Monday, May 30, 2016

حافظ الأسد والصراع على الشرق الأوسط

 تبقى كتب باتريك سيل "الصراع على سوريا" الذي صدر في منتصف الستينات و "الأسد" أفضل ما أنتجه في حياته المهنية الغنية. تفصل بين الكتابين فترة تتجاوز العشرين عاماً تحولت فيها سوريا بقيادة الأسد (كما يبدو من العناوين) من جائزة تتصارع عليها القوي الإقليمية و العالمية إلى طرف في الصراع الإقليمي في الشرق الأدنى.

  المؤلف بريطاني من مواليد 1930 و توفي عام 2014. كان من تلامذة ألبرت حوراني (1915-1993) مثله في ذلك مثل كاتب سيرة الأسد الإسرائيلي موشيه ماوز و صدر كتابيهما عن الأسد في نفس العام أي 1988 و يسبق كتاب ماوز عمل سيل ببضعة أشهر و لكن كتاب سيل أغنى مادة و يبقى بعد ثلاثة عقود أكمل و أفضل سيرة للرئِيس الراحل وعل أحد الأسباب أن سيل كان يستطيع مقابلة المسؤولين السوريين و في مقدمتهم الأسد نفسه إضافة لأولاده  بشرى و باسل مما يتعذر تحقيقه على أكاديمي إسرائيلي.








أهدى سيل الكتاب إلى قرينته السابقة السيدة رنا قباني إبنة الدكتور صباح قباني شقيق شاعر دمشق و سوريا العظيم نزار قباني. يقسم الكتاب إلى قسمين: الأول يغطي خلفية الأسد و طريقه إلى السلطة و الثاني قيادته من 1971 و حتى منتصف الثمانينات و مع الأسف لم تصدر طبعة ثانية تغطي الفترة حتى وفاة الرئِيس السوري عام 2000 والتي شهدت أحداثاً جساماً أهمها على الصعيد الدولي سقوط الإتحاد السوفيتي في نهاية عام 1991 و هو العام الذي بدأ بحرب الولايات المتحدة ضد العراق فيما عرف "بعاصفة الصحراء". من نافل القول أن سيل إستمر في الكتابة عن العرب عموماً و سوريا خصوصاً إلى النهاية بمهنية و إخلاص و عاصر الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 (و كان معارضاً له من الألف إلى الياء) كما عاصر بدايات ما يسمى بالربيع العربي في سوريا و كان لا مناص أن يتهمه البعض بالتشبيح و من سخرية الأقدار أن السيدة رنا قباني و التي ساعدته في تنقيح مسودة كتابه عن الأسد أصبحت من الثوار (المعتدلين طبعاً) مع كثير من المثقفين السوريين المغتربين.


رئِيس الجمهورية الدكتور نور الدين الأتاسي مع وزير الدفاع حافظ الأسد



الأسد مع قرينته السيدة أنيسة مخلوف و إبنته بشرى



الدكتور هنري كيسنجر حبيب العرب



الأسد مع ميخائيل غورباتشوف في موسكو عام 1987. غير سقوط الإتحاد السوفيتي الكثير في الشرق الأدنى


Saturday, May 28, 2016

حافظ الأسد أبو الهول دمشق

تم نشر سيرة الرئيس الراحل حافظ الأسد كما رواها الأكاديمي الإسرائيلي موشيه ماوز عام 1988 أي قبل  أقل من  عام واحد من كتاب باتريك سيل الأكثر شهرة "الأسد: الصراع على الشرق الأوسط". كتاب ماوز مهدى إلى أحد أساتذته ألبرت حوراني 1915-1993 المؤرخ البريطاني من أصول لبنانية أما عن الكاتب فهو من مواليد تل أبيب عام 1935 و قد خدم في الجيش الإسرائيلي بين 1952-1955 و حصل على ماجستير من الجامعة العبرية في القدس عام 1961 ثم دكتوراه من أكسفورد و كان مستشاراً للحكومة الإسرائيلية و هو حالياً أستاذ متقاعد في الجامعة العبرية ويعتبر خبيراً في الشؤون العربية و الإسلامية عموماً و السورية خصوصاً.




تتعرض المقدمة إلى أصول العلويين و قبائلهم و الإضطهاد الذي لحق بهم سابقاً ثم أسرة الأسد و حزب البعث و دخول الشاب حافظ الأسد إلى الكلية الحربية 1952-1955 ليتخرج منها كضابط طيار و اللجنة العسكرية لحزب البعث إلى آخره كل هذا معروف و هناك مصادر أغنى تبحث به تفصيلاً.



ينتقل ماوز بعدها إلى تقديم شخصية الأسد "الرجل و القائد" و يستهل الفصل (صفحة 41) بالقول أنه حتى الذين يكرهون الأسد و يخشونه لا يملكون إلا أن يعجبوا به و يستشهد في هذا الصدد بأمثال حسنين هيكل و هنري كيسنجر و كريم بقرادوني (من حزب الكتائب اللبنانية) و يصفه كرجل لا يدخن و لا يشرب و يمارس المطالعة والسباحة و التنس و يستمع للموسيقى الغربية الكلاسيكية. الأسد شديد الذكاء و ذو أعصاب حديدية و يتكلم بهدوء و لكن بحزم و لا يسرف في العبارات. إنه ملتزم فكرياً بالوحدة العربية أو بالأحرى سوريا الكبرى و الصراع ضد إسرائيل و يعتبر نفسه إستمراراً لصلاح الدين و عبد الناصر.



إستطاع الأسد بعد وصوله إلى سدة الحكم أن يقضي على التناحر المزمن بين الضباط السوريين و نجح ليس فقط في تعزيز الجيش السوري عدة و عدداً و لكنه أيضاً خلق قوة مقاتلة فعالة كما أثبتت حرب تشرين 1973 و هكذا وللمرة الأولى في تاريخ سوريا أصبح الرئيس يسيطر على الجيش و ليس العكس. سياسات الأسد تميزت بالواقعية وعلى سبيل المثال قبلت سوريا بتوجيهه قرار مجلس الأمن 242 و الذي رفضه صلاح جديد سابقاً كما قام الأسد بالتقارب مع الدول العربية "الرجعية" بغية توحيد الصف في مواجهة إسرائيل و إنهاء عزلة سوريا. في مقابلة له مع جريدة نيوزويك بعد حرب تشرين و تحديداً في شباط 1975 أبدى الأسد إستعداده للإعتراف بإسرائيل إذا تحققت شروط معينة. 

