Monday, July 13, 2015

الجمهورية العلمانية السورية

من لا يعلم حب السناتور الأمريكي جون ماكين للشعب السوري و غيرته على مصالح هذا الشعب يكون من الجهل بمكان. ناصر المستر ماكين الربيع العربي في سوريا منذ عام 2011 و له صور تذكارية مع الثوار الأشاوس. علاوة على ذلك شجب هذا المدافع الغيور عن الحرية و الديمقراطية تردد الرئيس أوباما.و تقاعسه عن نصرة الشعب السوري بعد أن ثبت بالدليل القاطع أن الرئيس الأسد ضرب مواطنيه بالأسلحة الكيميائية الفتاكة دون وازع من ضمير. 

مع كل هذا التفاني يبقى السناتور ماكين رجلاً ديمقراطياً على أتم الإستعداد في أي زمان و مكان لإستماع وجهات النظر المخالفة كما حدث في إجتماع له عندما قامت سيدة سورية مغتربة بشن هجوم عاطفي على السياسة الأمريكية في سوريا و دافعت بإنفعال عن الأسد بصفته قائداً علمانياً يدافع عن سوريا ضد إرهاب القاعدة و داعش و من شاكلهم من المتعصبين و المتشنجين. بطبيعة الحال ماكين يعرف مصلحة سوريا أكثر من السوريين و النتيجة كانت أنه -بعد أن سمح لها بعرض وجهة نظرها بكل تهذيب و الحق يقال- لم يعر وجهة النظر هذه أية أهمية.

للتوضيح فقط هذه السيدة مسيحية و تخشى كمعظم المسيحيين (و هذا ينطبق أيضاً على معظم الأقليات السورية ولربما أيضاً قسم كبير إن لم يكن معظم السنة) عواقب وصول مخبولي من يطلقون على أنفسهم لقب المجاهدين إلى السلطة و مخاوفها بالنسبة لي على الأقل مفهومة و مبررة مع كامل إحترامي للسيد ماكين و كل من يريد بحسن نية تحرير سوريا عن طريق إلقاء المزيد من القنابل على ما تبقى من المناطق الآمنة فيها. 

بإختصار السيدة المذكورة تناصر الأسد لأنه "علماني" و هذه بالنسبة لها صفة حميدة. حسناً، وماذا عن الإسلاميين؟ أو على الأقل المحافظين منهم؟ 

كلمة "علماني" مشبوهة في عرف الكثير من المتدينين حيث أنها من وجهة نظرهم تعبير ملطف للإلحاد و الكفر، و أحد أهم إعتراضاهم على حكومة الأسد أنهم يشكون في حقيقة إسلامه كما يشكون بالهوية الدينية الطائفة العلوية (أو كما يحلو لهم تسميتها النصيرية) ناهيك عن الدرزية و الإسماعيلية و اليزيدية و هلمجرا.. إذاً العلمانية من منظورهم مبعث للريب في أحسن الأحوال و قد تكون و الكفر سيان و العياذ بالله!

ما ينطبق على الرئيس الأسد و العلويين يمكن تعميمه للبعث و الحزب الشيوعي و القومي السوري و غيرها. كل هذه الأحزاب "علمانية" ترتع فيها الأقليات على حساب الأغلبية السنية.

لبعض الناس العلمانية نعمة و لبعضهم الآخر العلمانية نقمة.

مناصري الحكومة تجذبهم علمانيتها و أعداء نفس الحكومة يكرهون علمانيتها! و لكن هل سوريا علمانية فعلاً؟ هل كانت علمانية في يوم من الأيام؟ الجواب في إعتقادي لا و لا و ألف لا.

