Wednesday, May 31, 2017

تاريخ دمشق


لا يزال كتاب المؤرّخ وعالم الآثار والديپلوماسي الأسترالي Ross Burns (مواليد ١٩٤٣) الصادر عام ٢٠٠٥، إلى اليوم، أفضل ملخّص بالإنجليزّية لتاريخ مدينة دمشق، بل علّهُ أفضل ملخصّات هذا التاريخ في أي لغة على الإطلاق، إذا أخذنا بعين الاعتبار كثافةَ معلوماتِهِ، ودقّتِها، والفترة الزمنية التي غطّتها منذ العصر الحجري الحديث، وحتّى عام ١٩١٨ ونهاية الحرب العالميّة الأولى.

الإخراج أقلّ بذخاً بكثير منه في كتاب Degeorge الذي تزامنَ معه، بصورهِ الملوّنة البديعة الكبيرة الحجم والعالية الدقّة، ونوعيّة وَرَقِهِ وتجليدِهِ، بيد أنّه يمتاز عن السِفْر الفرنسي بعرضٍ أكثر وضوحاً بفضل العشرات من الخرائط والمخطّطات، مع شرحٍ وافٍ للمصطلحات العربيّة واللاتينيّة واليونانيّة في موضعٍ واحد يسهُلُ الرجوعُ إليه. أسند Burns معلوماتِهِ بالعديد من المراجع القديمة والحديثة بمختلف اللغات، شأنهُ في ذلك شأن Degeorge. عددُ صفحات الكتاب حوالي ٤٠٠ وحجمُهُ صغيرٌ نسبيّاً (٢٣ في ١٦ من عشيرات المتر)، وهو بالتالي خفيف الحمل، على الرغم من غناه بالمادّة. أضف إلى ذلك سلاسةَ وبساطةَ أسلوبِهِ، ممّا يجعَلَهُ في متناول كلّ من لديه إلمام معقول بالإنجليزيّة من الهواة.

خصّص الكاتب حوالي ٤٠٪ من صفحات الكتاب للعهود قبل الإسلام، والباقي للعصور الإسلاميّة، معتمداً كغيرِهِ على دراسات Watzinger و Wulzinger و Jean Sauvaget وغيرِهِم من الروّاد. اختار Burns إنهاءَ سَرْدِهِ عام ١٩١٨، مع نهاية الحرب العظمى والعهد العثماني، أي قبل قرنٍ من الزمن. لهذا الخيار ميزتان: الأولى زيادة الموضوعيّة بزيادة الفترة الزمنيّة المنصرِمَة على الأحداث، والثانية التقليل من التركيز على الأحداث السياسيّة التي عصفت بالشرق الأدنى منذ مطلع القرن العشرين، والتي لا تخرجُ عن كونِها هنيهاتٌ عابرة في تاريخ المدينة المديد. هناك أوجُهُ شَبَهٍ بين فترة "السفر برلك"، وما رافقها من المجاعات والوباء والتهجير والتدمير من جهة، والأحداث الأليمة الأخيرة التي تنازعت فيها قوىً إقليميّةٌ وعالميّة على مناطق نفوذ في سوريّا، على حساب السورييّن ودماء السورييّن من جهةٍ ثانية. سوريّو اليوم يعيدون النظرَ في هويّتِهِم التي بَحَثَ عنها أجدادّهم قبلَ مائة عام، واعتقد البعضُ من أبائِهِم أنّهم وجدوها.

خَتَمَ المؤلّف (ص ٢٧٢) بعدم وجود مبالغة في القول أنّه لولا دمشق، لما أخذت الديانتان الإسلاميّة والمسيحيّة شكلَهُما كما نعرفه اليوم، كدياناتٍ عالمية، وأنّ المدينةَ لعبت خلال الثلاثة آلاف عام الأخيرة دوراً حيوياً في الشرق الأدنى لا تضارعها فيه أي مدينة ثانية، وأنّ هذا الدور لا يمكن تفسيرُهُ بمزايا استراتيجيّة كالتي تتمتّع بها القاهرة على رأس دلتا النيل، أو بغداد على دجلة قرب الفرات. تختزِلُ دمشق تاريخَ الشرق الأدنى أكثر من أي مدينة في هذه البلاد القديمة قِدَم التاريخ.


Tuesday, May 30, 2017

حيّ الميدان



صَدَرَ عن المعهد الفرنسي بدمشق عام ١٩٩٧ دراستان عن حيّ الميدان. الأولى للباحِثَيْن Yves Roujon و Luc Vilan، تختُمُهُ لمحةٌ تاريخيّة كَتَبَها صديقي العزيز الدكتور عبد الرزّاق معاذ. ركّز هذا العمل على وصف الحيّ والتطوّرات التي طرأت عليه بين ١٩٣٠ و ١٩٩٤، ودعا إلى إنقاذ، ليس فقط أهمّ معالِمِهِ، وإنّما أيضاً النسيج العمراني الذي حَضَنَ هذه المعالم. بَلَغَ عدد صفحات الكتاب ١٤٠، وتضمّنَ بعض الصور من منتصف القرن العشرين للعالم الكبير والفنّان خالد معاذ، مع صورٍ من أواخر القرن، والكثير من الخرائط والمرسّمات والإسقاطات. يمكن اعتبار هذا الكتاب مقدّمةً لعملٍ آخر أوسع وأكمل بإشراف نفس الأستاذين عن جميع أرباض دمشق التاريخيّة (الصالحيّة والعمارة وسوق ساروجا والقنوات والشاغور ضمناً)، نُشِرَ عام ٢٠١٠ بعنوان Les Faubourgs de Damas، ونُقِلَ إلى العربيّة تحت عنوان "أحياء دمشق خارج السور".

الموقع جنوب غرب المدينة خارج السور، أمّا عن التسمية فتُنْسَبُ إلى ميدان للفروسيّة، أو ميدان الحصى الذي شَغَلَ قسماً منه على الأقلّ منذ عهد المماليك (١). تشكّلت إلى الجنوب من ميدان الحصى قريةٌ عُرِفَت باسم القبيبات، نسبةً لمباني ذات قباب صغيرة قَطَنَت فيها جماعاتٌ من التركمان اعتباراً من القرن الثالث عشر للميلاد. بُني بالنتيجة عددٌ من الزوايا والجوامع والمتاجر في أماكن متفرّقة، شكّلت نويّاتٍ تمركَزَ حولَها العمران. اتّصلت هذه المناطق مع بعضِها بالتدريج لتعطي الحيّ الشكلَ الذي نعرفُهُ حاليّاً، على الأقلّ إلى أن غيّرت العوامل الديموغرافيّة وشقّ المحلّق الجنوبي معالِمَهُ، إن لم نقل شوّهتها.

يمكن، بهدف التبسيط، تقسيم الحي من الشمال إلى الجنوب، إلى باب مصلّى ثمّ الميدان فالقبيبات؛ ولاحقاً الميدان التحتاني والوسطاني والفوقاني. توزّعت المنازل والمتاجر ودور العبادة إلى آخِرِهِ حول شارع الميدان، المتوجّه من الشمال والشرق إلى الجنوب والغرب، والمبتور حاليّاً شمال منتصفه بقليل بواسطة المحلّق الجنوبي، الذي أضاف إلى الأذّيات التي ألحقتها المباني الجديدة القبيحة بالنسيج العمراني التقليدي.

_________________________________________________________________

الكتاب الثاني أكبر حجماً (٤٣٠ صفحة ضمناً ٣٠ صورة بالأبيض والأسود و ٢١ خريطة و ٥٤ جدولاً إحصائياً)، لأخصّائيّة التاريخ العثماني Brigitte Marino. ركّزَ هذا العمل على الميدان في العهد العثماني، خصوصاً القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، استناداً إلى وثائق محاكم دمشق وعقود البيع والشراء وإيصالات الديون علاوةً على المصادر التاريخيّة التقليديّة. تجاوز هدفُ المؤلِّفة دراسةَ الحيّ بحدِّ ذاتِهِ، إلى وضْعِهِ في إطارٍ أوسع، ومقارنتِهِ مع مدينة دمشق ككلّ، داخل وخارج السور. استخلص هذا البحث المستفيض عدداً من النتائج المثيرة للاهتمام.