قصة إختيار السادات مسار الصلح المنفرد مع إسرائيل معروفة و أطول من أن تغطيها سطور قليلة و قد حاول الأسد جهده أن يخلق بديلاً "شرقياً" لمصر كعمق إستراتيجي لسوريا و كان هذا عن طريق محاولة للتقارب مع لبنان و الأردن و العراق و منظمة التحرير الفلسطينية و بنجاح متفاوت: تفجرت الحرب الأهلية في لبنان و تحول شهر العسل مع الأردن إلى عداء علني عندما ساند الملك حسين الإخوان المسلمين و العراق (كان في فترة السبعينات يزاود على سوريا كما كانت سوريا تزاود على مصر في الستينات) بعد أن ساند سوريا في معارضتها للسلام المصري الإسرائيلي طرد السفير السوري من بغداد عام 1980 ثم هاجم إيران عوضاً عن إسرائيل "لحماية البوابة الشرقية للأمة العربية" فيما دعي "بقادسية صدام" أما منظمة التحرير بقيادة ياسر عرفات فقد حاولت أن تنتهج طريقاً مستقلاً مما حدى الأسد أن يدعم أبو موسى و الفصائل المعارضة لعرفات.

وصف ماوز الفترة 1970-1976 "بسنوات الخير" و لكن النصف الثاني للسبعينات شهد علاوة على تأزم الوضع الإقليمي تدهور الوضع الداخلي و تصعيد العنف عندما باشر الإسلاميون المتطرفون حملة من الإغتيالات تناولت أشخاص محسوبين على السلطة (يذكر المؤلف على سبيل المثال رئيس الجامعة محمد الفاضل و أضيف إليه الطبيب يوسف صايغ مدرس الغدد الصم في كلية الطب جامعة دمشق و هناك غيرهم) و عل حادثة مدرسة المدفعية عام 1979 كانت نقطة اللاعودة في الصراع بين الحكومة و الإسلاميين المتشددين و الذي حسم في الأحداث الدامية التي شهدتها حماة في مطلع عام 1982 عندما قام العصاة بمهاجمة المراكز الحكومية و قتل 250 من الناس معظمهم من الموظفين و إعلان "الجهاد ضد نظام الأسد الملحد" (الكاتب يتعرض بالتفصيل لجهود الأسد للتركيز على الهوية الإسلامية للعلويين و كيف إستصدر فتوى من الإمام موسى الصدر عام 1973 في هذا الصدد). ردت القوات الحكومية العنف أضعافاً و يقدر الكاتب عدد القتلى في حماة 10,000-30,000 و يزعم بعدها أن 800,000 سوري هاجروا البلد بعد المجزرة و هو رقم غير معقول إذا أخذنا بعين الإعتبار أن عدد السكان الإجمالي وقتها لم يكن يتجاوز العشرة ملايين. 

غزت إسرائيل لبنان في حزيران 1982 و أسقطت عشرات من الطائرات السورية بينما عجز الجيش السوري عن حماية بيروت. بدا وقتها أن الأسد و سوريا في الحضيض بين الأزمة الداخلية و العزلة العربية و الدولية و التهديد الإسرائيلي وجاء مرض الأسد الذي يعاني من الداء السكري ليزيد الطين بلة عندما أصيب بأزمة قلبية في تشرين الثاني 1983 وحصل لديه إرتكاس نجم عنه دخوله إلى المشفى مجدداً في مطلع 1984 عندما إعتقد شقيقه رفعت أن الأوان قد آن ليحل محل أخيه (أذكر وقتها مشاهدة لافتات في دمشق بعنوان "رفعت الفارس في قلب كل فارس") و لكن الأسد تعافى بما يكفي لأن يستنفر الجيش السوري و يعزل رفعت عن قيادة سرايا الدفاع التي جرى حلها و بعد ذلك تم تعيين رفعت نائب رئيس جمهورية و إحالته إلى الإستيداع. في هذه الأثناء قام الرئيس اللبناني أمين الجميل (بعد إغتيال أخيه بشير في أيلول 1982) بتوقيع إتفاقية مع إسرائيل في 17 أيار 1983 و التي عارضتها سوريا بكل الوسائل بما فيها "الإرهاب" حسب تعبير الكاتب حتى أحبطت و على هذا كان أكبر إنتصار للأسد في تاريخه. 

كان "التوازن الإستراتيجي" مع إسرائيل شغل الأسد الشاغل بالذات بعد توقيع معاهدة السلام بين مصر و إسرائيل في آذار ١٩٧٩ و قد رد الأسد بمحاولة خلق "جبهة الصمود و التصدي" (و التي وصفها رئيس الوزراء الأردني المزاود مضر بدران "بالجحود و التردي" عندما غزت إسرائيل لبنان و شمت الأردنيون أو بالأحرى حكومتهم بسوريا كما هي العادة بين الإخوة العرب) و أيضاً بتوقيع معاهدة مع الإتحاد السوفيتي عام 1980.

يختم الكاتب بأنه رغم جميع إنجازات الأسد فقد عجز عن بناء أمة سورية بسبب إعتماده على ولاء العسكر العلويين وأن سياساته الإقليمية (كدعم الموارنة في لبنان عام 1976 و الوقوف مع إيران في حرب الخليج) أثارت نقمة الكثيرين من العرب و السوريين و يشكك بأن يستطيع من يخلفه في الحكم أن يحافظ على المكانة غير المسبوقة لسوريا كقوة إقليمية و التي تحققت على يد حافظ الأسد. 


Tuesday, May 24, 2016

الصراع على السلطة في سوريا: الطائفية و الإقليمية و القبلية في السياسات 1961-1978

كتاب صدر عام 1979 لمؤلفه نيقولاوس فان دام و هو أكاديمي هولندي ملم بالشرق الأوسط شغل سابقاً منصب سفير للعراق و مصر و أندونيسيا و غيرها. يتوقف الكتاب في النصف الثاني لسبعينات القرن العشرين و قد صدر طبعة جديدة موسعة تغطي العقود الثلاث اللاحقة عام  2011 و لكن لم يتح لي الإطلاع عليها حتى الآن و بناء عليه فسأقوم بمراجعة سريعة للطبعة الأصلية





يسلط الكتاب الأضواء على سياسات سوريا الداخلية و أثر الولاءات العشائرية و الطائفية و الإقليمية في هذه السياسات. لا يتعرض البحث لتمرد الإخوان المسلمين في أواخر السبعينات و عل هذا يعود إلى توقيت صدوره و ميول الكاتب. 

