Friday, May 19, 2017

تاريخ سوريّا من البدايات حتى ١٩١٤



الكتاب من مطبوعات بيروت عام ١٩٢٧، وهو أوّل مؤلّفات الجغرافي والمؤرّخ الفرنسي Richard Lodoïs Thoumin عن سوريّا.

لهذا العمل أهميّةٌ خاصّة، بغضّ النظر عن أخطاء وشطحات الكاتب، الذي حاول تغطية آلاف السنوات من التاريخ في قرابة ٣٤٠ صفحة، في وقت كانت فيه سوريّا (لربمّا لا زالت ولكن هذا حديثٌ آخر) تبحث عن هويّتها، وأرادت فرنسا إعطاءَ هذه الهويّة شكلاً معينّاً واتّجاهاً محدّداً. سوريّا كمفهوم جغرافي أقدم بكثير من القرن العشرين، بيد أنّها - عكس مصر - لم تشكّل كياناً جغرافيّاً - سياسيّاً واضح المعالم قبل القرن العشرين. يترتّب على ذلك أنّ ما كُتب عنها قبل هذا القرن أتى في سياقِ أعمالٍ تناولت تاريخ إمبراطوريات أو ديانات معينّة. الخلاصة يبقى الكتاب على علّاتِهِ عملاً رائداً وجهداً مشكوراً.


تعهّدَ الكاتبُ في المقدمة أن يختصر التفاصيلَ السياسيّة والعسكريّة إلى أقصى حد ممكن. أستطيعُ، بعد قراءة الكتاب، القول دون تردّد، أنّه أخفقَ في تحقيقِ ِهدفه، وأنّ الطابع السياسي يغلبُ على الكتاب من البداية إلى النهاية، رغم محاولةٍ لتغطية الجوانب الدينيّة والفكريّة والفنيّة. خصّصَ Thoumin أكثر من نصف العمل (١٩٠ صفحة) للفترة قبل الإسلام، وما تبقّى (١٥٠ صفحة) للعهود اللاحقة حتّى اندلاع الحرب العظمى عام ١٩١٤. رَسَمَت الصفحات الأولى الخطوط العريضة لجغرافية سوريّا، ولفت نظري أنه أطلق على سهل الغاب اسم "الغرب". لم يكن هذا خطأً مطبعيّاً (والأخطاء المطبعية في الكتاب كثيرة)، بدلالة تواتر هذه التسمية في عدّة مواضع. اكتسب المؤلف مزيداً من الخبرة والمعرفة لاحقاً تُرْجِمَت في دراسَتِهِ الممتازة Géographie humaine de la Syrie centrale عن "الجغرافيا البشريّة في سوريّا المركزيّة" عام ١٩٣٦.


الفصول التي تناولت العهود قبل الإسلام غنيّةٌ بالمعلومات المثيرة، رغم إشارات الاستفهام حول مصادرها، ومنها كتاب العهد القديم. الساميّون - حسب الكاتب - أوّل من مارس دفن الأموات، عوضاً عن إحراق جثثهم. العبرانيّون دخلوا مصر مع الهكسوس (صفحة ٥٣)، الذين أدّت هزيمتُهُم لاستعباد بني إسرائيل في مصر. لا داعي للدخول في تفاصيل "الخروج" فهي غنيّةٌ عن التعريف. استقلّ السوريّون (الفينيقيّون والعبرانيّون وآرام دمشق) لمدّة ٣٠٠ سنة، أي الفترة المنصَرِمة بين انحطاط مصر وصعود آشور، او بعبارة ثانية نهايات الألف الثاني وبدايات الألف الأوّل قبل الميلاد. اعتمد المؤلِّفُ هنا - ككثيرين غيره - إلى درجةٍ كبيرة على روايات الكتاب المقدّس، على اعتبار أنّ المصادر البديلة شبه معدومة؛ أضاف (صفحة ٩٢)، على سبيل المثال، أنّ اليونانييّن (المقصود العالم اليوناني وليس اليونان الحاليّة) كان يجهلون حتّى وجود القدس ناهيك عن مملكة داود وسليمان. لربّما استند في هذه المقولة على غياب ذكر القدس - أورشليم في تاريخ هيرودوت.