على الرغم من سمعة الحي كموطنٍ للقلاقل والفتن الناجمة عن كونِهِ معقلاً للعسكر (٢)، ومع أنَّهُ كان ساحةً للصراع على السلطة بين زعمائِهِ من جهة، وولاة دمشق من جهةٍ ثانية (٣كان الميدانُ موسراً نسبيّاً ولأكثر من سبب: مرّت قافلةُ المحمل عَبْرَهُ مع كل ما ترتّب على ذلك من المنافع الاقتصاديّة، وكان مركزاً هامّاً لتجارة الحبوب (٤) بدلالة البوايك العديدة التي تخلّلتهُ، والتي لا يزال البعض منها موجوداً وإن تبدّل استعمالُهُ.

___________________________________________________________________

الكتابان منجم ذهب عن تاريخ الحيّ وتطوّرِهِ، ومبانيهِ، وشوارعِهِ وأزقّتِهِ، واقتصادِه، ودورِهِ، وطوائِفِهِ الدينيّة والإثنيّة، وأبرز عائلاتِهِ.

يمكن قراءة الكتاب الأوّل بالمجّان على موقع المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى. تعريب الكتاب الثاني متوافر للقراءة والتحميل.

___________________________________________________________________

(١) الميدان الأكبر والأهمّ شأناً هو المعروف باسم الميدان الأخضر، غرب المدينة.
(٢) الإنكشاريّة المحليّة أو اليرليّة.
(٣) المثال الأشهر هو المجابهة بين فتحي الدفتردار وأسعد باشا العظم في القرن الثامن عشر.
(٤مع حوران والبقاع خصوصاً.

Monday, May 29, 2017

أجمل كُتُب دمشق



أجمل ولا أقول أفضل. 


هذا الكتاب الصادر عام ٢٠٠٥ للمؤرّخ والمهندس الفرنسي Gérard Degeorge، أجملُ ما نُشِرَ بالفرنسيّة بخصوص دمشق حتّى اليوم؛ بل علّهُ أجمل ما صَدَرَ عنها في أي لغة على الإطلاق، باستثناء ترجَمَتِهِ إلى الإنجليزيّة. المقصود بالطبع إخراج الكتاب الباذخ: مجلّدٌ ضخم، عددُ صفحاتِهِ من القطع الكبير ٣٢٠، ورقٌ صقيل، مئاتٌ من الصور العالية الدقّة معظمهُا لقطاتٌ للكاتب وبعضها رسوم وصور تاريخيّة من عدّة مصادر. العملُ موجّهٌ بالدرجة الأولى للهواة، والراغبين في استعراضٍ سريعٍ وممتع لحضارةٍ دامت آلاف السنوات.


جَمَعَ Degeorge ولخّص في "دمشق لؤلؤة وملكة المشرق" المعلومات التي نَشَرَها بين ١٩٩٤ و ٢٠٠١ في ثلاثة كتب: من الأصول إلى المماليك Des origines aux Mamluks ومن العثمانييّن إلى أيّامِنا Des Ottomans à nos jours وأخيراً أطلس دليل الصور Répertoire iconographique، وزيّنَهُ بالعديد من الصور الملونّة الكبيرة التي سبق له عَرْضَها بالأبيض والأسود وبحجمٍ أصغر في مؤّلفاتِهِ السابقة. النتيجةُ مسرّةٌ للعين وبهجةٌ للناظرين من عشّاق دمشق، وهواة التاريخ والعمارة والفنّ.

Sunday, May 28, 2017

دمشق من العثمانييّن إلى أيّامنا



غطّى المؤرّخ والمهندس المعماري الفرنسي Gérard Degeorge، في هذا الكتاب الصادر عام ١٩٩٤، خمسمائة عامٍ من تاريخ سوريّا في ٣٠٠ صفحة، يُضافُ إليها ٣٢ صورة بالأبيض والأسود خارج النصّ، معظمُها لقطاتٌ للمؤلِّف من ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. امتزجت السياسة مع التاريخ في هذا العمل من البداية إلى النهاية، ولرّبما كان هذا أحد المآخذ على الكتاب. فصل الموضوعين تماماً غير وارد بالطبع، بيد أنّ التاريخ أكثر بكثير من السياسة: علاوة على التاريخ السياسي والعسكري، هناك الديني والفنّي والأدبي والعمراني والعلمي وهلمّجرّا). مأخذٌ آخر على هذا العمل القيّم: لهجة الكاتب في أكثر من موضع أقرب إلى العاطفيّة منها إلى الأكاديميّة.

Degeorge معجبٌ بالحضارة العربيّة السوريّة، خصوصاً الإسلاميّة. أدانَ العهد الحميدي والاستعمار الأوروپّي، والطريقة التي "حنث" فيها البريطانيّون "بوعودهم" للعرب، والانتداب الفرنسي. شجب المؤلِّف أيضاً حكم حزب البعث والأسد الذي وَصَفَهُ بالماكياڤلّي، ونعت أساليب وممارسات حكومَتِهِ بالكلبيّة cynicism، واستنكر الطريقة التي قمع فيها مع شقيقِهِ رفعت تمرّد الإسلامييّن في أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن العشرين (ص ١٩٢-١٩٣). دوجورج في نفس الوقت عدوّ للصهيونيّة وإسرائيل. لكل إنسان الحقّ في وجهة نظره ما في ذلك من شكّ، مع التحفّظ على التوسّع والاستطراد في مواضيعٍ أكثر تعلقاً بتاريخ سوريّا السياسي منها بتاريخ دمشق، وإن كانت دمشق عاصمة البلاد.

هذا لا يعني أنّ الكاتب أهملَ تاريخ دمشق أو غمطَهُ حقّهُ. الكتابُ مرجعٌ قيّمٌ اعتمد في إسنادِهِ على الكثير من المصادر الأصليّة في أكثر من لغة. للمؤلِّف كتابٌ آخر عن تاريخ دمشق حتّى المماليك Damas des Origines aux Mamluks (١٩٩٧)، ولسببٍ ما نُشِرَ الكتاب عن الفترة الأقدم أو "الجزء الأوّل من تاريخ دمشق"بعد ثلاثة سنوات من "الجزء الثاني" قيد الحديث.

___________________________________________________________________

دخل سليم الأوّل إلى الشام بعد انتصاره على المماليك في مرج دابق (١٥١٦ للميلاد). لم يكن العهد الجديد في بداياتِهِ سيّئاً، إذ شهد القرن السادس عشر فترةَ استقرارٍ نسبي، اتّسعت خلالها المساحةُ العمرانيّةُ في المدينة وبُنِيَت عدّة أوابد كجوامع الشيخ محي الدين ابن عربي ومراد باشا ودرويش باشا وسنان باشا، والتكيّة السليمانية. مع ذلك أتت دمشق من بين المدن السوريّة، بتجارتها وعدد سكّانها، في المرتبة الثانية بعد حلب.

خفّت وتيرة العمران في دمشق القرن السابع عشر، رغم توسّع المدينة باتّجاه الغرب (القنوات) والجنوب (الميدان وطريق الحجّ). أدى اتّساع الإمبراطورية وبعد المدينة عن الحدود إلى تقلّص التهديد الخارجي، وبالتالي إهمال تحصيناتِها. رُدِمَت الخنادقُ بالتدريج وغزت البيوت السكنية سورَ دمشق. تغيّرت الأمور في القرن الثامن عشر الذي شَهِدَ ولاةً أقوياء (آل العظم) تركوا لنا خاناتٍ فسيحة وعدداً من المعالم علّ قصر العظم أشهرُها.

حَفَلَ القرن التاسع عشر بالتطوّرات في أعقاب حملة بوناپارت، وعهد إبراهيم باشا ابن محمد علي، ومن ثمّ فترة التنظيمات وزيادة التغلغل الأوروپّي، ومذبحة ١٨٦٠، وبوادر الحركة الصهيونيّة. تواترت في هذا القرن تقارير ومؤلّفات الرحّالة والدپلوماسييّن والمستشرقين الأوروپييّن عن دمشق، التي شَهِدَت تنظيم سوقيّ مدحت باشا والحميديّة وساحة المرجة (مركز المدينة الجديد في الغرب) والأبنية المحيطة بها. أصبحت الصالحيّة قبلة الأثرياء والدپلوماسييّن الغربييّن، وتوسّع حيّ الأكراد، وبدأ العمران فيما عُرِفَ لاحقاً بالمهاجرين.