يعزو فان دام زيادة نفوذ الأقليات في الجيش إلى عزوف أغنياء التجار عن تشجيع أولادهم على الإلتحاق بالجيش لعدة أسباب إمتزجت فيها الريبة مع الإزدراء و مع ذلك جرت جميع الإنقلابات العسكرية في مطلع عهد الإستقلال بقيادة سنية و حتى زياد الحريري منفذ إنقلاب 8 آذار 1963 كان سنياً و لم يكن حتى بعثياً و إن نجح البعث بالنتيجة بإحتكار السلطة. 

حرص البعثيون بإستمرار على التوكيد على علمانية الحزب و إدانة الخطاب الطائفي و بالطبع لم يمنع هذا بعضهم عن محاولة إستغلال النزعة الطائفية الكامنة أبداً تحت الرماد لتحقيق مآربهم و لكن الطائفية العلنية كانت من المحرمات وألحقت الضرر بمن جاهر بها و على سبيل المثال طرد محمد عمران من سوريا بتهمة محاولة خلق كتلة طائفية (علوية) في الجيش و إشترك في إدانته أمين الحافظ (سني) و صلاح جديد (علوي) و حافظ الأسد (علوي). تجدر الإشارة هنا إلى نقطة في غاية الأهمية ألا و هي أن إستغلال الطائفية للحصول على السلطة لا يعني أن الطائفية هي سبب الصراع على هذه السلطة. 

بالنتيجة إتسعت شقة الخلاف بين أمين الحافظ و صلاح جديد و إتهم الحافظ جديد بمحاولة بناء كتلة طائفية (علوية) في الجيش و لكن هذا أحدث ردة فعل عكسية إذ زاد إلتفاف الضباط العلويين حول صلاح جديد بينما فشل الحافظ في بناء كتلة سنية في الجيش و خسر بعدها ولاء الدروز و حتى بعض ضباط السنة (مصطفى طلاس و أحمد سويداني). حاول الحافظ أن يحتوي النفوذ المتزايد لصلاح جديد عن طريق إستدعاء محمد عمران لمنصب وزير دفاع (بهدف شق صفوف العلويين) و لكن تعاونهما لم يثمر إذ وصل الحافظ إلى مرحلة الشك بكل ما هو علوي و بعد هذا بقليل جرى إنقلاب 23 شباط 1966 و الإطاحة بأمين الحافظ. 

شهدت المرحلة التالية تصفية النفوذ الدرزي في الجيش: حمد عبيد كان يطمح بمنصب وزير الدفاع الذي عين فيه حافظ الأسد و تم بالنتيجة عزله (عبيد) و توقيفه.  لعب سليم حاطوم دوراً أساسياً في إنقلاب 23 شباط ضد الحافظ ولم يكافأ كما كان يأمل و بناء عليه باشر بمحاولة تشكيل قاعدة درزية و عندما أوفدت الحكومة نور الدين الأتاسي وصلاح جديد لتقصي الأمور في السويداء قام حاطوم بإعتقال المبعوثين في إنقلاب 8 أيلول 1966 و أجرى إتصالاً هاتفياً مع حافظ الأسد حاول فيه فرض "شروطه" و التي رفضها الأسد جملة و تفصيلاً و أدى هذا إلى فرار حاطوم إلى الأردن بعد أن أدرك أنه خسر المعركة و لم يبق له بعدها إلا بث الدعاية الطائفية من راديو عمان و هذا ما فعله.

الخلاصة ضباط من كافة الطوائف حاولوا بشكل أو بآخر إستغلال النعرات الطائفية: على سبيل المثال السني الحافظ، العلوي عمران، و الدرزي حاطوم. ما ينطبق على الطوائف ينطبق على الأقاليم (مثلاً السويداني كان أحد ضباط حوران المتنفذين و جرى عزله من الأركان عام 1968).

تم رسم خطوط جديدة للصراع على السلطة في هذه المرحلة بين تياري صلاح جديد و حافظ الأسد. كان أنصار جديد أكثر راديكالية و كانوا يطالبون بإعطاء الأولوية "للتحويل الإشتراكي" (لا زلت أذكر "الإشتراكية العلمية" التي صدعوا دماغنا فيها في دروس التربية الوطنية) أما أولوية الأسد فكانت للحرب مع إسرائيل و إن تطلب هذا التعاون مع "أنظمة رجعية". 

عمل حافظ الأسد على فصل الجهاز العسكري عن القيادة المدنية التي سيطر عليها صلاح جديد و إنتهت "إزدواجية السلطة" مع تشرين ثاني 1970 و "الحركة التصحيحية" و أصبح الأسد رئِيساً  لسوريا في شباط 1971 و دون منازعة جدية اللهم إلا من ضمن الطائفة العلوية كبقايا أنصار صلاح جديد (جرى إعتقال بعضهم في حزيران 1971 و كانون أول 1972) و المنفي محمد عمران و الذي إغتيل في لبنان في آذار 1972. 

حاول الأسد جهده لإنهاء عزلة سوريا عربياً و دولياً و تشارك مع مصر السادات في حرب تشرين أول 1973 ضد إسرائيل و لكن الزعيم المصري إختار سبيل الصلح المنفرد مع الصهاينة و أدى هذا إلى تبادل حملات إعلامية شديدة اللهجة بين القاهرة و دمشق لم يتورع فيها السادات و راديو القاهرة عن إستعمال اللغة الطائفية المقيتة مثل "بعث دمشق العلوي" (كان راديو القاهرة وقتها يستعمل بشكل روتيني تعابيراً سمعتها بنفسي  مثل "المؤامرة البعثية الحمراء" في لبنان و "بعث سوريا العلوي" و "بعث العراق التكريتي") و كان مما قاله السادات في إحدى خطبه "النظام السوري علوي ثم بعثي ثم سوري". و من سخرية الأقدار أن مصرع السادات جاء عام 1981 على يد نفس الإسلاميين المتطرفين الذين حاول إستمالتهم بصفته " الرئِيس المؤمن". 

