Thursday, May 31, 2018

معاوية وقصر الخضراء

لا يوجد لدينا معلومات دقيقة عن مكان قصر الحاكم في العهود السابقة للإسلام وإن اعتقد بعض المؤرّخين وعلى رأسهم المستشرق الفرنسي Jean Sauvaget أنّه كان في العصر الهلنستي  على بعد حوالي ٣٠٠ متر جنوب شرق المعبد على الطرف الجنوبي من الشارع المستقيم كما نرى من الخارطة أدناه. 

دمشق الهلنستيّة-الرومانيّة حسب جان سوفاجيه


فيما يتعلّق بقصر معاوية المدعو الخضراء فعلى الأغلب كان أقرب بكثير إلى حرم المعبد ومسجد الصحابة الواقع جنوب شرق هذا المعبد كما رأينا وأمّا عن تسمبته فهي عائدة لقبّته الخضراء والتي لربّما رمزت للقبّة السماويّة وكان الحيّ غرب قصر معاوية يدعى بحارة القباب نظراً لتواجد عدد من القصور الأمويّة فيه وآوت هذه المنطقة أيضاً داراً للخيل الملكيّة (جنوب باب الزيادة) وسجناً وداراً لسكّ النقد وديواناً أو هكذا على الأقلّ روى ابن عساكر. النتيجة أنّه بغضّ النظر عن المسافة بين دار العبادة وقصر الإمارة، هناك ما يدعوا للاعتقاد أنّ هذا القصر كان دوماّ جنوب الجدار القبلي للمعبد من العصر الهلنستي مروراً بالروماني والبيزنطي ووصولاً إلى العهد الإسلامي. هذا النموذج لم يقتصر على دمشق بل كان شائعاً في العمائر الأمويّة كما وصفها المؤرّخون. 

يعرف عن معاوية بدعة بناء مقصورة بجانب محراب الصحابة كان يدخل إليها من خلال باب في الجدار القبلي للمسجد دعاه المقدسي باب الخضراء وكان بمثابة باب خاصّ للخليفة وحده يدخل منه من قصره إلى الجامع الواقع في القسم الشرقي للمعبد القديم مروراً برواق يصل بينهما من الجنوب إلى الشمال وكما نرى من المخطّط أدناه كان هناك مدخلان في الجدار القبلي للمعبد الأوّل شرقي وخاصّ (باب الخضراء) والثاني غربي (باب الزيادة أو باب الساعات الأوّل) وهذا الأخير عامّ وإت استعمله الخليفة في المناسبات التي يدخل فيها إلى الحرم مع من يواكبه بصورة رسميّة ومهيبة متّخذاً طريقاً يبدأ من  قصر الخضراء متّجهاً إلى الغرب حتّى النصب الرباعي الوجوه tetrapylon ثمّ ينعطف شمالاً ٩٠ درجة قبل الدخول من باب الزيادة-الساعات. يعود الفضل في وصف بقايا هذا الطريق-الرواق المعمّد للمبشّر الإيرلندي Porter ويمكن هنا التساؤل عمّا إذا أعاد الوليد بناء الخضراء أو أجرى تعديلات عليه ولكنّنا لا نملك جواباً شافياً في هذا المضمار. 

الجامع الأموي وقصر الخضراء حسب فينبار


من المثير للاهتمام هنا المقارنة بين علاقة قصر الخضراء مع الجامع وبين علاقة القصر الإمبراطوري في القسطنطينيّة مع كاتدرائيّة آيا صوفيا. في الحالتين يقع القصر جنوب المعبد وفي الحالتين هناك ممرّ شرقي خاص لاستعمال الحاكم يتّجه شمالاً ليصل بين القصر والمعبد وآخر غربي عامّ يتّجه من القصر إلى الغرب ثمّ ينعطف شمالاً ليدخل هذا المعبد عن طريق باب الزيادة-الساعات في النموذج الإسلامي وما يسمّى Horologion نسبة للساعة في النموذج البيزنطي. لا يملك المرء إلّا الاستنتاج أنّ الأمويّين اقتبسوا ليس عناصراً معيّنةً من الزخارف والبناء من الروم فحسب، وأنّما أيضاً التخطيط العامّ لمركز المدينة وتوجّه أهمّ أوابدها الزمنيّة والدينيّة وعلاقة هذه الأوابد بعضها بالبعض الآخر اللهمّ إلّا إذا اعتقدنا بوجود نوع من توارد الخواطر. يمكن تفسير هذا بإعجاب الأموييّن بالحضارة البزنطيّة واحترامهم لإنجازاتها رغم العداوة بين الطرفين أو بمحاولتهم للتفّوق على بيزنطة ثقافيّاً وجماليّاً وفنيّاً كما هزموها عسكريّاً في أكثر من مناسبة (الجامع الأموي مع صحنه أكبر بكثير من كاتدرائيّة آيا صوفيا) أو بطموحهم إلى فتح القسطنطينيّة التي جذبتهم كالمغناطيس كما جذبت الصليبييّن (مطلع القرن الثالث عشر) والعثمانييّن (منتصف القرن الخامس عشر) والروس (على الأقلّ اعتباراً من القرن التاسع عشر) من بعدهم. نحح الصليبيّون والعثمانيّون حيث فشل الأمويّون وقياصرة الروس. 

مقارنة بين قلب القسطنطينيّة وكاتدرائيّة آيا صوفيا وبين الأموي والخضراء في دمشق حسب فينبار


للحديث بقيّة



https://books.google.com/books?id=r5f8kxIyykQC&printsec=frontcover&source=gbs_ge_summary_r&cad=0#v=onepage&q&f=false

Wednesday, May 30, 2018

من معبد آرام دمشق إلى جامع بني أميّة الكبير

تعرّضت في الأيّام الفائتة إلى مجموعة دراسات نشرت قبل ثمانية عشر عاماً في كتاب أكاديمي عن جامع بني أميّة الكبير في دمشق للدكتور  Finbarr  يتعرّض فيه إلى فسيفساء وكرمة وساعات هذا الجامع. قبل الاستمرار في استنتاجاته عن محيط الجامع وعلاقته بقصر معاوية ومقارنته مع كاتدرائيّة آيا صوفيا في القسطنطينيّة أودّ أن ألخّص في هذه الأسطر القليلة تاريخ أهمّ أوابد مدينة دمشق على الإطلاق مع إمكانيّة الضغط على الروابط لمن يريد التوسّع. 

عن كريزويل


لم يبق من العهد الآرامي الشيء الكثير ويمكن تعميم هذه الملاحظة على العهد الهلنستي ولكن لدينا معلومات لا بأس بها عن معبد جوبيتر الروماني والذي يمكن للتبسيط أن نقسمه إلى معبد خارجي مساحته حوالي ١١٧٠٠٠ متر مربّع ومعبد داخلي مساحته حوالي ١٦٠٠٠ متر مربّع وهذا الأخير يطابق على وجى التقريب مساحة الجامع الأموي حاليّاً ويرتفع حوالي خمسة أمتار عن المعبد الخارجي. مدخل المعبد الرئيس كان من الشرق (باب جيرون والرواق المعمّد المؤدّي إليه).  

