Sunday, December 31, 2017

قرويّو سوريّا والشرق الأدنى (تتمّة)



رأينا أنّ العلاقة التاريخيّة بين الريف والمدينة غير متوازنة، ولربّما لم يكن من المبالغة القول أنّ المدينة في أغلب الحالات طفيليّة، تأخذ من الريف أكثر بكثير ممّا تعطيه؛ مع ذلك ليست كلّ الأرياف سواسية: جبل لبنان مثلاً أكثر استقلاليّة وأغنى من سائر الريف ولعدّة عوامل أهمّها انفتاحه على المتوسّط والبعثات الغربيّة ووعورته التي جعلت إخضاعه للضرائب بشكل منتظم عسيراً إن لم يكن مستحيلاً، فلّاح غوطة دمشق موسرٌ نسبيّاً يزور العاصمة بانتظام (العكس غير صحيح: سكّان مدينة دمشق يحتاجون إلى دليل في متاهات الغوطة)، قد يتمتّع الفلّاح في جبال العلوييّن باستقلالٍ نسبي تحت ظروفٍ معيشيّةٍ متواضعة، أمّا عن فلّاح السهول الداخليّة فحالته يُرْثَى لها كونه موضع استغلال ملّاك الأراضي وتجّار المدن يبيع محاصيله بأبخس الأثمان كي يحصل على الحدّ الأدنى الضروري لإبقائه على قيد الحياة. فلّاح الداخل غالباً لا يملك الأرض التي يزرعها، وحتّى إذا ملكها فسيضطّر إلى التنازل عنها عاجلاً أم آجلاً للمالك أو التاجر الذي أقرضه بذارَه أو قوتَ يومِهِ. المالك لا يزرع والزارع لا يملك. 

لم يعرف الريف السوري عموماً الإنارةَ ولا الكهرباء ولا الطرقات المعبّدة ولا وسائل المواصلات الحديثة حتّى منتصف القرن العشرين. النقل على ظهور الدوابّ والعجلات غير معروفة ولا يوجد دروبٌ تصلح لها. لغياب المواصلات أثرٌ بالغ الاهميّة في التسويق: إكراه الفلّاح على بيعِ محاصيلِهِ في أقرب سوق، وبالتالي جعله تحت رحمة الوسطاء. الإنتاج قليل والتبادل أقلّ.  الغالبيّة العظمى من الفلّاحين أميّون والقرى عموماً محرومة من المدارس والمعابد وفي كلّ الأحوال الفلّاح أفلّ تديّناً (بالمعنى التقليدي وخصوصاً من ناحية ممارسة الطقوس) من أهل المدن وإن تعلّق بزيارة الأولياء والعادات الموروثة القديمة قِدَم التاريخ. الأمراض تفتك بالريف السوري: البرداء، السلّ، الرَمَد (من أسباب العمى الشائعة في الماضي)، حبّة حلب.... ويساعد على تفشّيها البيوت الأبعد ما تكون عن التهوية والشروط الصحيّة. وفيّات الأطفال مرتفعة للغاية. 

____________

حاولت سلطات الانتداب الفرنسي جَهدَها في تحسين وضع الريف السوري، ونجحت في فرض الأمن (أحد أهمّ منجزاتها)، بيد أنّ جهودَها اصطدمت بعدّة عوائق أهمّها:

أوّلاً: نقص رؤوس الأموال. افتقرت سورّيا آنذاك إلى التمويل الضخم الضروري لتنفيذ مشاريع ذوي النوايا الحسنة، وأحد الأسباب كان طبيعة الانتداب المؤقّتة حسب متطلّبات عصبة الأمم. اقتصر دورُ فرنسا، من الناحية النظريّة على الأقلّ، على تحضير سوريا للاستقلال وهذا لا يشجّع المستثمرين الأوروپييّن على توظيفِ أموالِهِم دون معرفة ما قد يحدث غداً، على عكس الوضع السائد في المستعمرات، خاصّة الاستيطانيّة كالجزائر (ما كان للمؤلِّف أن يتنبّأ باستقلال الجزائر بعد أقلّ من عشرين عاماً). 

ثانياً. العوائق الاجتماعيّة والسياسيّة وهي أيضاً محكومة بطبيعة الانتداب المؤقّتة التي شجّعت القيادات السوريّة (وأغلبها قيادات مدن) على المطالبة بالاستقلال كواجب وطني، وحدّت من قدرة الانتداب على إجراء إصلاحات جذريّة على غرار أتاتورك في تركيّا (إلى درجة منع الحجاب واعتماد الأحرف اللاتينيّة) ورضا خان في إيران.

ثالثاً. المطلوب لتنمية فعّالة ليس فقط تحسين البنية التحتيّة وسنّ القوانين، وإنّما ثورة اجتماعيّة شبه مستحيلة وغير موجودة في أي مكان في الشرق الأدنى باستثناء فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وتحديداً المشروع الصهيوني الذي استورد المستوطنين الأوروپييّن بالجملة، وإن سلّم الكاتب أنّ الثمن كان فادحاً للغاية وهذا قبل النكبة بعامين! (مات المؤلّف عام ١٩٤٦ بعد نشر الكتاب بفترة لا تتجاوز الأشهر). مع ذلك كتَبَ Weulersse أنّ نجاح فرنسا في الريف السوري تجاوز ما حقّقته بريطانيا في العراق وشرق الأردنّ. 

خرجت فرنسا وبريطانيا من الحرب العالميّة الثانية مرهقتان، واستفاد الشرق الأدنى من ضعفِهِما النسبي سياسيّاً لتحقيق استقلاله المنشود، كما استفاد اقتصاديّاً من تواجد الجيوش الأوروپيّة على أراضيه، ممّا أدى إلى زيادة التبادل التجاري لمصلحة الأهالي. أتى التحرّر من الاستعمار أو الانتداب على أيدي نخبة أهل المدن بالذات وهذا التحرّر السياسي لم يترافق بالضرورة مع تحسّنٍ في الحريّات الفرديّة أو تطوّرٍ اجتماعي واقتصادي إيجابي. أضاف الكاتبُ أنّ ثمنَ الاستقلال باهظٌ، إذ تحتّمَ على الدولة الفتيّة تحمّل الكلفة الفوريّة لجيشٍ وطني وبعثاتٍ ديپلوماسيّة  على حساب مشاريع التنمية الطويلة الأمد. هكذا على الأقلّ بدت الأمور عام ١٩٤٦.

خَتَمَ Weulersse بالقول أنّ مستقبل الشرق الأدنى، إن خيراً وإن شرّاً، رَهْنٌ بمصير الفلّاح.  


No comments:

Post a Comment