Wednesday, May 18, 2016

تاريخ سوريا الحديث حتى عام 1970


عنوان الكتاب ببساطة "سوريا " لمؤلفته تابثا بتران وهي صحفية أمريكية من مواليد المكسيك أقامت في العالم العربي منذ عام 1957 وكانت تحيا في بيروت عندما صدر كتابها موضوع بحث اليوم عام 1972 للميلاد



يستهل الكتاب بتعريف جغرافي لسوريا وأن اليونان كانوا أول من إستعمل هذه التسمية بينما أطلق العرب على نفس المطقة إسم "بلاد الشام" أي بلاد الشمال نسبة لمكة ثم ننتقل إلى استعراض مكونات الشعب السوري الدينية والإثنية. بعد لمحة سريعة عن تاريخ سوريا عبر القرون تنتقل السيدة بتران إلى القرن التاسع عشر والذي هبت على سوريا فيه رياح الحداثة والتغيير مع حملة محمد علي والتنظيمات العثمانية وما تلاها من بدايات "الوعي السياسي" حسب تعبيرها.

تاريخ الحرب العالمية الأولى و "الثورة العربية الكبرى" ومراسلات حسين مكماهون معروف و تتبنى الكاتبة وجهة النظر التقليدية ألا و هي "خيانة" الإنجليز للعرب (لا مناص من التذكير هنا أن وعود بريطانيا كانت للهاشميين وليس "للعرب" وأنها كانت غامضة بحيث يمكن تفسيرها إيجابياً أو سلبياً وأن إنجلترا كانت عموماً كريمة مع أجراءها عندما وهبت فيصل العراق وأخيه عبد الله شرق الأردن). جاء العهد الفيصلي (تشرين أول 1918 إلى تموز 1920) بعد أن وضعت الحرب أوزارها ومن ثم عهد الإنتداب الفرنسي وتزامن هذا الأخير مع تصاعد الهجرة اليهودية إلى فلسطين. قصة نكبة 1948 أطول من أن تدرج في سياق مراجعة سريعة لكتاب يتناول بالدرجة الأولى سوريا كما رسمت حدودها فرنسا.
تجار حلبيون في مقهى قرب القلعة
بدأت الإنقلابات بعد سنوات قليلة من الإستقلال و تحديداً عام 1949. هناك مؤلفات أفضل لمعالجة الفترة بين 1945-1958 و تكفي هنا الإشارة بشكل سريع إلى عودة الحكم البرلماني بعد سقوط الشيشكلي عام 1954 ثم تصفية الحزب القومي السوري بعد مصرع المالكي عام 1955 وصعود اليسار وكيف تحول التعاون بين البعث والشيوعيين إلى منافسة أدت مع عوامل أخرى إلى الوحدة السورية المصرية عام 1958 والتي كرست بروز نجم عبد الحميد السراج الساعد الأيمن لعبد الناصر في سوريا وحليفه في الصراع ضد الهاشميين و حلف بغداد.

تتكلم الكاتبة مطولاً عن أخطاء الوحدة و استغلال المصريين الإقتصادي لسوريا وتهميشهم للجيش السوري والضباط السوريين وكيف بدأ الخلاف مبكراً بين البعث وعبد الناصر عندما رفض هذا الأخير اقتراح أن تحكم الجمهورية العربية المتحدة لجنة مكونة من ستة أشخاص ثلاثة منهم سوريون ألا وهم عفلق والبيطار والحوراني، ومن البدهي أن يتردد عبد الناصر في قبول البعث كممثل وحيد لجميع السوريين.
حلب الشهباء
جاء الانفصال مع إنقلاب عبد الكريم النحلاوي في أيلول عام 1961 وعودة اليمين إلى سدة الحكم بمباركة و دعم من ملك الأردن حسين و السعوديين و أيد أكرم الحوراني و صلاح الدين البيطار العهد الجديد على الأقل في البداية و كذلك أيدته "اللجنة العسكرية" التي تشكلت سراً في مصر عام 1959 من مجموعة من الضباط السوريين (صلاح جديد، حافظ الأسد، محمد عمران، حمد عبيد، سليم حاطوم، عبد الكريم الجندي، أحمد سويداني و هناك خلاف على عضويتها). بالنتيجة إختلف البعث مع أكرم حوراني وطرد هذا الأخير من الحزب في المؤتمر الخامس عام 1962. كان عهد الانفصال حافلاً بالإنقلابات وبعيداً عن الإستقرار وسهل هذا انقلاب 8 آذار 1963 والذي ساهمت فيه ثلاث مجموعات من الضباط: بعثيين و ناصريين وقوميين عرب وكان منفذ الإنقلاب زياد الحريري (وهو صهر الحوراني) من هذه الزمرة الأخيرة. كانت هوية الإنقلاب غامضة في البداية ول هذا ساعد على نجاحه إذ إعتقد زيد أن عمراً يعمل لصالحه والعكس بالعكس و كان رد فعل السوريين عموماً أنه إنقلاب كغيره وأنها دوال دولته مسألة وقت ليس إلا.

حماة
تلى أحداث 8 آذار إعلان الأحكام العرفية و هنا تجدر الإشارة أن قيادة البعث (أي عفلق والبيطار) لم تشارك في الإنقلاب لا من قريب و لا من بعيد و لكن الضباط في اللجنة العسكرية كانوا بحاجة للجهاز التنظيمي للحزب و لو كواجهة على الأقل في البداية و هكذا قاموا بإستدعاء القيادة السياسية ومن بعدها جرى تدريجياً تطهير الجيش من الناصريين وجماعة زياد الحريري وبزغ نجم أمين الحافظ في الحزب الذي زادت قوته وثقته وإن إحتاج لاستعمال العنف بين الفينة و الفينة وعلى سبيل المثال عندما تمرد الناصريون تحت لواء جاسم علوان في صيف 1963 ولدى عصيان حماة عام 1964. تلى احتكار البعث للسلطة نزاع في داخل الحزب بين اليمين أو "القوميين" بقيادة أمين الحافظ واليسار أو "القطريين" أو "البعث الجديد" بقيادة صلاح جديد وانتهى الأمر بانتصار جديد في انقلاب دموي في شباط 1966 انتهى معه دور القيادات المدنية التقليدية للبعث في سوريا إلى غير رجعة.

