Wednesday, August 5, 2015

صناعة الأشرار. عن مصداقية السياسيين والصحافة الحرة في العالم الغربي المتمدن


حط الزمان بيوغوسلافيا مع سقوط الإتحاد السوفييتي في مطلع تسعينات القرن العشرين و رغم أنها لم تكن عضواً في حلف وارسو. تفككت هذه الدولة خلال سنوات قليلة إلى دويلات صغيرة متناحرة و فقدت صربيا -أحد أهم هذه الدويلات- سندها التاريخي في روسيا، حامية المسيحيين الأرثودكس عبر القرون ووريثة القسطنطينية في هذا الدور. 

لا أدعي الخبرة في شؤون البلقان و كمعظم الناس حتى نهاية تسعينات القرن المنصرم لم يكن لدي إنترنت و بالتالي كنت أعتمد على الصحافة والراديو و التلفزيون في الولايات المتحدة كمصدر للأخبار. من الطبيعي أن أشكك بصحة خبر عن سوريا أو فلسطين كوني ملم بتفاصيل الشرق الأوسط و أعرف إنحياز أمريكا عندما يتعلق الموضوع بإسرائيل و النفط و لكن معرفتي عن أو حتى إهتمامي في أي مكان آخر في العالم أقل بكثير و بالتالي كلما بعدت الشقة كلما كنت أكثر إستعداداً لتصديق "الصحافة الحرة" و هذا ما حصل أو على الأقل كاد أن يحصل  فيما يتعلق بالبوسنة و كوسوفو.

سوق إعلام الغرب وقتها صورة مبسطة للغاية: مسلمو البوسنة المساكين يتعرضون لخطر التهجير و الإبادة الجماعية على يد الصرب الأشرار. إنتشرت روايات المقابر الجماعية و التطهير العرقي إنتشار النار في الهشيم و حملت السيدة مارجريت تاتشر لواء الدفاع عن إسلام البوسنة و دعت لتسليحهم أما في واشنطن فحدث و لا حرج حيث زاود الجمهوريون على الديمقراطيين و الديمقراطيون على الجمهوريين إلى أن قام كلينتون بقصف الصرب (و هو الحل الوحيد الذي يعرفه الإمبرياليون لجميع المشاكل) و قضي الأمر الذي كنتم فيه تختلفون. 

لربما كانت معلوماتي عن البلقان متواضعة و لكن يختلف الأمر جذرياً فيما يتعلق بالعراق و الذي أستطيع أن أدعي بدون تواضع زائف أنني أعرف عن تاريخه و جغرافيته أكثر من معظم "خبراء" الصحافة الحرة. بإختصار قام إعلام أمريكا بتوجيه من بوش "بشيطنة" بعث العراق تماماً كما فعل نفس الإعلام في التسعينات  عندما قام  بشيطنة الصرب: المقابر الجماعية، القتل للقتل مع بعض البهارات الشرقية عن أسلحة الدمار الشامل و المذابح ضد الشيعة و الأكراد إلى آخره حتى إقتنع عدد كافي من الأمريكيين بعدالة القضية خاصة عندما أطلق السيد بوش على غزو العراق الإسم الرومانسي "عملية حرية العراق". 

يقول المثل الشامي "يللي بدو يخانق يخلي للصلح مطرح" و لكن هذا لا ينطبق على المتغطرس الثمل بخمر القوة و الذي يعرف يقيناً أنه يستطيع أن يشن حرباً يختلق مبرراتها و دون أي خطر للهزيمة: الموضوع فقط موضوع كلفة مادية و بشرية يدفع الضعيف معظم فاتورتها. إذاً عندما يريد القوي أن يحارب الضعيف فمن المهم "شيطنة" الضحية حتى لا يفكر أحد بالتفاوض معها و بالتالي يحرم المعتدي ثمرات نصر مضمون و رخيص نسبياً كما حدث في العراق (إعتراض كثير من الأمريكيين ليس على "تحرير" العراق و إنما أكلافه لدافعي الضرائب و لا يزال الملايين منهم يعتقدون أنهم فضلو على العراقيين و الذين جحدو جميلهم و المنطق طبعاً مضحك لمن يعرف تفاصيل و خفايا الأمور).  كيف يمكن التفاهم مع قتلة الأطفال؟ إذا كان صدام حسين أو القذافي أو الأسد يقتل شعبه بالأسلحة الكيمياوية أو البراميل المتفجرة أو حتى بالسلاح الأبيض هل يحوز أخلاقياً مهادنته؟ عملية "صناعة الأشرار" و الذين تجوز مهاجمتهم و لكن لا يحق لهم الدفاع عن أنفسهم ليست جديدة بالطبع و إن كنت أزعم أن إعلام الغرب أتقنها إلى درجة التفنن و الغاية تبرر الواسطة.

خلاصة الأمر أن دبلوماسيو الغرب لا يقلون كذباً عن أقرانهم في الشرق لا بل هم أسفه و أوقح في كذبهم و أما صحافة الغرب فلربما كانت أكثر فعالية من إعلام ما يسمى بالدول الشمولية كونها على الأقل أفضل تمويلاً و لكنها قطعاً ليست أكثر مصداقية كان ذلك في البوسنة أو كوسوفو أو أوكرانيا أو تشتشنيا أو القرم أو العراق أو ليبيا أو سوريا أو اليمن السعيد.