-الدولة العلمانية لا تدرس التربية الدينية في المدارس الحكومية و إذا درست الكتب المقدسة يكون ذلك كنصوص أدبية و ليس حقائق إلهية أو تاريخية.
-الدولة العلمانية لا تعتمد في سن قوانينها المدنية على العهد القديم أو الجديد أو قرآن المسلمين لا في إرث و لا زواج و لا طلاق.
-إستفهام قانوني في الدولة العلمانية يجيبه المحامي و ليس الشيخ أو الخوري أو الحاخام.
-الدولة العلمانية لا ينص دستورها على دين رئيس الدولة و لا تحتاج لموسى الصدر كي يصدر فتوى أن العلويين مسلمون.
-الدولة العلمانية لا لزوم فيها لممارسة التقية و يستطيع أي مواطن فيها أن ينتمي للمعتقد الذي يريده أو أن يكون لا دينياً على عينك يا تاجر إذا أراد.
-تحريم أو تحليل الطعام في دولة علمانية يتبع تحليلاً علمياً لنفعه أو ضرره و ليس كون كتب الدين قالت كيت و كيت. نفس المنطق يطبق على المشروبات الروحية و التبغ إلخ..
-الدولة العلمانية لا تعدل دوام المدارس و الموظفين في شهر رمضان أو أي شهر. الصيام أو عدمه خيار شخصي و لا يجب أن يعطى ممارسيه أي إمتياز. 

الخلاصة سوريا ليست علمانية و أفضل ما يمكن أن يقال -بالنسبة لمناصري البعث- أنها تعددية و لكن شتان بين التعددية و العلمانية. 

حتى لا نظلم سوريا الحبيبة، لا يوجد أي دولة علمانية في الشرق الأدنى لا من قريب و لا من بعيد. إسرائيل يهودية و لبنان تعتمد على توازن طائفي مزعوم يستمد شرعيته من إحصاء عمره أكثر من 80 سنة أما تركيا أتاتورك فلم تصبح علمانية إلا بعد طرد الغالبية الساحقة من المسيحيين من آسيا الصغرى و ليس فقط الأرمن.


تتبع تعددية سوريا و لبنان نظام الملة العثماني القديم و الذي بموجبه تعترف كافة الطوائف بسيادة السلطان و تدفع له الضرائب و تدعو له بالنصر و بالمقابل يسمح الباب العالي لهذه الطوائف بحكم ذاتي فيما يتعلق بالمواضيع الدينية. يفهم من "الملة"طبعاً الدين أو بالأحرى المذهب فهناك مذهب السنة، الشيعة (أو الأرفاض)، اليهود، المسيحيين بكل طوائفهم إلى آخره و هنا يحسن توضيح بعض النقاط:

*الطوائف العلوية و الإسماعيلية و الدرزية يسلم بكونها مسلمة و لكنها مشبوهة العقيدة بالنسبة للسلطات السنية العثمانية (و "ثوار" اليوم) و هذا يفسر إلى حد ما فرارها أو على الأقل فرار بعضها إلى المناطق الجبلية تحت ضغط ظروف معينة في فترات معينة.

*يسمح للبعثات التبشيرية الأمريكية و الأوروبية أن تمارس التبشير بين الأقليات: أي يمكن محاولة إقناع الكاثوليكي أن يعتنق البروتستانتية مثلاً و أما التبشير بين المسلمين فهو خط أحمر و من البدهي أن هذا لم يمنع بعض المسلمين عن تغيير دينهم و أحد أشهر الأمثلة أمير لبنان بشير الشهابي و الذي تناقلت الألسنة "إرتداده" منذ عام 1812 على الأقل (حسب الرحالة السويسري جهان بوركهارت) ولكن بشير لم يتجاسر على المجاهرة بدينه الجديد حتى غزا إبراهيم باشا سوريا نيابة عن محمد علي في مطلع ثلاثينات القرن التاسع عشر.

*يقول المثل الشامي "يللي ما بياخود من ملتو بموت بعلتو" أي بالعربي الفصيح الذي لا يتزوج من دينه و مذهبه و إن دل هذا على شيء فهو يدل أن التسامح الديني في سوريا كان دوماً أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة.


و أختم بالقول أن سوريا ليست علمانية لا من منظور إيجابي و لا من منظور سلبي و لم تكن علمانية في يوم من الأيام و لا يبدو ما يبشر أنها ستصبح علمانية في المستقبل المنظور مع شديد أسفي. 


Saturday, July 11, 2015

Authoritarianism between Strongmen and Dictators


      The streets of Cairo erupted with riots in January 2011 as the “Arab Spring” moved with astonishing alacrity from Tunisia to Egypt. The “People of Egypt”, fed-up with the corruption of their aging president and his cronies, were chanting a slogan soon to contaminate the entire Near East: “The People Wants to Overthrow the Regime”!

