الكتاب من إصدار بيروت عام 1927 أما الكاتب Richard Lodoïs Thoumin فالمعلومات المتوافرة عنه محدودة للغاية رغم أنه كان غزير الإنتاج وكل ما يمكن قوله أنه كان جنرالاً من مواليد 1897 كتب عدداً لا بأس به من المقالات في الدوريات الأكاديمية وألف على الأقل ثلاثة كتب أحدها عن الحرب العظمى والثاني عن جغرافية سوريا والثالث عن تاريخها وهذا الأخير هو موضوع السطور القادمة.
لهذا العمل أهمية خاصة بغض النظر عن أخطاء الكتاب وشطحات الكاتب (كما سنرى) فهو يغطي في حوالي 340 صفحة آلاف السنين في وقت كانت فيه سوريا (ولربما لا زالت حتى يومنا ولكن هذه قصة أخرى) تبحث عن هويتها وكانت فرنسا تحاول إعطاء هذه الهوية شكلاً معيناً. سوريا كمفهوم جغرافي بالطبع أقدم بكثير من القرن العشرين ولكنها -على عكس مصر- لم تشكل كياناً جغرافياً - سياسياً محدداً قبل القرن العشرين وبالتالي فما كتب عنها قبل هذا القرن أتى في سياق أعمال تناولت تاريخ إمبراطوريات معينة أو ديانات معينة. الخلاصة يبقى الكتاب على علاته عملاً رائداً وجهداً مشكوراً.
يتعهد الكاتب في المقدمة أن يختصر التفاصيل السياسية والعسكرية إلى أقصى حد ممكن وهنا يمكن القول ودون مبالغة أنه أخفق في تحقيق هدفه إذ يغلب الطابع السياسي على الكتاب من البداية إلى النهاية رغم محاولته لتغطية الجوانب الدينية والفكرية والفنية. بالنسبة لتوزيع صفحاته فقد خصص الكاتب أكثر من نصف العمل (190 صفحة) للفترة قبل الإسلام وما تبقى (150 صفحة) للعهود اللاحقة حتى اندلاع الحرب العظمى عام 1914. الصفحات الأولى ترسم الخطوط العريضة لجغرافية سوريا وقد لفت نظري أنه يطلق على سهل الغاب اسم "الغرب" ولم يكن هذا خطأً مطبعياً (والأخطاء المطبعية في هذا الكتاب كثيرة) إذ أنه كرر هذه التسمية في عدة مواضع. للتوكيد يفترض أن المؤلف خبير بجغرافية سوريا وله كتاب آخر بعنوان Géographie humaine de la Syrie centrale صدر عام 1936.
الجغرافيا |
الفصول التي تتناول العهود قبل الإسلام غنية بالمعلومات المثيرة رغم إشارات الاستفهام حول المصادر ومنها كتاب العهد القديم فهي تعلمنا أن الساميين كانوا أول من مارس دفن الأموات عوضاً عن حرقهم وتقول أن العبرانيين دخلوا مصر مع الهيكسوس (صفحة 53) وأن هزيمة هؤلاء أدت لاستعباد المصريين لبني إسرائيل ولا داعي هنا للدخول في تفاصيل "الخروج" فهي غنية عن التعريف. استقل السوريون (الفينيقيون والعبرانيون وآرام دمشق) لمدة 300 سنة وهي الفترة بين انحطاط مصر وصعود آشور أي نهايات الألف الثاني وبدايات الألف الأول فبل الميلاد وبالطبع يعتمد المؤلف هنا كغيره إلى درجة كبيرة على الكتاب المقدس كون المصادر البديلة شبه معدومة فهو مثلاً يشير (صفحة 92) أن الإغريق (والمقصود العالم الإغريقي وليس اليونان الحالية) كان يجهلون حتى وجود القدس ناهيك عن مملكة داود وسليمان.
