Monday, November 27, 2017

طوشة الباطنيّة



من العبث إنكار مجزرة ١٨٦٠ أو ما دُعِيَ "طوشة النصارى" في دمشق، كونها حصلت في عهد التصوير الضوئي والصحافة المطبوعة وتدخّل أوروپّا في شؤون الإمبراطوريّة العثمانيّة في زمنٍ اعتمدَ فيهِ بقاؤها بالدرجة الأولى على تنازع القوى الغربيّة بعضها مع البعض الآخر. كلّ ما يمكن عمله لمن يرفض تسمية الأمور بمسمّياتها، أن يعمد للتفسير والتأويل ولوم الغرب والاستعمار وحتّى اليهود إذا لزم الأمر، في محاولةٍ بائسة لتبرير ما لا يمكن تبريره منطقيّاً أو أخلاقيّاً. 

بيت القصيد هنا أنّ هذه المذبحة لم تكن أوّل فتنة طائفيّة تشهدها المدينة، بل سبَقَها في أواخر العقد الثالث من القرن الثاني عشر للميلاد مذبحةٌ تضاهيها إن لم تتفوّق عليها وحشيّة واتّساعاً كما سنرى.

من البدهي أنّ الوجود الفاطمي في دمشق لفترة تجاوزت القرن لا بدّ أن يُتَرْجَم إلى عددٍ لا بأس به من الإسماعيلييّن في المدينة. للتذكرة تُنْسَبُ السلالة الفاطمية إلى عبيد الله المهدي من السلميّة، بيد أنّ بدايات الدولة كانت في شمال غرب إفريقيا قبل أن تمتدّ إلى مصر في عهد المعزّ لدين الله وعامله جوهر الصقلّي بناة القاهرة. جرى نزاع على الخلافة بعد موت المستنصر بالله بين المستعلي وأخيه الأكبر نزار. خسر هذا الأخير وهرب إلى الإسكندريّة ثمّ قُتِل عام ١٠٩٥ وانشقّ الإسماعيليّون بعد هذه الأحداث إلى حزبين: الأوّل فاطميّو مصر (ومنها إلى الهند واليمن)، والثاني النزاريّون (إلى إيران وسوريّا) ومنهم من عُرِفوا بعدها بالحشّاشين

لم يجد المؤرّخ الدمشقي ابن القلانسي، على غزيرِ علمِهِ وحصافَةِ عقلِهِ، قاسماً مشتركاً بين فاطمييّ مصر (الذين كال لهم الثناء بحسابٍ ودون حساب)، وإسماعيلييّ سوريّا الذين أطلق عليهم لقب الباطنيّة واتّسمت كتاباتُهُ عنهم بالسلبيّة والعداء. 

____________

فلنستعرض بعد هذه المقدّمة الطويلة أحداث عام ١١٢٩ في عهد تاج الملوك بوري. بدأ ابن القلانسي باستعراض خلفيّة الفتنة، وكيف نجح داعية الباطنيّة بهرام، في غواية العديد من أبناء الأقاليم الجهلة وحثالة الفلّاحين واللصوص من عديمي الضمائر الذين لا يخافون الله ولا يردّهم وازعُ عن الشرّ والأذى (صفحة ٢٢١ من "الذيل")، وأضافَ أنّ عقيدَتَهم السريّة ظهرت بكلّ نقائصِها في وضح النهار عندما مارسوا العنف وقطع الطرقات والظلم، وساعدهم في مخطّطاتِهِم المشؤومة الوزير أبو طاهر المزدقاني. عيل بالنتيجة صبر تاج الملوك، وعزم على التخلّص من الباطنيّة "أعداء الله" مرّةً وإلى الأبد؛ بالنتيجة قُتِل بهرام وانتقلت الزعامة بعده للمدعو إسماعيل العجمي الذي تعاون معه المزدقاني إلى أن قُطِعَت رأس هذا الأخير وأُحْرِقَت جثّتُهُ جزاءً وفاقاً على شروره وآثامه "وما الله بظلّامٍ للعبيد". سوّغ القرآن  - في نَظَرِ ابن القلانسي - ما جرى كعقابٍ ربّاني حقّ على المفسدين في الأرض.

