من لا يعلم حب السناتور الأمريكي جون ماكين للشعب السوري و غيرته على مصالح هذا الشعب يكون من الجهل بمكان. ناصر المستر ماكين الربيع العربي في سوريا منذ عام 2011 و له صور تذكارية مع الثوار الأشاوس. علاوة على ذلك شجب هذا المدافع الغيور عن الحرية و الديمقراطية تردد الرئيس أوباما.و تقاعسه عن نصرة الشعب السوري بعد أن ثبت بالدليل القاطع أن الرئيس الأسد ضرب مواطنيه بالأسلحة الكيميائية الفتاكة دون وازع من ضمير.
مع كل هذا التفاني يبقى السناتور ماكين رجلاً ديمقراطياً على أتم الإستعداد في أي زمان و مكان لإستماع وجهات النظر المخالفة كما حدث في إجتماع له عندما قامت سيدة سورية مغتربة بشن هجوم عاطفي على السياسة الأمريكية في سوريا و دافعت بإنفعال عن الأسد بصفته قائداً علمانياً يدافع عن سوريا ضد إرهاب القاعدة و داعش و من شاكلهم من المتعصبين و المتشنجين. بطبيعة الحال ماكين يعرف مصلحة سوريا أكثر من السوريين و النتيجة كانت أنه -بعد أن سمح لها بعرض وجهة نظرها بكل تهذيب و الحق يقال- لم يعر وجهة النظر هذه أية أهمية.
للتوضيح فقط هذه السيدة مسيحية و تخشى كمعظم المسيحيين (و هذا ينطبق أيضاً على معظم الأقليات السورية ولربما أيضاً قسم كبير إن لم يكن معظم السنة) عواقب وصول مخبولي من يطلقون على أنفسهم لقب المجاهدين إلى السلطة و مخاوفها بالنسبة لي على الأقل مفهومة و مبررة مع كامل إحترامي للسيد ماكين و كل من يريد بحسن نية تحرير سوريا عن طريق إلقاء المزيد من القنابل على ما تبقى من المناطق الآمنة فيها.
بإختصار السيدة المذكورة تناصر الأسد لأنه "علماني" و هذه بالنسبة لها صفة حميدة. حسناً، وماذا عن الإسلاميين؟ أو على الأقل المحافظين منهم؟
كلمة "علماني" مشبوهة في عرف الكثير من المتدينين حيث أنها من وجهة نظرهم تعبير ملطف للإلحاد و الكفر، و أحد أهم إعتراضاهم على حكومة الأسد أنهم يشكون في حقيقة إسلامه كما يشكون بالهوية الدينية الطائفة العلوية (أو كما يحلو لهم تسميتها النصيرية) ناهيك عن الدرزية و الإسماعيلية و اليزيدية و هلمجرا.. إذاً العلمانية من منظورهم مبعث للريب في أحسن الأحوال و قد تكون و الكفر سيان و العياذ بالله!
ما ينطبق على الرئيس الأسد و العلويين يمكن تعميمه للبعث و الحزب الشيوعي و القومي السوري و غيرها. كل هذه الأحزاب "علمانية" ترتع فيها الأقليات على حساب الأغلبية السنية.
لبعض الناس العلمانية نعمة و لبعضهم الآخر العلمانية نقمة.
مناصري الحكومة تجذبهم علمانيتها و أعداء نفس الحكومة يكرهون علمانيتها! و لكن هل سوريا علمانية فعلاً؟ هل كانت علمانية في يوم من الأيام؟ الجواب في إعتقادي لا و لا و ألف لا.
-الدولة العلمانية لا تدرس التربية الدينية في المدارس الحكومية و إذا درست الكتب المقدسة يكون ذلك كنصوص أدبية و ليس حقائق إلهية أو تاريخية.
-الدولة العلمانية لا تعتمد في سن قوانينها المدنية على العهد القديم أو الجديد أو قرآن المسلمين لا في إرث و لا زواج و لا طلاق.
-إستفهام قانوني في الدولة العلمانية يجيبه المحامي و ليس الشيخ أو الخوري أو الحاخام.
