غلاء أسعار الأدوية الفاحش في أمريكا أمر معروف و مألوف لكل مقيم في الولايات المتحدة بينما يصعب على من يحيا خارجها أن يصدق أو يهضم المبالغ الأسطورية التي يدفعها المريض الأمريكي أو شركة تأمينه للحصول عليها. تبرر الشركات الصانعة هذه الأسعار بالكلفة الباهظة للبحث العملي حتى يتم تطوير الدواء و في هذا بعض الصحة و لكن لا يمكن أن تكتمل الصورة دون أن نأخذ بعين الإعتبار نفقات الدعاية و التسويق ناهيك عن تمويل الحملات الإنتخابية للمرشحين الذين يدعمون سياسات هذه الشركات.
من الناحية النظرية تخضع جميع الأدوية الجديدة إلى دراسات علمية دقيقة تعتمد أحدث التقنيات و أدق الإحصائيات لتمييز الدواء المفيد عن المضر عن عديم الجدوى و تقوم الجهات الحكومية المعنية بترخيصه فقط عندما تثبت فعاليته و سلامته و إلا يطرح جانباً و تخسر الشركة المبالغ الكبيرة التي إستثمرت في تطويره. من البدهي أن شركة المنتج -أي منتج- تحتاج أن تربح لتستمر و تتسع و بالتالي تحتاج إلى إبتكار عقار ناجح من حين لآخر و إلا طحنتها المنافسة عاجلاً أم آجلاً.
تستطيع الشركة طبعاً أن تختلق أرقاماً و معطيات وهمية لتثبت نجاح منتوجها و لكن تزوير فاضح كهذا عرضة للإكتشاف و بالتالي الفضيحة و مشاكل قضائية لا تنتهي و بنهاية المطاف الإفلاس. هناك طرق أخرى أقل خطراً و أكثر مردوداً و أحد أهم هذه الطرق هو نشر الدراسات التي تظهر فعالية الدواء في المجلات العلمية و تجاهل الدراسات التي أظهرت فشل نفس العقار كونها لم تعط النتيجة المنشودة و المتوخاة و يسمى هذا علمياً "إنحياز النشر".
ما يفعله الأطباء و الصيادلة يستطيع السياسيون بالتأكيد أن يفعلوه و طريقة تصنيع و تسويق القرار السياسي تشبه إلى حد كبير عملية تصنيع و تسويق العقار (أو أي سلعة) و لإيضاح الفكرة أدرج المثال التالي و الذي عاشه كثيرون في الشرق الأدنى في مطلع القرن الحادي و العشرين.
مع بداية عام 2003 أصبح واضحاً لكل إنسان ذو إلمام معقول بالمناخ السياسي المعاصر و حد أدنى من حسن المحاكمة أن السيد جورج بوش عازم على غزو العراق بغض النظر عن تعاون السيد صدام حسين في تدمير أسلحة الدمار الشامل المزعومة أو عدمه. الموضوع بالنسبة لبوش كان ببساطة كيفية تسويق هذا الغزو للشعب الأمريكي و إقناع ذوي النفوذ في الولايات المتحدة بدعم هذا الغزو. في هذا الصدد جند بوش المخابرات المركزية و أصدر تعليماته لهذه الوكالة بجمع الأدلة الدامغة التي تثبت بما لا يترك مجالاً للشك إمتلاك صدام حسين أسلحة كيميائية و حيوية و حتى برامج نووية.
