المؤلّف ستيڤن هايدمان أمريكي من مواليد ١٩٥٧، والكتاب من منشورات جامعة كورنيل عام ١٩٩٩. هايدمان أخصّائي بالعلوم السياسيّة والاقتصاد السياسي للشرق الأدنى، وشغل عدداً من المناصب الأكاديميّة غبر السنوات. عن موقِفِهِ من المأساة السورية التي بدأت عام ٢٠١١، تكفي الإشارة إلى مقالٍ نَشَرَه في الواشنجتون پوست عام ٢٠١٦، أفتى فيه أنّ "الدولة الإسلامية - داعش - قامت بمساعدةٍ من النظام السوري، بامتصاص مساحاتٍ واسعة من سوريّا". حلّل الكاتب في نفس المقال أسبابَ ما وصَفَهُ بعزوف وتردّد الرئيس أوباما عن التدخّل في سوريّا. يبقى هايدمان مع ذلك مسموع الكلمة عبر ما يسمّى "معهد الولايات المتحدة للسلام" والإعلام الأمريكي عموماً، وبالتالي ليس لنا تجاهل ما يقولَهُ بحجّة أننّا لا نوافق عليه. في كلّ الأحوال الكتاب، موضوع حديث اليوم، يتعرّض لأحداثٍ دخلت في التاريخ وماتَ أبطالُها وأشرارُها منذ سنوات.
حاول الكاتب عبر ٢٢٠ صفحة، بلغةٍ مدرسيّة أقرب إلى الجفاف، أن يحلّل أسباب ديمومة حكم البعث في سوريّا، والمرونة التي أظهَرَها في مواجهة الكثير من التحدّيات الداخليّة والخارجيّة والتغلّب عليها، أو على الأقل احتواءها. تبدأ القصّة مع الاستقلال، خاتمة الصراع ضدّ الفرنسيين، وبداية النضال من أجل تحديد هويّة الدولة الفتيّة، نهجها الاقتصادي، وأولي الأمر فيها. بدا مستقبل سوريّا مشرقاً في مطلع الاستقلال وحقّقت الصناعة نموّاً سريعاً وإن اعتمدت البلاد بالدرجة الأولى على الزراعة التي تطوّرت وتمكننت بخطىً حثيثةٍ في عقد الخمسينات.
أدّت الظروف المتغيّرة إلى ظهورِ نخبةٍ جديدة من رجال الأعمال والصناعييّن لتنافس مالكي الأرض؛ لنا هنا أن نتوقّع ردّةَ فعلٍ منطقيّة تمثّلت في دعاة الإصلاح وصعود اليسار للمطالبة بحقوق العمّال والفلّاحين: البعث وجماعة أكرم الحوراني والشيوعييّن. تمخّضت منافسة اليسارييّن بعضهم البعض الآخر عن ظهور اتّجاهين: الشيوعييّن مع حليفهم المليونير خالد العظم من جهة، والبعثييّن من جهةٍ ثانية. استطاع البعثيوّن بالاتّفاق مع بعض ضباط الجيش المتنفّذين أن يدفعوا سوريّا نحو الوحدة كوسيلةٍ لكبح جماح الشيوعييّن، وأملاً بمشاركة عبد الناصر في الحكم.
ركّزت حكومة الوحدة (١٩٥٨-١٩٦١) على دور الدولة في بناء المؤسسات الذي بدأ في عهد الشيشكلي، وعمِلَت على تعزيز شعبويّة الحكم السلطوي من خلال العمّال والفلّاحين، وبذلت جهدَها في التصنيع، وأدخلت الإصلاح الزراعي والخطط الخمسيّة. أثارت هذه الخطوات قلقَ رجال الأعمال، بيد أنّ مالكي الأرض كانوا أكبر المتضرّرين مقارنةً مع شكاوى الرأسمالييّن المبالَغ فيها. لا يوجد - في رأي هايدمان - دليل على تضرّر اقتصاد سوريّا إجمالاً من الوحدة، بل على العكس، أشارت الأرقام إلى زيادة الصادرات السوريّة لمصر نسبة للواردات. هذا بالطبع لا ينفي الإجحاف بحقّ البعض وأنّ السياسات المُتّبَعة لم تكن دوماً حكيمةً أو معصومةً عن الخطأ.
أتى الانفصال قبيل نهاية أيلول ١٩٦١، و معه محاولة رجال الأعمال ومالكي الأراضي والنخبة القديمة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، حتّى لو تطلّب تحقيق ذلك استعمال سلطويّة الدولة عوضاً عن محاولة التفاهم مع الوجوه الجديدة ومشاركة الإدارة. دّل موقِفُهُم هذا أنّ أولوّياتِهِم لم تكن العودة إلى الديمقراطيّة المزعومة، بقدر ما كانت التخلّص من ميراث الوحدة الاقتصادي والاجتماعي. تلخّصت جهودهم بالنتيجة في اعتماد "الطريق السلطوي إلى الديمقراطيّة" باستعمال نفس المؤسّسات السلطويّة التي أصبحت راسخةً مع نهاية عهد الوحدة. كان عهد الانفصال بعيداً عن الاستقرار وحفل بالانقلابات و التغييرات الوزاريّة.
شاركت عناصر متعددة في انقلاب ١٩٦٣ الذي أدّى إلى استلام البعث زمام الحكم بعد فترةٍ وجيزة. لم يتردد البعثيّون في اللجوء للقوّة في سبيل تكريس حكمٍ سلطوي يتّسم بالديمومة، واستعملوا الصراع الطبقي، وعملوا على تطهير الجهاز البيروقراطي من ذوي الولاء المشبوه. نجح النظام الجديد في بناء مؤسّسات داعمة للحكم، وأعاد برمجة الاقتصاد على الرغم من إضرابات منتصف الستينات التي قَمَعَها بيدٍ من حديد، وخلق المنظّمات الشعبيّة العقائديّة، وإحتكر أو حاول احتكار تجارة العملة. قلّل هايدمان من أهميّة الفروق بين قيادات البعث القديمة والجديدة، وتجاوز عن الصراع داخل الحزب. يبقى الموضوع الأساسي من وجهةِ نَظَرِهِ ما فعله البعث للاحتفاظ بالسلطة بغضّ النظر عن الأشخاص، وهنا يكمن سرُّ نجاحِهِ ودوامِ نفوذِهِ وسيطَرَتِهِ.
شهدت الأعوام ١٩٦٨-١٩٧٠ نزاعاً على السلطة بين صلاح جديد وحافظ الأسد من وراء الكواليس، وعندما وصل هذا الأخير إلى سدّة الحكم، كان باستطاعته الاعتماد على جهازٍ سلطوي ومؤسّساتٍ مستقرّة تطوّرت على مدى عشرات السنين، قام بدوره بتعزيزها وتقويتها مما يفسّر قِدْرَتَهُ على البقاء على رأس الدولة حتّى نهاية القرن العشرين.
No comments:
Post a Comment