      Not everyone was happy about deposing Hosni Mubarak, certainly not US Vice President Joe Biden who was ridiculed by many -myself included- when he opined that “Mubarak is not a dictator”. To be sure the US had invested in and propped-up the Egyptian president for 3 decades and Mr. Biden's anxiety was shared by many policymakers regardless of their true opinion about the nature of Mr. Mubarak's administration.

      But was Mr. Biden wrong after all? That Egypt was -and still is- not a Democracy is a no-brainer but does that necessarily mean that its ruler was a “dictator”, a most abhorrent appellation in today's climate of political correctness? Here we have to resort to the tried-and-true wealth of the English Language, an infinitely valuable asset to clarify all ambiguity and dispel every doubt.

      The year was 1986, well before Digital Technology had become ubiquitous. And I, full of curiosity, decided to tap into the Time Magazine archives neatly bound and available, from its first issue in 1923, free of charge to all visitors to Syracuse University's library in Upstate New York. How I wish Syria had comparable facilities with the resources to store its old literary heritage but I digress...

      Naturally, what interested me the most in that venerable publication, was just about any mention of the Near East in general and Syria in particular. I was not to be frustrated though of course -and in retrospect luckily for Syria- the Near East have not always been the focus of international media and the articles that I had sought were therefore few and far between.

      Back to the issue under consideration. The World according to the Time Magazine of the 1960's and prior was not as full of dictators as it now is sadly and ominously the case, that infamous epithet was reserved for super-villains such as Hitler (never mind that he was named Time's Magazine's “Person of the Year” in 1938), Mussolini, or Stalin (affectionately referred to by F.D. Roosevelt as “Uncle Joe” but that's another story). The Arab World -as far as I could tell- had no dictators back then, not in today's traditional and acknowledged sense in any case.

      But Authoritarianism did exist and there surely were despots all over the Arab World back then as now, they just were called differently. For you see, Colonel Adib Shishakily who dominated Syrian politics in the early 1950's was a “Strongman”, so were Colonel Salah Jadid in the late 1960's and President Saddam Hussein right until August 1990. Needless to say Authoritarian Rulers do not necessarily have to be divided into Strongmen or Dictators; we also have Monarchs, all sorts of them: Kings, Sheikhs, Sultans, Shahs..but somehow most -if not all- of them are tacitly treated as legitimate and “constitutional”. The implications are obvious: it is despicable when a “Dictator” passes his Seat to his son, that would be blatant usurpation, but perfectly natural and accepted for a “legitimate” Monarch to pass his Throne to his son and heir; if he happens in the process to disinherit his brother and -for decades- heir-apparent while agonizing, so be it! This is exactly what King Hussein of Jordan did on his deathbed back in 1999 and no none batted an eye.

      By now it should be axiomatic that “Dictators” are bad. They are corrupt; they kill their own people; they harbor ominous designs on peaceful democracies and their equally peaceful monarchical neighbors, not to mention their support of International Terrorism. But what about Strongmen? Are they good or bad? Don't they have the same authority as the Dictators? Had they not acquired the ultimate power through similar means? Well, not necessarily..

      For Strongmen fulfill an extremely important task, one that is essential for the Nation's peace, prosperity, even its very survival: they keep Law and Order. They also form -along with their Royal brethren- part and parcel of the “International Community” and identify their interests with those of the “Civilized World”. They are also legitimate: they hold elections (in reality referendums but who is counting), allow parliamentarian debates, participate in international organizations, open their countries to benevolent foreign investors, invest their wealth in purchasing the latest military technology (to defend their countries against dictators of course), and accept military assistance from disinterested foreign powers. Strongmen do not commit aggression, God forbid! They merely defend their Homeland as President Saddam Hussein did when he protected the “Eastern Gate of the Arab Nation” 1980-1988. Only Dictators attack their neighbors, as the very same Saddam Hussein -oops- did when he invaded the little Democracy that was Kuwait in 1990.

      So there exist two sorts of Authoritarian rulers: the first is bad by the mutual consensus of the entire Humanity and that is the Dictator. The second type is what an ignorant might call a “Good Dictator” but in reality that would be an insult to the gentle and caring Strongman, whose heart belongs to his People and who spares neither effort nor sacrifice to promote its welfare. Evidently what applies to Strongmen is just as valid in the case of Monarchs, we all know that the King of Saudi Arabia -a paragon of compassion and benevolence- has a Consultative Assembly, to give but one example.