الفرات ودير الزور
شهدت الستينات صراع البعث مع عبد الناصر على قيادة اليسار و"القوى التقدمية" في العالم العربي و حفل بمزودات البعث على الزعيم المصري في قضية تحويل مياه نهر الأردن و "تحرير فلسطين" فمثلاً قام ممثلو سوريا في مؤتمر القاهرة كانون ثاني 1964 بالمطالبة (بدعم من الجزائر) "بحرب تحرير شعبية" على غرار النموذج الجزائري لمواجهة الصهاينة. لا داعي للدخول في التفاصيل التي قادت لكارثة 1967 و لكن من المفيد هنا التعرض إلى حادث قام فيه الفكر اليساري (والذي كان في أوج قوته في هذه المرحلة مع شعاراته الطنانة "كالإشتراكية العلمية" و"حرب التحرير الشعبية") بجس نبض الشارع السوري عن طريق مقال نشر في مجلة "جيش الشعب" في 25 نيسان من هذا العام ومن جملة ما ورد فيه الدعوة إلى التخلص من تقاليد الماضي ووضع "الله والدين والإقطاع والرأسمالية والاستعمار" في "متحف التاريخ". تلت نشر المقال موجة من الإضرابات والاصطدامات مع عناصر الأمن و بالنتيجة تم توقيف الكاتب والمحرر والحكم عليهما بالأشغال الشاقة المؤبدة وإن جرى إطلاق سراحهما "بهدوء" فيما بعد

الآليات الإسرائيلية تزحف في الجولان حزيرن 1967
من جملة "إصلاحات" البعث بعد الهزيمة كان تأميم المدارس الخاصة في أيلول 1967 وأدت إجراءات البعث الاقتصادية في جملة ما أدت إليه إلى هروب رؤوس الأموال من سوريا وعل أهم ما حدث بين 1968 و 1970 كان الصراع على السلطة بين الأسد وجديد والذي سعى فيه الأسد إلى تعزيز نفوذه في الجيش بينما ركز جديد على الحزب. نفذ الأسد إنقلابه الأول (أو "حركته التصحيحية الأولى" إذا أردنا) في 25 شباط 1969 عندما إحتلت دباباته مواقعاً إستراتيجية في دمشق و إستولى على الإذاعة و طرد رؤساء تحرير البعث والثورة ليعين محلهم أنصاره وردت القيادة السياسية بإدانة تمرد الجيش ضد الحزب ودعت إلى مظاهرات واضرابات ولم يكن الأسد في هذه المرحلة يملك القوة الكافية للسيطرة على الحكومة وبالتالي كان لا بد له من الوصول إلى اتفاق مع صلاح جديد و لو إلى حين و لكن جديد خرج من الأزمة أضعف موقفاً واضطر أنصاره إلى نشر مقالاتهم في جريدة "الراية" من لبنان بعد أن أغلقت الصحافة المحلية أبوابها في وجوههم

نازحون من القنيطرة 1967
استمرت ازدواجية السلطة حتى خريف 1970 عندما قام الأسد بنقل ما تبقى من أنصار صلاح جديد في الجيش ورد جماعة هذا الأخير في المؤتمر القومي الاستثـنائي العاشر (30 تشرين أول إلى 12 تشرين ثاني) بطرد الأسد وحليفه مصطفى طلاس من مناصبهما في الحكومة والجيش وكانت ردة فعل الأسد سريعة إذ قامت وحدات الجيش بالاستيلاء على مكاتب الحزب والمنظمات الشعبية و إيداع عدد من القيادات السياسية والضباط الموالين لجديد في السجن دون الحاجة إلى سفك الدماء.

Saturday, May 14, 2016

السلطوية في سوريا: المؤسسات والصراع الإجتماعي 1946-1970 لستيفن هايدمان

صدر هذا الكتاب عن جامعة كورنيل عام 1999 ويحسن إعطاء نبذة وجيزة عن المؤلف هايدمان. ولد الكاتب عام 1957  وهو مختص بالعلوم السياسية والإقتصاد السياسي للشرق الأدنى وشغل منصب أستاذ مساعد للعلوم السياسية في جامعة كولومبيا في نيويورك. عن موقفه من المأساة السورية بداية من عام 2011 تكفي الإشارة إلى مقال نشره في الواشنجتون بوست مؤخراً وأفتى فيه أن "الدولة الإسلامية أي داعش قامت 
بمساعدة من النظام السوري بإمتصاص مساحات واسعة من سوريا" وحلل في نفس المقال أسباب ما وصفه بعزوف وتردد أوباما في التدخل في سوريا. يبقى الكاتب مع ذلك من ذوي الصوت المسموع فيما يسمى "معهد الولايات المتحدة للسلام" والإعلام الأمريكي عموماً و من العبث تجاهل ما يقوله بحجة أننا لا نوافق عليه وفي كل الأحوال الكتاب المذكور يتعرض لأحداث دخلت في التاريخ ومات أبطالها منذ سنين. 


يحاول الكاتب من خلال 220 صفحة في لغة أكاديمية و لربما جافة أن يحلل أسباب ديمومة الحكم البعثي في سوريا لا بل ومرونته في مواجهة الكثير من التحديات الداخلية والخارجية و التغلب عليها أو على الأقل إحتواء هذه التحديات. يبدأ السرد مع بداية عهد الإستقلال والذي إنتهى معه الصراع ضد الفرنسيين وبدأ الصراع على تحديد هوية سوريا، مسارها الإقتصادي. و من يحكمها. بدا مستقبل سوريا مشرقاً في مطلع الإستقلال وحققت الصناعة نمواً سريعاً وإن بقيت سوريا معتمدة على الزراعة والتي كانت تتطور وتتمكنن بخطى حثيثة في خمسينات القرن العشرين.

تحت هذه الظروف برزت مجموعة جديدة من رجال الأعمال والصناعيين لتنافس مالكي الأرض وبالطبع كان لا بد من ظهور دعاة الإصلاح وبالتالي صعود اليسار للمطالبة بحقوق العمال والفلاحين والمقصود باليسار البعث وجماعة أكرم الحوراني والشيوعيين. أدت منافسة اليساريين بعضهم بعضاً إلى ظهور إتجاهين: الشيوعيين مع حليفهم المليونير خالد العظم من جهة والبعثيين من جهة أخرى وإستطاع البعثيون بالإتفاق مع بعض ضباط الجيش المتنفذين أن يدفعوا سوريا بإتجاه الوحدة كوسيلة للجم الشيوعيين وأملاً أن يشاركهم عبد الناصر في الحكم. 


