Wednesday, May 31, 2017

تاريخ دمشق

يبقى كتاب المؤرخ وعالم الآثار والديبلوماسي الأسترالي Ross Burns (مواليد 1943) بعد 12 سنة من صدوره عام 2005 أفضل ملخص باللغة الإنجليزية لتاريخ المدينة الطويل بل أزيد فأقول أنه لربما كان أفضل ملخص لهذا التاريخ في أي لغة على الإطلاق إذا أخذنا بعين الاعتبار كثافة معلوماته ودقتها والفترة الزمنية التي تغطيها منذ العصر الحجري الحديث Neolithic Age وحتى عام 1918 ونهاية الحرب العالمية الأولى. 


ليس الكتاب بجمال وفخامة نظيره للفرنسي  Degeorge الذي صدر متزامناً معه والذي تزينه مئات من الصور الملونة الرائعة بدقة عالية وحجم كبير على ورق سميك وصقيل ولكنه يمتاز عن هذا الأخير بعرض أكثر وضوحاً بفضل العشرات من الخرائط والمخططات يضاف إليها شرح واف للمصطلحات العربية واللاتينية واليونانية في موضع واحد يسهل الرجوع إليه وهو بالطبع يسند معلوماته بالعديد من المراجع القديمة والحديثة بمختلف اللغات شأنه في ذلك شأن Degeorge.  عدد صفحات الكتاب حوالي 400 وحجمه صغير نسبياً 23 سم في 16 سم وبالتالي فهو خفيف الحمل رغم غناه بالمادة وعلاوة على ذلك فهو طلي الأسلوب دون تقعر في الكلام وفي متناول كل من لديه إلمام معقول بالإنجليزية من غير الأخصائيين. 


يخصص الكاتب حوالي 40% من صفحات الكتاب للعهود قبل الإسلام والباقي للعصور الإسلامية ويعتمد كغيره على الأعمال الرائدة ل Watzinger & Wulzinger و Jean Sauvaget وكثير غيرهم وعل خياره كان موفقاً عندما أنهى سرده مع نهاية الحرب العظمى والعهد العثماني في عام 1918 أي قبل قرن من الزمن إذ كلما بعدت الشقة كلما زادت الموضوعية ولربما كانت فترة "السفر برلك" وما رافقها من المجاعات والوباء والتهجير والتدمير مماثلة للفترة التي نعيشها حالياً والذي يتنازع فيها القاصي والداني على مناطق نفوذ في سوريا على حساب السوريين ودماء السوريين والذي يعيد فيها السوريون النظر في هويتهم التي كان أجدادهم يبحثون عنها قبل مائة عام والتي ظن أباؤهم أو كادوا أنهم وجدوها. 

يختم المؤلف فيقول (ص 272) أنه لا مبالغة في القول أنه لولا دمشق لما أخذت الديانتان الإسلامية والمسيحية شكلهما الذي نعرفه حالياً كديانات عالمية وأن المدينة لعبت خلال الثلاثة آلاف عام الأخيرة دوراً حيوياً في الشرق الأدنى لا تضارعها فيه أي مدينة ثانية وأن هذا الدور لا يمكن تفسيره بمزايا استراتيجية كالتي تتمتع بها القاهرة على النيل والدلتا أو بغداد على الموضع الذي يتقارب فيه دجلة والفرات تقريباً إلى درجة التلاقي. باختصار دمشق تلخص تاريخ الشرق الأدنى أكثر من أي مدينة في هذه البلاد القديمة قدم التاريخ. 





Tuesday, May 30, 2017

حي الميدان في دمشق

صدر عن المعهد الفرنسي في دمشق عام 1997 دراستان باللغة الفرنسية عن حي الميدان. الكتاب الأول للسادة Yves Roujon و Luc Vilan تختمه لمحة تاريخية كتبها الدكتور عبد الرزاق معاذ ويركز هذا العمل على وصف الحي والتطورات التي طرأت عليه بين الأعوام 1930 و 1994 ويهدف في جملة ما يهدف إليه إلى إنقاذ ليس فقط أهم معالمه وإنما أيضاً النسيج العمراني الذي يحضنها. عدد صفحات الكتاب 140 تزينها بعض الصور من منتصف القرن العشرين للأستاذ الفنان خالد معاذ وبعض الصور من أواخرنفس القرن إضافة إلى الكثير من الخرائط والمرسمات والإسقاطات. يمكن إعتبار هذا المؤلًف مقدمة لعمل آخر أوسع وأكمل بإشراف نفس الأستاذين  (Roujon وVilan) عن جميع ضواحي دمشق التلريخية (الصالحية والعمارة وسوق ساروجا والقنوات والشاغور ضمناً) والذي نشر عام 2010 بعنوان Les Faubourgs de Damas وترجم للعربية. 


يقع هذا الحي جنوب غرب المدينة خارج السور وقد سمي كذلك نسبة لميدان للفروسية أو ميدان الحصى الذي شغل قسماً منه على الأقل منذ عهد المماليك (الميدان الأكبر مساحة والأهم شأناً كان يقع غرب المدينة في المكان الذي احتله معرض دمشق الدولي في القرن العشرين وكان يسمى الميدان الأخضر). تشكلت إلى الجنوب من ميدان الحصى قرية عرفت باسم القبيبات نسبة لمباني تعلوها قباب صغيرة قطنت فيها جماعات من التركمان منذ القرن الثالث عشر للميلاد وبالتيجة بني عدد من الزوايا والجوامع والمتاجر في أماكن متفرقة شكلت نوى (جمع نواة) تمركز حولها العمران واتصلت هذه المناطق مع بعضها بالتدريج  لتعطي الحي الشكل الذي نعرفه حالياً (أو على الأقل حتى قبيل الإنفجار السكاني). 

يمكن تقسيم الحي من الشمال إلى الجنوب إلى باب مصلى ثم الميدان ثم القبيبات ولاحقاً الميدان التحتاني والوسطاني والفوقاني. تتوزع البيوت والمتاجر والمعابد وهلمجرا حول شارع الميدان الذي يتجه من الشمال الشرقي إلى الجنوب الغربي ويتقاطع معه شمال منتصفه بقليل الطريق المحلق الجنوبي والذي أضاف إلى الأذيات التي ألحقتها المباني الجديدة القبيحة بالنسيج العمراني. 


الكتاب الثاني أكبر حجماً  (430 صفحة تتضمن 30 صورة بالأبيض والأسود و 21 خريطة و 54 جدولاً إحصائياً) ومؤلفته السيدة Brigitte Marino. يركز هذا العمل على الحي في العهد العثماني وخاصة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إستناداً إلى وثائق محاكم دمشق وعقود البيع والشراء وإيصالات الديون كل هذا إضافة إلى المصادر التاريخية التقليدية والغاية ليس فقط دراسة الحي بحد ذاته وإنما أيضاً وضعه في إطار أوسع ومقارنته مع  مدينة دمشق ككل داخل وخارج السور ويستخلص بناء علي عمل دؤوب وبحث مستفيض نتائج مثيرة للاهتمام.


على الرغم من سمعة الحي كموطن للقلاقل والفتن الناجمة عن وجود العسكر (الإنكشارية المحلية أو اليرلية) والنزاع بين زعمائه وبين ولاة دمشق (مثلاً بين الدفتردار وأسعد باشا العظم في القرن الثامن عشر) فقد كان الميدان موسراً نسبياً وبشكل عام ليس فقط كطريق للحج تمر فيه قافلة المحمل مع كل التبادلات الإقتصادية التي ترافقها  وإنما أيضاً كمركز هام لتجارة الحبوب (مع حوران والبقاع خاصة) كما تشهد بذلك البايكات (جمع بايكة وهي مخزن للحبوب) التي تتركز في هذا الحي ولا يزال بعضها موجوداً وإن تبدل استعمالها.

الكتابان منجم ذهب عن تاريخ الحي وتطوره ومبانيه وشوارعه وأزقته واقتصاده وبيوته وطوائفه الدينية والإثنية وأبرز عائلاته وبالطبع ما ينطبق على الميدان ينطبق على بقية أحياء دمشق: كلها عريقة وغنية بالتاريخ والإرث الفني والعماري والإنساني منها ما أخذ جزأً من حقه والاهتمام الذي يليق به وأكثرها لا يزال ينتظر دوره في زوايا النسيان.  

Monday, May 29, 2017

دمشق لؤلؤة وملكة الشرق


هذا الكتاب الصادر عام 2005 هو أجمل ما كتب باللغة الفرنسية عن سيرة دمشق حتى اليوم وهو موجه لمن يريد أن يطلع على تاريخها الذي يمتد عبر ألوف السنين ولا يملك الوقت لمراجعة العديد من المصادر. إذا كنت تبحث عن "المختصر المفيد" في كتاب واحد فهذا بيت القصيد ولكن لسبب ما الحصول على ترجمة باللغة الإنجليزية أسهل بكثير من النص الفرنسي الأصلي ولربما أيضاً أرخص. 

عن المؤلف Gérard Degeorge  يمكن الرجوع إلى الصورة التالية أما عن الكتاب فهو مجلد ضخم عدد صفحاته 320 بقياس 31 في 25 سم من الورق الصقيل تزهو بالمئات من الصور الملونة معظمها لقطات للكاتب وبعضها رسوم وصور تاريخية من عدة مصادر. 


يقوم السيد Degeorge في هذا الكتاب بجمع وتلخيص وتنقيح المعلومات التي نشرها بين 1994 و 2001 في ثلاث كتب: Damas: Des origines aux Mamluks و  Damas : des Ottomans à nos jours و  Damas : Répertoire iconographique  ويزينه بالعديد من الصور الملونة الكبيرة بدقة عالية التي سبق له عرضها في مؤلفاته السابقة بالأبيض والأسود بحجم أصغر والنتيجة مسرة للعين وبهجة للناظرين من دمشقيين وعشاق دمشق غير الدمشقيين. 


لا أستطيع إيفاء الكتاب حقه في أسطر أو صفحات قليلة ولكني أوصي به دون تحفظ أو تردد لكل محبي التاريخ والفن والجمال. 

https://www.amazon.com/Damascus-Gerard-Degeorge/dp/2080304569

Sunday, May 28, 2017

دمشق من بداية العهد العثماني إلى أواخر القرن العشرين

يغطي المؤرخ الفرنسي Gérard Degeorge  في هذا الكتاب الصادر عام 1994 خمسمائة عام من تاريخ سوريا في 300 صفحة يضاف إليها 32 صورة خارج النص بالأبيض والأسود معظمها لقطات للمؤلف من ثمانينات وتسعينات القرن الماضي. تمتزج السياسة بالتاريخ في هذا العمل من البداية إلى النهاية ولربما كان هذا أحد المآخذ على الكتاب فإذا كان من الصحيح أنه لا يمكن فصل السياسة عن التاريخ تماماً فيجب مع ذلك أن نأخذ بعين الإعتبار أن التاريخ أكثر بكثير من السياسة (علاوة على التاريخ السياسي والعسكري هناك التاريخ الديني والفني والأدبي والعمراني والعلمي وهلمجرا) وأن لهجة الكاتب (كما يمكن للقارىء أن يلاحظ دون عناء) كانت في أكثر من موضع أقرب إلى العاطفية منها إلى الأكاديمية. 