      Dictator is bad, Strongman is better, an Oriental Monarch remains the best. Not all despots are alike, not by a long shot. The same analysis could be used to study the disparities between “Regimes” and “Governments” or “Administrations”. We all know that Regimes are bad and Governments are good but still, you cannot overemphasize such a glaring difference and we can always use friendly reminders.



      I look forward to the day when academics and pundits give this important debate the interest it so desperately needs and make their conclusions public for the benefit of mankind. 

Monday, July 6, 2015

عملية صنع القرار وكيف يكتب التاريخ

غلاء أسعار الأدوية الفاحش في أمريكا أمر معروف و مألوف لكل مقيم في الولايات المتحدة بينما يصعب على من يحيا خارجها أن يصدق أو يهضم المبالغ الأسطورية التي يدفعها المريض الأمريكي أو شركة تأمينه للحصول عليها. تبرر الشركات الصانعة هذه الأسعار بالكلفة الباهظة للبحث العملي حتى يتم تطوير الدواء و في هذا بعض الصحة و لكن لا يمكن أن تكتمل الصورة دون أن نأخذ بعين الإعتبار نفقات الدعاية و التسويق ناهيك عن تمويل الحملات الإنتخابية للمرشحين الذين يدعمون سياسات هذه الشركات.

من الناحية النظرية تخضع جميع الأدوية الجديدة إلى دراسات علمية دقيقة تعتمد أحدث التقنيات و أدق الإحصائيات لتمييز الدواء المفيد عن المضر عن عديم الجدوى و تقوم الجهات الحكومية المعنية بترخيصه فقط عندما تثبت فعاليته و سلامته و إلا يطرح جانباً و تخسر الشركة المبالغ الكبيرة التي إستثمرت في تطويره. من البدهي أن شركة المنتج -أي منتج- تحتاج أن تربح لتستمر و تتسع و بالتالي تحتاج إلى إبتكار عقار ناجح من حين لآخر و إلا طحنتها المنافسة عاجلاً أم آجلاً. 

تستطيع الشركة طبعاً أن تختلق أرقاماً و معطيات وهمية لتثبت نجاح منتوجها و لكن تزوير فاضح كهذا عرضة للإكتشاف و بالتالي الفضيحة و مشاكل قضائية لا تنتهي و بنهاية المطاف الإفلاس. هناك طرق أخرى أقل خطراً و أكثر مردوداً و أحد أهم هذه الطرق هو نشر الدراسات التي تظهر فعالية الدواء في المجلات العلمية و تجاهل الدراسات التي أظهرت فشل نفس العقار كونها لم تعط النتيجة المنشودة و المتوخاة و يسمى هذا علمياً "إنحياز النشر". 

ما يفعله الأطباء و الصيادلة يستطيع السياسيون بالتأكيد أن يفعلوه و طريقة تصنيع و تسويق القرار السياسي تشبه إلى حد كبير عملية تصنيع و تسويق العقار (أو أي سلعة) و لإيضاح الفكرة أدرج المثال التالي و الذي عاشه كثيرون في الشرق الأدنى في مطلع القرن الحادي و العشرين.

مع بداية عام 2003 أصبح واضحاً لكل إنسان ذو إلمام معقول بالمناخ السياسي المعاصر و حد أدنى من حسن المحاكمة أن السيد جورج بوش عازم على غزو العراق بغض النظر عن تعاون السيد صدام حسين في تدمير أسلحة الدمار الشامل المزعومة أو عدمه. الموضوع بالنسبة لبوش كان ببساطة كيفية تسويق هذا الغزو للشعب الأمريكي و إقناع ذوي النفوذ في الولايات المتحدة بدعم هذا الغزو. في هذا الصدد جند بوش المخابرات المركزية و أصدر تعليماته لهذه الوكالة بجمع الأدلة الدامغة التي تثبت بما لا يترك مجالاً للشك إمتلاك صدام حسين أسلحة كيميائية و حيوية و حتى برامج نووية.