عن كريزويل


تحوّل المعبد الداخلي إلى كنيسة يوحنّا المعمدان في عهد الإمبراطور ثيودوسيوس (نهاية القرن الرابع للميلاد) أمّا المعبد الخارجي ففقد وظيفته الدينيّة وغلب عليه الطابع التجاري ومع مرور الزمن غزته الأسواق والمباني وإن كان لا يزال باستطاعتنا رؤية بقايا البوّابة الخارجيّة وأعمدتها الشامخة غرب باب البريد. مدخل الكتيسة الرئيس كان من الجنوب. 

نأتي الآن على قصّة اقتسام الكنيسة بين المسلمين والمسيحييّن بعد الفتح الإسلامي. يرى Creswell أنّ ما تمّ اقتسامه فعلاً لم يكن الكنيسة إذ أنّها (المخطّط أدناه) كانت تشغل حيّزاً في القسم الغربي للمعبد الداخلي وأنّ ما حصل فعلاً أنّ المسلمين بنوا بكلّ بساطة ما عرف باسم جامع الصحابة في القسم الشرقي للمعبد الروماني الداخلي دون المساس بالكنيسة إلى أن قام الوليد ابن عبد الملك بهدمها في مطلع القرن الثامن الميلادي ليبني الجامع الأموي كما نعرفه حاليّاً والذي حافظ على شكله العامّ منذ ذلك الوقت رغم الكوارث العديدة التي انتابته عبر القرون.

عن كريزويل


اعتقد بعض الرحّالة الأوروبييّن أنّ الوليد لم يبن شيئاً سيتحقّ الذكر وأنّ ما جلّ ما فعله تحويل الكنيسة إلى جامع بل ورسمه أحدهم مع صلبان تعلوا قبّة النسر ومآذنه. ليس هذا بالمستغرب في زمن كان دخول الجامع فيه محرّماً على غير المسلمين وظلّ هذا الوضع سائداً حتّى حرب القرم في مطلع النصف الثاني للقرن التاسع عشر. 

للحديث بقيّة. 

Tuesday, May 29, 2018

ساعات الجامع الأموي‎

قبل الدخول في البحث دعنا نلقي نظرة سريعة على مخطّط المبشّر الإيرلندي Josias Leslie Porter عام ١٨٥٥ للجامع الأموي والمنطقة المحيطة به. يقرّ جميع المؤرّخين بالدقّة غير المسبوقة حتّى ذلك الوقت لهذه الخارطة والتي نرى فيها شمال الجامع من الشرق إلى الغرب المدرسة الشميساطيّة فالقنصليّة الإنجليزيّة (بيت سعيد القوّتلي) فضريح صلاح الدين وأخيراً المدرسة الظاهريّة. سوق الكتب في الغرب هو المسكيّة طبعاً  ونرى سوق العبيد في الجنوب الغربي (خان الجوار أو خان الحرمين) ولكن ما يهمّنا هنا بالدرجة الأولى جدار الجامع الجنوبي وباب الزيادة قرب نهايته الغربيّة حيث شاهد Porter بقايا رواق معمّد يتّجه من باب الزيادة متعامداً عليه إلى الجنوب لينعطف إلى الشرق لدى نصب رباعي الوجوه  Tetrapylon ليتابع مسيره موازياً لسور الجامع الجنوبي. كان هذا الرواق لا يزال موجوداً عام ١٨٧٦ استناداً إلى دليل Baedeker واندثر قبل نهاية القرن التاسع عشر. 



لنا عودة إلى باب الزيادة ولكن قبل ذلك أريد التطرّق إلى ساعة باب جيرون الشهيرة التي بناها  محمّد ابن علي ابن رستم الخراساني الساعاتي في عهد نور الدين على الأغلب بين ١١٥٤ و ١١٦٧ للميلاد. وصف ابن جبير الأندلسي هذه الساعة وصفاً دقيقاً ودون الدخول في التفاصيل يكفي القول أنّ الجزء المرئي منها تشكّل من غرفة ذات اثني عشر باباً ويقاس الوقت فيها نهاراً عن طريق أوزان تسقط من منقار أحد الطيور في وعاء في الأسفل لدى انصرام ساعة من الزمن محثة صوتاً أمّا ليلاً فهذا القياس يتمّ عن طريق أضواء يستعاض بها عن الأصوات في قرص كبير يعلوا الأبواب كما نري في الرسم أدناه. نستدلّ من وصف ابن جبير (أواخر القرن الثاني عشر) أنّ هذه الساعة آليّة ولكن ابن بطوطة وصفها باليدويّة في مطلع القرن الرابع عشر وعلّ هذا يعود لعطل أصابها بين الزمنين. بالطبع لم يكن هناك ضرورة لبناء ساعة معقّدة ومكلفة لهذه الدرجة إذا أخذنا بعين الاعتبار وجود وسائل لقياس الوقت أرخص بكثير كالساعة الشمسيّة التي اخترعها ابن الشاطر لمئذنة العروس (والتي ذكرها الدكتور عبد القادر ريحاوي ونستنتج من هذا أنّ الهدف من ساعة باب جيرون كان نفسيّاً وجماليّاً لإبهار الزائر والسكّان على حدّ سواء بتقدّم وغنى دمشق. أعطت هذه الساعة لباب جيرون اسم باب الساعات وأمّا عن قبّة الساعات في شرق صحن الجامع فتستمدّ اسمها من استعمالها كمكان لخزن قطع هذه الساعات فيما مضى. دمّرت ساعة باب جيرون على الأغلب خلال حريق شبّ عام ١٣٩٢ إذ لا ذكر لها فيالمراجع بعد هذا التاريخ اللهمّ إلّا من نقل عن السلف.   

مخطّط من القرن الثاني عشر لساعة باب جيرون


هناك كمّ هائل من الالتباس في المصادر التاريخيّة بين ساعة باب جيرون والباب الذي أعطته اسمها وبين الساعة الأصليّة (التي اندثرت قبل تدوين الغالبيّة العظمى من المصادر التي وصلتنا عن تاريخ ووصف الجامع) وباب الساعات الأصلي كما ذكرهما المقدسي في القرن العاشر وأشار إليهما لاحقاً الحافظ ابن عساكر وابن شدّاد والعلموي والنعيمي بما لا يدع مجالاً للشكّ أنّ الكلام هنا عن جدار الجامع القبلي وليس جداره الشرقي وأمّا عن كيفيّة عملها فهي غناء عصافير وظهور ثعبان ونعيب غراب وسقوط حصوة في إناء صغير بعد انقضاء كل ساعة. نستنتج ممّا سبق أنّ باب الساعات الأصلي هو ما نعرف حاليّاً باسم باب الزيادة والذي تشير الأدلّة أنّه بني بين مطلع القرن الثامن (أي لدى بناء الجامع) ومطلع القرن العاشر للميلاد ويميل الدكتور Finbarr إلى التاريخ الأبكر عندما قام الوليد بسدّ الوجهة الثلاثيّة الفخمة في جدار المعبد الجنوبي ليضع المحراب الرئيس في مكان فتحتها الغربيّة كما نرى في الرسم أدناه.

