Thursday, November 9, 2017

صانعو التاريخ العربي


حاوَلَ الدكتور فيليپ حتّي في موضعٍ آخر تعريفَ الهواة بالتاريخ العربي من خلال ستّة مدن (مكّة والمدينة ودمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة)، وها هو يقدّمُ هذا التاريخ عَبْرَ سيرة ثلاثة عشر رجلاً، سبعةٌ منهم سياسيّون ومؤسّسو ديانات أو مذاهب (محمّد وعمر بن الخطّاب ومعاوية بن أبي سفيان وعبد الرحمن الداخل والمأمون وعبيد اللّه المهدي باني الدولة الفاطميّة وصلاح الدين الأيّوبي)، وستّةٌ من المفكّرين (الغزّالي والشافعي والكندي وابن سينا وابن رشد وابن خلدون). ليس كلُّ هؤلاء عرباً (صلاح الدين كردي والغزّالي خراساني على سبيل المثال)، بيدَ أنّ جميعَهم ساهموا إلى أبعد الحدود في صياغةِ التاريخ العربي كما نعرفُهُ اليوم. 

أبطالُ الفئة الأولى ذائعوّ الصيت، كُتِبَ عن سيرتِهِم أسفارٌ بعدّةِ لغات، وأقتَصِرُ بالتالي على نَبْذَةٍ  عن أهل الفكر، بعد التنويه بأنّ المؤلّف اعتبر محمّد شخصيّةً فريدةً على مرّ العصور وفي العالم أجمع. محمّد الوحيد الذي يُنْسَبُ إليه تأسيس ديانة (الإسلام)، ودولة (في الجزيرة العربيّة تحوّلت بعده إلى خلافة)، وأمّة (بمعنى الناطقين بالعربيّة). ليس حتّي الوحيد الذي ارتأى أنّ محمّد تبوّأ المرتبة الأولى كالشخص الأكثر تأثيراً في التاريخ. يستشفّ القارئ إعجاب الكاتب العروبيّ الهوى بالإسلام، وإن اقتضت الموضوعيّة ذِكْر ليس فقط محاسن أبطالِهِ وهي كثيرةٌ بالتأكيد، بل أيضاً بعضَ مساوئِهِم ولحظاتِ ضعفهم أو قسوتِهِم كبشرٍ غير معصومين عن الخطأ، فمثلاً أمر عمر بن الخطّاب بجَلْدِ ابنه الذي شرب الخمر علناً رغم مَرَضِهِ فمات هذا الأخير تحت السياط، وأبرَمَ صلاح الدين أمرَهُ بقتل المتصوّف السهروردي.

____________

فلنتعرّف بسرعة على بعض ألمع أعلام الإسلام في عهدِهِ الذهبي، والمقصود هنا من النواحي الفكريّة وليس الغزوات والفتوحات:

١. أبو حامد الغزّالي (١٠٥٨- ١١١١): نَسَبَ العديدون اسمَهُ إلى قرية غزالة، وعلّ الغزّالي (من غزل الصوف مهنة أبيه وجدّه) أقرب إلى الصواب. نجح هذا العالِم الديني إلى حدٍّ كبير في التوفيقِ بين الإيمان والعقل، وجَمَعَ بين الإسلام السنّي المحافظ والصوفيّة (التنسّك Aceticism والغموض Mysticism)، والفلسفة سواء الأرسطوطاليسيّة أو الأفلاطونيّة الجديدة Neoplatonism التي استعمَلَها دفاعاً عن الدين. برّرَ الغزّالي الغناءَ والرقص لأهدافٍ دينيّة، واعتبر أنّ ثواب المؤمن في الجنّة روحي أكثر ممّا هو حسّي، وتقبّلَ المسيحيّةَ عموماً ورَفَضَ شتم يزيد على المنابر. باختصار كان الغزّالي "معتدلاً"، واعتبره بعضُ الغربييّن أقرب المسلمين إلى المسيحيّة. من أشهر مؤلّفاته إحياء علوم الدين والمنقذ من الضلال وتهافت الفلاسفة، وكان أثره واضحاً على الطرق الصوفيّة. عَرَفَهُ الغربيّون باسم Algazel وتجاوبَ مع أفكارِهِ القدّيس Thomas Aquinas (مات ١٢٧٤) المقابل المسيحي للغزّالي، والفرنسي Blaise Pascale والإيطالي Dante.

٢. الإمام الشافعي (٧٦٨-٨٢٠) أحد أصحاب المدارس الفقهية الأربعة وأكثرهم تأثيراً حسب الدكتور حتّي. رفع الشافعي شأن السنّة (أقوال وأفعال محمّد) إلى مستوى القرآن كوحيٍ من الله مع فارقٍ هامّ: القرآن كلام الله، بينما  المتكلّم في الأحاديث التي نَقَلَتها السنّة محمّد، بعبارة ثانية يكمن الوحي في الحالة الأولى في الكلمة والمعنى معاً، بينما يقتصرُ في الحالة الثانية على المعنى ليس غير. شدّد الشافعي على أهميّة الإسناد، ورفض اعتماد أقوال وأفعال الصحابة والتابعين. اقتفى البخاري مدرسةَ الشافعي وكذلك فعل الغزّالي.

