Sunday, December 31, 2017

قرويّو سوريّا والشرق الأدنى


شكلّ أبناء وبنات الأرياف لآلاف السنين وعلى الأقلّ حتّى منتصف القرن العشرين الأغلبيّة الساحقة من سكّان سوريّا. ليس ذلك فحسب، بل كان الريف (ولربّما لا يزال) مصدر الثروة الرئيس في البلاد، وإليه يرجع الفضلُ في تزويد المدن بحاجاتِها الغذائيّة. حتّى مدينة دمشق وغوطتها الغنّاء اعتمَدَت على حوران في تأمين حنطتِها وخبزها منذ قرون. مع كلّ هذا وأكثر يعجز المرء عن العثور على ذكر القروييّن في المصادر التاريخيّة أو يكاد. التاريخُ بالدرجة الأولى تاريخ المدن التي كانت عماد الغزاة منذ العهد الهلنستي على الأقلّ، والتي استمدّت قسماً لا بأس به من مكوّناتِها الديموغرافيّة من دماء الفاتحين، بينما كان الريف محصوراً بين مطرقة أعيان المدن وسندان التغلغل البدوي. 

حاول المستشرق الفرنسي  Jacques Weulersse أن يفي الفلاّحَ السوري بعضَ حقِّهِ في هذه الدراسة الصادرة عام ١٩٤٦، وإن استندت إلى معطيات عام ١٩٤٠ وما سبَقَهُ. تغيّرت سوريّا كثيراً منذ ذلك الوقت، وتضاعف عددُ سكّانِها خمسَ مرّاتٍ على الأقلّ، وزادت نسبة سكّان المدن وضواحيها إلى الريف في ظاهرةٍ لا سابقة لها في تاريخ البلاد. اتّسعت قرىً كثيرةً لتصبح مدناً بكلّ ما في الكلمة من معنى، كما في غوطة دمشق المُنْدَثِرَة على سبيل المثال. أضِف إلى التغيّرات الكميّة تغيّراتٍ نوعيّةً في المواصلات والمكننة والحكم والإدارة والتسويق والتوزيع وهلمّجرّا. يبقى هذا الكتاب، بسلبيّاتِهِ وإيجابيّاتِهِ، على الرغم من هذه التطوّرات، مرجعاّ ثميناً يساعدُ إلى حدّ كبير في فهمِ خلفيّة الأحداث التي مرّت بها سوريّا خلال الثمانين سنة المنصَرِمَة منذُ نَشْرِهِ. تقتصرُ الدراسةُ على سوريّا الانتداب، بما فيها لواء اسكندرون ولبنان، وإن أمكن تعميم الكثير ممّا ورد فيها على سائر الشرق الأدنى (مصطلحٌ أكثر دقّة من "الشرق الأوسط" الدارج). 

____________

لحق ريفَ سوريّا الكثيرُ من الظلمِ عبر التاريخ. هناك اختلاف جذري بين القروي في أوروپّا ونظيرِهِ في سوريّا. النبالةُ في أوروبا نبالةُ أرض "دوق Anjou" أو "ملكة قشتالة" أو "أمير Wales" إلى آخِرِهِ، بينما النبالةُ لدى العرب قبليّة أي الانتماء لعشيرةٍ أو أسرة كما نعرف من الأعداد الهائلة ممّن يُنْسَبون بحقٍّ أو بغير حقّ إلى الحسين، لا بل تسمّى الدولُ "هاشميّة" أو "سعوديّة" حتّى اليوم. العرب على الأقلّ تاريخيّاً يمجّدون البدوي المحارب ويحتقرون الفلّاح والزراعة. الدولة في الغرب هي وحدة أرض + شعب + جهاز سياسي وإداري؛ تقدّمُ خدماتٍ لمواطنيها لقاء واجباتٍ تطالبهم بها. الدولةُ في الشرق بالنسبّةِ لأبناء الريف شرٌّ لا بدّ منه، أقصى ما يمكن أن تقدّمهُ إليهِم حمايتَهم من البدو، ويتعيّن عليهم لقاء هذه الحماية (التي لا تتوافر دوماً) دفعُ ضرائبٍ باهظة تتجاوز أحياناً مطالب البدو. فرقٌ آخر جديرٌ بالذكر: تعتمد الجيوش الغربيّة على القروييّن، بينما في الشرق الأدنى (إذا استثنينا مصر محمّد علي) الاعتماد على البدو والغرباء. إذاً الدولةُ العربيّة دولةٌ دون أرض، والقروي فيها فلّاحٌ دون وطن

أضِف إلى ما سبق "طلاق" المدينة والريف إذا جاز التعبير، وعلى أكثر من صعيد. اللاذقيّةُ على سبيلِ المثال سنيّة مسيحيّة ريفُها علوي، أنطاكيا تركيّة ريفُها علوي عربي، حماة عربيّة ريفُها علوي بدوي وهلمّجرّا. حماة بالذات لها وضع متميّز كأكثر المدن السوريّة محافظةً، سيطرت عليها وعلى ريفِها أربعٌ عائلات (البرازي والكيلاني وطيفور والعظم لمن يهمّه الأمر). أخيراً العلاقةُ بين أهل المدن عبر المدن أقوى منها بين المدينة وريفها، بعبارةٍ ثانية العلاقة بين الحلبي والشامي أقوى منها بين الحلبي مع ريف حلب والشامي مع ريف دمشق. الوحدة طائفيّة أكثر منها جغرافيّة

للحديث بقيّة. 

No comments:

Post a Comment