الجدار القبلي للجامع الأموي ونرى أسفل المجاز المعترض بوّابة المعبد الثلاثيّة القديمة


أدّى سدّ البوّابة الجنوبيّة إلى الحاجة لمدخل يحلّ محلّها ومن هنا باب الزيادة الذي تمّت "زيادته" أي إضافته لأبواب الجامع الثلاث الباقية قي الشرق والغرب والشمال كما وصفها (أي الأبواب الأربعة) ابن جبير خلال زيارته للمدينة عام ١١٨٤. هنا تجدر الإضافة أنّ باب الزيادة أزيح قليلاً إلى الشرق (خريطة Porter تظهر بوضوح أنّ بقايا الرواق المعمّد الجنوبي تقع على مسافة قصيرة غرب باب الزيادة)  وتمّ سدّ الباب الأصلي عام ١٣٢٨ كما نعاين في الصورة التالية:

النهاية الغربيّة لجدار الجامع القبلي ونرى آثار باب الزيادة القديم المسدود


الخلاصة باب الساعات الأصلي أو الأوّل نسية للساعة الأولى يعود على الأغلب لزمن الوليد ابن عبد الملك ويقع في الجدار القبلي للجامع ونعرفه اليوم (بعد إزاحته قليلاً إلى الشرق) تحت اسم باب الزيادة بينما باب الساعات الثاتي يطابق باب جيرون في جدار الجامع الشرقي ويعود لعهد الأتابك نور الدين.  اندثرت الساعة الأولى والساعة الثانية منذ قرون. 

للحديث بقيّة.  

Monday, May 28, 2018

كرمة الجامع الأموي


ركّز رواة القرون الوسطى على عنصرين من عناصر زخرفة الجامع الأموي: الأوّل هو الفسيفساء والثاني الكرمة (وأقدم ذكر لها في اين عساكر). هناك عدد لا بأس به من الدراسات التي تصف تفاصيل الفسيفساء وتفسّر معانيها ولكن نصيب الكرمة من الاهتمام كان أقلّ بكثير والسبب بسيط، لا زلنا نملك قسماً كبيراً من الفسيفساء رغم نوائب الدهر وجهل الإنسان وأمّا عن الكرمة فقد اندثرت في أعقاب حريق عام ١٨٩٣ إلى غير رجعة ومع ذلك فالأدلّة الكتابيّة والصوريّة على وجودها قاطعة ولا تقبل الدحض وتعطي فكرة معقولة عن شكلها وأبعادها ومكان تواجدها ممّا أتاح للدكتور Finbarr  الفرصة ليعطيها مشكوراً بعض حقّها. 

الجدار القبلي للجامع الأموي قبل حريق ١٨٩٣ للميلاد


من نافل القول أنّ استعمال الكرمة كعنصر زخرفي (كما هو الحال في الفسيفساء) سابق للإسلام والمسيحيّة وهو (أيضاً شأنه شأن الفسيفساء) يحمل معانٍ دينيّة (الجنّة التي وعد الله بها المؤمنين وأيضاً الربط بين الكرمة التي تظلّل العرش الإلهي وتمثيلها في هيكل سليمان حسب الرواة والذي نقل عنه المسلمون رمزيّاً في كرمة قبّة الصخرة) وزمنيّة (كما استعملها ملوك السلالة الأخمينيّة في إيران) وجماليّة ونراه في كنيسة آيا صوفيا في القسطنطينيّة كما نراه في بعض المعابد الوثنيّة (كمثال بعض الآثار النبطيّة جنوب سوريا) التي يرتبط فيها اسم الإله الإغريقي Dionysus (الروماني Bacchus) بالخمر والكروم. مع ذلك هناك فرق بين موضع الكرمة في المعابد الوثنيّة (مؤطّرة للأبواب وفوق سواكفها) وبينه في الجامع الأموي (داخل حرم الصلاة). 

الصورة العليا للكرمة كما تظهر على قطع رخاميّة من الجامع الأموي والسفلى لحرم الصلاة من من الغرب إلى الشرق قبل حريق ١٨٩٣ ويبدو شريط الكرمة في الخلفيّة وإن تعذّرت رؤية التفاصيل


لربّما كانت لوحة الفنّان Frederic Leighton التي نفّذها بين الأعوام ١٨٧٣-١٨٧٥ أفضل وصف للكرمة المذهّبة كما بدت في جدار قاعة الصلاة القبلي بشكل شريط بين الوزرة (dado أي الجزء السفلي المزخرف من الجدار) والفسيفساء التي تعلوا هذا الجدار. لا يوجد طريقة مضمونة اليوم لتحديد عرض الشريط بدقّة إذ قدّره Creswell بحوالي ٦٠ سنتمتراً بينما ارتأى Finbarr أنّ رقم ٤٥ سنتمتراً هو الأقرب للصواب. في كلّ الأحوال يمكن الاستدلال من الصور الفوتوغرافيّة الملتقطة قبل حريق ١٨٩٣ أنّ هذا الشريط كان يدور على جدران حرم الصلاة الأربعة وأنّه كان على ارتفاع يتراوح بين ٣-٤ أمتار عن أرضيّة الجامع وأنّ تقنيّته تتلخّص في تطبيق عجينة داكنة اللون للخلفيّة مع تذهيب النحت البارز وأنّه كان متمّماً لنقوش كتابيّة زيّنت الحائط الجنوبي لحرم الصلاة. 



قضى حريق ١٣١١ للهجرة (١٨٩٣ للميلاد) على الكثير وكانت الكرمة من ضحاياه أو بالأحرى ضحايا ما بعد الحريق. لماذا ما بعد الحريق؟ السبب ببساطة وجود صور فوتوغرافيّة لأقسام كبيرة من إفريز الكرمة المذهّب التي نجت من اللهب وتمّ جمعها وتخزينها بهدف إعادة استعمالها في الترميم ولكن لم يقدّر لها في نهاية المطاف أن تعود إلى مكانها الأصلي. مع ذلك نستطيع من هذه الصور أن نميّز أنّ شريط الكرمة لم يكن ١٠٠% "كرمة" نظراً لتناوب العنب والرمّان فيه كما نرى من الصورة والرسم أدناه.