بشّرت بداية القرن العشرين بمستقبلٍ ميمون: زُوِّدَت المدينة للمرّة الأولى بالكهرباء والترام، وشُقَّ الخطّ الحديدي الحجازي. أجهضت الحرب العالميّة الأولى مع الأسف كثيراً من الآمال، وتلتها فترة الانتداب الفرنسي. لا داعي، في هذه العُجالة، للتفصيل في أحداث "الثورة السوريّة الكبرى" عام ١٩٢٥، وحسبنا هنا الإشارة إلى آثارِها على تخطيط وتوسّع المدينة، عندما شقّت سلطات الانتداب خلال وبعد التمرّد، شوارعاً عريضةً هدفُها الُمْعَلن تجميل المدينة وتسهيل المواصلات فيها، و الحقيقي عزل دمشق عن غوطِتها - معقل الثوّار - وتسهيل تنقّل الآليات العسكريّة (ص ١٦٦-١٦٧). حصلت عمليّةٌ مشابهة في مطلع الثمانينات عندما تسارعَ تطبيق خطّة Écochard. ما هي هذه الخطّة؟

طرحَ السيّدان R. Danger و M. Écochard عام ١٩٣٦ مخطّطاً بهدف إنقاذ غوطة دمشق، الحدّ من توسّع السكن العشوائي، وشقّ طرق مُحلِّقة حول المدينة للتقليل من ازدحام السير فيها. عنيَ هذا المخطّط بكشف أهمّ آثار المدينة، بدايةً بالقلعة وضريح صلاح الدين، ولو على حساب النسيج العمراني المحيط بها. بدأ التنفيذ على قدمٍ وساق وواكَبَهُ بناء المتحف الوطني غرب التكيّة السليمانيّة. دفع تزايد السكان في العقود التالية بلدّيةَ دمشق أن تستنجد مجدّداً بخبرة Écochard، وقام هذا الأخير بالاشتراك مع السيّد Banshoya عام ١٩٦٨، بتقديم مخطّط معدّل لتطوير المدينة ركّز على دعم بنيتِها التحتيّة، وأوصى بالتوسّع غرباً باتّجاه المزّة، وشرقاً نحو برزة، بهدف إنقاذ الغوطة. نَصَحَ هذا المخطّط - كسابقِهِ - بكشف أهمّ المعالم ومنها الأموي وعدد من المدارس التاريخية، عن طريق هدم المحيط الحاضن لها. الكلام هنا عن أرباض المدينة التاريخيّة في القنوات وساروجا والميدان وغيرها.

طبّقت الجهات المعنيّة، مع الأسف الشديد، أسوأ توصيات المخطّط، وأهملت أكثرَها فائدةً، وكانت النتيجة دمار الغوطة وتشويه النسيج العمراني العريق. للإنصاف كان هذا إلى حدٍّ كبير نتيجةً مُتوقّعَةً، وإن لم تكن بالضرورة حتميّةً، لزيادة عدد السكّان من ٣٠٠٬٠٠٠ عام ١٩٤٥ إلى ١٬٧٠٠٬٠٠٠ عام ١٩٨٨، مع كلّ ما رافق هذه الزيادة من التلوّث وتداعي البنية التحتيّة في بلدٍ كثير الأعداء ومحدود الموارد. من البدهي أن ما انطبق على دمشق، انطبق بدرجاتٍ متفاوتة على كافّة المدن السوريّة.

صدر عام ١٩٧٢ مرسومٌ بمنع الهدم داخل السور، وأُدْرِجَت المدينة القديمة عام ١٩٧٥ على لائحة اليونسكو للتراث العالمي، وتشكلت لجنةٌ دوليّةٌ لحماية دمشق عام ١٩٧٧. تبقى هذه التدابير رمزيّةً وإن كانت خطواتٍ في الاتّجاه الصحيح.

Saturday, May 27, 2017

دمشق حتّى نهاية عهد المماليك



الكاتب Gérard Degeorge فرنسي، مؤرّخ ومصوّر ومهندس عمارة، والكتاب (منشورات ١٩٩٧) أربعمائة صفحة مع ٣٢ لوحة بالأبيض والأسود خارج النصّ لمختَلَف معالم المدينة. التُقِطَت جميع الصور بعدسة المؤلّف ولا شكّ أنّ عددَها قليلٌ نسبةً لنصٍٍّ على هذه الدرجة من الشمول. يمكن لتلافي هذا النقص، الرجوع إلى أطلس لنفس المؤلِف صَدَرَ عام ٢٠٠١ بعنوان DAMAS - Répertoire Iconographique، وصوَرِهِ التي تتجاوز المائتين. طَرَح Degeorge آرائَهَ السياسيّة دون مواربة في مقدّمة الكتاب، ومنها يتبيّن أنّه أبعد ما يكون عن مناصرة الصهيونيّة، بدلالة تخصيص ١٤ صفحة بعنوان النكبة Catastrophe، للقضيّة الفلسطينيّة التي لا يمكن إنكار أهميّتِها في تاريخ سوريّا الحديث، وإن خرجت عن الفترة قيد الدراسة.

مَتْنُ الكتاب موزّعٌ بين ثلاثةِ فصول يتساوى عددُ صفحاتِها أو يكاد: يغطّي الفصل الأوّل آلافَ السنين وينتهي بنهاية العهد الأموي. يقتصر الفصل الثاني على خمسمائة سنة تكافئ العهد العبّاسي بما فيه الفترات الفاطميّة والسلجوقيّة والأتابكيّة والأيوبيّة. الفصل الثالث مخصّصٌ لعهد المماليك البحريّة ثم البرجيّة، أي حوالي ٢٥٠ سنة تنتهي بمعركة مرج دابق عام ١٥١٦ للميلاد وبداية القرون العثمانيّة. قد يبدو هذا التوزيع بعيداً عن الإنصاف، بيد أنّ المعلومات المتوافرة تتضائل مع تقادم العهد، خاصّةً فيما يتعلق بالمعالم الأثريّة في مدينةٍ مأهولةٍ باستمرار لآلاف السنوات، تقعُ بقاياها الآراميّة عدّة أمتار تحت مستوى الأرض الحالي.

يُعْتَقَد أنّ أول ذكر لدمشق كان في لويحات إبلا، التي هيمنت على شمال سوريّا في الألف الثالث قبل الميلاد. مع الأسف لم تُنْشَر هذه المعلومات إلى اليوم، ومنه اضطرارُنا إلى القفز إلى منتصف الألف الثاني، عندما هزم الفرعون تحتمس الثالث ائتلافاً سوريّاً بقيادة أمير قادش في معركة مجدو Megiddo عام ١٤٥٧ قبل الميلاد، وأسر زعماء وملوك ١٩ مدينة منها دمشق. يمكن اعتبار هذه الواقعة الظهور الأوّل للمدينة على مسرح التاريخ، بانتظار المزيد من الأبحاث. هناك ذكرٌ آخر لها في عهد أمنحتب الثالث في معبد قرب طيبة، وثالث في عهد أخناتون (القرن الرابع عشر قبل الميلاد) في لويحات تلّ العمارنة.