حتى أزيل أي التباس عن ميول المؤلف السياسية فهو من المعجبين بالحضارة العربية السورية وخصوصاً الإسلامية ويدين العهد الحميدي والإستعمار الأوروبي والطريقة التي "حنث" فيها البريطانيون بوعودهم للعرب ومن ثم الإنتداب الفرنسي وفي عهد الإستقلال حكم حزب البعث والأسد الذي يصفه بالماكيافللي ويصف أساليب حكومته بالكلبية cynicism ولا يتردد في إدانة الطريقة التي قمع فيها مع شقيقه رفعت تمرد الإسلاميين في أواخر سبعينات وأوائل ثمانينات القرن العشرين (ص 192-193). يجب أيضاً التنويه أنه عدو للصهيونية وإسرائيل. من نافل القول أن  رأي السيد Degeorge وجهة نظر كغيرها ولكل إنسان الحق في وجهة نظره طالما لم تعارض الحقائق واعتراضي الأول هنا على التوسع الزائد عن الحد في مواضيع أكثر تعلقاً بالتاريخ السياسي لسوريا ككل في كتاب يبحث تاريخ دمشق بالتحديد وإن كانت دمشق عاصمة سوريا. 



هذا لا يعني بالطبع أن الكاتب أهمل تاريخ دمشق أو أغمطه حقه ويبقى الكتاب على علاته مرجعاً قيماً تسنده الكثير من المصادر الأصلية في أكثر من لغة وهو تتمة لكتابه الذي يغطي تاريخ دمشق حتى عهد المماليك Damas des Origines aux Mamluks وإن كان هذا الكتاب ولسبب ما صدر لاحقاً. 

تبدأ القصة بدخول سليم الأول إلى سوريا بعد إنتصاره على المماليك في معركة مرج دابق عام 1516 للميلاد وفي البداية لم يكن العهد الجديد سيئاً إذ شهد القرن السادس عشر فترة استقرار نسبي واتسعت المساحة العمرانية في المدينة التي بنيت فيها عدة أوابد كجوامع الشيخ محي الدين إبن عربي ومراد باشا ودرويش باشا وسنان باشا وبالطبع التكية السليمانية ومع ذلك كانت دمشق على الأقل من ناحية التجارة وعدد السكان تأتي في المرتبة الثانية في سوريا بعد حلب. 

لم يبن الكثير في دمشق خلال القرن السابع عشر ومع ذلك فقد توسعت المدينة بالتجاه الغرب (القنوات) والجنوب (الميدان وطريق الحج) وأدى تقلص التهديد الخارجي الناتج عن اتساع الإمبراطورية وبعد المدينة عن الحدود إلى إهمال تحصيناتها إذ ردمت خنادقها بالتدريج وغزت البيوت السكنية سورها. تغيرت الأمور في القرن الثامن عشر الذي هيمن عليه ولاة أقوياء من آل العظم تركو لنا خانات فسيحة وعديد من المعالم عل أشهرها قصر العظم.

كان القرن التاسع عشر حافلاً بالتطورات التي أعقبت حملة بونابارت ثم عهد إبراهيم باشا إبن محمد علي ومن ثم فترة التنظيمات وزيادة التغلغل الأوروبي ومذبحة 1860 وبداية الحركة الصهيونية وتواترت فيه (خصوصاً في نصفه الثاني) تقارير ومؤلفات الرحالة والدبلوماسيين والمستشرقين الأوروبيين عن دمشق التي نظم فيها وقتها سوق مدحت باشا وسوق الحميدية وساحة المرجة (مركز المدينة الجديد في الغرب) والأبنية المحيطة فيها. بالنسبة لضواحي المدينة أصبح حي الصالحية قبلة الأثرياء والدبلوماسيين الغربيين وتوسع حي الأكراد وبدأ العمران فيما عرف لاحقاً بالمهاجرين.

لربما بدأ القرن العشرين واعداً بمستقبل أفضل إذ زودت المدينة بالكهرباء والترام وشق الخط الحديدي الحجازي ولكن الحرب العالمية الأولى أتت لتجهض كثيراً من الآمال وتلتها فترة الإنتداب الفرنسي وجميعنا نعرف بشكل أو بآخر الأحداث الدامية التي  رافقت "الثورة السورية الكبرى" عام 1925 وهنا يشير المؤلف إلى قيام سلطات الإحتلال خلال وبعد التمرد بشق شوارع عريضة هدفها المعلن تجميل المدينة وتسهيل المواصلات فيها بينما هدفها الحقيقي عزل دمشق عن غوطتها التي كانت معقلاً للثوار وتسهيل تنقل الآليات العسكرية (ص 166-167) وحصل ما يشبه ذلك في مطلع  الثمانينات عندما شرعت الحكومة بتطبيق خطة Ecochard فما هي هذه الخطة؟

قام السيدان R Danger و M Ecochard عام 1936 بطرح مخطط يهدف لإنقاذ غوطة دمشق والحد من توسع السكن العشوائي وشق طرق محلّقة حول المدينة للتقليل من إزدحام السير فيها وكان من بنود هذا المخطط كشف أهم آثار المدينة بداية بالقلعة وضريح صلاح الدين ولو على حساب النسيج العمراني المحيط بها. بدأ التنفيذ على قدم وساق ورافق هذا بناء المتحف الوطني غرب التكية السليمانية ولكن تزايد السكان في العقود التالية حدى بلدية دمشق أن تستنجد ب Ecochard مجدداً وقام هذا الأخير مع السيد Benshoya عام 1968 بتقديم مخطط معدّل لتطوير المدينة ركز على دعم بنيتها التحتية وأوصى أن تتوسع باتجاه المزة غرباً وبرزة شرقاً والهدف دوماً إنقاذ الغوطة ولكنه كالمخطط السابق نصح بكشف أهم المعالم ومنها الأموي وعدد من المدارس التاريخية عن طريق هدم المحيط الحاضن لها وطال هذا بدرجة أكبر ضواحي المدينة التاريخية في القنوات وساروجا والميدان إلى آخره.

مع الأسف الشديد طبقت الجهات المعنية أسوأ توصيات المخطط وأهملت أكثرها فائدة وكلنا نعلم ما حل بالغوطة وما نال النسيج العمراني الدمشقي العريق وللإنصاف كان هذا إلى حد كبير نتيجة متوقعة وإن لم تكن بالضرورة حتمية لزيادة عدد السكان من 300,000 عام 1945 إلى 1,700,000 عام 1988 مع كل ما رافق هذا من التلوث وتداعي البنية التحتية في بلد كثير الأعداء ومحدود الموارد. من البدهي أن ما ينطبق على دمشق ينطبق بدرجات متفاوتة على كافة المدن السورية.

صدر مرسوم عام 1972 بمنع الهدم داخل السور وأدرجت المدينة القديمة عام 1975 على لائحة اليونسكو للتراث العالمي وتشكلت عام 1977 لجنة دولية لحماية دمشق. تبقى هذه التدابير رمزية ولكنها خطوات ولو متواضعة في الإتجاه الصحيح.



Saturday, May 27, 2017

دمشق منذ البدايات إلى نهاية عهد المماليك

الكاتب هو المؤرخ والمصور ومهندس العمارة الفرنسي Gérard Degeorge والكتاب الصادر عام 1997مكون من 400 صفحة تزينها 32 لوحة بالأبيض والأسود جميع صورها للمؤلف وتمثل معالماً مختلفة للمدينة. عدد الصور قليل نسبياً ولكن يمكن الرجوع لكتاب آخر له صدر عام 2001 بعنوان DAMAS - Répertoire Iconographique  والمخصص بكامله لصورالمدينة على مر العهود. لا يتردد الكاتب في الإدلاء بآرائه السياسية بين الحين والآخر ومن الواضح أنه ليس من أنصار الصهيونية إذ خصص 14 صفحة من مقدمة الكتاب بعنوان النكبة La Catastrophe للقضية الفلسطينية التي لا يمكن إنكار أهميتها في تاريخ سوريا الحديث وإن كان مكانها ليس بهذه الدرجة من الوضوح في الفترة قيد الدراسة. 


متن الكتاب موزع بين ثلاثة فصول تتساوى عدد صفحاتها أو تكاد: الفصل الأول يغطي آلاف السنين وينتهي مع نهاية العهد الأموي والفصل الثاني يغطي 500 سنة أي العهد العباسي والذي يشمل العهود الفاطمية والسلجوقية والأتابكية والأيوبية أما الفصل الثالث فهو مخصص لعهد المماليك البحرية ثم البرجية أي حوالي 250 سنة تنتهي بمعركة مرج دابق عام 1516 للميلاد وبداية العصر العثماني. قد يبدو هذا التوزيع بعيداً عن الإنصاف ولكن يجب أن نأخذ بعين الإعتبار أن المعلومات المتوافرة تتضائل مع تقادم العهد خاصة فيما يتعلق بالمعالم الأثرية في مدينة مأهولة باستمرارعلى مدى آلاف السنين وتفع بقاياها الآرامية عدة أمتار تحت مستوى الأرض الحالي. 

يعتقد أن أول ذكر  لدمشق كان في لوحات إيبلا التي هيمنت على شمال سوريا في القرن الثالث قبل الميلاد ومع الأسف لم تنشر هذه المعلومات حتى اليوم وبالتالي يتعين علينا أن نقفز إلى منتصف الألف الثاني عندما هزم الفرعون تحوتمس الثالث إئتلافاً سورياً بقيادة أمير قادش في معركة مجيدو Megiddo عام 1457 قبل الميلاد وأسر زعماء وملوك 19 مدينة منها دمشق وهو الظهور الأول لها في التاريخ (بانتظار المزيد من الأبحاث). هناك ذكر آخر لها في عهد أمنحتب الثالث في معبد قرب طيبة وثالث في عهد أخناتون (القرن الرابع عشر قبل الميلاد)  في لوحات تل العمارنة. 

كان الظهور الأول للآراميين على مسرح التاريخ في النصوص الآشورية وحوليات تغلات فلاصر الأول (1116-1076 قبل الميلاد) الذي هزمهم واستحوذ على ممتلكاتهم وجلبها لمدينته آشور ولكن فيما يتعلق بسوريا الوسطى والجنوبية لا يوجد حتى الآن مصدر يغطي هذه الفترة باستثناء كتاب العهد القديم والذي يخبرنا أن داود (1004-965 ؟؟) هزم الآرامبيين واستولى على دمشق ونهبها ووضع حامية فيها. قصة تقسيم "إمبراطورية" داود وسليمان بعد موت هذا الأخير معروفة ومن المفروض أن دمشق استفادت من ضعف إسرائيل وحاولت التوسع على حسابها ولكن المملكتين اضطرتا لتوحيد جهودهما لمواجهة الخطر الآشوري في معركة قرقر عام 853 وقد حاول شلمنصر الثالث 858-824 في الفترة التاية أن يستولي على دمشق وفشل وصب جام غضبه على الواحة المحيطة بها التي قطع أشجارها وأضرم فيها النار. 