الصورة العليا لإفريز الكرمة فوق المحراب قبل حريق عام ١٨٩٣ والسفلى ترسيم توضيحي للكرمة 


.للحديث بقيّة

Sunday, May 27, 2018

ترجمة فسيفساء جامع بني أميّة الكبير

من المؤكّد أنّ فسيفساء جامع دمشق الأموي الحاليّة تقلّ عن نظيرتها في عهد الوليد ابن عبد الملك كمّاً ولربّما أيضاً نوعاً. ليس هذا بمستغرب في جامع يتجاوز عمره ١٣٠٠ سنة مرّ عليه خلالها أكثر من الكفاية من الكوارث منها الطبيعيّة ومنها من نجم عن إهمال البشر وتخريبهم. قصّة الفسيفساء التي كات مغطّاة بالكلس والتي كشفها السيّد de Lorey في عهد الانتداب الفرنسي معروفة وكذلك الأمر فيما يتعلّق بالخسائر الناجمة عن حريق ١٨٩٣. 

Photo source:  DEGEORGE. La Grande Mosquée des Omeyyades


يرى الكثير من العلماء أنّ فسيفساء الأموي بقصورها وأنهارها وأشجارها ترمز إلى جنّتين إحداهما سماويّة وعد الله بها المؤمنين والثانية أرضيّة هي مدينة دمشق وغوطتها ومبانيها ونهرها بردى ولكن دراسة الدكتور Finbarr لا تهدف إلى تغطية فسيفساء الجامع بالتفصيل وإنّما تركّز على عنصر محدّد فيها هو "اللآلىء المعلّقة" التي نراها بوضوح في الصورة أعلاه. استعمال اللؤلؤة المعلّقة في الزخارف والفسيفساء سابق للإسلام ونرى نماذج منه في الشرق المسيحي لدى الأقباط والبيزنطييّن وله معاني رمزيّة (أحدها صفاء وإشعاع المسيح) علاوة على قيمته الجماليّة. الدرّة تمثّل أيضاً المصباح والنجوم في القبّة السماويّة ومنازل المؤمنين في الجنّة كما فصّل عبد الملك ابن حبيب الأندلسي (مات ٨٥٣ للميلاد) في كتاب وصف الفردوس :

"وحدّثني بعضهم أنّ في كلّ خيمة من خيام الجنّة التي هي من لؤلؤة مجوّفة طولها أربع فراسخ في أربع فراسخ وفي الارتفاع مثل ذلك سرر عليها من الدرّ والياقوت وعلى كلّ سرير فرش منضودة ملوّنة بعضها فوق بعض وأمام كلّ سرير طنفسة قد طبقت الخيمة منسوجة بالدرّ والياقوت والزبرجد في قضبان الذهب والفضّة وعلى كلّ سرير زوجة من الحور االعين يطفىء نورها نور الشمس مع كلّ زوجة سبعون جارية وسبعون غلاماً كما قال الله: ويطوف عليهم غلمان كأنّهم لؤلؤ مكنون".

A watercolor painting by Phené Spiers of the hall of prayers looking north prior to the 1893 fire


يروي إبن عساكر أنّ الوليد طالب مساعدة "طاغية" الروم في بناء الجامع الأموي في دمشق تحت طائلة غزو أراضي الروم وتدمير الكنائس المسيحيّة (منها كنيسة القيامة) تحت حكم الأموييّن إذا امتنع الإمبراطور عن التلبية. على الأغلب خضع نصّ هذه الرسالة المزعومة إلى الكثير من "التبهير" بين موت الوليد وعصر إبن عساكر (القرن الثاني عشر للميلاد) ولكن من الملفت للنظر أنّه يعزى للوليد طلب مساعدة الروم في بناء جامع دمشق وإعادة بناء جامع المدينة (تقول الروايات أيضاً أنّ أمويّي الأندلس التمسوا مساعدة بيزنطة لبناء جامع قرطبة) وليس هناك ذكر مماثل لمساهمة بيزنطيّة -طوعيّة كانت أم قسريّة- في الجامع الأقصى وقبّة الصخرة وكلا الأخيرين خال من الدرر المعلّقة ممّا يعزّز فكرة كون هذه اللآلىء نموذجاً ترجمه الأمويّون عن مصادر سابقة عن طريق القسطنطينيّة.



للحديث بقيّة 



Saturday, May 26, 2018

جامع بني أميّة الكبير


يختزل الجامع الأموي في العهد الإسلامي ومن قبله كنيسة يوحنّا المعمدان ومعبد جوبيتر حتّى حدد إله آرام دمشق تاريخ المدينة العظيمة الذي يتجاوز ثلاثة آلاف عام. ليس هذا الجامع أهمّ معالم دمشق الدينيّة منها والدنيويّة قاطبة فحسب، ولكنّه أيضاً أحد أبكر وأكبر وأجمل وأفخم الجوامع التاريخيّة في العالم ونموذج احتذى به كثير من بناة دور العبادة الإسلاميّة التي تلته. أضف إلى هذا وذاك أنّ تاثيره العماري والفنّي يتجاوز الإسلام نظراً لتاريخه الطويل.  



المؤلّف هو الدكتور Finbarr Barry Flood من جامعة Edinburgh وعنوان الكتاب الصادر عام ٢٠٠٠  "دراسات في صناعة ثقافة أمويّة بصريّة". المكتوب "مبيّن من عنوانو" كما يقولون: البحث أكاديمي معقّد وليس بالتأكيد موجّهاً لقارىء على عجلة من أمره يبحث عن المختصر المفيد. علاوة على ذلك لا تغطّي صفحات الكتاب (٣٣٠ مع ٩٠ صورة ملحقة) الجامع ككلّ وهي بالتأكيد لا تهدف لذلك. من أراد تغطية وافية ومهنيّة للجامع فعليه بكتاب الدكتور طلال عقيلي ومن تستهوه الصور الكبيرة الملوّنة الرائعة بدقّة عالية مع سرد ممتع للغاية لتاريخ الجامع يمكن له مراجعة كتاب العالم الفرنسي  Gérard Degeorge. أخيراً من لم يملك الوقت أو الرغبة لقراءة سفر كامل مخصّص للمعبد يستطيع الرجوع إلى الحيّز الذي خصّصه العالم الأوسترالي Ross Burns للجامع في كتابه القيّم عن تاريخ مدينة دمشق. 


يتناول الدكتور Finbarr البحث من منظور مختلف مركّزاً على عناصر معيّنة في زخرفة الفسيفساء والكرمة على جدار الحرم (اندثرت بعد حريق ١٨٩٣ كما سنرى لاحقاً) والساعة على الجدار الجنوبي (غير ساعة باب جيرون كما سنرى) والنقوش الكتابيّة في حرم الصلاة (اندثرت)  وعلاقة الجامع بالنسيج العمراني المحيط به ويقارن كلّ هذا مع المواصفات التي وصلتنا عن كنيسة المعمدان في دمشق وآيا صوفيا في القسطنطينيّة وما سبقها.  كلّ هذا وأكثر في نظر المؤلّف كان في إطار برنامج عمراني غير مسبوق واسع المدى وهائل الحجم نفّذه الوليد ابن عبد الملك ليس في دمشق فحسب، وإنّما أيضاً في المدينة المنوّرة ومكّة وجامع ودار إمارة الفسطاط في مصر وجامع صنعاء الكبير وعمليّاً لم يستثن هذا البرامج إلّا العراق لأسباب سياسيّة يعرفها الجميع. 