ظَهَرَ الآراميوّن بدورِهِم للمرّة الأولى في النصوص الآشوريّة، وحوليّات تغلات فلاصر الأول (١١١٦-١٠٧٦ قبل الميلاد)، الذي هَزَمَهم ونهبَ ممتلكاتِهِم ونقَلَها إلى عاصِمَتِهِ آشور. عدا ذلك لا يوجد إلى اليوم مصدر يغطّي سوريّا الوسطى والجنوبيّة في هذه الفترة باستثناء كتاب العهد القديم، الذي يخبرنا أنّ داود (١٠٠٤-٩٦٥ ق.م. ؟؟)، هَزَمَ الآرامييّن واستولى على دمشق وسَلَبَها وترك حاميةً فيها. قصّة تقسيم "إمبراطوريّة" داود وسليمان بعد موتِ هذا الأخير معروفة، ويُفْتَرَض أنّ دمشق استفادت من ضعف إسرائيل وحاولت التوسّع على حسابِها، إلى أن اضطرّت المملكتان لتوحيدِ جهودِهِما لمواجهة الخطر الآشوري في معركة قرقر عام ٨٥٣. حاول شلمنصر الثالث (٨٥٨-٨٢٤) في الفترة التالية الاستيلاء على دمشق وفشل، وصبّ جام غَضَبِهِ على غوطَتِها التي قطع أشجارَها وأضرَمَ فيها النار.

انحسر الخطر الآشوري مؤقّتاً في العقود التالية، التي شَهِدَت بين الفينة والفينة نزاعاً بين دمشق وإسرائيل. من المحتمل أنّ جالية دمشق اليهوديّة تكوّنت خلالَ هذه الفترة (مطلع القرن الثامن قبل الميلاد)، على إثر اتفاقيّةٍ بين يوآش ملك يهوذا من جهة، وبن هدد أو بار حدد الثالث ملك آرام دمشق من جهةٍ ثانية. سقطت دمشق بيد الآشوريين وتغلات فلاصر الثالث عام ٧٣٢ ق.م.، ولم يبق من هذا العهد سوى نحت بازلتي لأبي هول مجنّح من القرن التاسع ق.م.، اكتُشِفَ عام ١٩٤٨ للميلاد في أسس الجدار الشمالي للجامع الأموي ونُقِلَ إلى متحف دمشق الوطني؛ هناك أيضاً مجموعةٌ من اللوحات العاجيّة من شمال سورّيا (أرسلان طاش) تحمل إحداها اسم حزائيل، أحد ملوك دمشق الآرامييّن.

المعلومات عن الفترة الأخمينيّة معدومةٌ أو تكاد، لم يبق من آثارِها إلّا تاجيّ عمودين لربّما كانا من بقايا قصر الحاكم، اكتشفهما الألمانيّان Watzinger و Wulzinger خلال تنقيبٍ أجري في سنوات الحرب العالميّة الأولى. اقتصَرَ ذكرُ المدينة في العهد الفارسي على إشارةٍ مختصرة في Strabo (جغرافي يوناني ٦٣ ق.م. - ٢٤ م) الذي وصفها كأهمّ مدينة "في هذا القسم من آسيا".

كَتَبَ المؤرّخون أنّ داريوس الثالث - آخر ملوك الأخمينييّن - ترك حريمَهُ وكنوزَهُ في دمشق قبل مواجهة الإسكندر الأكبر، وأنّ هذا الأخير، بعد انتصارِهِ في معركة Issus عام ٣٣٣ قبل الميلاد، أرسلَ عامِلَهُ Parmenion إلى المدينة للاستيلاء على هذه الغنائم. أقام الفاتح إثر ذلك فترةً معيّنةً في دمشق قبل استئنافِ حملاتِهِ في المشرق.

بدأ العهد الهلنستي بعد موت الإسكندر، وكانت أنطاكيا عاصمة سوريّا خلال معظم هذه الفترة، بيد أنّ أنطيوخوس التاسع (١١٦ - ٩٦ ق.م.)، جعلَ دمشق عاصِمَتَهُ لفترةٍ قصيرة، تزامنت مع انحطاط ونهايات العهد السلوقي. غيّر ديميتريوس الثالث ( ٩٧ - ٨٧ ق.م.) اسم دمشق إلى ديميتريا Demetrias. طلب الدمشقيّون، في نهايةِ هذا العهد الذي تميّز بالفوضى والحروب، حمايةَ ملك الأنباط الحارثة الثالث، الذي تربّعَ على عرش المدينة عام ٨٥. كانت هذه بداية حيّ الأنباط في دمشق، شرق المدينة وتحديداً شرق شارع باب توما. انتهى العصر الهلنستي عام ٦٤ ق.م على يد پومپي، وبدأ العهد الروماني الذي - عكس العهود السابقة - لا تزالُ بصماتُهُ موجودةٌ في المدينة القديمة إلى اليوم.

لا يمكن إعطاء الكتاب حقّهُ في هذه الأسطر القليلة التي اقتصرتُ فيها على الجزء المتعلّق بالتاريخ القديم، على اعتبار أنّ المؤلّفات التي تغطّيه قليلةٌ، وأقلّ منها ما يشفي الغليل. الكتاب بكامِلِهِ أكثر من جدير بالقراءة، قريب المنال وسهل اللغة. علّهُ موجّهٌ بالدرجة الأولى إلى الهواة وإن توجّب التنويه بحرص المؤلّف على إسناد المتن بكثيرٍ من المراجع والهوامش لمن يريد التوسّع، أخصائيّاً كان أم من عشاقّ دمشق والتاريخ.

Wednesday, May 24, 2017

لا أستطيعُ أن أكتبَ عن دمشق .. دونَ أن يُعّرشَ الياسمين على أصابعي ..



مَن مِنَ الدمشقييّن لا يعرف هذه القصيدة لشاعر الشام العظيم نزار قبّاني؟ ليس ترديدُ شِعْرِ نزار وقفاً على السورييّن، ولم يكتفِ عشّاقُهُ بقرائتِهِ واقتناء دواوينِهِ، والاستماع إليه من شفتيّ المبدع الراحل؛ كثيرةٌ هي قصائد نزار التي تحوّلت إلى أغانٍ مشهورة، لحّنها الرحابنة والموجي وبليغ حمدي ومحمّد عبد الوهّاب وكاظم الساهر، وغنّاها عمالقةُ الطرب عبر السنوات وعلى رأسِهِم فيروز وعبد الحليم وأمّ كلثوم ونجاة وماجدة الرومي وعفاف راضي وكاظم الساهر. لا غرابة، والحالُ كذلك، أن يتبنّى المؤلّفان الترجمة الإنجليزيّة لمطلع هذه القصيدة عنواناً لكتابِهِما الذي رأى النور عام ٢٠١٦.

أقام Gabe Huck وقرينَتُهُ Theresa Kubasak في دمشق بدايةً من صيف ٢٠٠٥ ونهايةً بشهر آب ٢٠١٢، وجمعا في هذه الفترة كمّاً لا بأس به من المعلومات عن أحياءِ المدينة ومعالمها ومرافقها وأهلها ومأكولاتها (بما فيها طريقة الإعداد)، ونشرا انطباعاتِهِما عنها في كتابٍ قاربَ عددُ صفحاتِه ٢٧٠، تخلّلتُه بعض الخرائط مع مجموعةٍ من الصور بالأبيض والأسود. مع ذلك لم يكن وصفُ المدينة الدافعَ الذي حداهما إلى الكتابة، كما سيتّضحُ من الأسطر التالية.

المؤلّفان أمريكيّان، امتهنا التدريس، وتولّى Huck أيضاً إدارةَ أحد دور النشر الصغيرة. ميولُهُما السياسيّة يساريّةٌ، ممّا دفعهُما إلى التصويت في الانتخابات الرئاسيّة لمرشّح الحزب الأخضر رالف نادر. هدفُ إقامتهما في الشرق الأدنى محاولةٌ شخصيّةٌ لمساعدة اللاجئين العراقييّن، ضحايا السياسات الأمريكيّة على الأقل منذ عام ١٩٩١ وحتّى اجتياح الولايات المتّحدة عام ٢٠٠٣، الذي أطلق عليه الكلبيّون cynics في الإدارة الأمريكيّة اسم "عملية حريّة العراق"، وتمخّض عن القضاء على ما تبقّى من النظام والبنية التحتيّة لهذا البلد العريق، وتهجير الملايين من أهلِهِ.

