"لكَ أن تبدي رأيَكَ، وليس لكَ أن تَفْرِضَ حقائِقَك". قولٌ مأثورٌ لعضو مجلس الشيوخ الأمريكي الراحل Daniel Patrick Moynihan. جميعُنا نعلم أن الآراء الفيسبوكيّة تُقدَّم بمناسبة وغير مناسبة كحقائق تتمّ مشاركتها على أوسع نطاق في وسائل التواصل الاجتماعية دون تفكير، ناهيك عن التحقّق والتدقيق، والنتيجة أن تصبح أي رواية متواترة بما فيه الكفاية قرآناً منزلاً، يستشهد به القاصي والداني لإثبات وجهةِ نظرِهِ، وإفحام الخصوم والأقران والمزاحمين بسعة عِلْمِهِ وطولِ باعِهِ وفضلِهِ.
الخطوطُ العريضة لما سُمّيَ طوشة النصارى (التسمية الأدقّ مذبحة أو مجزرة) معروفةٌ، لا داعي لتكرارها في هذه السطور القليلة. أقتصر أدناهُ على اقتباس "منشور فيسبوكي" يعود إلى العام ٢٠١٧ بحذافيرِهِ، دون تسمية صاحِبِهِ أو صاحبتِهِ، ثمّ التعليق عليه من منظورٍ شخصي هو بالنهاية ليس أكثر من رأي ضمن العديد من الآراء.
الخطوطُ العريضة لما سُمّيَ طوشة النصارى (التسمية الأدقّ مذبحة أو مجزرة) معروفةٌ، لا داعي لتكرارها في هذه السطور القليلة. أقتصر أدناهُ على اقتباس "منشور فيسبوكي" يعود إلى العام ٢٠١٧ بحذافيرِهِ، دون تسمية صاحِبِهِ أو صاحبتِهِ، ثمّ التعليق عليه من منظورٍ شخصي هو بالنهاية ليس أكثر من رأي ضمن العديد من الآراء.
أبدأ بالإقتباس:
"تؤكد المؤرّخة الأميريكيّة ليندا شيلشر صاحبة كتاب "دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر" في نهاية الفصل الذي كتبت فيه عن أحداث عام ١٨٦٠ في دمشق أنّ تلك الأحداث لم تكن على أساس ديني أبداً حيث تقول (النصّ الملحق من الصفحة ١٢٦ من تعريب الأستاذين عمرو ودينا الملّاح والصفحة ١٠٠ من الأصل الإنجليزي):
وهذا الكتاب يُعَدُّ من المراجع المهمّة وربمّا من أهمِّها في تاريخ سوريّا الحديث ومازال يحتلّ مكانةً فريدةً بين الكتب التي تبحث في التاريخ الحديث لبلاد الشام".
انتهى الاقتباس.
أودّ هنا إبداء الملاحظات أو بالأحرى التحفّظات التالية:
أوّلاً. أعجب هذا الپوست الكثيرين، وكانت التعليقات عليه إيجابيّةً إلى درجة العاطفيّة. ألم تقل خبيرةٌ غربيّةٌ في كتاب "يحتلُّ مكانةً فريدةً" أنّ هذه "الأحداث لم تكن على أساس ديني أبداً؟!" شَهِدَ شاهدٌ من أهلِهِ وقُضِيَ الأمرُ الذي كنتم فيه تختلفون! لتوخّي الدقة لم يكن رأي المؤلِّفة على هذه الدرجة من الوضوح، ولا بدّ في هذا السياق من التنويه أنّها كتبت فصلاً كاملاً عن مأساة ١٨٦٠، اختار منها صاحب أو صاحبة المنشور بضعة أسطر وافقت توجّهاتٍ مسبقةً معيّنة. في كلّ الأحوال لم تكن الدكتورة شيلشر المستشرقة الوحيدة التي ذهبت هذا المذهب، وأمّا عن الكتاب المحلييّن فحدّث ولا حرج. ما فات كاتب الپوست والمعجبين الكثر بهِ أنّ أغلب المستشرقين يركّزون على الخلفيّة الطائفيّة، ولكنّنا كالعادة نختار منهم من يعجبنا ونضرب بآراء البقية عرض الحائط.