كان لهذا البرنامج أبعاد دينيّة وأبعاد سياسيّة. كان عدد المسلمين يتزايد بسرعة وبالتالي فلا بدّ من بناء دور عبادة لتلبية حاجاتهم الروحيّة ولكن هذه الحاجات لا تستدعي بالضرورة هذا المستوى من البذخ الذي يحتاج إلى المزيد من الشرح والتفسير وهنا يبرز البعد السياسي: أحد أهداف الوليد كان توجيه رسالة واضحة ليس فقط إلى الأمّة الإسلاميّة (مفهوم الأمّة هنا بالطبع مختلف جذريّاً عمّا آل إليه اعتباراًَ من القرن التاسع عشر تحت تأثير أوروبا) بل أيضاً إلى العالم الخارجي عموماً وبيزنطة خصوصاً أنّ الإسلام باق وأنّ الوليد وأسرته المالكة باقون وأنّه وأنّهم على أقلّ تقدير أنداد للقسطنطينيّة التي حاول الأمويّون أخذها بالقوّة عدّة مرّات وفشلوا. 

يزعم بعض المستشرقين أنّ الوليد لم يفعل أكثر من نسخ أساليب البيزنطييّن في عمائرهم التي استحوذ ومن سبقه من الفاتحين العرب عليها بحدّ السيف ولكن الموضوع في نظر الدكتور Finbarr كان أعقد من ذلك بكثير. ما فعله الوليد ومهندسوه هو "ترجمة" بعض التراث الفنّي السابق كي يصبح هذا التراث موائماً لحاجات الدولة الفتيّة وفي نفس الوقت يحافظ على درجة كافية من الاستمراريّة لضمان ولاء بلاد الشام -عمود الإمبراطوريّة الفقري ومركز ثقلها- التي كاتت لا تزال مسيحيّة في أغلبيّتها الساحقة.

للحديث بقيّة. 

Friday, May 25, 2018

السوريّون في الولايات المتّحدة الأمريكيّة


يقصد الدكتور فيليب حتّي بالسورييّن هنا سكّان سوريا الحاليّة واسكندرون ولبنان وفلسطين أي بلاد الشام قبل الحرب العالميّة الأولى والتي تمتدّ من جبال طوروس والفرات شمالاً إلى سيناء جنوباً ومن بادية الشام شرقاً إلى البحر المتوسّط غرباً. لا غرابة في ذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ الكتاب إصدار عام ١٩٢٤ ولم يكن من الواضح آنذاك مدى ديمومة الكيانات الجغرافيّة-السياسيّة التي خلقتها بريطانيا العظمى وفرنسا في الشرق الأدنى على المدى البعيد. الدراسة هنا تستهدف المهاجرين السورييّن لأمريكا وليس الوطن الأمّ وهي تبدأ بتعريف مختصر بالبلاد الأصليّة وقاطنيها ومن ثمّ تنتقل إلى دوافع الهجرة وأخيراً تفصّل في وضع السورييّن في وطنهم الجديد من النواحي الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والتعليميّة والدينيّة والثقافيّة ويختم المؤلّف ببعض المقترحات لتسهيل "هضم" المهاجرين في ما وراء الأطلسي.   



لم يكن مفهوم المواطنة والقوميّة متطوّراً في بلاد الشام وقتها. السوريّون عشائريّون في الوطن والمهجر ويتّبعون نظام الملّة (أي الدين أو الطائفة) كما توارثوه من العهد العثماني وما سبقه ويضرب مثالاً على ذلك ببطرك الموارنة الذي مثّل مشاعر مسيحييّ لبنان "السياسيّة" وطموحاتهم "القوميّة" في مؤتمر السلام في باريس عام ١٩١٩. يميّز السورييّن أمران: الأوّل لغتهم العربيّة (وهي تجمعهم) والثاني دياناتهم وهي تفرّق طوائفهم بعضها عن بعض ولكنّها تجمع أفراد الطائفة الواحدة تحت قيادة زعاماتها الدينيّة.

أمّ سوريّة مع ابنها الأمريكي

الغالبيّة العظمى ممّن هاجروا لأمريكا مسيحيّون وأكثرهم موارنة (٩٠٠٠٠) وروم أورثوذوكس (٨٥٠٠٠) وهناك عدد أقلّ من الروم الكاثوليك Greek Catholics (يخلطهم كثيرون مع ال Roman Catholics والذين يصنّفون في سوريا لاتين) وهناك أقليّة صغيرة من الإنجيلييّن أو البروتستانت. عدد المسلمين لا يزيد عن ٨٠٠٠ وأوّل مساجدهم كان في Detroit عام ١٩٢١ وهناك مسجد آخر في Gary في ولاية Indiana. لا توجد إحصاءات عن اليهود السورييّن لأنّهم كانوا يحتسبون مع سائر اليهود المهاجرين للولايات المتّحدة وليس كسورييّن. للمقارنة قدّر عدد سكّان الولايات المتّحدة الإجمالي عام  ١٩٢٠ بحوالي ١٠٦ مليون. 

أوّل سوري يطأ أمريكا كان لبنانيّاً يدعى أنطونيو بشلاني وكان هذا في Boston عام ١٨٥٤ أمّا أوّل دمشقي فهو جوزيف أربيلي عام ١٨٧٨. بشكل عامّ المهاجرون الأوائل كانوا من الذكور الشباب الفقراء (الأفضل حالاً هاجروا إلى مصر) والمسيحيّون أميل لاصطحاب نسائهم من المسلمين والدروز. أسباب الهجرة بالطبع اقتصاديّة بالنسبة للغالبيّة العظمى وهناك عوامل إضافيّة كالتهرّب من الخدمة العسكريّة في الجيش العثماني الذي فرضها على المسيحييّن عام ١٩٠٩ وبالطبع هناك عوامل دينيّة وسياسيّة إضافيّة وغيرها. 

الكشّافات والكشّافون من السورييّن الأمريكان

خدم السوريّون أمريكا بإخلاص بحبّهم للعمل وتكاتف عائلاتهم وندر من استجدى منهم وهم عموماً متحفّظون ينأون عن السكر والعربدة وإناثهم بالذات عفيفات. علاوة على كلّ ذلك تطوّعوا في الجيش الأمريكي وحاربوا تحت رايته قبل إلزام الشباب بالخدمة عندما لم بعد عدد المتطوّعين كافياً مع احتدام وطيس الحرب العظمى (دخلتها الولايات المتّحدة عام ١٩١٧).