أدان عشراتُ الملايين من مواطني الولايات المتّحدة غزو العراق، بيد أنّ الكاتِبَيْن لم يكتفيا بالإدانة، بل حاولا ولعدّة سنوات وبإمكانيّاتٍ متواضعة للغاية، أن يساعدا العراقييّن عملاً لا قولاً. وقع اختيارُهُما على دمشق دون سواها (عمّان أو بيروت مثلاً) لاعتباراتٍ ماديّة. الحياةُ في العاصمةِ السوريّة رخيصةٌ نسبيّاً، سمحت لراتبهما التقاعدي يسدّ الضرورات المعيشيّة. تكفي نظرةٌ إلى أماكن إقامتِهِما وكثرة تنقّلهِما (غرفة على سطح بيت عربي في باب توما ٢٠٠٥-٢٠٠٦، مخيّم اليرموك ٢٠٠٦-٢٠٠٨، ساحة عرنوس ٢٠٠٨-٢٠٠٩، وأخيراً الجسر الأبيض ٢٠٠٩-٢٠١٢)، حتى ندرك ضخامةَ مجهودِهِما تحت ظروفٍ صعبة، تعيّن عليهما خلالَها مغادرة سوريّا بين حينٍ وآخر بهدف المحافظة على تأشيرتهما، مع كل ما رافَقَ هذه العمليّة من التعقيدات البيروقراطيّة التي يعرفها القاصي والداني من السورييّن.

أسّسَ الكاتبان ما أسمياه مشروع الطالب العراقي Iraqi Student Project IPS، الذي تلخّصَ بمساعدة أكبر عدد ممكن من النجباء من شباب وشابّات اللاجئين العراقييّن على تعلّم الإنجليزيّة (بالطبع بذل المؤلِّفان الكثيرَ من الوقت والجهد لتعلّم العربيّة)، والتحضير لإمتحان Test of English as a Foreign Language TOEFL، ومن ثمّ تأمين منح من جامعات أمريكيّة لهؤلاء الطلّاب والطالبات، بكل ما يعنيه هذا من الصعوبات الماديّة والقانونيّة واللوجستيّة، بما فيه تحضير المرشّحين للمقابلة في القنصليّة الأمريكيّة بهدف الحصول على التأشيرة، لا بل ودفع رسم هذه التأشيرة نيابةً عنهم، ومن ثمّ جمع التبرّعات لتغطية كلفة بطاقة السفر إلى الولايات المتّحدة. تكلّلت جهودُهُما خلالَ سبع سنوات بقبول ٦٠ من طُلّابهِمِا في الجامعات الأمريكيّة. قد يبدو هذا الرقم متواضعاً، بيد أنّه في الواقع مدهشٌ إذا أخذنا بعين الاعتبار محدوديّة إمكانيات الزوجين، "وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَآ أَحْيَا ٱلنَّاسَ جَمِيعًۭا"، ولا يسعنا إلّا إحناء الرأس احتراماً لإخلاص هَذَيْن المتطوّعَيْن وتفانيهِما.

أحبّ الكاتبان دمشق وأهلَها وقاطنيها، وتعاملا عن كثبٍ مع السورييّن والعراقييّن والفلسطينييّن، ولم يغفلا الإشارةَ لما فعله الإسرائيليّون لأهل فلسطين، السابق بعشرات السنوات لمآثر الولايات المتّحدة في العراق وغيرها. بالطبع كان لهما رأيٌ في المأساة التي عاشتها سوريّا منذ عام ٢٠١١، ولا أعتقد أنّ هذا الرأي سيسرّ الكثيرين من السورييّن، مؤيّدين كانوا أم معارضين. هذا متوقّع عندما يتّخذ أهل البلاد أنفسُهم من الأحداث مواقفاً متناقضةً على طول الخطّ. للأمانة حاول المؤلّفان قدر الإمكان إعطاء صورة "متوازنة" إذا جاز هذا التعبير، وسلّما أنّ "النظام" قَمَعَ "المظاهرات السلميّة" بعنف و"فوراً"، ممّا أدّى إلى إجهاض محاولات تأمين "تغيير سلمي" للحكومة. أقرّ الكاتبان أيضاً أنّ للحكومة السورية مؤيّديها، ممّن خامرتهم الريبة في نوايا الولايات المتحّدة التي تُقاطع بلدهم وتُساند إسرائيل، وتتدخّل باستمرار في شؤون ليس فقط سوريّا، وإنّما أيضاً العراق وأفغانستان وغيرها، عوضاً عن مساعدة الفقراء وتأمين العناية الصحيّة لملايين من الأمريكييّن الذين لا يملكونها (أشار الزوجان هنا إلى رخص الطبابة في سوريا مقارنةً مع الولايات المتّحدة التي كانت الرعاية الصحيّة فيها ولا زالت أغلى من أي مكانٍ آخر على سطح الأرض).

خَتَمَ المؤلّفان بذكر بعض الكتب بالإنجليزيّة لمن يرغب في المزيد من المعلومات عن سوريّا والشرق الأدنى. فيما يتعلق بدمشق بالذات كتاب Ross Burns عن تاريخِها (لرّبما أفضل الموجود ككتاب شامل ووجيز نسبيّاً)، والنسخة الإنجليزية لكتاب السيّدة سهام ترجمان بعنوان Daughter of Damascus للأصل العربي "يا مال الشام".

أحبّ المؤلّفان دمشق وبَذَلَا سنواتٍ من حياتِهِما بإخلاصٍ وتجرّد ودون مقابل لمساعدة شبيبة العراق. من دواعي السرور والحمد أنّ المشرق استقطبَ العلماءَ والأدباء وفاعليّ الخير، وليس فقط جحافلَ الغزاة والفاتحين.

Saturday, May 20, 2017

خمسةُ أعوامٍ في دمشق



أقام المبشّر الإيرلندي المحترم Josias Leslie Porter (١٨٢٣-١٨٨٩) في سوريا عشر سنوات، بدايةً من كانون أوّل ١٨٤٩، وألّف استناداً إلى المعطيات التي جَمَعَها، أحدّ أهم الكُتُب التي نُشِرَت عن دمشق وبلاد الشام في حينه، بعنوان Five Years in Damascus. صدرت الطبعة الأولى عام ١٨٥٥، تلتها طبعةُ ثانية مختزلة عام ١٨٧٠. توزّع الكتاب الأصلي على مجلّدين، بَلَغَ عددُ صفحاتِهِما ٨٥٠ ونيّف، تخلّلتها بعض الصور والمرسّمات والخرائط. النصّ الكامل متوافرٌ بالمجّان على الروابط أدناه.

پورتر رجلٌ متديّن، حدّدَ منعاً لأي التباس، في مقدّمة الطبعة الثانية، أنّ الهدف الرئيس من ترحاله في "بلاد الكتاب المقدّس"، إثبات حقائق هذا الكتاب الذي رافَقَهُ طوال سَفَرِهِ. وصل المبشّرُ الفاضلُ إلى نتيجةٍ مفادُها أنّه كلّما زادت المعلومات المُكْتَسَبة بواسطة الأبحاث الجغرافيّة والأثريّة، كلّما زادت قناعةُ المرء بصحّة ودقّة كتاب الله حرفيّاً، وبتحّقق نبوءة الأنبياء بحذافيرِها. لا يقتصرُ الكتاب على مدينة دمشق، وإن أوحى العنوانُ بذلك، بل يشمل أيضاً المنطقة المحيطة بها، ووادي بردى، وحوران، وتدمر، ولبنان، وبعلبك، وحمص، وغيرها ممّا يتعذّر تغطيتهُ في هذه الأسطر القليلة. أقتصر بالتالي على بعض المعلومات الهامّة عن دمشق كما وَصَفَها الكاتب. للإنصاف، من شبه المؤكّد أنّ ما كتبه عن المدينة أدقّ وأفضل ما نُشِرَ في حينه. تطلّبَ تحسين المعطيات والمعلومات التي جمعها پورتر عشرات السنوات.

تُظْهِرُ خارطةُ المدينة أهمَّ معالِمِها بدقّةٍ أكثر من معقولة بمقاييس ذلك الوقت: الشارع المستقيم، بردى، القلعة، الجامع الأموي، الأبواب، الأحياء، المقابر، وظاهر المدينة الغربي حتّى التكيّة السليمانيّة والمرج الأخضر. يُؤخذ على الخريطة أنّها لا تشمل الصالحيّة ولا معظم حيّ الميدان، وأنّ الاهتمام بالتفاصيل يتناقص خارج السور. ليس هذا مُسْتَغْرَباً إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ پورتر ركّزَ بالدرجة الأولى على المعالم الكلاسيكيّة (الرومانيّة واليونانيّة)، والدينيّة (المسيحيّة واليهوديّة)، كما فعلَ معظم روّاد المستشرقين قَبْلَهُ وبَعْدَهُ.