انحسر الخطر الآشوري مؤقتاً في العقود التالية التي شهدت بين الفينة والفينة نزاعاً بين دمشق وإسرائيل ويعتقد أن الجالية اليهودية في دمشق تكونت خلال هذه الفترة (مطلع القرن الثامن قبل الميلاد) على إثر إتفاقية بين Joas ملك إسرائيل وBar Hadad أو Ben Hadad الثالث ملك آرام دمشق. بالنتيجة سقطت دمشق بيد الآشوريين وتغلات فلاصر الثالث عام 732 ولم يبق من هذا العهد سوى نحت بازلتي لأبي هول مجنح من القرن التاسع ق.م. أكتشف عام 1948 للميلاد في الجدار الشمالي للجامع الأموي وهو اليوم في متحف دمشق ومجموعة من اللوحات العاجية من شمال سوريا تحمل إحداها إسم Hazael أحد ملوك دمشق الآراميين.  

المعلومات عن الفترة الأخمينية معدومة أو تكاد ولم يبق من آثارها إلا رأسي عمودين لربما كانا من بقايا قصر الحاكم وقد أكتشفا من قبل الألمانيين Watzinger و Wulzinger خلال حفريات أجرياها في سنوات الحرب العالمية الأولى أما عن ذكر المدينة في العهد الفارسي  فهناك إشارة مختصرة إايها في Strabo الجغرافي الإغريقي (63 ق.م. إلى 24 للميلاد)  الذي وصفها كأهم مدينة "في هذا القسم من آسيا". 

يخبرنا المؤرخون أن داريوس الثالث -آخر ملوك الأخمينيين- ترك حريمه وكنوزه في دمشق قبل أن يواجه الإسكندر الأكبر وأنه بعد إنتصار هذا الأخير في معركة Issus عام 333 قبل الميلاد أرسل عامله Parmenion إلى المدينة للإستيلاء على هذه الغنائم ومن ثم أقام الفاتح بنفسه في دمشق لفترة معينة قبل أن يستأنف حملاته في الشرق. 

بدأ العهد الهلنستي بعد موت الإسكندر وبالطبع كانت أنطاكيا عاصمة سوريا خلال معظم هذه الفترة ولكن أنطيوخوس التاسع 116-96 ق.م. جعل دمشق عاصمته لفترة قصيرة (كانت هذه الفترة بالطبع فترة انحطاط وآواخر العهد السلوقي) وغير ديميتريوس الثالث 97-87 ق.م. تسميتها إلى ديميتريا  Demetrias.  طلب الدمشقيون في نهاية هذا العهد من الفوضى والحروب حماية ملك الأنباط الحارثة الثالث الذي أصبح ملكاً للمدينة عام 85 وكانت هذه بداية حي الأنباط في دمشق شرق المدينة وتحديداً شرق شارع باب توما. إنتهى العصر الهلنستي عام 64 ق.م على يد بومبي وبدأ العهد الروماني الذي -على عكس العهود السابقة- لا تزال بصماته موجودة في المدينة القديمة  حتى اليوم. 


لا يمكن إعطاء الكتاب حقه في هذه السطور القليلة والتي حاولت فيها التركيز على الجزء الذي يتعلق بالتاريخ القديم على إعتبارأن المؤلفات التي تغطيه قليلة وأقل منها ما يشفي الغليل. الكتاب -من الجلدة إلى الجلدة- أكثر من جدير بالقراءة وهو قريب المنال وسهل اللغة للهواة مع الحرص على ذكر الكثير من المراجع لمن يريد التوسع من الأخصائيين وعشاق التاريخ. 

الرابط أدناه يعرف باختصار بالمؤاف وبعض كتبه. 

http://bornindamascus.blogspot.com/2017/02/gerard-degeorge.html


Wednesday, May 24, 2017

لا أستطيع أن أكتب عن دمشق

لا أستطيعُ أن أكتبَ عن دمشق .. دونَ أن يُعّرشَ الياسمين على أصابعي .. 

من من الدمشقيين لا يعرف هذه القصيدة لشاعر الشام العظيم الراحل نزار قباني؟من نافل القول أن شعر نزار معروف ليس فقط للسوريين وإنما لكل ناطق باللغة العربية وأن كثير من قصائده لحنها من هم في وزن  الرحابنة والموجي  وغناها العديد من عمالقة الطرب عبر السنين ومنهم فيروز وعبد الحليم ونجاة وكاظم الساهر وعل هذا ما حدا المؤلفين لتبني مطلع هذه القصيدة كعنوان لكتابهما الذي رأى النور عام 2016 للميلاد.   


أقام السيد Gabe Huck والسيدة Theresa Kubasak في دمشق في الفترة الواقعة بين صيف 2005 حتى آب 2012 وجمعا في هذه المدة كماً لا بأس به من المعلومات عن أحياء المدينة ومعالمها ومرافقها وأهلها ومأكولاتها (بما فيها طريقة الإعداد) ونشرا إنطباعاتهما في كتاب يبلغ عدد صفحاته حوالي 270 ويحتوي على بعض الخرائط مع مجموعة من الصور بالأبيض والأسود ولكن كما سيتضح من السطور التالية لم يكن وصف المدينة الدافع الذي حداهما للكتابة.

عمل هذان المؤلفان الأمريكييان بمهنة التدريس وعلاوة على ذلك تولى السيد Huck إدارة أحد دور النشر الصغيرة أما عن ميولهما السياسية فهي يسارية إذ صوتا في الإنتخابات العامة لمرشح الحزب الأخضر رالف نادر وأما عن هدفهما من الإقامة في الشرق الأدنى فهو محاولة شخصية من قبلهما لمساعدة اللاجئين العراقيين ضحايا السياسات الأمريكية على الأقل منذ عام 1991 وحتى غزو عام 2003 الذي أطلق عليه بعض الكلبيين cynics إسم "عملية حرية العراق" والذي قضى على ما تبقى من النظام والبنية التحتية لهذا البلد العريق وهجَر الملايين من أهله.  

أدان عشرات الملايين من مواطني الولايات المتحدة غزو العراق ولكن الكاتبين لم يكتفيا بالإدانة بل حاولا ولعدة سنوات وبإمكانيات متواضعة للغاية أن يساعدا العراقيين عملاً لا قولاً وأما لماذا وقع اختيارهما على دمشق دون سواها (عمان أو بيروت) فهذا لاعتبارات مادية كون الحياة فيها أرخص مما يمكن لراتبهما التقاعدي أن يسد احتياجاتها وتكفي نظرة إلى أماكن إقامتهما وكثرة تنقلهما  (غرفة على سطح بيت عربي في باب توما 2005-2006 ثم مخيم اليرموك 2006-2008 ثم ساحة عرنوس 2008-2009 وأخيراً الجسر الأبيض 2009-2012) حتى ندرك ضخامة مجهودهما تحت ظروف صعبة تعين عليهما خلالها أن يغادرا سوريا بين الحين والآخر بهدف المحافظة على تأشيرتهما مع كل ما يرافقه من التعقيدات البيروقراطية التي يعرفها القاصي والداني من السوريين. 


أسس الكاتبان ما أسمياه بمشروع الطالب العراقي Iraqi Student Project IPS والذي يتلخص بمساعدة من أمكن من النجباء من شباب وشابات اللاجئين العراقيين على تعلم الإنجليزية (وبالطبع بذلا من ناحيتهما الكثير من الوقت والجهد لتعلم العربية) والتحضير لإمتحان Test of English as a Foreign Language TOEFL ومن ثم تأمين منح من جامعات أمريكية لهؤلاء الطلاب والطالبات بكل ما يعنيه هذا من الصعوبات المادبة والقانونية واللوجستية بما فيه تحضير الطلاب للمقابلة في القنصلية الأمريكية بهدف الحصول على الفيزا لا بل ودفع رسم الفيزا نيابة عن الطلاب ومن ثم جمع التبرعات لتغطية كلفة بطاقة السفر إلى الولايات المتحدة وتكللت جهودهما خلال سبع سنوات بقبول 60 من طلابهما في الجامعات الأمريكية وقد يبدو هذا الرقم متواضعاً ولكنه مدهش إذا أخذنا بعين الإعتبار محدودية الإمكانيات و "من أحيا نفساً فكأنما أحيا النلس جميعاً" ولا يسع المرء هنا إلا أن يحني رأسه احتراماً لإخلاص هذين المتطوعين وتفانيهما. 


أحب الكاتبان دمشق وأهلها وقاطنيها الذين تعاملوا معهم عن كثب من سوريين وعراقيين وفلسطينيين ولم يغفلا الإشارة لما فعله الإسرائيليون لأهل فلسطين والذي سبق بعقود مآثر الولايات المتحدة في العراق وغيرها أما عن المأساة التي شهدتها سوريا منذ عام 2011 فقد أدليا بالطبع برأيهما والذي أعتقد أنه لن يسر الكثيرين من السوريين من مؤيدين ومعارضين وهذا ليس بالمستغرب عندما يتخذ كثير من السوريين مواقف متناقضة 180 درجة مما يجري في بلدهم ولللأمانة حاول المؤلفان قدر الإمكان أن يعطيا صورة "متوازنة" إذا جاز هذا التعبير فمع أنهما يسلمان بأن "النظام" قمع "المظاهرات السلمية" بعنف وبشكل "فوري" مما أجهض محاولات تأمين "تغيير سلمي" للحكومة  فهما أيضاً يقران أن للحكومة السورية مؤيديها الذين تخامرهم الريبة في نوايا الولايات المتحدة التي تقاطع بلدهم وتساند إسرائيل وتتدخل باستمرار في شؤون ليس فقط سوريا وإنما أيضاً العراق وأفغانستان وغيرها عوضاً عن مساعدة الفقراء وتأمين العناية الصحية لملايين من الأمريكان الذين لا يملكونها (وهنا يشيران إلى مدى رخص الطبابة في سوريا مقارنة مع الولايات المتحدة والتي تبقى في هذا المضمار أغلى بلاد العالم قاطبة وبلا منازع). 

يختم المؤلفان الكتاب بذكر بعض الكتب باللغة الإنجليزية لمن يرغب في المزيد من المعلومات عن سوريا والشرق الأدنى. فيما يتعلق بدمشق بالذات هناك كتاب Ross Burns عن تاريخها (لربما أفضل الموجود ككتاب شامل ووجيز نسبياً) والنسخة الإنجليزية لكتاب السيدة سهام ترجمان بعنوان Daughter of Damascus للأصل العربي "يا مال الشام". 