ينهي الدكتور حتّي كتابه بمجموعة من التوصيات "لأمركة" المهاجرين السورييّن وأهمّها بالنسبة إليه تعزيز دور الكنيسة إذ مع زيادة عدد المهاجرين الداخلين في حياة أمريكا الدينيّة تتسارع وتتحسّن عمليّة صهرهم في بوتقة الوطن الذي تبنّاهم.    

Friday, May 18, 2018

دليل زائر دمشق في القرن الواحد والعشرين


رأى هذا الكتاب النور عام ٢٠١٠ وعلّه أحدث دليل ورقي لدمشق الحبيبة حتّى اليوم. قامت السيّدتان كارول قرم (لبنانيّة) وميّ معمرباشي (حلبيّة الأصل) بتحريره وساهم فيه الكثيرون كما سنرى. لكلّ عمل مناقبه ومثالبه وليس هذا الكتاب باستثناء وسأبدأ باالنواقص وأهمّها على الإطلاق ضعفه من الناحيتين التاريخيّة والتوثيقيّة سواء تعلّق الأمر بالتاريخ الموغل في القدم أو الحديث والمعاصر. الأخطاء كمّاً ونوعاً تزيد إلى حدّ بعيد عمّا يمكن اعتباره مقبولاً وسأكتفي ببعض الأمثلة:

١. صفحة ١٧ قسطنطين الكبير يعلن المسيحيّة ديانة رسميّة ويحرّم الديانات الوثنيّة عام ٣٩٢ للميلاد (الصحيح ثيودوسيوس طبعاً).
٢. صفحة ١٩ قوات Vichy تقصف دمشق عام ١٩٤٥ (انتهى وجود القوّات المواليّة لحكومة Vichy في سوريا عام ١٩٤١).  
٣. ثالثة الأثافي (صفحة ٣٥) "جامع أنور السادات" في دمشق والمقصود طبعاً جامع الأقصاب أو جامع السادات الزينبيّة. الخطأ هنا كوميدي بامتياز. 

ليست هذه الأمثلة الثلاثة سوى غيض من فيض وبالتالي فليست هذه الصفحات (٢٠٠ ونيّف) بمرجع موثوق عن تاريخ المدينة لا من ناحية التسلسل الزمني ولا الحقائق ولا الطبوغرافيا رغم الجهد المبذول فيها. 



تأتي الآن إلى المزايا -وهي كثيرة- وفي كلّ الأحوال "إنّ الحسنات يذهبن السيّئات". 

الكتاب صغير الحجم خفيف الحمل جيّد الورق حلو الطباعة سهل الأسلوب وتزيّنه عدّة صور رقميّة ملوّنة عالية الجودة والعديد من الخرائط البسيطة الجذّابة. لغته انجليزيّة وهذا يجعله في متناول أكبر عدد ممكن من زوّار المدينة وهنا يجب التوكيد أنّ اهتمام معظم السيّاح في كافّة بلاد العالم يتجاوز المعالم الأثريّة مهما بلغت عراقتها. السائح يريد فندقاً يبيت فيه ومطاعماً يرتادها وأسواقاً يشتري منها ما يروق له من المنتوجات المحليّة وأماكناً للّهو والتسلية وبالتالي فما يهمّ السائح في أي دليل هو معلومات عن المواصلات وأكلاف الإقامة والمأكولات المحليّة والتحف الشرقيّة وعلب الليل ودور السينما والمسارح والمصارف والهواتف المفيدة والطبابة إذا استدعى الأمر وكيفيّة الحصول على تأشيرة دخول وهلمّجرّا. كلّ هذه المعلومات وأكثر موجودة في هذا الكتاب الذي يعطي أيضاً عناوين المواقع الإلكترونيّة عندما تتوافر. 

جميع الفنادق المذكورة غالية بمقاييس سوريا وكلّ الأسعار فوق ١٠٠ دولار بالليلة وبعضها يتجاوز ٢٠٠ (لم تتنازل المؤلّفتان بذكر السميراميس مثلاً). تتواجد كثير من هذه الفنادق في دمشق القديمة داخل السور وهي بالطبع بيوت شاميّة تمّ تجديدها وتحويلها لأوتيلات باذخة. خلافاً للفنادق هناك خيارات تناسب جميع الميزانيّات فيما يتعلّق بالمطاعم من  المكلفة (شرقيّة الطراز كانت أم غربيّة) إلى المحلّات الشعبيّة كشاورما الصدّيق وفول بوز الجدي وعلاوة على هذه وتلك هناك حيّز لا بأس به خصّص للحلويّات الدمشقيّة وأشهر المحلّات التي تقدّمها من بكداش في سوق الحميديّة إلى غراوي وسميراميس والزنبركجي. تذكّر المؤلّفتان بأنّ عاصمة المأكولات الشهيّة في سوريا حلب وليست الشام. حظيت حمّامات دمشق أيضاً بذكر خاصّ (التيروزي وأمّونة والملك الظاهر والبكري) وهناك تغطية لدار الأوبرا والأوركسترا السوريّة والمهرجانات السينمائيّة والمعارض الفنيّة وصالات الرياضة والمقاهي وغيرها.



تناولت البضع عشرات الأخيرة من الكتاب مواضيع مختلفة بشكل مقالات قصيرة تتراوح بين ٢-٥ صفحات لعدّة كتّاب أخصّ منهم بالذكر Brigid Keenan صاحبة الكتاب الجميل "Damascus: Hidden Treasures of the Old City" وبالطبع غطّى مقالها البيوت (بالأحرى القصور) الدمشقيّة العريقة و Christa Salamandra أخصّائيّة الأنثروبولوجيا ومؤلّفة "A New Old Damascus" وهو كتاب يبحث في خلفيّات عودة النخبة إلى المدينة القديمة بداية من التسعينات ليس بهدف سكن البيوت التي أخلاها آباؤهم وأجدادهم وإنّما بهدف استثماها كمطاعم وفنادق أو الاستمتاع بجوّ "تقليدي" حديث. تعرّضت الكاتبة -فيما تعرّضت إليه- إلى أثر المسلسلات التلفزيونيّة وخصوصاّ "باب الحارة" في نشر اسم دمشق وثقافتها وفولكلورها عبر العالم العربي وحتّى ما وراء البحار. مسك الختام مقال قصير للعالم السوري الكبير الدكتور عبد الكريم رافق عمّا أسماه "المنافسة بين حلب ودمشق" في العهد العثماني من الناحيتين الاقتصاديّة والتجاريّة. 

كتاب ممتع وجهد مشكور للسيّدتين قرم ومعمرباشي وعسى الطبعات المقبلة تتلافي الهفوات المذكورة أعلاه. 