عملت حكومة الوحدة (1958-1961) على التركيز على دور الدولة في بناء المؤسسات والذي بدأ في عهد الشيشكلي وعلى تعزيز شعبوية الحكم السلطوي من خلال العمال و الفلاحين كما ركزت على التصنيع وأدخلت الإصلاح الزراعي والخطط الخمسية. أثارت هذه الخطوات قلق رجال الأعمال ولكن مالكي الأرض كانوا أكبر المتضررين بينما كانت شكاوى الرأسماليين مبالغ فيها ولا يوجد دليل أن إقتصاد سوريا إجمالاً تضرر من الوحدة إذ أن الأرقام تظهر زيادة الصادرات السورية لمصر نسبة للواردات في هذه الحقبة وهذا بالطبع لا ينفي أن البعض قد تضرر وأن السياسات المتبعة لم تكن دوماً حكيمة أو معصومة عن الخطأ. 

أتى الإنفصال عام 1961 و أتت معه محاولة رجال الأعمال ومالكي الأرض والنخبة القديمة لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وإن إقتضى الأمر إستعمال سلطوية الدولة عوضاً عن محاولة التفاهم مع الوجوه الجديدة ومشاركة السلطة وهذا يدل أن أولوياتهم لم تكن إستعادة الديمقراطية بقدر ما هي التخلص من ميراث الوحدة الإقتصادي والإجتماعي وبالنتيجة يمكن إعتبار جهودهم تتلخص بإعتماد "الطريق السلطوي إلى الديمقراطية" إعتماداً على نفس المؤسسات السلطوية والتي أصبحت راسخة مع نهاية عهد الوحدة. كما يعلم الجميع كان عهد الإنفصال بعيداً عن الإستقرار وحفل بالإنقلابات و التغيرات الوزارية. 

شاركت عناصر متعددة في إنقلاب 1963 و الذي أدى بالنتيجة إلى إستلام البعث زمام الحكم. لم يتردد البعثيون في اللجوء للقوة بهدف تكريس حكم سلطوي يتسم بالديمومة كما إستعملوا الصراع الطبقي وركزوا على البيروقراطية والتي طهروها من مشبوهي الولاء ونجحوا في بناء مؤسسات لدعم الحكم وأعادوا برمجة الإقتصاد رغم إضرابات منتصف الستينات التي قمعوها بيد من حديد وخلقوا المنظمات الشعبية العقائدية وإحتكروا أو حاولوا الإتجار بالعملة. طوال هذه الفترة يقلل الكاتب من أهمية الفروق بين قيادات البعث القديمة والجديدة ويتجاوز عن الصراع داخل البعث فبالنسبة له يبقى الموضوع الأساسي ما فعله البعث للإحتفاظ بالسلطة بغض النظر عن الأشخاص وهنا يكمن سر نجاحه ودوام نفوذه وسلطته. شهدت الأعوام 1968-1970 تنافساً على السلطة بين صلاح جديد وحافظ الأسد من وراء الكواليس وعندما وصل هذا الأخير إلى الحكم عام 1970 كان بإستطاعته الإعتماد على جهاز سلطوي ذو مؤسسات مستقرة تم تطويرها على مدى عشرات السنين وقام بدوره بتوسيعها وتقويتها مما يفسر قدرته على lلإستمرار حتى نهاية القرن العشرين. 



http://www.cornellpress.cornell.edu/book/?GCOI=80140100275770

https://www.washingtonpost.com/news/monkey-cage/wp/2016/03/14/why-the-united-states-hasnt-intervened-in-syria/

Saturday, May 7, 2016

نظرة مختلفة لسوريا في العهد الفيصلي من تشرين أول 1918 إلى تموز 1920


صدر كتاب "ولاءات متضاربة، القومية والسياسات الجماهيرية في سوريا في نهاية العهد الإمبراطوري" عن مطابع جامعة كاليفورنيا عام 1998. المؤلف جيمس جلفن أمريكي من مواليد 1951 وهو أكاديمي مختص بالشرق الأدنى ومدرس في جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس منذ عام 1995 وكما يشرح في مقدمة الكتاب ليس الهدف سرد أحداث هذه الفترة بقدر ما هو محاولة لفحص المفاهيم المختلفة والمتنافسة للقومية والأمة وتطور السياسات الشعبية والجماهيرية في سوريا مطلع القرن العشرين. 


ربي معظمنا على مفهوم الهوية العربية التي جرى الترويج لها خلال معظم القرن العشرين وقبل ظهور حزب البعث بكثير من قبل المفكرين المحليين والغربيين كمسألة مفروغ منها وموضوع تم البت فيه "كممثل شرعي ووحيد" للشعب السوري وهذه الفكرة مرفوضة من قبل الكاتب الذي يعزو أصلها إلى نخبة من المثقفين المثاليين الذين تم تبني أطروحاتهم بالنتيجة بمفعول رجعي وإهمال وجهات النظر المختلفة أو على الأقل تهميشها ويستشهد في هذا الصدد بكتاب جورج أنطونيوس الشهير "يقظة العرب" الذي صدر عام 1938 وكان له الباع الأطول في قولبة هذه الأسطورة.

كانت "السفر برلك" أو الحرب العالمية الأولى أتعس عهد في سوريا خلال القرن العشرين (لربما كان "الربيع العربي" حالياً تكراراً لها بعد قرن من الزمن) فإضافة إلى العمليات العسكرية في الجنوب عانت البلاد من سنوات عجاف تكالب فيها القحط وأرجال الجراد والحصار البحري الذي فرضه الحلفاء (على غرار المقاطعة الإقتصادية حالياً) والتضخم المالي ولجوء أعداد كبيرة من الأرمن بعد مذابح 1915 وغيرهم من النازحين إلى آخره إلى آخره لجعل حياة السوريين جحيماً لا يطاق. كل هذا لا يعني بالطبع أن "عرب سوريا" كانوا في صدد الثورة على "المستعمر التركي" فقد إستمر كثيرون منهم في التعاون مع السلطات العثمانية وإستمر أعيان دمشق في دعوة "جمال السفاح" إلى مآدبهم قبل وبعد شنق "الشهداء" في ساحة المرجة (الذين تاجرت فيهم الحكومة الفيصلية إلى أبعد الحدود وتبنت العهود اللاحقة هذه الممارسة) ومدح الشاعر خير الدين الزركلي على سبيل المثال جمال باشا في أكثر من قصيدة.