تمركزت حياة سوريا والشرق الأدنى الدينية وفتها حول ديانات الخصوبة من أدونيس إلى أوزوريس إلى ميثرا كما هو الحال في الحضارات التي شهدت ما نعته البعض "بالثورة الزراعية" عندما تموت الطبيعة (الإله) في الشتاء لتبعث في الربيع ولكن المؤلف لسبب أو لآخر لم يربط المسيح والفصح بالعبادات القديمة قدم التاريخ أما عن بدايات المسيحية فيقول (صفحة 160) أن القديس بطرس أسس كنيسة في القدس أقرب ما تكون إلى دين موسى بينما أسس القديس بولس كنيسة في أنطاكيا عالمية الإتجاه وبالتالي أقرب متناولاً لليونان والرومان مما يفسر إنتصارها بالنتيجة وأفول نجم الأولى. بالطبع لا يمكن الفصل بين تاريخ المسيحية وتاريخ الإمبراطورية الرومانية على الأقل منذ أن إعتنق قسطنطين الكبير الدين الصاعد وقد حسم الأمر مع فشل جوليان في إعادة "الوثنية" والتدابير التي اتخذها ثيودوسيوس الكبير لاستئصال شأفة الديانات القديمة.
الفصول المتعلقة بالتاريخ الإسلامي بالذات في حاجة ماسة إلى التنقيح رغم إطلاع المؤلف على بعض المصادر العربية كمحمد كرد علي (صفحة 195). أنا لا أتكلم هنا عن هفوات مطبعية (وهي كما أسلفت كثيرة) أو زلات سهو ولكن عن أخطاء فاضحة من نوع الخلط بين الفيلسوف إبن خلدون وكافي الكفاة إبن حمدون (صفحة 194) و"الأتابك قلاوون" (صفحة 252) وأن عمر هو من بنى قبة الصخرة (صفحة 222: سمى كثير من الغربيون قبة الصخرة "مسجد عمر" حتى القرن التاسع عشر على الأقل) . المثير للدهشة أن الكاتب إعتمد إلى حد كبير على المستشرق Henri Lammens 1862-1937 والذي كان علامة في التاريخ العربي والإسلامي بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى وضليع باللغة العربية (كل من هو أليف بأعمال Lammens يعرف أنه يذكر أسماء الأشخاص المحليين بالأحرف العربية ويقابلها النقل إلى الأبجدية اللاتينية منعاً لأي إلتباس). تحتل الحروب الصليبية بالذات مكاناً بارزاً في الكتاب ولكن سأضرب صفحاً عن التعرض لموضوع تمت معالجته مراراً وتكراراً في تيهور من المؤلفات بمختلف اللغات.
الدويلات الصليبية |
ينظر الكاتب ككثير من أقرانه في الشرق والغرب إلى العهدين المملوكي والعثماني بازدراء ويحمل هذا الأخير بالذات مسؤولية تدهور سوريا على جميع الأصعدة وعملياً منذ البداية (للأمانة رددت الكتب المدرسية في سوريا نفس الكلام ولسنوات طويلة مع تعديلات طفيفة) ولكنه أيضاً ينحي باللائمة على السوريين الذين لم يسارعوا لمساعدة نابوليون على تحريرهم من النير التركي (صفحة 294) ولم يقدروا شهامة الفرنسيين في حقنهم لدماء المدنيين (صفحة 296) . بالطبع حمل Thoumin قسماً من المسؤولية للإنجليز أعداء فرنسا ومنافسيها التقليديين منذ حملة بونابارت إلى مذبحة 1860 وعلى سبيل المثال إشعال الفتنة الطائفية وحماية القنصل البريطاني للقتلة من الدروز (صفحة 310) وتسائل (صفحة 317) لماذا وفر دهماء دمشق القنصليات البريطانية والبروسية دون سواها في الأحداث الدامية عام 1860.
الأسطر الأخيرة تبشر بمستقبل واعد للسوريين برعاية الإنتداب الفرنسي وحماية فرنسا المعروفة بحبها للعدل واحترامها للأفراد وتجردها وإخلاصها لكل ما هو نبيل وتؤكد أن لفرنسا من بين كل دول العالم كامل الحق بأن تؤتمن على مصير الحضارة السورية العريقة وهي الأجدر بهذه الأمانة.
No comments:
Post a Comment