جزيل الشكر للمؤلفين على سنوات من حياتهما بذلاها بإخلاص وتجرد ودون مقابل لمساعدة شبيبة العراق ولحبهما لدمشق والمشرق الذي كان ولا يزال ولحسن الحظ  يستقطب العلماء والأدباء وليس فقط الجيوش والفاتحين.

Saturday, May 20, 2017

خمس سنوات في دمشق

أقام المبشر الإيرلندي Josias Leslie Porter 1823-1889 في سوريا عشرة سنوات بداية من كانون أول 1849 وألف بناء عليه أحد أهم الكتب التي نشرت عن دمشق وبلاد الشام في حينه بعنوان Five Years in Damascus. صدرت الطبعة الأولى عام 1855 ومن ثم طبعة ثانية منقحة ومعدلة عام 1870. الكتاب موزع بين مجلدين يبلغ عدد صفحاتهما الإجمالي 850 ونيف تزينها بعض الصور والمرسمات والخرائط وهو موجود بنصه الكامل بالمجان على الرابطين أدناه. 


المؤلف رجل متدين ويحدد منعاً لأي التباس في مقدمة الطبعة الثانية أن هدفه الرئيس من ترحاله في "بلاد الكتاب المقدس" هو إثبات الحقائق الموجودة في هذا الكتاب الذي رافقه طوال سفره. يضيف فيقول أنه وصل بالنتيجة إلى أنه كلما زادت المعلومات المكتسبة عن طريق الأبحاث الجغرافية والأثرية كلما زادت قناعة المرء بصحة ودقة كلام كتاب الله بالحرف وبتحقق نبوءة الأنبياء بحذافيرها. لا يقتصر الكتاب على مدينة دمشق وإن أوحى العنوان بذلك بل يشمل أيضاً المنطقة المحيطة بها ووادي بردى إضافة إلى حوران وتدمر ولبنان وبعلبك وحمص وغيرها مما لا يمكن التعرض له في هذه الأسطر القليلة ولهذا سأقتصر على بعض المعلومات الهامة عن دمشق كما وصفها الكاتب وللإنصاف من شبه المؤكد أن ما كتبه عن المدينة يبقى أدق وأفضل ما نشر في حينه وتطلب تحسين المعطيات والمعلومات التي جمعها عشرات من السنين.   

فلنبدأ بخارطة المدينة والتي تظهر بدقة أكثر من معقولة (على الأقل في مقاييس ذلك الوقت) أهم نقاط العلام فيها بما فيها الشارع المستقيم وبردى والقلعة والجامع الأموي والأبواب والأحياء والمقابر والمنطقة غرب المدينة خارج السور حتى التكية السليمانية والمرج الأخضر. يؤخذ على الخريطة أنها لا تشمل الصالحية ولا معظم حي الميدان وأن الإهتمام بالتفاصيل يتناقص خارج السور وليس هذا بالمستغرب إذ ما يهم العالم الفاضل هو بالدرجة الأولى المعالم الكلاسيكية (أي الرومانية والإغريقية) والدينية (المسيحية واليهودية) وهو يسير في هذا الصدد على خطوات الكثير من المستشرقين قبله وبعده. 


بالنسبة لسكان المدينة فقد أرفق المؤلف جدولاً بتوزيعهم الطائفي الذي قدر عددهم الإجمالي وفقاً للأرقام الرسمية  ب 108,000 منهم 74,000 (الغالبية العظمى سنة) مسلم و 14,000 مسيحي (بمختلف طوائفهم) و 4600 يهودي والباقي موزعين بين "غرباء وجنود وعبيد وموالي" ولكنه يرى أن العدد الحقيقي أكبر من ذلك بكثير وأنه يتجاوز 150,000 ويضيف (في الطبعة الثانية) أن عدد المسيحيين تناقص إلى درجة كبيرة بعد مجزرة 1860. 


يصف المبشر مسلمي دمشق بأنهم "ضعفاء وشهوانيين ومتعصبين" وأنهم يمضون أوقاتهم في التبطل والتسكع "من الحريم إلى الحمام ومن الحمام إلى الجامع" وأن الصلاة بالنسبة لهم عبارة عن طقوس روتينية لا تمنعهم من الكذب والغش والشتم ويضيف -بعد التعرض إلى الحج- أن الإسلام يتميز دون غيره بالجمع بين التجارة والدين والعبادة والصلاة والكذب والخداع ودون أي تضارب بين هذه الأنقضة. فيما يتعلق بالمسيحيين فقد قرظ السيد Porter روح المبادرة لديهم وجهدهم وأفاد أنهم كانوا (على الأقل قبل 1860) يزدادون نفوذاً وغنى وأن وضعهم الأمني كان في سبيله إلى التحسن بفضل حماية القناصل الأوروبيين وبالذات قنصل بريطانيا Wood الذي بذل قصارى جهده لحماية المسيحيين واليهود من أسيادهم السابقين المسلمين. يهود دمشق أقل عدداًً ولم يمنع هذا بروز بعض العائلات الواسعة الثراء بينهم وإن تفاوتت حظوظهم بين عهد وآخر حسب تقلب الحكام وتوافر الحماية الأوروبية. 


أعطى الكاتب حيزاً لا بأس به لوصف المدينة ومع إعجابه بجوامعها من الناحية المعمارية والفنية فهو يتحفظ فيقول أنها وبدون إستثناء قذرة وأن غالبيتها العظمى بحاجة ماسة إلى الترميم وأما عن الخانات فلم يجد فيها ما يستحق الملاحظة إلا مدخلها وأفتى أنه حتى خان أسعد باشا كان -على اتساعه وجمال قبته- دون وصف Lamartine له. يتجول المؤلف في أسواق المدينة ونعلم منه أن القلعة كانت لا تزال محاطة بخندق ويضيف أنها مهيبة المنظر من الخارج ولكن جدرانها كانت  مجرد غطاء لحالتها المتداعية من الداخل. 

يقرظ الكاتب بيوت دمشق الخاصة كموضع الفخر الأول للمدينة رغم تواضع مظهرها الخارجي ويصف بيت علي آغا خزنة كاتبي (يعرف حالياً كبيت نظام) الذي زاره شخصياً وشرح أهم مكوناته وذكر أن الجواني (الحرملك) في البيت الشامي كان محظوراً على الزوار وأن الخصيان يقفون حرساً على مدخله.   

لعل وصف الجامع الأموي بما فيه المخطط الملحق (وهو كخارطة المدينة أدق الموجود حتى حينه) أحد أهم المعلومات الموجودة في هذا الكتاب التاريخي الثمين ويزيد في قيمته أنه يسبق حريق عام 1893. من المعروف أن الجامع (بالأحرى معبد جوبيتر الروماني) كان يتمتع بأروقة معمدة  propylaeum لا تزال آثارها موجودة شرق باب جيرون وغرب باب البريد وكما نرى في المخطط كانت بقايا الرواق المعمد الجنوبي لا تزال موجودة عندما زار Porter المدينة في منتصف القرن التاسع عشر إذ عاينها جنوب باب الزيادة المطل على سوق الصاغة (للمزيد من المعلومات يمكن مراجعة دراسة الدكتور طلال عقيلي عن جامع بني أمية الكبير). 


 https://archive.org/stream/fiveyearsindamas01port#page/n5/mode/2up

https://archive.org/stream/fiveyearsindama01portgoog#page/n5/mode/2up

Friday, May 19, 2017

تاريخ سوريا من البدايات حتى عام 1914

الكتاب من إصدار بيروت عام 1927 أما الكاتب  Richard Lodoïs Thoumin  فالمعلومات المتوافرة عنه محدودة للغاية رغم أنه كان غزير الإنتاج وكل ما يمكن قوله أنه كان جنرالاً من مواليد 1897 كتب عدداً لا بأس به من المقالات في الدوريات الأكاديمية وألف على الأقل ثلاثة كتب أحدها عن الحرب العظمى والثاني عن جغرافية سوريا والثالث عن تاريخها وهذا الأخير هو موضوع السطور القادمة. 


لهذا العمل أهمية خاصة  بغض النظر عن أخطاء الكتاب وشطحات الكاتب (كما سنرى) فهو يغطي في حوالي 340 صفحة آلاف السنين في وقت كانت فيه سوريا (ولربما لا زالت حتى يومنا ولكن هذه قصة أخرى) تبحث عن هويتها وكانت فرنسا تحاول إعطاء هذه الهوية شكلاً معيناً. سوريا كمفهوم جغرافي بالطبع أقدم بكثير من القرن العشرين ولكنها -على عكس مصر- لم تشكل كياناً جغرافياً - سياسياً محدداً قبل القرن العشرين وبالتالي فما كتب عنها قبل هذا القرن أتى في سياق أعمال تناولت تاريخ إمبراطوريات معينة أو ديانات معينة. الخلاصة يبقى الكتاب على علاته عملاً رائداً وجهداً مشكوراً.  

يتعهد الكاتب في المقدمة أن يختصر التفاصيل السياسية والعسكرية إلى أقصى حد ممكن وهنا يمكن القول ودون مبالغة أنه أخفق في تحقيق هدفه إذ يغلب الطابع السياسي على الكتاب من البداية إلى النهاية رغم محاولته لتغطية الجوانب الدينية والفكرية والفنية. بالنسبة لتوزيع صفحاته فقد خصص الكاتب أكثر من نصف العمل (190 صفحة) للفترة قبل الإسلام وما تبقى (150 صفحة) للعهود اللاحقة حتى اندلاع الحرب العظمى عام 1914. الصفحات الأولى ترسم الخطوط العريضة لجغرافية سوريا وقد لفت نظري أنه يطلق على سهل الغاب اسم "الغرب" ولم يكن هذا خطأً مطبعياً (والأخطاء المطبعية في هذا الكتاب كثيرة) إذ أنه كرر هذه التسمية في عدة مواضع. للتوكيد يفترض أن المؤلف خبير بجغرافية سوريا وله كتاب آخر بعنوان Géographie humaine de la Syrie centrale  صدر عام 1936. 

الجغرافيا

الفصول التي تتناول العهود قبل الإسلام غنية بالمعلومات المثيرة رغم إشارات الاستفهام حول المصادر ومنها كتاب العهد القديم فهي تعلمنا أن الساميين كانوا أول من مارس دفن الأموات عوضاً عن حرقهم وتقول أن العبرانيين دخلوا مصر مع الهيكسوس (صفحة 53) وأن هزيمة هؤلاء أدت لاستعباد المصريين لبني إسرائيل ولا داعي هنا للدخول في تفاصيل "الخروج" فهي غنية عن التعريف. استقل السوريون (الفينيقيون والعبرانيون وآرام دمشق) لمدة 300 سنة وهي الفترة بين انحطاط مصر وصعود آشور أي نهايات الألف الثاني وبدايات الألف الأول فبل الميلاد وبالطبع يعتمد المؤلف هنا كغيره إلى درجة كبيرة على الكتاب المقدس كون المصادر البديلة شبه معدومة فهو مثلاً يشير (صفحة 92) أن الإغريق (والمقصود العالم الإغريقي وليس اليونان الحالية)  كان يجهلون حتى وجود القدس ناهيك عن مملكة داود وسليمان. 