أرفق المؤلّفُ جدولاً بالتوزيع الطائفي لسكّان المدينة الذين ذَكَرَ عَدَدهم الإجمالي، وفقاً للأرقام الرسميّة: حوالي ١٠٨٬٠٠٠، منهم ٧٤٬٠٠٠ مسلم (غالبيّهم العظمى سنّة)، ١٤٬٠٠٠ مسيحي (بمختلف طوائِفِهِم)، ٤٦٠٠ يهودي، والباقي من "الغرباء والجنود والعبيد والموالي". مع ذلك، ارتأى پورتر أنّ العدد الحقيقي أكبر من ذلك بكثير وأنّه تجاوز ١٥٠٬٠٠٠. أضاف في الطبعة الثانية أنّ عدد المسيحيين تناقص إلى درجةٍ كبيرة بعد مجزرة ١٨٦٠.

مسلمو دمشق، حسب پورتر، "ضعفاء وشهوانيوّن ومتعصّبون"، يمضون أوقاتَهم في التبطّل والتسكّع "من الحريم إلى الحمّام ومن الحمّام إلى الجامع"؛ الصلاة بالنسبة لهم كنايةٌ عن طقوسٍ روتينيّة لا تمنعهم من الكذب والغشّ والشتم. أضاف - بعد التعرّض إلى الحجّ - أنّ الإسلام يتميّزُ عن سائر الأديان، بجمْعِهِ بين التجارة والدين والعبادة والصلاة والكذب والخداع، دون أي تضارب بين هذه الأنقضة. بالنسبة للمسيحييّن، امتدح Porter روحَ المبادرة لديهِم، وجهدَهم وكدّهم، وذَكَرَ (في الطبعة الأصليّة السابقة لمذبحة الستّين) ازدياد نفوذِهِم وثرائِهِم، وبوادر تحسّن في وضعهم الأمني بفضل حماية القناصل الأوروپييّن وبالذات البريطاني Wood، الذي بذل قصارى جَهْدَهُ في حماية المسيحييّن واليهود من أسيادهم السابقين المسلمين. يهود دمشق أقلّ عدداًً بيد أنّ هذا لم يمنع بروز بعض العائلات الواسعة الثراء بينهم، وإن تفاوتت حظوظُهُم بين عهدٍ وآخر حسب تقلّب الحكام وتوافر الحماية الغربيّة.

خصّص الكاتبُ حيزاً لا بأس به لوصف المدينة، ومع إعجابِهِ بجوامِعِها من الناحية المعماريّة والفنيّة، تحفّظَ بالقول أنّها دون استثناء قذرة، وأنّ غالبيّتها العظمى بحاجةٍ ماسّةٍ إلى الترميم. لم يجد پورتر في خانات دمشق ما شدّ اهتمامَهُ سوى مدخلها؛ حتىّ خان أسعد باشا، على اتّساعه وجمالِ قبابِهِ، كان يالنسبة له دون وصف Lamartine الذي اعتَبَرَه "أجمل خانات المشرق". أجرى المؤلّف جولاتٍ في أسواق المدينة، وصولاً إلى قلعةُ دمشق التي كانت لا تزال محاطةً بخندق. القلعةُ في رأيِهِ مهيبةٌ من الخارج فقط، أسوارُها مجرّد غطاءٍ يخفي حالَتَها المتداعية من الداخل.

بيوت دمشق زينةُ المدينة ومبعثُ فَخْرِها، على تواضع مظهرها الخارجي. وَصَفَ پورتر دار علي آغا خزنة كاتبي (حاليّاً بيت نظام) الذي زاره شخصياً، وشَرَحَ أهمَّ مكوّناِتِه، ونوّه بأنّ الجوّاني (الحرملك) محظورٌ على الزوّار، يقفُ الخصيان حرساً على مَدْخَلِهِ.

علّ وصف الجامع الأموي، بما فيه المخطّط الملحق (وهو كخارطة المدينة أدقّ الموجود حتّى حينه)، أحد أهم معطيات هذا الكتاب التاريخي الثمين، يزيد في قيمَتِهِ أنّه سَبَقَ حريق ١٨٩٣ المدمِّر. من المعروف أنّ الجامع (بالأحرى هيكل المشتري ومن ثمّ الكنيسة البيزنطيّة) تمتّع بأروقةٍ معمّدة، لا تزالُ آثارُها موجودةٌ شرق باب جيرون وغرب باب البريد. أضف إلى ذلك بقايا الرواق المعمّد الجنوبي الذي عاينَهُ Porter في منتصف القرن التاسع عشر جنوب باب الزيادة المطلّ على سوق الصاغة قبل اندثارِهِ (يمكن للمزيد من المعلومات مراجعة دراسة الدكتور طلال العقيلي عن جامع بني أميّة).


Friday, May 19, 2017

تاريخ سوريّا من البدايات حتى ١٩١٤



الكتاب من مطبوعات بيروت عام ١٩٢٧، وهو أوّل مؤلّفات الجغرافي والمؤرّخ الفرنسي Richard Lodoïs Thoumin عن سوريّا.

لهذا العمل أهميّةٌ خاصّة، بغضّ النظر عن أخطاء وشطحات الكاتب، الذي حاول تغطية آلاف السنوات من التاريخ في قرابة ٣٤٠ صفحة، في وقت كانت فيه سوريّا (لربمّا لا زالت ولكن هذا حديثٌ آخر) تبحث عن هويّتها، وأرادت فرنسا إعطاءَ هذه الهويّة شكلاً معينّاً واتّجاهاً محدّداً. سوريّا كمفهوم جغرافي أقدم بكثير من القرن العشرين، بيد أنّها - عكس مصر - لم تشكّل كياناً جغرافيّاً - سياسيّاً واضح المعالم قبل القرن العشرين. يترتّب على ذلك أنّ ما كُتب عنها قبل هذا القرن أتى في سياقِ أعمالٍ تناولت تاريخ إمبراطوريات أو ديانات معينّة. الخلاصة يبقى الكتاب على علّاتِهِ عملاً رائداً وجهداً مشكوراً.


تعهّدَ الكاتبُ في المقدمة أن يختصر التفاصيلَ السياسيّة والعسكريّة إلى أقصى حد ممكن. أستطيعُ، بعد قراءة الكتاب، القول دون تردّد، أنّه أخفقَ في تحقيقِ ِهدفه، وأنّ الطابع السياسي يغلبُ على الكتاب من البداية إلى النهاية، رغم محاولةٍ لتغطية الجوانب الدينيّة والفكريّة والفنيّة. خصّصَ Thoumin أكثر من نصف العمل (١٩٠ صفحة) للفترة قبل الإسلام، وما تبقّى (١٥٠ صفحة) للعهود اللاحقة حتّى اندلاع الحرب العظمى عام ١٩١٤. رَسَمَت الصفحات الأولى الخطوط العريضة لجغرافية سوريّا، ولفت نظري أنه أطلق على سهل الغاب اسم "الغرب". لم يكن هذا خطأً مطبعيّاً (والأخطاء المطبعية في الكتاب كثيرة)، بدلالة تواتر هذه التسمية في عدّة مواضع. اكتسب المؤلف مزيداً من الخبرة والمعرفة لاحقاً تُرْجِمَت في دراسَتِهِ الممتازة Géographie humaine de la Syrie centrale عن "الجغرافيا البشريّة في سوريّا المركزيّة" عام ١٩٣٦.


