يعود الفضل في إغناء المكتبة العربيّة بترجمة دراسة الدكتور Gelvin عن ولاءات السورييّن الموزّعة في العهد الفيصلي إلى صديقي العزيز العالم عمرو الملّاح. صدرت النسخة المعرّبة عام ٢٠٢١، أمّا الأصل فقد رأى النور عام ١٩٩٨. المؤلّف أكاديمي أمريكي مختصّ بالشرق الأدنى من مواليد ١٩٥١، وأستاذ في جامعة كاليفورنيا، لوس أنجلس منذ عام ١٩٩٥. ليس هدف الكتاب تأريخ أحداث العهد الفيصلي، بقدر ما هو محاولة لفحص المفاهيم المختلفة والمتنافِسة للقوميّة والأمّة وتطوّر السياسات الشعبيّة والجماهيريّة في سوريّا مطلع القرن العشرين. قرأتُ الأصل الإنجليزي قبل ربع القرن ووجدتُهُ مثيراً للاهتمام من أكثر من ناحية. أقتصر هنا على استعراضٍ سريع له، وأحيل من يرغب بالتوسّع من قرّاء العربيّة إلى ترجمة الأستاذ عمرو المهنيّة وتحقيقه، وحرصهِ الدؤوب على تقديم أعماله بلغةٍ فصيحةٍ سهلة المنال.
رَبِيَ معظمُنا على مفهوم الهويّة العربيّة التي جرى الترويج لها خلال معظم القرن العشرين، وقبل ظهور حزب البعث بكثير، من قِبَل المفكّرين المحلييّن والغربييّن، كمسألةٍ بديهيّة وموضوعٍ تمّ البتّ فيهِ "كممثّل شرعي ووحيد" للشعب السوري. رفض الكاتب هذا التعميم الذي يعزو أصلَهُ إلى نخبةٍ من المثقّفين المثالييّن، وتبنّي مطارحاتهم لاحقاً بمفعول رجعي، مع إهمال وجهات النظر المخالفة أو على الأقل تهميشها. يستشهد جلڤن في هذا الصدد بكتاب جورج أنطونيوس الشهير "يقظة العرب" الذي صدر بالإنجليزيّة عام ١٩٣٨، وكان له الباع الأطول في قولبة هذه الأسطورة.
كانت "السفر برلك"، أو الحرب العالميّة الأولى، أتعس عهد في سوريّا خلال القرن العشرين (لربما كان "الربيع العربي" حالياً تكراراً لها بعد قرن من الزمن). رزحت البلاد تحت وطأة العمليّات العسكريّة في الجنوب، وسنواتٍ عجاف جمعت بين القحط وأرجال الجراد والحصار البحري الذي فرضه الحلفاء - على غرار المقاطعة الاقتصادية حاليّاً - والتضخّم المالي ولجوء أعداد كبيرة من الأرمن بعد مذابح ١٩١٥ وغيرهم من النازحين.. لتجعل حياةَ السورييّن جحيماً لا يطاق. لا يعني كلّ هذا بالضرورة أنّ "عرب سوريّا" كانوا في صدد الثورة على "المستعمر التركي"، وبالفعل استمرّ كثيرون منهم بالتعاون مع السلطات العثمانيّة واستمرّ أعيان دمشق في دعوة "جمال باشا السفّاح" إلى مآدبهم، قبل وبعد شنق "الوطنييّن" علناً في ساحة المرجة - تاجرت الحكومة الفيصليّة بمن عُرِفو لاحقاً بشهداء أيّار إلى أقصى استطاعتها وتبنّت العهود اللّاحقة هذه الممارسة. مدح الشاعر خير الدين الزركلي - على سبيل المثال - جمال باشا في أكثر من قصيدة.
دخل الأمير فيصل دمشق بدعم البريطانييّن في تشرين أول ١٩١٨، وحاول وأنصارُهُ جهدَهم خلقَ هويّةٍ عربيّة في سوريّا، يُقْنِعون بها - وبالتالي بشرعيّتِهم - ليس فقط السكّان المحلييّن، وإنّما أيضاً سوريّي المهجر في مصر وغيرها، وخصوصاً القوى العظمى الغربيّة، صاحبة "الحلّ والربط". فيما يلي بعض الأمثلة على ما فعلوه في هذا الصدد:
١. شراء ولاء السكّان وإسكات الخصوم السياسييّن بالأموال البريطانيّة، على مبدأ "طعمي التمّ بتستحي العين"، ودفع "خوّة" للقبائل.
