شكلّ أبناء وبنات الأرياف لآلاف السنين وعلى الأقلّ حتّى منتصف القرن العشرين الأغلبيّة الساحقة من سكّان سوريا. ليس ذلك فقط، بل كان الريف (ولربّما لا يزال) مصدر الثروة الرئيس في البلاد وإليه يرجع الفضل في تزويد المدن بحاجاتها الغذائيّة. حتّى مدينة دمشق وغوطتها الغنّاء كانت تعتمد على حوران في تأمين حنطتها وخبزها منذ قرون. مع كلّ هذا وأكثر يعجز المرء عن العثور على ذكر القروييّن في المصادر التاريخيّة أو يكاد. التاريخ بالدرجة الأولى تاريخ المدن التي كانت عماد الغزاة منذ العهد الهلنستي على الأقلّ والتي استمدّت قسماً لا بأس به من مكوّناتها الديموغرافيّة من دماء الفاتحين بينما كان الريف محصوراً بين مطرقة أعيان المدن وسندان التغلغل البدوي.
حاول المستشرق الفرنسي Jacques Weulersse أن يفي الفلاّح السوري بعض حقّه في هذه الدراسة التي صدرت عام ١٩٤٦ وإن كانت تستند إلى معطيات عام ١٩٤٠ وما سبقه. بالطبع تغيّرت سوريا كثيراً منذ ذلك الوقت إذ تضاعف عدد سكّانها خمسة مرّات على الأقلّ وزادت نسبة سكّان المدن وضواحيها إلى ما يكاد لا يمتّ للماضي بصلة. علاوة على ذلك اتّسعت الكثير من القرى لتصبح مدناً بكلّ ما في الكلمة من معنى كما تشهد بذلك غوطة دمشق السابقة على سبيل المثال. يضاف إلى التغيّرات الكميّة تغيّرات نوعيّة في المواصلات والمكننة والحكم والإدارة والتسويق والتوزيع وهلمّجرّا. رغم كلّ هذا التطوّر -بسبيّاته وإيجابيّاته- يبقى هذا الكتاب مرجعاّ ثميناً ويساعد إلى حدّ كبير على فهم خلفيّة الأحداث التي مرّت بها سوريا خلال السبعة عقود التي انصرمت منذ طباعته بحلوها ومرّها. تقتصر الدراسة على سوريا الانتداب بما فيها لواء اسكندرون ولبنان وإن أمكن تعميم الكثير ممّا ورد فيها على سائر الشرق الأدنى (مصطلح أكثر دقّة من "الشرق الأوسط" الدارج).
لحق ريف سوريا الكثير من الظلم عبر التاريخ هناك اختلاف جذري بين القروي في أوروبا ونظيره في سوريا. النبالة في أوروبا نبالة أرض "دوق Anjou" أو "ملكة قشتالة" أو "أمير Wales" إلخ. بينما النبالة لدى العرب قبليّة أي الانتماء لعشيرة أو أسرة كما نعرف من الأعداد الهائلة ممّن ينسيون بحقّ أو بغير حقّ إلى الحسين لا بل تسمّى الدول "هاشميّة" أو "سعوديّة" حتّى اليوم. العرب على الأقلّ تاريخيّاً يمجّدون البدوي المحارب ويحتقرون الفلّاح والزراعة. الدولة في الغرب هي وحدة أرض + شعب + جهاز سياسي وإداري وهي تقدّم خدمات لمواطنيها لقاء واجبات تطالبهم بها أمّا في الشرق فالدولة بالنسبّة لأبناء الريف شرّ لا بدّ منه وأقصى ما يمكن أن تقدّمه إليهم حمايتهم من البدو ولقاء هذه الحماية (التي لا تتوافر دوماً) يتعيّن عليهم دفع ضرائب باهظة تتجاوز أحياناً مطاليب البدو. فرق آخر جدير بالذكر: تعتمد الجيوش الغربيّة على القروييّن بينما في الشرق الأدنى (إذا استثنينا مصر محمّد علي) الاعتماد على البدو والغرباء. إذاً الدولة العربيّة دولة دون أرض والقروي فيها فلّاح دون وطن.
يمكن أن نضيف إلى ما سبق "طلاق" المدينة والريف إذا جاز التعبير وعلى أكثر من صعيد. على سبيل المثال اللاذقيّة سنيّة مسيحيّة بينما ريفها علوي، أنطاكيا تركيّة بينما ريفها علوي عربي، حماة عربيّة وريفها علوي بدوي إلخ. حماة بالذات لها وضع متميّز كأكثر المدن السوريّة محافظة والتي تسيطر عليها وعلى ريفها أربع عائلات (البرازي والكيلاني وطيفور والعظم لمن يهمّه الأمر). علاوة على كلّ ما سبق العلاقة بين أهل المدن عبر المدن أقوى منها بين المدينة وريفها (أي العلاقة بين الحلبي والشامي مثلاً أقوى منها بين الحلبي مع ريف حلب والشامي مع ريف دمشق). الوحدة طائفيّة أكثر منها جغرافيّة.
للحديث بقيّة.
No comments:
Post a Comment