Saturday, May 12, 2018

استيطان فلسطين قبل تصريح بلفور


تردّدت بين كلمة "استيطان" و "استعمار" كعنوان لهذا المقال ولكن الفرق في نهاية المطاف طفيف فكلاهما يمكن استعماله إيجابيّاً أو سلبيّاً. في كلّ الأحوال عنوان الكتاب مصدر المعلومات أدناه "أرض الأنبياء" إصدار عام ١٩١٦ أي أنّه سبق تصريح بلفور ودخول الولايات المتّحدة الأمريكيّة في مجزرة الحرب العظمى (الحرب العالميّة الأولى) عام ١٩١٧. المؤلّف Albert Heusser (١٨٨٦-1929) أمريكي شغل منصب محاضر في قسم التعليم في مدينة نيويورك وكان عضواً في الجمعيّة الوطنيّة الجغراقيّة National Geographic Society وله عدّة مؤلّفات. قام السيّد Heusser بزيارة للشرق الأدنى قبيل (مقدّمة الكتاب عام ١٩١٣ ولكن النصّ يحتوي على كثير من الإشارات إلى الحرب) وفي مطلع "السفر برلك"  بدأت من بور سعيد في مصر ومنها إلى بيروت فدمشق ففلسطين استعمل فيها وسائل المواصلات الحديثة (السفن والقطار) إضافة إلى القديمة (العربات التي تجرّها الدواب وأحياناً صهوة هذه الدوابّ) عندما لم يتوافر له غيرها. نتج عن هذه الرحلة كتاب يتجاوز الثلاثمائة صفحة معظمها يحتوي على صور تاريخيّة بالأبيض والأسود.  عن خلفيّته الدينيّة الكاتب مسيحي وعلى الأغلب بروتستانتي بدلالة حبّه وتبجيله للشعب اليهودي وإيمانه الصهيونيّ الهوى بوجوب عودتهم إلى أرض الميعاد.  



ليست هذه القناعة بمستغربة من إنجيلي ملتزم يستهويه كتاب العهد القديم الذي يؤمن به العديد من الناس وبكلّ تفاصيله كحقائق تاريخيّة لا تقبل الجدل بله الدحض. هناك بعض التشابه بين استيطان أمريكا من قبل الأوروبيّين من المحيط الأطلسي إلى المحيط الهادي والذي أطلق عليه في الماضي اسم "القدر المتجلّي" (بالإنجليزيّة Manifest Destiny) وبين استيطان فلسطين (أيضاً على يد الأوروبييّن) على حساب سكّان البلاد الأصلييّن ومن العدل أن يقال أنّ مصير الفلسطينييّن غير اليهود كان أفضل من عدّة أوجه من مصير من أطلق عليهم الأوروبيّون تسمية "الهنود الحمر" و Winston Churchill لقب "المتوحّشين" ولم ير هذا الأخير غضاضة في قيام عرق "أقوى وأرفع درجة وأدرى بأمور العالم"  بإزاحتهم والحلول محلّهم.  

إذاً عنصريّة السيّد Heusser عاديّة ومنتشرة (وبالطبع ليس سكّان الشرق الأدنى أنفسهم على ضعفهم وتخلّفهم بغرباء عن العنصريّة التي تزخر فيها أدبيّاتهم ككتاب ألف ليلة وليلة مثلاً) وحتّى متنوّرة نسبيّاً إذ رغم أنّه وصف العرق التركي بأنّه أدنى من العرق العربي (صفحة ١٧٣) والدمشقييّن -على كثرة حمّاماتهم التي لم تفته الإشارة إليها- بالقذارة رغم أنّهم يهتمّون بأيديهم وأقدامهم "إلى درجة الوسوسة" (صفحة ٦٢ إشارة للوضوء) والخوارنة في كنيسة القيامة بالقذارة والأميّة (صفحة ١٧٧) والعرب بأنّهم أصحاب "مخّ سميك" وأهل القدس -غير اليهود- بالكسل والغباء (صفحة ٢١٥) ورغم ازدرائه للمدارس الإسلاميّة وتعليمها الذي لاقيمة له (صفحة ١١٠) ورغم ورغم ورغم .... يرتأي أنّ الله لن يستأثر بعطفه المؤمنين بالمسيح ويستثني المسلمين البسطاء الورعين (صفحة ١٨٨) ويدعو إلى تقديم المساعدات الاجتماعيّة والطبيّة لهم بغضّ النظر عن نجاح التبشير المسيحي بينهم. 

إعجاب المؤلّف باليهود واحترامه لهم لا حدود لهما عمليّاً فالعالم بأسره "مدين لهم" وقد بادلوا إسائته بإحسان (صفحة ٨٨-٨٩) عبر التاريخ وأمّا عن هجرتهم (وغيرهم من الأوروبييّن) إلى فلسطين فالأرض المقدّسة أحوج ما تكون "لدماء فتيّة" من الغرب واليهود أحقّ من المسلمين بالحرم الشريف (صفحة ١٥٥) . هنا تجدر الإشارة إلى هجرات غبر يهوديّة إلى فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين سواء كانت بشكل مستوطنات ألمانيّة بروتستانتيّة تنتظر المجيء الثاني للمسيح المنتظر (صفحة ٣٠٣) أو البعثات الدينيّة الروسيّة كون روسيا حامية المسيحييّن الأورثوذوكس في العالم عموماً والشرق الأدنى والديار المقدّسة خصوصاً. من الناحية العدديّة كانت هذه الهجرات أقلّ بكثير من نظيرتها اليهوديّة. 


ازدادت الهجرة اليهوديّة إلى فلسطين بعد تصاعد الاضطّهاد ضدّهم في روسيا ورومانيا عام ١٨٨١ وموّل هذه الهجرة كبار أثرياء اليهود في فرنسا (البارون Edmond de Rothschild) وإنجلترا (Sir Moses Montefiore) وغيرهم. لم يقتصر الدعم على رعاية الهجرة إلى فلسطين فالألماني Baron Maurice de Hirsch مثلاً ترك ٣٠ مليون دولار (صفحة ٢٩٠) لجمعيّة الاستيطان اليهودي Jewish Colonization Association وهو مبلغ خرافي في ذلك الوقت ويمكن إضافة صفرين بكل سهولة له في عملة اليوم ولكن البارون المذكور حبّذ الهجرة إلى الأرجنتين وليس فلسطين.  