كثير من يعتقد أن المخابرات المركزية مؤسسة شيطانية تتحكم بالعالم و تحبك الدسائس الكونية و لكن الحقيقة أبسط من ذلك و أقل شاعرية مع تقديري لجمس بوند و هاليوود. المخابرات المركزية هي بكل بساطة مؤسسة بيروقراطية أولاً و آخراً تتلقى تعليماتها من الإدارة الأمريكية. لدى السي آي أي كميات كبيرة من المعلومات ما في ذلك من شك و لكنها غير معنية بصنع القرار لا من قريب و لا من بعيد. مهمتها تكمن ببساطة بإختيار المعلومات التي يطلبها قادة الدولة لدعم سياستهم و تجاهل المعلومات التي يمكن أن تشككك في تبرير هذه السياسات. للتوكيد "السي آي أي" ليس لديها أي نفوذ يستحق الذكر في تقرير منهج أو سياسة و دورها يكاد ينحصر في تزويد الإدارة بمسوغات تبدو معقولة لقرار تم البت فيه سلفاً و يجب التركيز هنا أن العمل المخابراتي الذكي يتجنب قدر الممكن الأكاذيب التي يمكن كشفها بسرعة و سهولة و يقوم عوضاً عن ذلك بتسليط الأضواء على المعلومات "المفيدة" و "تسريب" هذه المعلومات إلى الصحافة التي يهمها بالدرجة الأولى الأخبار المثيرة مع إرجاء الإستفهامات المحرجة إلى بعد حصول الأمر الواقع أو إلى الحين الذي ينساها فيه معظم الناس اللهم إلا بعض الأكاديميين.

لا أقصد هنا أن أركز على بلد معين أو شخص معين. بعض الأمثلة السريعة من تاريخنا تكفي لمنع أي التباس: عندما يريد المسلمون الحرب يرفعون شعار "أعدوا لهم ما إستطعتم من قوة" و إذا أرادوا السلام يرفعون لواء "و إن جنحوا للسلم فاجنح لها" كما برر مشايخ الأزهر سلام السادات مع إسرائيل. بنفس المنطق يدير المسيحيون الخد الأيسر أو يستغيثون "برب الجنود" و كل هذا موجود في الكتب المقدسة إسلامية كانت أو مسيحية: متى تم إعتماد سياسة معينة أتى الفقهاء و العلماء بالتبريرات المناسبة دون أي تردد أو عناء. 

اعتمد معظم كتبة التاريخ منهجاً مماثلاً لتسويق سرد معين للأحداث بهدف تعظيمها أو تحقيرها حسب الظروف و المتطلبات و طبعاً يقومون في هذا الصدد بإتباع منهج علمي قد يبدو للوهلة الأولى منطقياً لا غبار عليه و مرة ثانية سأقوم بالإستشهاد ببعض الأمثلة من التاريخ الحديث نسبياً:

*في تشرين أول عام 1925 قام الفرنسيون بقصف حي سيدي عامود في دمشق و الذي دمر و أصبح بعدها -و إلى يومنا هذا- يعرف بإسم الحريقة. إذا أخذنا الرواية السورية التقليدية فهي تتلخص بقيام الشعب السوري البطل بثورة ضد المستعمر الغاشم و الذي إنتقم بقصف إعتباطي للمدينة قتل فيه من قتل و دمر ما دمر. ليس هدفي الدفاع عن فرنسا التي احتلت سوريا عنوة و لم تترد في إستعمال العنف للمحافظة على وجودها في الشرق الأدنى ولكن ما جرى فعلاً عام 1925 أن المتمردين هاجموا قصر العظم و الذي كان مقر الجنرال ساراي و نهبوا ما أمكن حمله و احرقوا و مزقوا الوثائق و الصور الموجودة فيه. طبعاً رد الفرنسيون عنف الثوار أضعافاً و قصفوا دمشق القديمة عدة أيام.