كثير من يعتقد أن المخابرات المركزية مؤسسة شيطانية تتحكم بالعالم و تحبك الدسائس الكونية و لكن الحقيقة أبسط من ذلك و أقل شاعرية مع تقديري لجمس بوند و هاليوود. المخابرات المركزية هي بكل بساطة مؤسسة بيروقراطية أولاً و آخراً تتلقى تعليماتها من الإدارة الأمريكية. لدى السي آي أي كميات كبيرة من المعلومات ما في ذلك من شك و لكنها غير معنية بصنع القرار لا من قريب و لا من بعيد. مهمتها تكمن ببساطة بإختيار المعلومات التي يطلبها قادة الدولة لدعم سياستهم و تجاهل المعلومات التي يمكن أن تشككك في تبرير هذه السياسات. للتوكيد "السي آي أي" ليس لديها أي نفوذ يستحق الذكر في تقرير منهج أو سياسة و دورها يكاد ينحصر في تزويد الإدارة بمسوغات تبدو معقولة لقرار تم البت فيه سلفاً و يجب التركيز هنا أن العمل المخابراتي الذكي يتجنب قدر الممكن الأكاذيب التي يمكن كشفها بسرعة و سهولة و يقوم عوضاً عن ذلك بتسليط الأضواء على المعلومات "المفيدة" و "تسريب" هذه المعلومات إلى الصحافة التي يهمها بالدرجة الأولى الأخبار المثيرة مع إرجاء الإستفهامات المحرجة إلى بعد حصول الأمر الواقع أو إلى الحين الذي ينساها فيه معظم الناس اللهم إلا بعض الأكاديميين.
لا أقصد هنا أن أركز على بلد معين أو شخص معين. بعض الأمثلة السريعة من تاريخنا تكفي لمنع أي التباس: عندما يريد المسلمون الحرب يرفعون شعار "أعدوا لهم ما إستطعتم من قوة" و إذا أرادوا السلام يرفعون لواء "و إن جنحوا للسلم فاجنح لها" كما برر مشايخ الأزهر سلام السادات مع إسرائيل. بنفس المنطق يدير المسيحيون الخد الأيسر أو يستغيثون "برب الجنود" و كل هذا موجود في الكتب المقدسة إسلامية كانت أو مسيحية: متى تم إعتماد سياسة معينة أتى الفقهاء و العلماء بالتبريرات المناسبة دون أي تردد أو عناء.
اعتمد معظم كتبة التاريخ منهجاً مماثلاً لتسويق سرد معين للأحداث بهدف تعظيمها أو تحقيرها حسب الظروف و المتطلبات و طبعاً يقومون في هذا الصدد بإتباع منهج علمي قد يبدو للوهلة الأولى منطقياً لا غبار عليه و مرة ثانية سأقوم بالإستشهاد ببعض الأمثلة من التاريخ الحديث نسبياً:
*في تشرين أول عام 1925 قام الفرنسيون بقصف حي سيدي عامود في دمشق و الذي دمر و أصبح بعدها -و إلى يومنا هذا- يعرف بإسم الحريقة. إذا أخذنا الرواية السورية التقليدية فهي تتلخص بقيام الشعب السوري البطل بثورة ضد المستعمر الغاشم و الذي إنتقم بقصف إعتباطي للمدينة قتل فيه من قتل و دمر ما دمر. ليس هدفي الدفاع عن فرنسا التي احتلت سوريا عنوة و لم تترد في إستعمال العنف للمحافظة على وجودها في الشرق الأدنى ولكن ما جرى فعلاً عام 1925 أن المتمردين هاجموا قصر العظم و الذي كان مقر الجنرال ساراي و نهبوا ما أمكن حمله و احرقوا و مزقوا الوثائق و الصور الموجودة فيه. طبعاً رد الفرنسيون عنف الثوار أضعافاً و قصفوا دمشق القديمة عدة أيام.