أذيع خبر ذبح المزدقاني في دمشق وكانت هذه بمثابة إشارة للأحداث والرعاع للانتشار في المدينة كالنار في الهشيم، مسلّحين بالسيوف والخناجر، وقَتْل كلّ من صادفوه من الباطنيّة ومشايعيهم بما فيهم من طَلَبَ الأمان، ورغم محاولة البعض التشفّع لهم. مع حلول الصباح تمّ تنظيف الأزقّة والساحات من جثثهم التي تنازعتها الكلاب وكلّ هذا طبعاًَ "عبرة لذوي الألباب" (صفحة ٢٢٣):

"فثارت الأحداث بدمشق والغوغاء والأوباش بالسيوف والخناجر المجرّدة فقتلوا من ظفروا به من الباطنيّة وأسبابِهم وکلّ متعلّق بهم ومنتمٍ إليهم وتتتبّعوهم في أماكِنِهِم واستخرجوهم من مكانِهِم وأفنوهم جميعاً تقطيعاً بالسيوف وذبحاً بالخناجر وجعلوهم مصرعين على المزابل کالجیف الملقاة والميتة المجتواة وقُبِضَ منهم نفرٌ كثيرٌ التجأوا إلى جهاتٍ يحتمون بها وأملوا السلامة بالشفاعة منها قهراً وأُريقت دماؤهم هدراً وأصبحت النواحي والشوارع منهم خالية والكلاب على اشلائهم وجيفِهم متهاوشة عاوية إنّ في ذلك لآية لأولي الألباب." 

لا يورد ابن القلانسي أرقاماً (ولا ترجمة Le Tourneau). تفاوتت التقديرات حسب المصدر من ستّة آلاف ضحيّة (ابن الأثير) إلى عشرة آلاف (سبط ابن الجوزي)، ووصل بعضُها إلى العشرين ألفاً. لا شكّ أنّ الرقم الأخير على الأقلّ فيه الكثير من المبالغة ومع ذلك لا خلاف على حصول المجزرة ولا على هويّة ضحاياها. يزيد من مصداقيّة الرواة أنَّهُم دون استثناء من أعداء الإسماعيلييّن، وأنّهم افتقدوا إلى الحدّ الأدنى من الشعور بالذنب أو الشين، لا بل افتخروا بالقضاء على الباطنيّة كما افتخر العبّاسيون بإبادة الأموييّن. هناك كثير من الأمثلة المشابهة على هذه الظاهرة لمن يريد التوسّع. 

ادّعى البعض (ومنهم ابن الأثير)، في محاولةٍ لتسويغ المذبحة أنّ المزدقاني اتّفق مع الباطنيّة على تسليم دمشق للصليبييّن، بيدَ أنّ ابن القلانسي صامتٌ عن هذه النقطة قبل المذبحة، وإن أضاف كمسك الختام أنّ إسماعيل العجمي "أنفذ إلى الإفرنج يبذل لهم تسليم بانياس إليهم" (صفحة ٢٢٤)، ومات لاحقاً في بانياس (الجولان) وتخلّصت المنطقة من الباطنيّة و"رجسهم". في كلّ الأحوال حتّى إذا سلّمنا أنّ بعض الإسماعلييّن تعاون مع الصليبييّن فلا يمكن أن يبرّر هذا ذبح جميع الإسماعيلييّن ولا يعقل أنّ الآلاف منهم تعاونوا مع الصليبييّن.

من نافل القول أنّ التعصّب الديني في العصور الوسطى لم يكن وقفاً على دمشق ولا سوريّا ولا أي بلد إسلامي أو غير إسلامي. تاريخ أوروپّا يطفح بالمجازر والفتن الدينيّة، ولربّما كان سجلّ العالم الإسلامي في الماضي أفضل من نظيرِهِ المسيحي. الفرق أنّ العرب اليوم، مقارنة مع الغرب العلماني، يتّبعون إحدى سياستين في الأمور المتعلّقة بما لا يشرّف في ماضيهم: الأولى إلقاء اللوم على الغير (مجزرة ١٨٦٠)، والثانية تجاهل الموضوع بالكليّة كما في مأساة ١١٢٩. 

No comments:

Post a Comment