*حصلت قصة مشابهة على تطاق أضيق عام 1945 عندما قصف الفرنسيون البرلمان. بعض الرواة السوريين يزعمون أن الفرنسيين الأشرار قاموا بجريمتهم النكراء بعد أن رفض الوطنيون الأباة تحية علم المستعمر و هذا طبعاً كلام فارغ من الألف إلى الياء حيث فرنسا الأربعينات كانت مرهقة و ضعيفة و مختلفة إلى حد بعيد عن فرنسا العشرينات أو حتى الثلاثينات. ما كانت تسعى إليه في هذه المرحلة بكل بساطة هو إنقاذ بقايا نفوذها في المشرق عن طريق إتفاقية ثقافية (و إذا أمكن عسكرية) تعقدها مع سوريا قبل إنسحابها و من غير المنطقي في سبيل تحقيق هذا الهدف القيام بإستفزاز السوريين بطلب أخرق كهذا لا يقدم أو يؤخر. ما حصل فعلاً هو إعتصام بعض القناصين السوريين في مبنى البرلمان حين أخذوا بتسديد بنادقهم على مقر مندوب فرنسا الجنرال اوليفا روجيه و رد الفرنسيون بقصف المبنى بالمدافع كما قام طيرانهم بضرب القلعة التي جعلها الثوار مقراً لقيادتهم و خلال 29 و 30 أيار قام الفرنسيون بقصف دمشق و لكن تدخل القوات البريطانية ارغمهم على التوقف و العودة إلى ثكناتهم و كان هذا آخر إسفين في نعش الوجود الفرنسي في سوريا. 

*في عهد الإستقلال و تحديداً شباط 1982 حصلت أحداث حماة والتي يعرفها جميع السوريين و إن كان هناك خلاف على خلفيتها و تفاصيلها. بالنسبة لعصاة الربيع العربي (أو ثواره حسب القناعة الشخصية) و من يدعمهم في الغرب و الخليج قام الشرير حافظ الأسد بقتل الحمويين لأهداف سلطوية و سادية دمر فيها بالنتيجة مدينة آمنة مسالمة و هلك في المجزرة عدد يتراوح بين 2,000 إلى 50,000 إنسان حسب المصدر المعتمد.

رواية "ليلى و الأسد" هذه ناقصة إن لم نقل كاذبة. ما حصل فعلاً أن "ثوار" حماة قاموا بالقبض على العديد من موالين و محاسيب الحكومة و قتلهم و بعدها إعلان الجهاد من المساجد و المباشرة بإنشاء دولة داخل دولة بدعم مادي و لوجستي من ملك الأردن حسين و زعيم العراق صدام حسين و هذا أصبح تاريخاً موثقاً يسلم به كل من يمتلك حداً أدنى من الموضوعية. لا زلت أذكر على سبيل المثال "صوت سوريا العربية" من بغداد وتحريضه الطائفي.

لربما أنه إذا نظرنا إلى ما يحدث في سوريا اليوم نستطيع أن نفهم أبعاد ما جرى في مطلع الثمانينات بشكل أفضل. هل كان رد الأسد العنيف على عصاة عام 1982 مبرراً؟  هنا يمكن إختلاف وجهات النظر إن لم يكن على وجوب الرد فعلى الأقل على كيفيته و مداه و لا أنوي الدخول في هذا الموضوع و كل ما أريد قوله أن رواية الطاغوت و الشعب المغلوب على أمره منحازة و ناقصة كرواية حريق سيدي عامود و قصف البرلمان و دون محاولة تبييض صفحة فرنسا أو الأسد والذي لا يربطهما إلا مبالغات الهدف منها تسويق سرد محدد لهدف معين. 

أفضل مصدر للمعلومات هو المراقب المحايد و المطلع و لكن قليل منا يملك ما يكفي من الموضوعية و الحيادية كي يطرح عواطفه جانباً في قضية حيوية تمسه مباشرة أو بشكل غير مباشر و لعل البديل هو محاولة إستقراء وجهات نظر متناقضة و تحليلها و تصفيتها عقلانياً قبل إعتماد وجهة نظر طرف واحد. 

من المهم للغاية التفريق بين الحقيقة ووجهة النظر. إجتياح العراق عام 2003, تراجيديا حماة عام 1982, قصف البرلمان عام 1945, قصف سيدي عامود 1925 أحداث حقيقية و الخلاف يكمن في كيف و لماذا و من وهذه التفاصيل تختلف جذرياً حسب الراوي تماماً كإختلاف رواية الطليق عن الطليقة عندما ينهار الزواج.