تمركزت الحياة الدينيّة في سوريّا والشرق الأدنى قديماً حول عبادات الخصوبة من أدونيس إلى أوزوريس إلى مثرا، كما هو الحال في الحضارات التي شَهِدَت "الثورة الزراعيّة"، وتقمَّصَ بعضُ أربابِها موت الطبيعة في الشتاء وبعثِها في الربيع. لسببٍ أو لآخر لم يربط Thoumin يسوع والفصح بالعبادات القديمة قدم التاريخ. يردّد المؤلّف (صفحة ١٦٠) آراء معظم المؤرّخين عن بدايات المسيحيّة: أسّس القّديس بطرس كنيسةً في القدس أقرب ما تكون إلى دين موسى (المسيحيّة - اليهوديّة)، بينما وطّد بولس الطرسوسي في أنطاكيا كنيسةً عالمية الاتّجاه، أقرب متناولاً لليونان والرومان، ممّا أدّى بالنتيجة إلى انتصارها وأفول نجم الأولى. الفصل بين تاريخ المسيحيّة وتاريخ الإمبراطوريّة الرومانيّة بطبيعة الحال غير وارد، على الأقلّ اعتباراً من اعتناق قسطنطين العظيم الدين الصاعد. حُسِمَ الأمر مع فشل محاولة يوليان المرتدّ (أو الجاحد) في إعادة "الوثنيّة"، والتدابير التي اتخذها ثيودوسيوس العظيم لاستئصال شأفة الديانات القديمة.


الفصول المتعلقة بالتاريخ الإسلامي بالذات بحاجةٍ ماسّة إلى التنقيح، رغم اطّلاع المؤلِّف على بعض المصادر العربية، محمّد كرد علي على سبيل المثال (صفحة ١٩٥). لا أتكّلم هنا عن هفواتٍ مطبعيّة (وهي كما أسلفت كثيرة)، أو زلّات سهو، وإنّما بالأحرى أخطاء فاضحة من نوع الخلط بين الفيلسوف ابن خلدون وكافي الكفاة ابن حمدون (صفحة ١٩٤)، و"الأتابك قلاوون" (صفحة ٢٥٢)، وأنّ عمر باني قبّة الصخرة (صفحة ٢٢٢: سمّى كثيرٌ من الغربييّن قبّة الصخرة "مسجد عمر" حتّى القرن التاسع عشر على الأقلّ) . المثير للدهشة أنّ الكاتب إعتمد إلى حد كبير على المستشرق Henri Lammens (١٨٦٢-١٩٣٧)، علّامة من الطراز الأوّل في التاريخ العربي والإسلامي بغضّ النظر عن أيّ اعتبارات ثانية، وضليع باللغة العربيّة (كل من هو أليف بأعمال لامنس يعرف أنّه دأب على ذكر أسماء الأشخاص المحلييّن بالأحرف العربية ومقابلها بالأبجدية اللاتينيّة منعاً لأيّ التباس). احتلّت الحروب الصليبيّة بالذات مكاناً بارزاً في الكتاب، وأضرب صفحاً عن التعرّض لموضوع عولِجَ مراراً وتكراراً في تيهورٍ من المؤلّفات بمختلف اللغات.


نَظَرَ الكاتب - كالعديد من أقرانه في الشرق والغرب - إلى العهدين المملوكي والعثماني بازدراء، وحمّلَ هذا الأخير بالذات مسؤوليّة تدهور سوريّا على جميع الأصعدة ومنذ البداية (للأمانة ردّدت الكتب المدرسيّة السوريّة نفس الكلام كالببّغاءات لسنواتٍ طويلة مع تعديلاتٍ طفيفة)، بيد أنّه أنحى أيضاً باللائمة على السورييّن، الذين تقاعسوا عن مساعدة ناپوليون على تحريرِهِم من النير التركي (صفحة ٢٩٤)، وجحدوا شهامة الفرنسييّن في حقنهم دماء المدنييّن (صفحة ٢٩٦) . بالطبع حمّل Thoumin قسماً من المسؤولية للإنجليز، أعداء فرنسا ومنافسيها التقليدييّن، من حملة بوناپارت إلى مذبحة ١٨٦٠، واتّهمهم على سبيل المثال بالمساهمة في إشعال الفتنة الطائفيّة، وحماية القَتَلة من الدروز من قِبَل القنصل البريطاني (صفحة٣١٠). تسائل الكاتب (صفحة ٣١٧) عن الأسباب التي دفعت دهماء دمشق إلى توفير القنصليّات البريطانيّة والپروسية دون سواها خلال الأحداث الدامية.


بشّرت الأسطر الأخيرة السورييّن بمستقبلٍ واعد، تحت رعاية الانتداب الفرنسي وحماية الأمّ الرؤوم فرنسا، المعروفة بحبِّها للعدل، واحترامها للأفراد، وتجرُّدِها، وإخلاصِها لكل ما هو نبيل. أكّد Thoumin أحقيّة فرنسا، من بين كل دول العالم، بتولّي مهمّة إحياء الحضارة السوريّة العريقة، وجدارتها بهذه الأمانة.

No comments:

Post a Comment