-الدولة العلمانية لا ينص دستورها على دين رئيس الدولة و لا تحتاج لموسى الصدر كي يصدر فتوى أن العلويين مسلمون.
-الدولة العلمانية لا لزوم فيها لممارسة التقية و يستطيع أي مواطن فيها أن ينتمي للمعتقد الذي يريده أو أن يكون لا دينياً على عينك يا تاجر إذا أراد.
-تحريم أو تحليل الطعام في دولة علمانية يتبع تحليلاً علمياً لنفعه أو ضرره و ليس كون كتب الدين قالت كيت و كيت. نفس المنطق يطبق على المشروبات الروحية و التبغ إلخ..
-الدولة العلمانية لا تعدل دوام المدارس و الموظفين في شهر رمضان أو أي شهر. الصيام أو عدمه خيار شخصي و لا يجب أن يعطى ممارسيه أي إمتياز.
الخلاصة سوريا ليست علمانية و أفضل ما يمكن أن يقال -بالنسبة لمناصري البعث- أنها تعددية و لكن شتان بين التعددية و العلمانية.
حتى لا نظلم سوريا الحبيبة، لا يوجد أي دولة علمانية في الشرق الأدنى لا من قريب و لا من بعيد. إسرائيل يهودية و لبنان تعتمد على توازن طائفي مزعوم يستمد شرعيته من إحصاء عمره أكثر من 80 سنة أما تركيا أتاتورك فلم تصبح علمانية إلا بعد طرد الغالبية الساحقة من المسيحيين من آسيا الصغرى و ليس فقط الأرمن.
تتبع تعددية سوريا و لبنان نظام الملة العثماني القديم و الذي بموجبه تعترف كافة الطوائف بسيادة السلطان و تدفع له الضرائب و تدعو له بالنصر و بالمقابل يسمح الباب العالي لهذه الطوائف بحكم ذاتي فيما يتعلق بالمواضيع الدينية. يفهم من "الملة"طبعاً الدين أو بالأحرى المذهب فهناك مذهب السنة، الشيعة (أو الأرفاض)، اليهود، المسيحيين بكل طوائفهم إلى آخره و هنا يحسن توضيح بعض النقاط:
*الطوائف العلوية و الإسماعيلية و الدرزية يسلم بكونها مسلمة و لكنها مشبوهة العقيدة بالنسبة للسلطات السنية العثمانية (و "ثوار" اليوم) و هذا يفسر إلى حد ما فرارها أو على الأقل فرار بعضها إلى المناطق الجبلية تحت ضغط ظروف معينة في فترات معينة.
*يسمح للبعثات التبشيرية الأمريكية و الأوروبية أن تمارس التبشير بين الأقليات: أي يمكن محاولة إقناع الكاثوليكي أن يعتنق البروتستانتية مثلاً و أما التبشير بين المسلمين فهو خط أحمر و من البدهي أن هذا لم يمنع بعض المسلمين عن تغيير دينهم و أحد أشهر الأمثلة أمير لبنان بشير الشهابي و الذي تناقلت الألسنة "إرتداده" منذ عام 1812 على الأقل (حسب الرحالة السويسري جهان بوركهارت) ولكن بشير لم يتجاسر على المجاهرة بدينه الجديد حتى غزا إبراهيم باشا سوريا نيابة عن محمد علي في مطلع ثلاثينات القرن التاسع عشر.
*يقول المثل الشامي "يللي ما بياخود من ملتو بموت بعلتو" أي بالعربي الفصيح الذي لا يتزوج من دينه و مذهبه و إن دل هذا على شيء فهو يدل أن التسامح الديني في سوريا كان دوماً أقرب إلى الخيال منه إلى الحقيقة.
و أختم بالقول أن سوريا ليست علمانية لا من منظور إيجابي و لا من منظور سلبي و لم تكن علمانية في يوم من الأيام و لا يبدو ما يبشر أنها ستصبح علمانية في المستقبل المنظور مع شديد أسفي.
No comments:
Post a Comment