دخل الأمير فيصل دمشق بدعم البريطانيين في تشرين أول 1918 وحاول و أنصاره جهدهم لخلق هوية عربية في سوريا يقنعون بها وبالتالي بشرعيتهم ليس فقط السكان المحليين وإنما أيضاً سوريي المهجر في مصر و غيرها وخصوصاً القوى الغربية والتي بالنتيجة تملك "الحل والربط" وهذه بعض الأمثلة على ما فعلوه في هذا الصدد:

1.إستعمال الأموال البريطانية لشراء ولاء السكان وإسكات الخصوم السياسيين (على مبدأ "طعمي التم بتستحي العين") ودفع "خوة" للقبائل.

2.تنظيم المظاهرات "المؤيدة" والإحتفالات والعطل الرسمية ومشاهد المسرح ودعم الجرائد مالياً على إعتبار أن توزيعها المحدود لا يسد نفقات الطبع  يشير الكاتب هنا أن بعض الصحفيين كحبيب كحالة ومحمد كرد علي كانوا يقبضون من الحكومة الفيصلية والفرنسيين في نفس الوقت.

3.رفع شعار "الدين لله والوطن للجميع" في محاولة لجمع الطوائف تحت راية موحدة وإن قام الفيصليون أيضاً بالدعوة إلى الجهاد تحت راية الإسلام عندما إعتقدوا أنها أنسب لمصالحم.

4.إختيار جماعات معينة وأشخاص معينين للقاء مبعوثي لجنة كينج كرين عام 1919 لإعطاء الغرب إنطباعاً عن وجود هوية عربية لدى أكثرية السكان لها مطالب محددة ومتفق عليها تتمثل في إستقلال سوريا ووحدتها وهلمجرا.


بالنتيجة ما كان لمملكة فيصل أن تستمر دون إستمرار الدعم البريطاني المالي والسياسي والعسكري وكما هو معروف كان التفاهم مع فرنسا أهم بكثير لإنجلترا من إرضاء أجيرها فيصل وأبيه الشريف حسين والأسرة الهاشمية التي تجاوزت طموحاتها حد المعقول وظنت أن إسهامها المتواضع (إن لم نقل الهزيل) في حرب مات فيها ملايين من شباب أوروبا يخولها الحصول على إمبراطورية دفع الغرب ثمن سلخها عن العثمانيين أموالاً طائلة وبحاراً من الدماء.
 كانت بداية نهاية العهد الفيصلي في سوريا قرار البريطانيين بتخفيض ثم تجميد دعمهم المالي للحكومة العربية التي أصبحت بذلك عاجزة عن دفع مرتبات موظفيها وشراء تعاون القبائل وهذا أدى إلى فوضى أمنية في الريف والمدن وخلق لجان شعبية واللجوء إلى القبضايات لحماية الأحياء وزاد الضغط على حكومة فيصل لمقاومة المشروع الفرنسي وبلغ ذروته في إعلان إستقلال سوريا من قبل المؤتمر السوري المنعقد في 8 آذار 1920 والذي رفضه الحلفاء في سان ريمو وأدى هذا بالنتيجة إلى إنذار غورو الشهير في 14 تموز. 


هبت في دمشق مظاهرات ضد حكومة فيصل في 20 تموز وهاجمت الحشود مقر فيصل و القلعة ومات أكثر من 100 دمشقي في حين فشلت قوات الحكومة في السيطرة على الشارع و هبت مظاهرات مماثلة في حلب في اليوم التالي و بالنتيجة قام بعض الزعماء الشعبيين بجمع المتطوعين الذين زحفوا إلى خان ميسلون تحت قيادة يوسف العظمة بينما فر الملك فيصل باحثاً عن مملكة جديدة في مكان جديد. 
قام الفرنسيون بعد دخول دمشق بإتمام ما بدأه فيصل أي القضاء على اللجان الشعبية وكان هذا بداية ربع قرن أمضته سوريا تحت الإنتداب الفرنسي بحلوه ومره.

يقارن الكاتب بين النظرة "من الأعلى" للهاشميين و محاولتهم إدخال قيم غربية "كالتقدم" و"الحضارة" في إطار جهودهم لبهر أوروبا وأمريكا وبالتالي إقناعهما بتأييد الدولة العربية الجديدة وكون هذه النظرة لم تكن مقبولة لكثير من السوريين الذين كانوا ينظرون إلى الغرب و مشاريعه بشك وريبة و لا يثقون بالحجازيين وعلاوة على ذلك يميزون بين مفهوم "الدولة" و"الأمة" ولا يؤمنون بمشروع فيصل. إذاً لا يوجد دليل مقنع على تعريف وحيد "للقومية العربية" وما هي بالنتيجة إلا إحدى الهويات التي يتداولها السوريون. 


http://www.ucpress.edu/book.php?isbn=9780520210707


Wednesday, May 4, 2016

سوريا تحت حكم حزب البعث 1963-1966: تعايش الحزب و الجيش

صدر هذا الكتاب عن مطابع الجامعات الإسرائيلية عام 1972 لمؤلفه إيتامار رابينوفيتش. ولد الكاتب في القدس عام 1942 و تخرج من الجامعة العبرية عام 1964 و حاز على ماجستير من جامعة تل أبيب عام 1969 ثم دكتوراة من جامعةكاليفورنيا لوس أنجلوس في الولايات المتحدة عام 1971. خدم في الجيش الإسرائيلي 1963-1966 و أصبح أستاذاً في جامعة تل أبيب اعتباراً من 1971. شغل منصب سفير إسرائيل في الولايات المتحدة في تسعينات القرن العشرين و ترأس الوفد الإسرائيلي في المفاوضات مع سوريا 1993-1996 و هو ذو إلمام أكثر من كاف باللغة العربية مما أتاح له الاطلاع على الكثير من المراجع المحلية وإن لم يستطع مقابلة أو محادثة سياسيي هذه الفترة مباشرة لأسباب واضحة.