*حصلت قصة مشابهة على تطاق أضيق عام 1945 عندما قصف الفرنسيون البرلمان. بعض الرواة السوريين يزعمون أن الفرنسيين الأشرار قاموا بجريمتهم النكراء بعد أن رفض الوطنيون الأباة تحية علم المستعمر و هذا طبعاً كلام فارغ من الألف إلى الياء حيث فرنسا الأربعينات كانت مرهقة و ضعيفة و مختلفة إلى حد بعيد عن فرنسا العشرينات أو حتى الثلاثينات. ما كانت تسعى إليه في هذه المرحلة بكل بساطة هو إنقاذ بقايا نفوذها في المشرق عن طريق إتفاقية ثقافية (و إذا أمكن عسكرية) تعقدها مع سوريا قبل إنسحابها و من غير المنطقي في سبيل تحقيق هذا الهدف القيام بإستفزاز السوريين بطلب أخرق كهذا لا يقدم أو يؤخر. ما حصل فعلاً هو إعتصام بعض القناصين السوريين في مبنى البرلمان حين أخذوا بتسديد بنادقهم على مقر مندوب فرنسا الجنرال اوليفا روجيه و رد الفرنسيون بقصف المبنى بالمدافع كما قام طيرانهم بضرب القلعة التي جعلها الثوار مقراً لقيادتهم و خلال 29 و 30 أيار قام الفرنسيون بقصف دمشق و لكن تدخل القوات البريطانية ارغمهم على التوقف و العودة إلى ثكناتهم و كان هذا آخر إسفين في نعش الوجود الفرنسي في سوريا.
*في عهد الإستقلال و تحديداً شباط 1982 حصلت أحداث حماة والتي يعرفها جميع السوريين و إن كان هناك خلاف على خلفيتها و تفاصيلها. بالنسبة لعصاة الربيع العربي (أو ثواره حسب القناعة الشخصية) و من يدعمهم في الغرب و الخليج قام الشرير حافظ الأسد بقتل الحمويين لأهداف سلطوية و سادية دمر فيها بالنتيجة مدينة آمنة مسالمة و هلك في المجزرة عدد يتراوح بين 2,000 إلى 50,000 إنسان حسب المصدر المعتمد.
رواية "ليلى و الأسد" هذه ناقصة إن لم نقل كاذبة. ما حصل فعلاً أن "ثوار" حماة قاموا بالقبض على العديد من موالين و محاسيب الحكومة و قتلهم و بعدها إعلان الجهاد من المساجد و المباشرة بإنشاء دولة داخل دولة بدعم مادي و لوجستي من ملك الأردن حسين و زعيم العراق صدام حسين و هذا أصبح تاريخاً موثقاً يسلم به كل من يمتلك حداً أدنى من الموضوعية. لا زلت أذكر على سبيل المثال "صوت سوريا العربية" من بغداد وتحريضه الطائفي.
لربما أنه إذا نظرنا إلى ما يحدث في سوريا اليوم نستطيع أن نفهم أبعاد ما جرى في مطلع الثمانينات بشكل أفضل. هل كان رد الأسد العنيف على عصاة عام 1982 مبرراً؟ هنا يمكن إختلاف وجهات النظر إن لم يكن على وجوب الرد فعلى الأقل على كيفيته و مداه و لا أنوي الدخول في هذا الموضوع و كل ما أريد قوله أن رواية الطاغوت و الشعب المغلوب على أمره منحازة و ناقصة كرواية حريق سيدي عامود و قصف البرلمان و دون محاولة تبييض صفحة فرنسا أو الأسد والذي لا يربطهما إلا مبالغات الهدف منها تسويق سرد محدد لهدف معين.
أفضل مصدر للمعلومات هو المراقب المحايد و المطلع و لكن قليل منا يملك ما يكفي من الموضوعية و الحيادية كي يطرح عواطفه جانباً في قضية حيوية تمسه مباشرة أو بشكل غير مباشر و لعل البديل هو محاولة إستقراء وجهات نظر متناقضة و تحليلها و تصفيتها عقلانياً قبل إعتماد وجهة نظر طرف واحد.
من المهم للغاية التفريق بين الحقيقة ووجهة النظر. إجتياح العراق عام 2003, تراجيديا حماة عام 1982, قصف البرلمان عام 1945, قصف سيدي عامود 1925 أحداث حقيقية و الخلاف يكمن في كيف و لماذا و من وهذه التفاصيل تختلف جذرياً حسب الراوي تماماً كإختلاف رواية الطليق عن الطليقة عندما ينهار الزواج.
No comments:
Post a Comment