٢. تنظيم المظاهرات "المؤيّدة" و"العفويّة"، والاحتفالات والعطل الرسميّة، ومشاهد المسرح وبذل المال لدعم الجرائد التي لا تكفي عائدات توزيعِها المحدود لسدّ نفقات طباعَتِها. يشير الكاتب هنا أنّ بعض الصحفيين كحبيب كحّالة ومحمّد كرد علي كانوا يقبضون من الحكومة الفيصليّة والفرنسييّن في نفس الوقت.
٣. رفع شعار "الدين لله والوطن للجميع"، في محاولةٍ لجمع الطوائف تحت رايةٍ موحّدة، وإن قام الفيصليون أيضاً بالدعوة إلى الجهاد تحت راية الإسلام عندما اعتقدوا أنّها أنسب لمصالحهم.
٤. اختيار جماعات معيّنة وأشخاص معيّنين للقاء مبعوثي لجنة كينج كرين عام ١٩١٩، لإعطاء الغرب انطباعاً عن وجود هويّة عربيّة لدى أكثريّة السكّان، لها مطالب محددة ومُتّفَق عليها، تتمثّل في استقلال سوريّا ووحدتها إلى آخره.
ما كان لمملكة فيصل في نهاية المطاف أن تستمرّ دون استمرار الدعم البريطاني المالي والسياسي والعسكري، وكما هو معروف كان التفاهم مع فرنسا أهمّ بكثير لإنجلترا من إرضاء فيصل وأبيه الشريف حسين والأسرة الهاشميّة التي تجاوزت طموحاتُها حدّ المعقول، وظنّت أو ادّعت أنّ إسهامَها المتواضع في حرب مات فيها ملايينٌ من شباب أوروپا، يخوّلها الحصول على إمبراطوريّةٍ دفع الغربُ ثَمَنَ سَلْخِها عن العثمانييّن أموالاً طائلةً وبحاراً من الدماء.
دقّت ساعة العهد الفيصلي في سوريّا مع قرار البريطانييّن بتخفيض، ثمّ تجميد دعمهم المالي للحكومة العربيّة التي أصبحت عاجزةً عن دفع رواتب موظّفيها وشراء تعاون القبائل، ممّا أدّى إلى فوضى أمنيّة في الريف والمدن، وخلق لجان شعبيّة، واللجوء إلى القبضايات لحماية الأحياء. ازداد الضغط على حكومة فيصل لمقاومة المشروع الفرنسي، وبلغ ذروته في إعلان استقلال البلاد في المؤتمر السوري الذي عُقِدَ في الثامن من آذار ١٩٢٠، والذي رفضه الحلفاء في سان ريمو. تلى هذه الأحداث إنذار غورو الشهير في الرابع عشر من تمّوز.
هبّت في دمشق مظاهراتٌ ضدّ حكومة فيصل في ٢٠ تمّوز، وهاجمت الحشود مقرّ الملك والقلعة ومات أكثر من ١٠٠من الأهالي. فشلت قوّات الحكومة في السيطرة على الشارع، واندلعت مظاهراتٌ مماثلة في حلب في اليوم التالي وبالنتيجة قام بعض الزعماء الشعبييّن بجمع المتطوعيّن الذين زحفوا إلى خان ميسلون تحت قيادة يوسف العظمة بينما فرّ فيصل باحثاً عن مملكة جديدة في مكان آخر.
أتمّ الفرنسيّون بعد دخولهم دمشق ما بدأه فيصل، أي القضاء على اللجان الشعبيّة، وبدأ الانتداب الفرنسي بحلوهِ ومرّهِ.
حاول الهاشميّون فَرْضَ رؤياهم "من الأعلى"، بإدخال قيم غربية "كالتقدّم" و"الحضارة" في إطار جهودهم لإبهار أوروپا وأمريكا، وبالتالي إقناعهما بتأييد الدولة العربيّة الفتيّة. لم تكن هذه الرؤيا مقبولةً لكثيرٍ من السورييّن الذين كانوا ينظرون إلى الغرب ومشاريعه بعين الشكّ والريبة، ولا يثقون بالحجازيينّ، ولا يؤمنون بمشروع فيصل. لا يوجد اتّفاق على تطابق مفهوم "الدولة" مع مفهوم "الأمّة" بين الطرفين، وبالتالي لا يوجد - حسب المؤلِّف - دليلٌ مقنع على تعريفٍ وحيد "للقوميّة العربيّة"، وما هي بالنتيجة إلّا إحدى الهويّات التي تداولها السوريّون.
James L. Gelvin. Divided loyalties: nationalism and mass politics in Syria at the close of Empire. University of California Press 1998.

No comments:
Post a Comment