أمين الحافظ يلقي خطبة على يمينه ميشيل عفلق و على يساره صلاح جديد

بعد مقدمة عن تاريخ سوريا السياسي في مطلع عهد الإستقلال أي بين الأعوام 1945-1954 ينتقل الكاتب إلى التعريف بحزب البعث منذ تأسيسه عام 1947 من قبل ميشيل عفلق و صلاح الدين البيطار (كلاهما دمشقيان) و لا يفوته طبعاً ذكر دور حركة البعث العربي (و تعود لعام 1940) لزكي الأرسوزي و من ثم إندماج البعث مع حزب أكرم الحوراني العربي الإشتراكي و الذي تمخض عنه ولادة حزب البعث العربي الإشتراكي. ينتقل رابينوفيتش بعدها إلى إستعراض الأحداث التي قادت إلى الوحدة في شباط 1958 و دور الجيش و البعث في تحقيقها و خيبة أمل البعثيين عندما إكتشفوا لاحقاً أن عبد الناصر لم يكن راغباً في مشاركتهم بالحكم بشكل جدي و يتطرق إلى تشكيل اللجنة العسكرية في مصر من قبل محمد عمران و صلاح جديد و حافظ الأسد و غيرهم. إنتهت تجربة الوحدة مع إنقلاب عبد الكريم النحلاوي في أيلول عام 1961 و إنتهى عهد الإنفصال بدوره في إنقلاب 8 آذار 1963 أو ما يسمى "ثورة" 8 آذار


مظاهرة مؤيدة لجمال عبد الناصر في دمشق 

بغض النظر عما يعتقده الكثيرون إنقلاب 8 آذار لم يكن بعثياً صرفاً و إنما شارك فيه الناصريون و المستقلون و منهم منفذ العملية زياد الحريري و الذي همش لاحقاً. بالنتيجة برز البعث إلى المقدمة و تم التخلص من حلفاءه بالتدريج رغم محاولات البعض لإعادة التقارب مع مصر (كنتيجة طبيعية لإنهاء ما سمي "بعهد الإنفصال") و التي فشلت فشلاً ذريعاً مع السقوط (المؤقت) لبعث العراق (تقلد البعث العراقي الحكم في 8 شباط 1963 و تمت تنحيته عن السلطة في 18 تشرين الثاني لنفس العام). كان هناك مشروع لوحدة أو إتحاد بين مصر و العراق و سوريا و الذي إقتصرت منجزاته على إعتماد علم الوحدة في سوريا و العراق في 1 أيار 1963 ولكن بثلاث نجوم خضر عوضاً عن نجمتي الوحدة السورية المصرية



بعد أن "استتب" الأمر للبعث في سوريا بدأ النزاع بين الجناح "اليميني" للحزب و يمثله عفلق و البيطار و الحافظ و"القيادة القومية" مع العديد من المدنيين وبين الجناح اليساري أو الراديكالي الذي يسود في "القيادة القطرية" ويملك الجيش فيه بشكل عام و اللجنة العسكرية خصوصاً نفوذاً قوياً و يحركه من وراء الكواليس صلاح جديد و الذي كان قليل الإهتمام بالمظاهر و شديد التركيز على نشر نفوذه في الجيش من خلال تعيين محاسيبه و أنصاره في مواقع مفتاحية. خدمت جرائد الحزب وقتها كمنابر للصراع على السلطة على الأقل بالكلام حيث كانت جريدة "البعث" ناطقة بإسم "القوميين" بينما دافعت "الثورة" عن وجهة نظر "القطريين". كان عفلق و البيطار في وضع حرج ولم يكونا راغبين في الإعتماد على الجيش ولكن معضلتهما بكل بساطة أن الجيش كان شراً لا بد منه و أنه ما كان للبعث أن يستلم السلطة أصلاً دون العسكريين. توهم مؤسسي الحزب لفترة أن الجيش يمكن أن يخدمهم لكبح جماح الراديكاليين ولكن دعم الحافظ في الجيش كان أقل بكثير مما يلزم لاحتواء صلاح جديد و مؤيديه و بالنتيجة قرف عفلق و استقال من منصبه كسكرتير أو أمين عام للحزب في ربيع عام 1965 ليحل محله منيف الرزاز. 

أمين الحافظ

في الوقت الذي جرت فيه هذه الأحداث على الساحة السورية شهد العالم العربي النزاع البعثي الناصري على الساحة الإعلامية و محاولات البعث لإحراج عبد الناصر في محاربة الرجعية العربية و إسرائيل و على سبيل المثال مؤتمر القمة في القاهرة في كانون الثاني 1964 و الذي ترأس أمين الحافظ فيه الوفد السوري بهدف المزاودة على عبد الناصر في موضوع محاولة إسرائيل للإستفادة من مياه نهر الأردن ثم المزاودة عندما حاول الزعيم المصري إيجاد مخرج من أزمة اليمن و نهاية بقمة الدار البيضاء في أيلول 1965. المضحك المبكي أن مزاودات الحافظ على مصر لم تنفعه كثيراً إذ أدان الراديكاليون في سوريا بقيادة صلاح جديد حواره مع "الرجعية" العربية و إستعداده للتعايش معها و زاودوا عليه كما زاود على عبد الناصر و حبة مسك. 

من اليسار إلى اليمين نور الدين الأتاسي ثم صلاح جديد ثم يوسف زعين

إستطاع جديد بالنتيجة إستمالة من تبقى في الجيش من أهل الحل و الربط و منهم حمد عبيد و سليم حاطوم ومصطفى طلاس وأسقط حكم الحافظ في 23 شباط 1966 وكرس هذا إنتصار العسكريين على المدنيين و صعود اليسار السوري في أواخر الستينات. مع كل هذه الصراعات على السلطة و ما رافقها من تطهير وراء تطهير في الجهاز الحاكم عموماً و الجيش خصوصاً أو لربما كنتيجة لها فقد تمكن البعث من الإحتفاظ بالسلطة رغم هزيمة 1967 ولربما كان السبب خلو الساحة من الأقران و المزاحمين في هذه المرحلة. يختم الكاتب سرده بتعرض سريع للمنافسة بين صلاح جديد وحافظ الأسد و التي إنتهت كما نعرف جميعاً في تشرين ثاني 1970 ولكن هذه قصة مختلفة. 

محمد عمران و حافظ الأسد