تمركزت حياة سوريا والشرق الأدنى الدينية وفتها حول ديانات الخصوبة من أدونيس إلى أوزوريس إلى ميثرا كما هو الحال في الحضارات التي شهدت ما نعته البعض "بالثورة الزراعية" عندما تموت الطبيعة (الإله) في الشتاء لتبعث في الربيع ولكن المؤلف لسبب أو لآخر لم يربط المسيح والفصح بالعبادات القديمة قدم التاريخ أما عن بدايات المسيحية فيقول (صفحة 160) أن القديس بطرس أسس كنيسة في القدس أقرب ما تكون إلى دين موسى بينما أسس القديس بولس كنيسة في أنطاكيا عالمية الإتجاه وبالتالي أقرب متناولاً لليونان والرومان مما يفسر إنتصارها بالنتيجة وأفول نجم الأولى. بالطبع لا يمكن الفصل بين تاريخ المسيحية وتاريخ الإمبراطورية الرومانية على الأقل منذ أن إعتنق قسطنطين الكبير الدين الصاعد وقد حسم الأمر مع فشل جوليان في إعادة "الوثنية" والتدابير التي اتخذها ثيودوسيوس الكبير لاستئصال شأفة الديانات القديمة.  

الفصول المتعلقة بالتاريخ الإسلامي بالذات في حاجة ماسة إلى التنقيح رغم إطلاع المؤلف على بعض المصادر العربية كمحمد كرد علي (صفحة 195). أنا لا أتكلم هنا عن هفوات مطبعية  (وهي كما أسلفت كثيرة) أو زلات سهو ولكن عن أخطاء فاضحة من نوع الخلط بين الفيلسوف إبن خلدون وكافي الكفاة إبن حمدون (صفحة 194) و"الأتابك  قلاوون" (صفحة 252) وأن عمر هو من بنى قبة الصخرة (صفحة 222: سمى كثير من الغربيون قبة الصخرة "مسجد عمر" حتى القرن التاسع عشر على الأقل) . المثير للدهشة أن الكاتب إعتمد إلى حد كبير على المستشرق Henri Lammens 1862-1937 والذي كان علامة في التاريخ العربي والإسلامي بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى وضليع باللغة العربية (كل من هو أليف بأعمال Lammens  يعرف أنه يذكر أسماء الأشخاص المحليين بالأحرف العربية ويقابلها النقل إلى الأبجدية اللاتينية منعاً لأي إلتباس).  تحتل الحروب الصليبية بالذات مكاناً بارزاً في الكتاب ولكن سأضرب صفحاً عن التعرض لموضوع تمت معالجته مراراً وتكراراً في تيهور من المؤلفات بمختلف اللغات.   

الدويلات الصليبية

ينظر الكاتب ككثير من أقرانه في الشرق والغرب إلى العهدين المملوكي والعثماني بازدراء ويحمل هذا الأخير بالذات مسؤولية تدهور سوريا على جميع الأصعدة وعملياً منذ البداية (للأمانة رددت الكتب المدرسية في سوريا نفس الكلام ولسنوات طويلة مع تعديلات طفيفة) ولكنه أيضاً ينحي باللائمة على السوريين الذين لم يسارعوا لمساعدة نابوليون على تحريرهم من النير التركي (صفحة 294) ولم يقدروا شهامة الفرنسيين في حقنهم لدماء المدنيين (صفحة 296) . بالطبع حمل Thoumin قسماً من المسؤولية للإنجليز أعداء فرنسا ومنافسيها التقليديين منذ حملة بونابارت إلى مذبحة 1860 وعلى سبيل المثال إشعال الفتنة الطائفية وحماية القنصل البريطاني للقتلة من الدروز (صفحة 310) وتسائل (صفحة 317) لماذا وفر دهماء دمشق القنصليات البريطانية والبروسية دون سواها في الأحداث الدامية عام 1860.  


الأسطر الأخيرة تبشر بمستقبل واعد للسوريين برعاية الإنتداب الفرنسي وحماية فرنسا المعروفة بحبها للعدل واحترامها للأفراد وتجردها وإخلاصها لكل ما هو نبيل وتؤكد أن لفرنسا من بين كل دول العالم كامل الحق بأن تؤتمن على مصير الحضارة السورية العريقة وهي الأجدر بهذه الأمانة.   

Wednesday, May 17, 2017

دمشق والدمشقيون في النصف الثاني من القرن التاسع عشر

لا توجد لدي معلومات تذكر عن مؤلفة الكتاب السيدة Mackintosh إلا كونها بريطانية أو على الأقل من المملكة المتحدة تعتنق المذهب البروتستانتي وتؤمن بالتبشير وأنها أمضت سبع سنوات في دمشق فبل نشر كتابها Damascus and its People عام 1883. يمكن الحصول على نسخة رخيصة من الكتاب بفضل أحد دور النشر الهندية المتخصصة بطبع الكتب القديمة كما يمكن قرائته مجاناً على الرابط المرفق أدناه. 

ليس هدف الكتاب التعرض لتفاصيل تاريخ دمشق وسوريا بل التركيز على أهلها الذين عاشرتهم المؤلفة عن كثب بمختلف فئاتهم مع وصف للمدينة والمناطق المحيطة بها ويشمل هذا البادية حتى تدمر ولبنان مع الساحل ومنطقة القلمون. اللغة سهلة والأسلوب شيق وممتع بغض النظر عن موافقتنا على جميع ما قالته السيدة الكاتبة. 

الباب الشرقي

بلغ عدد سكان المدينة مع ضواحيها وقتها 180,000 نسمة ويشمل هذا الرقم 5,000 إلى 6,000 يهودي و20,000 مسيحي. أهم أبنيتها الجامع الأموي بالطبع والكنيسة المريمية والقلعة وتصف الكاتبة المدينة كجنة على الأرض إذا نظرنا إليها من بعد ولكن هذا الوهم يتلاشى متى جابه الزائر هوائها الملوث وشوارعها القذرة الضيقة التي تنظف فضلاتها الكلاب الهائمة الجائعة. 

تنتقل المؤلفة بعدها إلى وصف ساحة المرجة ومحيطها المباشر والذي كان وقتها قيد التطور كمركز المدينة الجديد فتحدثنا عن السجن الموبوء والذي يقابله مركز البريد والتلغراف ويدير هذا الأخير موظفان فقط أحدهما الساعي كما تخبرنا عن السرايا أو مقر الوالي (بناء يعود لزمن كنج يوسف باشا في مطلع القرن التاسع عشر وحل محله لاحقاً بناء العابد الذي لا يزال قائماً حتى اليوم) وعن "السرايا العسكرية" أو ما كان يعرف بالمشيرية (يحتل مكانها حالياً قصر العدل شرق شارع النصر). 

لا يفوت السيدة Mackintosh بالطبع أن تثني على بهاء البيوت الدمشقية رغم مدخلها الكئيب الذي هو أشبه بباب السجن ولكنها تلاحظ بساطة الأثاث والأدوات المنزلية وإن كانت المقاعد والأسرة الأوروبية تتغلغل بالتدريج لدى الطبقة الموسرة. 

المدرسة السورية البريطانية في دمشق

يمنع التجول في الظلام دون فانوس وتغلق أبواب الحارات ولا تفتح إلا بمعرفة الحراس وتضاء الأسواق بالمصابيح الزيتية المتباعدة التي تشع نوراً باهتاً بينما يغطي سواد الليل ما تبقى من المدينة. 

تتناول المؤلفة بعدها الأحياء المسلمة أو ما تسميه "بالحي المحمدي" وتشير لنوافذها (مشربياتها) المغلقة وسطوح منازلها المصممة للحد من البصبصة قبل أن تنتقل لعرض حال المرأة المسلمة المظلومة من الرجل والتي ليس لديها ما يشغلها مما يمكن وصفه بالمفيد أو المنتج والتي لا تستطيع مغادرة المنزل دون أن تتزر وتتنقب (وهذا ينطبق على النساء بغض النظر عن الطائفة) أما عن الأطفال فهم يشتمون بمناسبة وغير مناسبة. 

سيدة دمشقية ترتدي الإزار

تصف الكاتبة القرآن (صفحة 30)  أنه مفعم "بالأساطير الحمقاء" المحرفة من الكتاب المقدس وأنه يخلط بين إسماعيل وإسحاق وبين مريم العذراء وأخت موسى وينكر ألوهية المسيح وصلبه ولكنها تضيف أن المسلمين يعتقدون أن كتب المسيحيين واليهود هي المحرفة وإن تفاوتت درجة التعصب الديني بينهم (أي المحمديين). يلي هذا وصف لشعائر المسلمين ومحمل الحج.

يزدري يهود دمشق الزراعة ويمارسون الصيرفة والتجارة وتقضي نساء أغنيائهم حياتهن ببلاهة ودون هدف سوى المتع الآنية كاللباس والزيارات والنزهات والتدخين أما بالنسبة لشكل اليهود فقد فوجئت الكاتبة بغياب الشعر الداكن والأنف المعقوف (صفحة 50) وأن العديد من بناتهم حسناوات بيضاوات البشرة وزرقاوات العيون.  هناك الكثير من التفاصيل عن يهود دمشق منها أنهم -خلافاً ليهود فلسطين الذين أتى كثير منهم من أوروبا- يتكلمون العربية كلغتهم الأم ولا تختلف ثيابهم عن بقية أهل المدينة ولم تنس السيدة Mackintosh كنيسهم في جوبر والتي هي فيما عدا ذلك قرية مسلمة بالكامل.

يعرج الفصل الرابع على الحي المسيحي ويعطي بعض التفاصيل عن الأطباق الدمشقية من الكبة إلى الكوسا المحشي ولا تغفل المؤلفة الغسيل ونشره على الأسطح ولا تعريشات ديار البيت الدمشقي.  

الفصل الخامس مخصص لأسواق المدينة ويحتل سوق مدحت باشا الصدارة بطبيعة الحال يضاف إليه أسواق المهن المختلفة وتقول الكاتبة أنه كان في دمشق وقتها إثنين أو ثلاث أمكنة فيها خانات لبيع العبيد (صفحة 77-78)  وأنها دخلت شخصياً إلى أحدها عندما شاهدت إمرأة أو إثنتين قيد البيع وأن النخاس  طمأن الزبائن أنه سيجلب بضاعة أفضل لدى عودة الحجيج من مكة. تضيف فتقول أن إقتناء العبيد السود كان موجوداً في عدة بيوت مسلمة ومسيحية وأن الإستعباد -مع شديد أسفها- شمل أيضاً البيض ومنهم جميلات من الشركس وبالطبع كن أبهظ ثمناً من زميلاتهن السوداوات. 