٣. الكندي (٨٠١-٨٧٣) أو Alkindus حسب الغربييّن. أبو الفلاسفة، وما تبقّى من أعمالِهِ المترجمة إلى اللاتينيّة أكثر ممّا وَصَلنا منها في العربيّة. اعتبر الكندي الفلسفة أهمّ من الدين، وأنّ الدين ما هو إلّا فرع من فروع الفلسفة، بيدَ أنّهُ استدرك فنفى التناقض بينهما، وسلَّمَ أنّ العلمَ الإلهي متفوّقٌ على البشري. مع ذلك لم يتورّع الكندي عن تفسير النصوص رمزيّاً عندما اقْتَضَت الحاجة، وهو - عكس أرسطو - يقبل الخَلْقَ من العَدَم ويحاول إثبات وجود الله بالفلسفة، ويتبع Plotinus الذي نُسِبَت إليهِ الأفلاطونيّة الجديدة بأنّ الروح تنبعث من الله، ويعتبرها مقصورةً على البشر. هاجَمَ الجاحظ الكندي في كتاب البخلاء، متّهماً إيّاه بالشحّ والتقتير وهي أعظم المُنكَرات عند العرب.   

٤. ابن سينا Avicenna الشيخ الرئيس (٩٨٠-١٠٣٧): لربّما كانت كتب القانون في الطبّ والأرجوزة في الطبّ أكثر أعماله شهرة، ومع ذلك كان ابن سينا فيلسوفاً أكثر منه طبيباً. عرّفه أبوه على المذهب الإسماعيلي، ونبغ الفتى منذ نعومة أظفارِهِ وكان مداوماً على الجامع، وإن لم يتورّع عن شرب الخمر للتغلّب على التعب. اعتبر ابن سينا المشروبات الروحيّة حراماً على الحمقى وحلالاً على الأذكياء. مهّد إبن سينا لفلسفة السهروردي الإشراقيّة، وفرّق بين خلود الروح وفناء الجسد، واعتبر السعادة الروحيّة أهمّ من الماديّة، ورفض التنجيم Astrology.

٥. ابن رشد الأندلسي Averroes (١١٢٦-١١٩٨). أهمّ أعماله دراسة كتابات أرسطو "المعلّم الأوّل" والتعليق عليها، ومن مشاهير كُتُبِهِ "تهافت التهافت" الذي ردّ فيه على "تهافت الفلاسفة" للغزّالي. حاول ابن رشد إقناع من حوله، دون نجاحٍ يُذكَر، بعَدَم وجود تناقض بين الإسلام والتراث اليوناني. كَفَّرَهُ الكثيرون من المسلمين والمسيحييّن على حدٍّ سواء، وعلّ أحد الأسباب إجلال السامييّن الفائق لآلهتهم عكس اليونانييّن المتعدّدي الآلهة وأساطيرهم التي نرى فيها الأرباب تتزاحم وتقتتل فيما بينها مع كلّ ما في البَشَر من نقائص: الحقد والغيرة والغضب والهوى والخيانة. بالكاد تتميّز آلهة اليونان عن البشر باستثناء الخلود.

٦. ابن خلدون (١٣٣٢-١٤٠٦): فيلسوف التاريخ الإسلامي بامتياز. لا شكّ أنّ ابن خلدون سابقٌ لأوانه، ولم يتعرّف العالم على أعماله ويعطيها حقَّهَا حتّى القرن التاسع عشر في أوروپّا. أوّل من دَرَسَهُ من العرب طه حسين، في بحثٍ باللغة الفرنسيّة عام ١٩١٧، نُشِرَ بالعربيّة بعدها بثمانية أعوام، كشخصٍ أناني مخادع ليس فيه من الإسلام إلّا الاسم، استناداً لآرائِهِ السلبيّة في العَرَب. باختصار لم تتمّ إعادة تأهيل ابن خلدون في العالم العربي حتّى النصف الثاني من القرن العشرين، بالمقابل كان الغربيّون وعلى رأسهم Arnold Toynbee أكثر إنصافاً. رأى ابن خلدون أنَّ جَمْع العصبيّة مع الدين يؤدّي إلى قوّةٍ لا تُقاوَم، كما حصل في حالة الفتوحات العربيّة، وإن أدخل بعين الاعتبار العوامل النفسيّة والمعنويّة والعناية الإلهيّة، أمّا الانحطاط فينجم عن تراكم الثروة والانغماس في الملذّات والفساد في الداخل، ممّا يجعل الدولة فريسةً للأعداء من الخارج. مقدّمة إبن خلدون من روائع الأدب السياسي، ومؤلّفها بسبقٍ حائزٌ تفضيلا على Machiavelli و Montesquieu وغيرِهِم.


No comments:

Post a Comment