ثانياً. كون "جماعة معينّة من المسيحييّن فقط تعرّضت للهجوم"، وأنّ "بعض المسلمين فقط قاموا بالهجوم"، لا ينفي أنّ جميع الضحايا عمليّاً كانوا مسيحييّن، وأن الأيدي التي تلوّثت بدمائِهِم كانت أوّلاً وأخيراً مسلمة. يستطيع من يبرّر تدمير الحيّ المسيحي بهذه الطريقة، أن يستعمل نفس الحجّة - ولربّما بقوّةٍ أكثر - لتبرير القصف الفرنسي لسيدي عامود (الحريقة) عام ١٩٢٥. نعم كانت الدول الأوروپيّة تبحث عن مصالِحِها ما في ذلك أدنى شكّ، ولربّما شرحت بعضُ ممارساتِها خلفيّةَ الفتنة، ونعم استغلّت هذه الدول المأساة لتعزيزِ نفوذِها، ولكن من قَتَلَ ونَهَبَ وأحْرَقَ وسبى سوريّون عن بكرةِ أبيهم.
ثالثاً. من المؤكّد أن مسلمي اليوم أبرياء ١٠٠٪ ممّا جرى قبل أكثر من قرن ونصف، ولا ريبَ أنّ مسيحيّي اليوم ليسو ضحايا هذه الأحداث؛ مات الجناةُ والمجني عليهم منذ أجيال، بل مات أولادُهُم وأحفادُهم. هل لنا أن ننظرَ إلى تاريخِنا بحدّ أدنى من الموضوعيّةِ والتجرّد؟ ما أشبه ما نفعَلهُ بإنكار الأتراك لمذابح الأرمن في مطلع القرن العشرين أو محاولة تسويغها بأغرب التبريرات.
رابعاً. قد يشير البعض أن تاريخ الغرب مليء بالمجازر الدينيّة وهذا قطعاً صحيح، بيد أنّ أوروپّا اليوم لا تحاول تبرئة ساحة محاكم التفتيش في إسپانيا، وتبرير الفتك بالپروتستاتت Huguenot في فرنسا، واضطهاد الكاثوليك في انجلترا، بذريعة تدخل الاستعمار والإمپريالية في شؤونِها.
خامساً. هل يجادل عاقلٌ أنّ العقليّةَ القبليّة والعشائريّة والإقليميّة والطائفيّة، لا تزال متفشّيةً في أبشع مظاهرها إلى يومنا في سوريّا و"العالم العربي" المزعوم؟ كيف نستطيع حلَّ مشكلةٍ لا نعترف بوجودِها أصلاً؟ التدخل الأجنبي كان ولا يزال وسيبقى موجوداً، ولكنّهُ ممكنٌ لأننّا ضعفاء أوّلاً، ولأنّنا نرفض النظر في المرآة ثانياً.
سادساً. ليس ما حدث عام ١٨٦٠ المثال الوحيد على مذبحةٍ طائفية في تاريخ سوريّا، ودون التطرّق إلى أحداث الحاضر. إذا كان تاريخُنا قبلَ "تدخّل الاستعمار" سلسلةً مّتصلة من التعايش الودّي بين الطوائف، علام اعتكاف العلوييّن والدروز والموارنة وغيرهم بالجبال منذ مئات السنوات؟
كلّ هذا لا ينتقص من أهميّة كتاب الدكتورة Schilcher، ولكن مع كامل احترامي لوجهة نظرها، فما هي بالنتيجة إلّا إحدى العديد من وجهات النظر التي يحسن مراجعتها إذا أردنا تسمية الأمور بمسمّياتِها ومحاولة تغيير ما بأنفُسِنا عوضاً عن الاكتفاء بلوم الآخرين.
اللوحة للفنّان البلجيكي Jan-Baptist Huysmans.


No comments:
Post a Comment