يخفي الدروز معتقداتهم وليس في قراهم جوامع ولا كنائس ويجتمعون في جرمانا يوم الخميس في بيت شيخهم وهم معروفون بشجاعتهم ولكنهم  يدعون الإسلام تارة والمسيحية طوراً ويؤمنون بتناسخ الأرواح ويحبون الإنجليز وكانوا أكثر من رحب بالبعثات التبشيرية البروتستانتية البريطانية والأمريكية بينما ناصبتها بقية طوائف سوريا بما فيها المسيحية العداء. 

سيدة درزية تعتمر الطنطور


يحتقر البدو الزراعة ويعملون برعي الماشية ولكنهم أيضاً يمارسون "الغزو" أو السرقة حسب تعبير المؤلفة وإن بذلوا قصارى جهدهم لتجنب القتل ولا عجب إذ من شبه المؤكد أن ينتج عن سفك الدماء تارات لا نهاية لها على مبدأ العين بالعين.

الفصل الحادي والعشرون (إعتباراً من الصفحة 256)  يفصل في الطوائف السورية:  السنة طبعاً هم الأكثر عدداً وهناك "الأرفاض" أو "المتوالي" والذين بلغت درجة تعصبهم -حسب المؤلفة- أنهم يضنون بماء الشرب على المسافرين من غير ملتهم وهم في خصوصيتهم وعزوفهم عن الإختلاط بالآخرين أشبه باليهود الذين تربطهم بهم صداقة وإخاء حتى أن حيهم في دمشق ملاصق لحي اليهود. عن النصيرية (العلويين) تقول الكاتبة أنهم -من بين كل الديانات السورية- الأقرب إلى الوثنية وأنهم يعبدون الشمس والقمر والنجوم والأماكن العالية وأن مراسيم إنتخاب علمائهم (صفحة 261) "ملعونة ومهينة وقبيحة" وتستمد معلوماتها من أحد المارقين منهم الذي اعتنق المسيحية وفر إلى مصر ليكتب فيها كتاباً بالعربية "يفضح" فيه عقائدهم وممارساتهم. تضيف الكاتبة في نفحة من الكرم أنهم مضطهدون ويستشف من أسطرها أملها بأن ينتهي بهم الأمر إلى إعتناق الدين الحق (أي البروتستانتية). 

كما نرى تتغلغل اللغة العنصرية الفوقية في كثير من فصول الكتاب ولكن يجب ألا ننسى أن القرن التاسع عشر كان شأنه شأن القرون التي سبقته قرناً عنصرياً وأن العنصرية لا تزال حية إلى يومنا هذا وإن نمقتها الألفاظ وأنكرتها الألسن. أضيف فأقول أن المؤلفة "حسنة النية" فمع أنها أعربت عن أملها بنشر الإنجيل بين المسلمين (والمسيحيين الغير بروتستانتيين واليهود إلخ) فهي تدعو خلافاً لجهاد المسلمين إلى "حملة صليبية" سلمية (صفحة  292) لتحقيق هذا الهدف. 

https://archive.org/stream/damascusanditsp00mackgoog#page/n7/mode/2up





Saturday, May 13, 2017

من دمشق إلى تدمر

كتاب باللغة الإنجليزية مؤلفه المحترم Reverend John Kelman عدد صفحاته حوالي 370 تزينه 86 صورة خارج النص معظمها لوحات ملونة للكاتبة والفنانة Margaret Thomas 1842-1929 مع بعض الصور الفوتوغرافية التاريخية أما عن تاريخ النشر فهو العام 1908 للميلاد.


هدف الكتاب مدينة تدمر مع وصف مشوق للطريق إليها بمحطاته المختلفة بداية ببيروت نقطة التملس الحديثة بين الشرق والغرب ومروراً بالبقاع وبعلبك (التي تقاطع فيها الشرق مع الغرب زمن الإغريق والرومان) ودمشق العريقة المحافظة ونهاية بعروس الصحراء. 


لا داعي هنا للتعرض إلى وصف أسواق دمشق وجوامعها وتجارتها وموسم حجها إلى آخره فهناك من المراجع ما هو أكثر تفصيلاً وأغنى مادة وأكثر دقة وحسبنا الإشارة إلى بعض التفاصيل المثيرة للفضول هنا وهناك: يبدو أن ازدحام شوارع دمشق الضيقة والمتعرجة في مطلع القرن العشرين كان شديداً للغاية ولا يقل عن ازدحام أتوستراداتها في مطلع القرن الحادي والعشرين مع فرق أن سيارات اليوم حلت محل مشاة ودواب وعربات الأمس. يضيف الكاتب أن المدينة وقتها كان فيها سوق للعبيد يمكن لقاصده أن يجده رغم أن الرق كان وقتها ممنوعاً من الناحية النظرية ويخبرنا أن ثمن الطفل بلغ خمسة نعاج وعنزة. 

مما لا شك فيه أن المحترم Kelman كان إنساناً مثقفاً ومتقبلاً للغير فهو يجزم أن المسلمين يعبدون الله عن قناعة ويعطينا بعض التفاصيل عن تاريخ الإسلام منها أن الجامع الأموي سمي كذلك نسبة لإبن أموي الذي ولد لجارية صغيرة وبالطبع لا يفوته أن يذكر قرائه بالماضي المسيحي لدمشق ومعبدها ويضيف أن للحضارة العربية على بساطتها مزاياها رغم كونها من عدة أوجه دون نظيرتها الأوروبية ولكنه يركز ككثير من المستشرقين على استسلام الشرقيين للقضاء والقدر وكسلهم الفكري وتعودهم منذ أقدم الأزمنة على حكم الطغاة فكل شرقي -حسب رأيه- إما طاغية أو عبد فقط لا غير أما عن "لعنة الإدارة التركية" وفظاظتها فهي بالنسبة له مضرب المثل.

فتاة درزية

الفصول المتعلقة بتدمر تشكل نهاية مطاف الكتاب وعل صفحاتها الأكثر تشويقاً بداية بتدمر مطلع القرن العشرين ونهاية بماضيها الغابر وهنا يجب التنويه بأن الكاتب رجل علم رغم خلفيته الدينية فهو مثلاً يرفض التسليم أن باني المدينة هو سليمان إبن داود رغم شهادة كتاب العهد القديم (سفر أخبار الأيام الثاني البيت الرابع من الإصحاح الثامن) ويعتمد على كتابات المؤرخين وأشهرهم في هذا الصدد Edward Gibbon 1737-1794 مؤلف كتاب "تاريخ انحطاط وسقوط الإمبراطورية الرومانية. 

القصة معروفة وقد أهرق عليها من الحبر ما هو أكثر من الكفاية ولكن لربما أمكن إختصارها بسطور قليلة:

ألحق الساسانيون بالرومان هزيمة نكراء عام 260 للميلاد وأسروا إمبراطورهم Valerian وهنا كان لتدمر وملكها أذينة أو Odaenathus الباع الأطول في الدفاع عن المقاطعات الرومانية في الشرق الأدنى وإنقاذها من الفرس. يزعم بعضهم أن أذينة أصبح أمبراطوراً شريكاً بعدها وحصل على لقب أغسطس ولكن هذا مشكوك فيه. بغض النظر عن المسميات كانت النتيجة سيادة تدمر وعاهلها في شرق الإمبراطورية ولم يكن بوسع الإمبراطورالروماني  Gallienus أن يعترض حتى لو أراد.

الصورة العليا تمثال من قبر في تدمر والدنيا مدفن تحت أرض المدينة

إغتيل أذينة عام 267 وكما يعلم القاصي والداني خلفه على عرش تدمر قرينته زنوبيا وإبنهما وهب اللات أو من يسميه الغربيون Vaballathus وخلال فترة قصيرة توسعت المدينة من مملكة صحراوية إلى إمبراطورية إمتدت إلى مصر وقامت بتحدي سلطة روما علناً عندما صكت نقودها الخاصة التي تحمل صور زنوبيا وإبنها دون صورة الإمبراطور الروماني Aurelian مما حدا هذا الأخير إلى إعداد حملة بهدف استرداد البلاد المفقودة وعقاب من شقوا عصا الطاعة. انتهت الحرب طبعاً بهزيمة تدمر وأسر ملكتها (علق المؤلف هنا أن الرومان ما كان لهم أن يأخذوا تدمر بهذه السهولة لو اهتم التدمريون بتحصين مدينتهم عوضاً عن تجميلها)  ولكن سيد روما والحق يقال وفر المدينة ولم يدمرها على الأقل في البداية إذ اكتفى بترك حامية فيها قبل أن يغادر سوريا مع جيوشه باتجاه العاصمة. 

تقرر مصير المدينة مع الأسف عندما تمرد أهلها وقاموا بذبح جنود الحامبة الرومانية مما دفع  Aurelian (والذي بالكاد عبرت جيوشه الدردنيل إلى أوروبا) أن يعود على وجه السرعة لقمع التمرد وتدمير المدينة (عام 273) بحيث لا يقوم لها من بعدها قائمة وهكذا -إذا قبلنا رأي Gibbon- ضحى التدمريون بثمرة أجيال من الرخاء من أجل لحظة من المجد.

الكتاب موجود بالمجان على الرابط أدناه لمن يهمه قراءة النص الكامل. 

https://archive.org/details/fromdamascustop00kelmgoog

Wednesday, May 10, 2017

تطورمدينة دمشق في أواخر العهد العثماني

 يعود الفضل في هذه الدراسة الكلاسيكية لمدينة دمشق بين الأعوام 1808-1918 إلى المعهد الدانماركي والدكتور Stefan Weber وهو أخصائي في الدراسات الشرق أوسطية من  Freie Universität Berlin  في ألمانيا ومدير متحف للفنون الإسلامية في برلين علاوة على العديد من المناصب الأكاديمية في مؤسسات أخرى. يتوزع هذا الكتاب الضخم الصادر عام 2009 على مجلدين يتجاوز عدد صفحاتهما الألف تزينها المئات من الصور التاريخية النادرة معظمها بالأبيض والأسود مع العديد من الصورالحديثة الملونة للمقارنة.  يبلغ وزن الكتابين حوالي خمسة كيلوغرامات. 


يتناول الجزء الأول محاولات الدولة العثمانية للحاق بركب التطور الذي نجم عن الثورة الصناعية وتداعياتها في الغرب عن طريق تطوير مؤسسات الدولة وتعزيز السلطة المركزية بداية مع التنظيمات ومروراً بعهد السلطان عبد الحميد ونهاية بجماعة الإتحاد والترقي وتركيا الفتاة والحرب العظمى. أعطت مأساة 1860 بالطبع الفرصة للمزيد من التدخل الأوروبي ولكنها أدت في نفس الوقت إلى إحكام قبضة القسطنطينية على ما تبقى من ممتلكاتها في الشرق الأدنى وصعود وجوه جديدة نسبياً من نخبة السوريين - هنا الكلام عن الدمشقيين-  ليساهموا في هذه التطورات التي عكست في منشئات المدينة وبنيتها التحتية وبيوتها الخاصة المجتمع السوري الدمشقي بمختلف مكوناته. 