الفصول التي تناولت العهود قبل الإسلام غنيّةٌ بالمعلومات المثيرة، رغم إشارات الاستفهام حول مصادرها، ومنها كتاب العهد القديم. الساميّون - حسب الكاتب - أوّل من مارس دفن الأموات، عوضاً عن إحراق جثثهم. العبرانيّون دخلوا مصر مع الهكسوس (صفحة ٥٣)، الذين أدّت هزيمتُهُم لاستعباد بني إسرائيل في مصر. لا داعي للدخول في تفاصيل "الخروج" فهي غنيّةٌ عن التعريف. استقلّ السوريّون (الفينيقيّون والعبرانيّون وآرام دمشق) لمدّة ٣٠٠ سنة، أي الفترة المنصَرِمة بين انحطاط مصر وصعود آشور، او بعبارة ثانية نهايات الألف الثاني وبدايات الألف الأوّل قبل الميلاد. اعتمد المؤلِّفُ هنا - ككثيرين غيره - إلى درجةٍ كبيرة على روايات الكتاب المقدّس، على اعتبار أنّ المصادر البديلة شبه معدومة؛ أضاف (صفحة ٩٢)، على سبيل المثال، أنّ اليونانييّن (المقصود العالم اليوناني وليس اليونان الحاليّة) كان يجهلون حتّى وجود القدس ناهيك عن مملكة داود وسليمان. لربّما استند في هذه المقولة على غياب ذكر القدس - أورشليم في تاريخ هيرودوت.


تمركزت الحياة الدينيّة في سوريّا والشرق الأدنى قديماً حول عبادات الخصوبة من أدونيس إلى أوزوريس إلى مثرا، كما هو الحال في الحضارات التي شَهِدَت "الثورة الزراعيّة"، وتقمَّصَ بعضُ أربابِها موت الطبيعة في الشتاء وبعثِها في الربيع. لسببٍ أو لآخر لم يربط Thoumin يسوع والفصح بالعبادات القديمة قدم التاريخ. يردّد المؤلّف (صفحة ١٦٠) آراء معظم المؤرّخين عن بدايات المسيحيّة: أسّس القّديس بطرس كنيسةً في القدس أقرب ما تكون إلى دين موسى (المسيحيّة - اليهوديّة)، بينما وطّد بولس الطرسوسي في أنطاكيا كنيسةً عالمية الاتّجاه، أقرب متناولاً لليونان والرومان، ممّا أدّى بالنتيجة إلى انتصارها وأفول نجم الأولى. الفصل بين تاريخ المسيحيّة وتاريخ الإمبراطوريّة الرومانيّة بطبيعة الحال غير وارد، على الأقلّ اعتباراً من اعتناق قسطنطين العظيم الدين الصاعد. حُسِمَ الأمر مع فشل محاولة يوليان المرتدّ (أو الجاحد) في إعادة "الوثنيّة"، والتدابير التي اتخذها ثيودوسيوس العظيم لاستئصال شأفة الديانات القديمة.


الفصول المتعلقة بالتاريخ الإسلامي بالذات بحاجةٍ ماسّة إلى التنقيح، رغم اطّلاع المؤلِّف على بعض المصادر العربية، محمّد كرد علي على سبيل المثال (صفحة ١٩٥). لا أتكّلم هنا عن هفواتٍ مطبعيّة (وهي كما أسلفت كثيرة)، أو زلّات سهو، وإنّما بالأحرى أخطاء فاضحة من نوع الخلط بين الفيلسوف ابن خلدون وكافي الكفاة ابن حمدون (صفحة ١٩٤)، و"الأتابك قلاوون" (صفحة ٢٥٢)، وأنّ عمر باني قبّة الصخرة (صفحة ٢٢٢: سمّى كثيرٌ من الغربييّن قبّة الصخرة "مسجد عمر" حتّى القرن التاسع عشر على الأقلّ) . المثير للدهشة أنّ الكاتب إعتمد إلى حد كبير على المستشرق Henri Lammens (١٨٦٢-١٩٣٧)، علّامة من الطراز الأوّل في التاريخ العربي والإسلامي بغضّ النظر عن أيّ اعتبارات ثانية، وضليع باللغة العربيّة (كل من هو أليف بأعمال لامنس يعرف أنّه دأب على ذكر أسماء الأشخاص المحلييّن بالأحرف العربية ومقابلها بالأبجدية اللاتينيّة منعاً لأيّ التباس). احتلّت الحروب الصليبيّة بالذات مكاناً بارزاً في الكتاب، وأضرب صفحاً عن التعرّض لموضوع عولِجَ مراراً وتكراراً في تيهورٍ من المؤلّفات بمختلف اللغات.


نَظَرَ الكاتب - كالعديد من أقرانه في الشرق والغرب - إلى العهدين المملوكي والعثماني بازدراء، وحمّلَ هذا الأخير بالذات مسؤوليّة تدهور سوريّا على جميع الأصعدة ومنذ البداية (للأمانة ردّدت الكتب المدرسيّة السوريّة نفس الكلام كالببّغاءات لسنواتٍ طويلة مع تعديلاتٍ طفيفة)، بيد أنّه أنحى أيضاً باللائمة على السورييّن، الذين تقاعسوا عن مساعدة ناپوليون على تحريرِهِم من النير التركي (صفحة ٢٩٤)، وجحدوا شهامة الفرنسييّن في حقنهم دماء المدنييّن (صفحة ٢٩٦) . بالطبع حمّل Thoumin قسماً من المسؤولية للإنجليز، أعداء فرنسا ومنافسيها التقليدييّن، من حملة بوناپارت إلى مذبحة ١٨٦٠، واتّهمهم على سبيل المثال بالمساهمة في إشعال الفتنة الطائفيّة، وحماية القَتَلة من الدروز من قِبَل القنصل البريطاني (صفحة٣١٠). تسائل الكاتب (صفحة ٣١٧) عن الأسباب التي دفعت دهماء دمشق إلى توفير القنصليّات البريطانيّة والپروسية دون سواها خلال الأحداث الدامية.


بشّرت الأسطر الأخيرة السورييّن بمستقبلٍ واعد، تحت رعاية الانتداب الفرنسي وحماية الأمّ الرؤوم فرنسا، المعروفة بحبِّها للعدل، واحترامها للأفراد، وتجرُّدِها، وإخلاصِها لكل ما هو نبيل. أكّد Thoumin أحقيّة فرنسا، من بين كل دول العالم، بتولّي مهمّة إحياء الحضارة السوريّة العريقة، وجدارتها بهذه الأمانة.

Wednesday, May 17, 2017

أهل دمشق أواخر القرن التاسع عشر



لم أستطع الحصول على معلوماتٍ تذكر عن المؤلّفة، السيّدة Mackintosh، باستثناء أنّها بريطانية أو على الأقلّ من المملكة المتّحدة، پروتستانتيّة المذهب، داعية للتبشير، أمضت سبع سنوات في دمشق فبل نشر كتابها "دمشق وأهلها، الخطوط العريضة للحياة الحديثة في سوريّا" عام ١٨٨٣. الكتاب متاحٌ بالمجّان للقراءة والتحميل للمهتمّين.

يستهدف هذا السِفْر أهلَ الشام، وليس تاريخ المدينة أو الإقليم. عاشَرَت المؤلّفة الدمشقييّن بمختلفِ فئاتِهِم عن كثب، وركّزت اهتمامَها عليهم. مع ذلك هناك وصفٌ أميل إلى الاختصار لدمشق ومحيطها، والبادية حتّى تدمر، ولبنان مع الساحل، ومنطقة القلمون. لغةٌ سهلةٌ وأسلوبٌ أخّاذ بغضّ النظر عن رأينا في فحوى الكتاب ومادّتِهِ.

بلغ عدد سكّان المدينة مع ضواحيها آنذاك ١٨٠٫٠٠٠ نسمة. شَمَلَ هذا الرقم ٥٫٠٠٠ إلى ٦٫٠٠٠ يهودي، و ٢٠٬٠٠٠ مسيحي. أهمّ أبنيتها الجامع الأموي بالطبع، وهناك أيضاَ الكنيسة المريميّة والقلعة. دمشق جنّةٌ على الأرض، حسب الكاتبة، إذا نظرنا إليها من بعد، بيد أنّ هذا الوهم يتلاشى بمجرّد أن يجابه الزائر هوائَها الملوّث، وشوارعَهَا القذرة الضيّقة التي تتولّى الكلابُ الهائمة الجائعة مهمّةَ تصريفِ نفاياتِها.

