد الرئيس"، قال السيّد الرئيس"، "ندّد السيدّ الرئيس"، "أشاد السيد الرئيس"، إلى آخر الكلام التَفِه المكرور. من الأمثلة:


- مفابلة الأسد مع Diane Sawyer في شباط ٢٠٠٧ التي تميّزت بالوديّة، قبل أن يصبح الرئيس السوري شيطان صحافة الغرب. 

- مع Barbara Walters في كانون أوّل ديسمبر ٢٠١١. لا زال الاحترام ظاهراً في خطاب الإعلاميّة الأمريكيّة الشهيرة ومع ذلك كانت النبرة أكثر عدائيّةً. لا غرابة في الموضوع في أجواء "الربيع العربي". 

- عدّة مقابلات مع Charlie Rose آخرها آذار مارس ٢٠١٥. 

- مقابلة مع Sunday Times في تشرين ثاني نوڤمبر ٢٠١٦ عندما وصلت وقاحة الإعلامي إلى سؤال الرئيس السوري كيف يستطيع النوم ليلاً بينما يموت أطفال حلب؟ 


____________


بإمكاننا اليوم الحكم على ثمرات جهود الأسد (وغيره) المتكرّرة في بناء الجسور مع الغرب عن طريق السفراء أو الصحافييّن ومن هبّ ودبّ ممّن اعتبرهم مؤثّرين على سياسة بلادِهم. منطق هذه التصرّفات مفهوم (الأمل بابتياع الوقت ريثما تتغيّر المعادلات الدوليّة، وأضرب صفحاً عن المحاولات العبثيّة لتغيير تفكير الغرب)، بيد أنّ طريقةَ تنفيذِها كانت خرقاء إلى أبعد الحدود. اقتصرت خيارات الرئيس السوري في الواقع على الصمود ومعاملة الأعداء كأعداء اوّلاً، أو الاستقالة والرحيل عن البلاد ثانياً. من الواضح أنّه استبعد الخيار الثاني إلى آخر لحظة، أمّا عن أسلوب تطبيق الخيار الأوّل فعليهِ على الأقلّ المآخذ الآتية:


- منح مقابلة لصحافي من بلادٍ جاهرتك العداء خطأٌ أصلاً، وإذا كان لا بدّ من المحاولة فلتكن بواسطة وزير خارجيّة أو ناطق باسمها وليس الرئيس. 

- رفع الكلفة مع الصحافيّة أو الصحافي بمناداتِهم باسمهم الأوّل خطأٌ آخر: هؤلاء ممثّلون لبلادِهِم ومؤسّساتِهم وليسوا بالأصدقاء. عوضاً عن مخاطبة Walters "باربارا"، كان خيراً وأبقى استعمال "السيّدة والترز". استعمل بشّار الجعفري نفس هذه الطريقة الأليفة ولكنّه على الأقلّ لم يكن الرئيس. 

- من الأكرم للرئيس أن يتحدّث مع الصحافة الأجنبيّة بلغتِهِ الأمّ، حتّى لو أجاد الإنجليزيّة أو غيرها. هناك مترجمون متخصّصون من وإلى، واستعمال العربيّة من قِبَل رئيس عربي أدعى للاحترام. 


____________


ختاماً لا السفير ولا الصحافي ولا حتّى الديپلوماسييّن المحترفين يملكون معشار صلاحيات زعماء العرب في بلادِهِم، وليس بإمكانِهِم تغيير الخطوط العامّة لسياساتِ دُوَلِهِم حتّى لو أرادوا، باستثناء بعض التفاصيل التي لا تقدّم في نهاية المطاف ولا تؤخّر. إذا أردتَ فعلاً تغيير سياسات القوى العظمى فعليك أن ترضي أصحاب النفوذ الحقيقييّن فيها، هذا إذا كنت تستطيع أو تريد دفع الثمن المطلوب. 


No comments:

Post a Comment