ينتقل المؤلف بعد هذه المقدمة إلى تقديم عدد من أهم شخصيات هذه الفترة وخلفيتهم كآل اليوسف والبارودي والقوتلي ومردم والعابد ومن ثم إلى تعريف بدور قناصل الغرب (منهم من كان محلياً وعلى سبيل المثال ميخائيل مشاقة) قبل التعرض للمؤسسات الجديدة والأشغال العامة كالمشافي والطرقات والإنارة والمواصلات وجر المياه. نجم عن زيادة عدد سكان المدينة الحاجة إلى بناء أحياء جديدة كالمهاجرين والتوسع حول محاور قديمة كطريق الصالحية وأما عن مركز المدينة قفد انتقل إلى الغرب حول ساحة المرجة التي طوقتها الأبنية الحديثة كدار البلدية والسرايا والبريد ودار العدل. 

الفصل التالي يبحث أسواق المدينة من مدحت باشا إلى الحميدية مروراً بأسواق علي باشا (ساحة المرجة) والخجا دون إغفال الخانات التاريخية. يعرج الكاتب بعدها على الأبنية التجارية (العابد) والبنوك والفنادق والوكالات مما لا يتسع المجال لتفصيله في هذه السطور.

يخصص الدكتور Weberحوالي نصف الجزء الأول لبيوت دمشق وتطورها من النموذج التقليدي المتمركز حول الديار والبحرة والإيوان إلى "القونق" (يملك "صوفا" وسقف قرميدي وواجهة على الشارع تتمتع بنوافذ كبيرة)  وبالنهاية العمارات والشقق السكنية. هناك معالجة مفصلة للتأثيرات الأوروبية والتي وصلت دمشق عبر القسطنطينية كالباروك والروكوكو. بالطبع خصص الكاتب حيزاً لا بأس به لتطور أثاث البيوت والأزياء والألقاب والإيتيكيت وغيرها.



الجزء الثاني والأكبر من الكتاب عبارة عن "كاتالوج" مبوب لبنوك المدينة وحماماتها وجسورها ومقاهيها ومسارحها ومعابدها وقنصلياتها ومبانبها التجارية ومؤسساتها التعليمية وسبلها ومشافيها وفنادقها وشوارعها وسسككها الحديدية وأخيراً وليس آخراً بيوتها والتي تشغل أكثر من نصف هذا المجلد. 

حاول المؤلف قدر الإمكان أن يغطي معالم هذه الحقبة ولم يغفل ذكر حتى ما اندثر منها طالما كان مذكوراً في المصادر التاريخية أما عن المنهج الذي اعتمده في الوصف فيتلخص بذكر موقع البناء على الخريطة وبانيه ومجدده والعهد الذي بني أو جدد فيه ووصف مختصر للبناء (مع صورة إذا توافرت) كما كان مع إعطائه درجة حسب أهميته (مهم أو شديد الأهمية إلخ). يختم الكاتب سرده دوماً بتحديد الوضع الراهن للبناء: موحود في حالة جيدة أو موجود بحالة متداعية أو هدم. 



يخلص المؤلف إلى نتيجة أنه رغم التأثير الغربي المتعاظم ورغم كل الضغوط الخارجية ورغم التغيرات الكبيرة التي طرأت على المدينة فقد بقيت دمشق مدينة فريدة تطورت وتحدثت  بأسلوبها الخاص دون أن تتحول إلى مدينة أوروبية.  

Saturday, May 6, 2017

ملامح دمشق الرومانية

يعتقد معظم المؤرخين أن دمشق تمتعت في العهد الروماني بشوارع مستقيمة تتقاطع طولاً وعرضاً مشكلة زوايا قائمة وهي في هذا الصدد تتبع نموذجاً يتكرر في العديد من المدن في العهد الكلاسيكي أي الهلنستي الروماني كما في أنطاكية وأفاميا وجرش وغيرها أما عن شكل المدينة فقد كان أقرب إلى المستطيل منه إلى شكلها الحالي البيضوي. مع مرور الزمن وبداية بالعهد البيزنطي ضاقت شوارع المدينة وتعرجت واتخذ نسيجها العمراني بالتدريج هيئته التي حافظ عليها حتى القرن العشرين. 

شكك مساهمان في عدد مجلة الدراسات الشرقية (Jean-Marie Dentzer و Olivier Aurenche) الصادر عام 2000 في هذه الفرضيات وطرحا عوضاً عن ذلك فكرة جديدة ألا وهي أن الفترة الإغريقية-الروماتية كانت على طولها (مئات السنين) مرحلة عابرة وشاذة في تطور المدن السورية عبر آلاف السنين وأن "المدينة العربية" استرجعت بكل بساطة شكل "المدينة الشرقية" قبل العهد السلوقي. 



في جميع الأحوال يوجد من المعالم والأنقاض ما فيه أكثر من الكفاية لإعطاء صورة أمينة عن دمشق الرومانية مما سمح للعالمين الألمانيين Watzinger و Wulzinger برسم خريطة للمدينة قبل مائة عام لا تزال مع بعض التعديلات اللاحقة معتمدة وموثوقة إلى يومنا هذا. 

* اتسعت دمشق الرومانية لتشغل أو تكاد كامل المساحة داخل السور كما نعرفها اليوم. بلغت أبعاد أضلاع المستطيل الذي شكل سور المدينة 1340 متر طولاً و 750 متر عرضاً وكان لهذا السور سبعة أبواب.

* المحور الأطول للمدينة من الشرق إلى الغرب هو الشارع المستقيم Via Recta ويبلغ طوله 1500 متر تقريباً ويسمى المحور الشرقي-الغربي لأي مدينة في العهد الروماني decumanus أما الشوارع التي تتعامد عليه من الشمال إلى الجنوب فتسمى cardo وكمثال عليها الشارع الذي يفصل ما كان وقتها حي الأنباط شرق المدينة عن بقيتها وهو يوافق إلى حد كبير شارع باب توما حالياً. 


* امتد الشارع المستقيم من الباب الشرقي شرقاً إلى باب الجابية غرباً وبلغ عرضه قرابة 26 متراً منها 13 متر لمنتصف الشارع والباقي مقسوم بين رواقين مسقوفين أحدهما شمالي والثاني جنوبي. ملكت دمشق محوراً آخر من الشرق إلى الغرب أقصر وأقدم  من الشارع المستقيم ألا وهو محور القيمرية أو الطريق المقدسة Via Sacra الذي كان يصل البوابة الشرقية لمعبد جوبيتر مع ساحة المدينة أو ما عرف تحت إسم forum في عهد الرومان و agora في العهد الهلنستي. 


* تم جر المياه للمدينة عن طريق نهر أو قناة القنوات. 

* كان الحصن أو المعسكر الروماني castrum يقع شمال غرب المدينة ويحتل قسماً من المكان الذي تشغله حالياً قلعة دمشق الأيوبية.

* يقع المسرح الروماني جنوب الشارع المستقيم بين خان سليمان باشا وجامع هشام ويشغل قسماً من مكانه حالياً بيتا العقاد (المعهد الدانماركي) وحورانية. بلغ قطره 93 متراً وكان يتسع ل 7000 إلى 9000 شخص. 

* يبقى الصرح الأكبر والأهم في المدينة هو معبدها (لا يزال الجامع الأموي أهم معالم المدينة ولكنه أصغر مساحة من قلعتها الإسلامية). للمقارنة كانت مساحة معبد جوبيتر الدمشقي 117000 متر مربع لقاء 16000 متر مربع لجامع بني أمية الكبير وكانت أبعاده الخارجية (محيط ال peribolos الروماني) 380 متر في 310 متر لقاء 155 متر في 100 متر للجامع الأموي والذي يعادل تقريباً مساحة المعبد الروماني الداخلي أو ما سمي temenos وقتها. 

Wednesday, May 3, 2017

دمشق ومجلة الدراسات الشرقية

صدر العدد الأول لمجلة الدراسات الشرقية عن معهد دمشق الفرنسي عام 1931 واحتوى 7 مقالات تتعرض لمواضيع متباينة جميعها باللغة الفرنسية وأحدها دراسة عن إثنين من أحياء دمشق: حي الأكراد والحي المسيحي في باب مصلى للمستشرق والمؤرخ Thoumin. لا تزال هذه المجلة تنشر تقريباً بمعدل عدد كل سنة وقد كتب فيها الكثيرون من العلماء الأجانب والمحليين سابقاً ولاحقاً وعلى سبيل المثال Sauvaget و Ecochard وElisseeff و Bianquis والدكتور عبد الكريم رافق والدكتور عبد القادر ريحاوي وألبرت حوراني وكثير غيرهم. في البداية كلنت المقالات جميعها باللغة الفرنسية ومع مرور السنوات أضيفت أعمال بالإنجليزية والعربية وغيرها وأما عن المواضيع قيد البحث فهي واسعة النطاق من علوم الآثار إلى الفن والموسيقى والأدب والشعر والتراث الإسلامي والعربي. باختصار كان هذا المنشور ولا يزال منجماً من الذهب للمهتمين بالدراسات الشرقية من هواة ومحترفين. 

العدد الأول لمجلة الدراسات الشرقية

خصص العدد 61 الصادر عام 2012 بالكامل لمدينة دمشق في القرون الوسطى والعهد العثماني. جميع مقالاته باللغتين الفرنسية والإنجليزية وعدد صفحاته أقل بقليل من 600 ويوجد في نهايته ملخص abstract لكل مقال بالعربية والفرنسية والإنجليزية أما عن المقالات فهي تتناول مواضيع متعددة ومتباينة للغاية فمنها ما يتناول حفريات ومعالم سور المدينة وقلعتها وفسيفساء جامعها الكبير ومنها ما يبحث نسيجها العمراني في العهدين المملوكي والعثماني ومنها ما يتكلم عن حدائقها ومقاصفها ومنتزهاتها ومقاهيها والبعض يتعرض لفقه توزيع مياهها وهلمجرا. تتفاوت لغة المقالات بين التقتية الصعبة وبين السلسة السهلة المتناول وعلى اعتبار أن اللغة الأم لبعض المساهمين ليست فرنسية أو إنجليزية فلنا أن نتوقع تفاوت جودة الترجمة كما في أحد الأبحاث عن التحولات في مطلع العهد العثماني لكاتبة إيطالية.



هنك الكثير الكثير من الصفحات التي تمزج المعرفة مع المتعة ولست في معرض تفضيل أي مقال عن غيره ولكن بالنسبة لي شدني بالذات درلسة Torsten Wollina صفحة 271-295 عن يوميات كاتب المحكمة الدمشقي شهاب الدين أحمد إبن طوق 1443-1510 والتي تعود إلى أواخر القرن الخامس عشر وعهد المماليك. 