وصفت المؤلّفة ساحة المرجة ومحيطها المباشر، أثناء العمليّة التي تطوّرت بموجِبِها إلى مركز المدينة الجديد لاحقاً. ذكرت Macintosh السجن الموبوء، ومركز البريد والبرق الذي أدارهُ موظّفان ليس غير، أحدُهُما الساعي، والسرايا أو مقرّ الوالي (بناءٌ يعود لزمن كنج يوسف باشا في مطلع القرن التاسع عشر، حلّ محلَّهُ لاحقاً بناء العابد الذي لا يزال قائماً حتى اليوم)، و"السرايا العسكريّة" أو ما عُرِفَ بالمشيريّة (يحتلّ مكانها حالياً قصر العدل شرق شارع النصر).

أثنت Mackintosh على بهاء البيوت الدمشقيّة، على الرغم من مدخلها الكئيب الأشبه بباب السجن، ونوّهت ببساطة الأثاث والأدوات المنزليّة، وإن كانت المقاعد والأسرّة الأوروپيّة تتغلغل بالتدريج لدى الطبقة الموسرة.

التجوّل دون فانوس بعد غروب الشمس محظور. تُغْلَقُ أبوابُ الحارات ليلاً ولا تُفْتَح إلا بمعرفَةِ الحرّاس. تُضاءُ الأسواقُ بالمصابيح الزيتيّة المتباعدة الباهتة النور، بينما يوشّحُ ظلامٌ دامسٌ سائرَ المدينة.

نأتي الآن إلى الأحياء المسلمة، أو ما أسمته الكاتبة "الحيّ المُحمّدي"، بنوافذِهِ (مشربيّاتِهِ) المغلقة، وسطوح المنازل المُصمّمة لمنع البصبصة على النساء. المرأةُ المسلمة مظلومةٌ (موضوعٌ يعود إليه المستشرقون عموماً مراراً وتكراراً وإلى اليوم)، ليس لديها ما يشغلها ممّا يمكن وصفه بالمفيد أو المنتج، لا تستطيع مغادرة المنزل دون أن تتّزر وتتنقّب (انطبق هذا في ذلك العهد على النساء بغضّ النظر عن انتمائهنّ الديني). أطفالُ دمشق يشتمون بمناسبة ودون مناسبة.

القرآن (صفحة ٣٠) مترعٌ "بالأساطير الحمقاء"، المُحرَّفة عن الكتاب المقدّس، يخلط بين إسماعيل وإسحاق وبين مريم العذراء وأخت موسى، وينكر ألوهيّة المسيح وصلْبَه. تستدرك المؤلّفة مضيفةً أنّ المسلمين بدورِهم يعتقدون أنّ كتب المسيحييّن واليهود محرّفة، وإن تفاوتت درجة التعصّب الديني لديهم. يلي هذا وصفٌ لشعائر المسلمين ومحمل الحجّ.

يزدري يهود دمشق الزراعة، ويمارسون الصيرفة والتجارة، تمضي نساءُ أغنيائِهِم أوقاتهنّ ببلاهة، لا هدف لحياتهنّ سوى المتع الآنيّة كالثياب والزيارات والنزهات والتدخين. بالنسبة لشكل اليهود، فُوجِئَت الكاتبة بغياب الصورة النمطيّة التي رَسَمَتها مخيّلتُها لشعرهم الداكن وأنوفِهِم المعقوفة (صفحة ٥٠)، وأنّ العديد من بناتِهِم حسناوات، بيضاوات البشرة، زرقاوات الأعين. يهود دمشق (خلافاً ليهود فلسطين وخصوصاً المهاجرين الأوروپييّن منهم) يتكلّمون العربية كلغتهم الأمّ، ولا تختلف ثيابُهُم عن بقيّة أهل المدينة. ذكرت Mackintosh كنيسهم في قرية جوبر، المسلمة بالكامل.

الفصل الرابع عن الحيّ المسيحي، مع بعض التفاصيل عن الأطباق الدمشقيّة، من الكبّة إلى الكوسا المحشي. لم تُغْفِل المؤلفة الغسيل المنشور فوق الأسطح ولا تعريشات ديار البيت الشامي.

الفصل الخامس مخصّصٌ لأسواق المدينة. يحتلّ سوق مدحت باشا الصدارة بطبيعة الحال، أضِف إليه أسواق المهن المختلفة. هناك أيضاً اثنين أو ثلاث أمكنة للتجارة بالعبيد (صفحة ٧٧-٧٨)، زارت Mackintosh شخصياً أحَدَها ورأت بأمّ عينها نساءً للبيع، وذكرت كيف طمأن النخّاسُ زبائنَهُ أنّه سيجلب "بضاعةً" أفضل لدى عودة الحجيج من مكّة. اقتنى عددٌ من المسلمين والمسيحييّن العبيد السود، وتحسّرت المؤلّفة أنّ الاستعباد لم يكن وقفاً على الزنوج، بل شَمَل أيضاً البيض، بما فيهم صبايا من حسان الشركس، وبالطبع تعيّن على الشاري أن يدفع لامتلاكهنّ سعراً أعلى من المطلوب لزميلاتهنّ السوداوات.

يتكتّم الدروز على معتقداتِهِم، وليس في قراهم جوامع ولا كنائس. يجتمع أبناء الطائفة في جرمانا يوم الخميس في بيت شيخهم. الدروز معروفون بشجاعتِهِم، وهم يدّعون الإسلام تارةً والمسيحيّةَ طوراً، ويؤمنون بتناسخ الأرواح، ويحبّون الإنجليز. الدروز أكثر من رحّب بالبعثات التبشيريّة الپروتستانتيّة البريطانيّة والأمريكيّة، بينما ناصبتها طوائف سوريّا عموماً، بما فيها المسيحيّة، العداء.

يحتقر البدو الزراعة، ويعملون برعي الماشية، ويمارسون أيضاً "الغزو" أو السرقة حسب تعبير المؤلّفة، وإن بذلوا قصارى جَهْدِهِم لتجنّب القتل، وما يترتّب عليهِ من سفك الدماء وتارات لا نهاية لها على مبدأ العين بالعين.

الفصل الحادي والعشرون (إعتباراً من الصفحة ٢٥٦) عن الطوائف السورية: السنّة هم الأكثر عدداً، ومِنَ المسلمين مَنْ هم من "الأرفاض" أو "المتاولة"، الذين وصلَ تعصّبُهُم - حسب المؤلفة - إلى درجة الضنّ بماء الشرب على المسافرين من غير ملّتهم. الأرفاض، في خصوصيّتِهِم وعزوفِهِم عن الاختلاط بالآخرين، أشبهُ باليهود الذين تربطهم بِهِم صداقةٌ وإخاء، بدلالة حيّهم الملاصق لحارة اليهود في دمشق. النصيريّة - من بين كلّ الديانات السوريّة - هم الأقرب إلى الوثنيّة، يعبدون الشمس والقمر والنجوم والأماكن المرتفعة. مراسم انتخاب علماء النصيريّة (صفحة ٢٦١) "ملعونة ومهينة وقبيحة". استمدّت Mackintosh معلوماتِها من أحد المارقين منهم الذي اعتنق المسيحية وفرّ إلى مصر ليؤلّف بالعربيّة كتاباً "يفضح" فيه عقائدَهم وممارساتِهم. أضافت الكاتبة - في نفحةٍ من الكرم - أنّهم مضطّهدون ويستشّف من أسطرِها أمَلَها أن ينتهي بهم الأمر إلى اعتناق الدين الحقّ (أي المسيحيّة الپروتستانتية).

المؤلِّفَة، على عنصريّتها ونظرتها الاستعلائيّة كسائر مستشرقيّ القرن التاسع عشر، حسنةُ النيّة لا تريد للسورييّن إلّا الخير، بدلالة أنّها أعربت عن أمَلِها بنشر الإنجيل بين المسلمين، والمسيحييّن (من غير الپروتستانت)، واليهود، وغيرهم. دعت Mackintosh إلى "حملةٍ صليبيّةٍ" سلميّة، خلافاً لجهاد المسلمين (صفحة ٢٩٢)، في سبيل تحقيق هذا الهدف النبيل.