هذه اليوميات هي الوحيدة التي نملكها من عهد المماليك وهي أكثر اليوميات التي نملكها طولاً (1916 صفحة) ومن خلالها نعلم أن صاحبها كان يحيا في جوار جامع الأقصاب شمال وخارج سور دمشق وأنه كان ينتمي للطبقة الوسطى (ملك بيتاً وبستاناً ولكنه لم يكن من الثراء بما يكفي لأكل اللحم يومياً) ويعمل بالقرب من الجامع الأموي وأنه كان متزوجاً وحلف بالطلاق مرة وطلق فعلاً وكان يملك جواري. أحد أطرف ما قرأته في هذا المقال عندما نام إبن طوق في سرير أحدهم قبل العرس حسب عادات ذاك الزمان التي تقتضي أن يبيت شخص ذو ورع في فراش الزوجية لمدة ثلاث ليال قبل ليلة الزفاف. امتزج العام مع الخاص في يوميات إبن طوق الذي كان يدون الأمور كما يراها ولا يحاول تفسيرها وليس من الواضح أذا كان الكاتب ينوي الحفاظ على خصوصية يومياته أو السماح للآخرين بالإطلاع عليها ومشاركتهم فيها في زمن لا يعرف الطباعة. 

وصف إبن طوق مدينة دمشق كما رآها وكانت نقاط العلام بالنسبة إليه الجوامع وبعض البيوت المميزة والأبواب وارتبطت طبوغرافيا المدينة بالنسبة إليه بمعالمها المقدسة أي الجوامع والمدارس والمدافن دون التعرض لطريق الوصول إليها أما عن الأسواق فكان اهتمامه بأسعار السلع دون غيرها من التفاصيل وفيما يتعلق بالأشخاص كان تركيزه على علماء الدين وخصوصاً شيخ الإسلام. 

النص الكامل لمقال Wollina عن إبن طوق متوافر بالمجان وقد أرفقت الرابط إليه إضافة إلى الرابط إلى كافة أعداد مجلة الدراسات الشرقية. يمكن بقليل من البحث تحميل أو قراءة الكثير من هذه المقالات التي غدا بعضها مراجع كلاسيكية يستشهد فيها الطلاب والأساتذة والباحثين على مر العقود.




https://beo.revues.org/955

http://www.maisonneuve-adrien.com/collections/coll_bulletin_damas.htm

Tuesday, May 2, 2017

سياسات دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر

رأى هذا العمل باللغة الإنجليزية النور عام 1985 في منشور ألماني للدراسات الإسلامية. عدد صفحات الكتاب حوالي 250 يضاف إايها بضعة خرائط وقليل من الصور وأشجار عائلة أسر دمشقية معينة. يحتوي الكتاب على كم ضخم من المعلومات خاصة عن أبرز الأسر الدمشقية وقد ألحقت السيرة المهنية لمؤلفته الدكتورة Linda Schatkowski Schilcher وهي كما يبدو طليقة باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية علاوة على مؤهلاتها المهنية والأكاديمية. 



ترجم الكتاب السيد والسيدة عمرو ودينا الملاح إلى العربية عام 1998 ومن حسن الحظ أن الحصول على هذه الترجمة أسهل بكثير من النص الأصلي وقد أرفقت رابطها أدناه مع التحفظ أنه كقاعدة عامة يبقى الأصل أفضل من الترجمة (مع كامل احترامي لعمالقة المعربين ومنهم منير البعلبكي وسامي الدروبي وخيري حماد وكثير غيرهم) ولكن في حالة كتاب الدكتورة Schilcher  بالذات بذل المعرب والمعربة مشكورين جهداً كبيراً في التنقيح والتحقيق وليس فقط نقل العمل من لغة إلى لغة. 


تبدأ المؤلفة بالنعريف بمدينة دمشق من الناحية الجغرافية والبشرية والتاريخية والإقتصادية والتركيز طبعاً على دمشق العثمانية والتي قسمتها من الناحية الطبوغرافية إلى عدة "مناطق" متمايزة أهمها:

1. المستطيل المركزي الذي يقع شمال غرب المدينة القديمة داخل السور وهو مركز العائلات السنية والحياة التجارية والمدارس الدينية ويشمل بالطبع الجامع الأموي وقصر العظم. 
2. المنطقة العثمانية وتقع خارج سور وشمال غرب المدينة وفيها السرايا أو دار الوزارة والمشيرية وهي موضع تمركز الإنكشارية السلطانية.
3. المنطقة المحلية وتقع جنوب المدينة في حي الميدان وملحقاته وهي ممر ومخزن الحبوب الآتية من حوران إلى المدينة أو عبرها وتتمركز فيها الإنكشارية المحلية أو اليرلية والصوفيين. 

تركز المؤلفة على تضارب المصالح الإقتصادية بين المستطيل المركزي الذي يقع تحت هيمنة آل العظم وحلفائهم وبين المنطقة المحلية في الجنوب فمصلحة زعماء المستطيل تقتضي تأمين الحبوب الضرورية لتغذية المدينة وتعزيز تجارتها بثمن رخيص بينما يصدرون منتجات صناعة النسيج إلى الأسواق الخارجية أما مصلحة الجنوب فتكمن طبعاً في الحصول على أغلى ثمن ممكن لحنطتهم. ترجمت هذه الخلافات الإقتصادية بين الحين والآخر إلى مواجهات دامية أو على الأقل ساهمت فيها وعلى سبيل المثال تلك بين الوالي أسعد باشا العظم وفتحي أفندي الدفتردار والتي انتهت بقتل هذا الأخير و"إنتصار" المستطيل المركزي في أربعينات القرن الثامن عشر. مثال آخر في الإتجاه المعاكس تمرد عام 1831 عنما قتل الوالي سليم باشا على يد المحليين. 

المستطيل المركزي ونرى إلى الشمال والغرب المنطقة العثمانية وإلى الجنوب والغرب المنطقة المحلية
تعتبر المؤلفة صعود آل العظم نقطة علام في تاريخ سوريا الحديث وأنه ساهم ولو بشكل محدود في تكوين الهوية السورية وتعزو ذلك إلى ضعف القوة المركزية في قسطنطينية القرن الثامن عشر ولكن مع نهاية هذا القرن أفل نجم هذه العائلة ولو مؤقتاً ودخلت عوامل جديدة منها بروز نجم أحمد باشا الجزار والتغلغل الأوروبي ومع حلول القرن التاسع عشر أضيف إلى كل ذلك الغزو المصري بقيادة إبراهيم باشا في الثلاثينات.

شهدت الفترة التي تلت جلاء القوات المصرية عهد التنظيمات ومحاولة الدولة العثمانية لتعزيز السلطة المركزية وتزامنت مع أزمة إقتصادية ناجمة إلى حد كبير عن منافسة المصنوعات الأوروبية وهيمنة الصيرفة والتجارة ووسائل النقل الغربية. خصصت الكاتبة 20 صفحة لمجزرة عام 1860 وحاوات تحليل خلفيتها الإقتصادية ودون الدخول بالتفاصيل كان لهذه المأساة نتائج في منتهى الأهمية على المدى البعيد منها هجرة الكثير من مسيحيي دمشق إلى لبنان الذي اكتسب وضعاً خاصة تحت نظام المتصرقية وتغير من الناحية الديموغرافية والتجارية والقانونية.

على الصعيد الإقتصادي تزايدت أهمية "المحليين" في الجنوب وحي الميدان كنتيجة لهيمنة تجارة الحبوب على صادرات دمشق على حساب الصناعات النسيجية التي عجزت عن منافسة المنتوجات الغربية وتزامن هذا مع تعزيز قوة السلطة المركزية العثمانية بعد 1860 وتعين على أعيان دمشق بغض النظر عن خلفيتهم أن يلتمسوا الوظائف المغرية في البيروقراطية العثمانية وحماية أجهزة الدولة ومؤسساتها بهدف الحفاظ على مصالحهم وامتيازاتهم والتأقلم مع الوضع الجديد والأزمنة المتغيرة.

النصف الأخير من الكتاب مخصص للطبقات والعائلات الدمشقية فبالنسبة للطبقات تقسمها المؤلفة إلى سبعة: 1. الميليشيات وآغواتهم 2. العلماء ورجال الدين 3. الأشراف (الذين ينسبون إلى النبي محمد) 4. الصوفيين 5. الحرفيين وهم الأكثر عدداً والأهم من الناحية الإقتصادية على الأقل تاريخياً 6. التجار 7. المهاجرين للمدينة من القرى والبادية. الفصل الأخير والأطول من الكتاب مخصص لتفصيل أصول وأفراد وسيرة عائلات الطبفات الثلاث الأولى على اعتبار أنه يوجد معلومات كافية عن هذه الطبقات وليس الحال كذلك في الطبقات الأربعة المتبقية.

يرأس طبقة الآغوات بالطبع آل العظم وينتمي إليها أيضاً آل البارودي وشمدين واليوسف والعابد وكأمثلة من طبقة العلماء هناك عائلات البكري والمرادي والغزي والسيوطي والشطي والأسطواني وتحرص الكاتبة على فرزهم حسب المذاهب الفقهية التي يمثلونها: الحنفي (وهو مذهب العثمانيين) والشافعي (مذهب أغلب الدمشقيين قبل العهد العثماني) والحنبلي (معقله الصالحية من الناحية التاريخية) والمالكي. أما عن الأشراف فعلى سبيل المثال وليس الحصر هناك آل الكيلاني والعجلاني والكزبري. أضافت الكاتبة في النهاية من أسمتهم بالقادمين الجدد وهم آل مردم وآل الجزائري (الأمير عبد القادر). 

يبقى هذا العمل الضخم مجهوداً فردياً وبالتالي فيحتوي عل عدد من الأخطاء في التواريخ والطبوغرافية مما كان من السهل تلافيه بمراجعة وتدقيق الكتاب وعلى سبيل المثال صفحة 143 تورد تاريخ وفاة خالد العظم عام 1970 والصحيح عام 1965. قمت بمراجعة الصفحات الموافقة من الترجمة العربية 177-178 كي أتحقق إذا صحح المترجمان هذه الهفوة ومع الأسف اكتشفت أنهما عوضاً عن ذلك قاما بحذف الفقرة المتعلقة بخالد بك بالكامل وعلى ما يبدو كان للرقابة دور في هذا الصدد. 

إضافة إلى ذلك يجب التوكيد على أن هذا العمل على اتساعه ليس شاملاً إذ كافة العائلات المذكورة عملياً مسلمة سنية وإذا ذكر أشخاص مسيحيون أو يهود فهذا بشكل عابر وثانوي ولشخصيات لا يمكن تجاهلها مثل حاييم فارحي وحنا بحري. حتى العائلات السنية البارزة ليست جميعها بالضرورة مفصلة ومبوبة  وعلى سبيل المثال آل القوتلي. 

مع هذه التحفظات يبقى هذا المرجع القليل الشهرة والإنتشار أساسياً إن لم يكن فريداً. للمؤلفة بالدرجة الأولى وللمترجمين بعدها الفضل والشكر والتقدير. 

http://home.earthlink.net/~schilchersupport/id1.html

https://drive.google.com/file/d/0B1ifv83-qBTyajI0RUVrNi12VUE/view