إذاً لا غرابة في ازدهار المستوطنات اليهوديّة بعد هذه الاستثمارات الهائلة من عدد من أغنى أغنياء العالم وقتها وقد زار المؤلّف عدداً من هذه المستوطنات وأثنى على رقي أهلها وحسن ضيافتهم وطموحهم وورعهم وكدحهم وإنسانيّتهم (صفحة ٣١٠ الطبيب Kahan يقدّم العناية الصحيّة عن طيبة خاطر لليهود والعرب) وكفاحهم ضدّ البرداء (الملاريا) والرمد (التراخوما) التي كانت تعيث في البلاد فساداً لا بل يضيف أنّ الفضل يرجع لليهود (صفحة ٣٠٩) في جلب ثمار البرتقال والليمون إلى فلسطين بعد عودتهم من السبي البابلي ويحتفظ بأسمى آيات الثناء لمستوطنة تلّ أبيب الروسيّة (صفحة ٢٩٥)  في ضاحية يافا (معظم المستوطنات وقتها كانت تقع بين يافا والقدس). بالطبع لم يغفل الكاتب المقارنة بين قرى أهل البلاد الأصلييّن البائسة والمستوطنات الأوروبيّة الحديثة والأنيقة التي استعمل المهاجرون فيها أحدث التقنيّات لجرّ الماء والزراعة وتربية الحيوانات والتشجير. 

يختم الكاتب (صفحة ٢١٦) بالجزم أنّ فلسطين المستقبل لليهودي الذي سيقطنها وبعمّرها ويغنيها (قال أيضاً في صفحة ٣٠٠ أنّ النفوذ الأوروبي سيتعاظم في فلسطين بغضّ النظر عن المنتصر في الحرب العالميّة الأولى) وينهي الكتاب مستشهداً بكتاب العهد القديم والبيتان ١٤-١٥ من الإصحاح التاسع لسفر عاموس:

"وأردّ سبي شعبي إسرائيل فيبنون مدناً خربة ويسكنون ويغرسون كروماً ويشربون خمرها ويصنعون جنّات ويأكلون أثمارها.
وأغرسهم في أرضهم ولن يقلعوا بعد من أرضهم التي أعطيتهم قال الربّ إلهك." 

Sunday, May 6, 2018

سوريا من حملة نابوليون إلى الانتداب الفرنسي


يمكن القول إذا استثنينا المقدّمات والفهارس أنّ كتاب الراحل عبد العزيز العظمة يبلغ حوالي ٢٧٠ صفحة طولاً تقسم على وجه التقريب بالتساوي بين جزء أوّل متعلّق بمدينة دمشق وجزء ثان يتناول تاريخ سوريا منذ حملة نابوليون على مصر (ومن ثمّ فلسطين) عام ١٧٩٨ وحتّى ثلاثينات القرن العشرين وهذا الجزء سياسي بالدرجة الأولى تغلب عليه لهجة عاطفيّة نعكس قناعات المؤلّف الراسخة كعربي النشأة عثماني الهوى إسلامي العقيدة. يقول على سبيل المثال (صفحة ١٤٧) أنّه مع انتهاء عهد الأموييّن "انتهى الحكم العربي" وقام العبّاسيّون "بقوّة الأعاجم" ومن ثمّ ولمدّة ١٢٠٠ سنة توافد الأغراب على البلاد العربيّة بما فيهم العثمانييّن "أرقى تلك الأمم علماً ومعرفةً". يضيف (صفحة ١٤٨)  أنّ تهمة محاولة العثمانييّن تتريك العرب وهضم حقوقهم باطلة ولا تعدوا كونها دعاية أجنبيّة مغرضة ويزيد فيقول (صفحة ١٢٣) أنّ الدولة العثمانيّة هي "صاحبة البلاد" وأنّها (صفحة ١٧٤) "الأمّ الرؤوم" لا بل يدافع (صفحة ١٥٢) عن طردها للأتراك والأروام (أي اليونان والمقصود هنا مسيحييّ آسيا الصغرى) الذين يتّهمهم بالخيانة العظمى.


 هنا تحسن الإشارة أنّ بعض آراء المؤلّف لا تخلوا من العنصريّة فهو مثلاً (صفحة ٢٤٤ ) يستنكر مجيء الارمن والشركس والآشورييّن واليهود "وغيرهم ممّن لفظتهم أوطانهم" إلى سوريا لمزاحمة أهلها و"الاستيلاء على موارد معيشتها" كما يصف جنود فرنسا من إفريقيا (صفحة ٢٦٢) "بعبيد السنغال" لا بل وينعت الغجر (صفحة ٢٦٠) "الذين لا دين لهم" بأوصاف "السفالة واللصوصيّة وفساد الأخلاق". 


يبرز بطلان من سلاطين بني عثمان خلال المائة والعشرين سنة الأخيرة من حياة الدولة (الكلام دوماً للمؤلّف): البطل الأوّل محمود الثاني (حكم ١٨٠٨ إلى ١٨٣٩) والذي يعزوا إليه الفضل (صفحة ١٦٣) ببقاء الإمبراطوريّة على قيد الحياة قرناً إضافيّاً رغم أطماع القوى الاوروبيّة وتمرّد محمّد علي والي مصر الذي وصل إلى قاب قوسين أو أدنى من القسطنطينيّة. قام محمود بجملة من الإصلاحات منها التجميليّة (عندما استبدل العمامة بالطربوش) ومنها الإداريّة والعسكريّة (إبادة الجيش الإنكشاري عام ١٨٢٦). البطل الثاني السلطان عبد الحميد الثاني (حكم ١٨٧٦ إلى ١٩٠٩) الذي حاول تعزيز السلطة المركزيّة بشتّى الوسائل وكان على قدر كاف من الوعي والكفاءة كي يتبنّى التقنيّة الحديثة ووسائل الاتّصال والمواصلات كما شدّد على هويّته الإسلاميّة وحاول جهده أن يحصد ولاء المسلمين سواء كانوا من رعايا العثمانييّن أم لا ويجمعهم تحت راية الخلافة في القسطنطينيّة ونجح في ذلك إلى حدّ لا بأس به. 

أدان الكاتب جماعة الاتّحاد والترقّي (تركيّا الفتاة) الذين سيطر قادتهم (أنور باشا وطلعت باشا وجمال باشا وجاويد باشا) على مقاليد الحكم بعد سقوط عبد الحميد واتّهمهم (صفحة ٢٠٧) بتشويه سمعة هذا الأخير وبإضاعة ليبيا وبقايا ممتلكات العثمانييّن في أوروبا وأخطر من هذا وذاك بتوريط الإمبراطوريّة في الحرب العظمى (الحرب العالميّة الاولى) التي نعرف جميعاً نتيجتها ولكنّه يبقى في نهاية المطاف مواطناً عثمانيّاً مخلصاً إلى درجة أنّه يبرّر (صفحة ٢٢٠) شنق جمال باشا لعدد من الشخصيّات السوريّة خلال الحرب كعمل مشروع في سبيل الحفاظ على كيان الدولة وإن "أفرط" جمال في الشدّة. 

يحتفظ العظمة بالكميّة الأكبر من الإدانة والحتقار لشريف مكّة حسين وابنه فيصل الذين يتّهمهم علانية أو مواربة بالسذاجة (في تعاملهم مع الإنجليز) والغدر والخيانة والتذبذب والنذالة والتبعيّة بينما يكيل الثناء دون حساب للدولة العثمانيّة (صفحة ٢٣٧) التي "حافظت على هذا الشرق طيلة تلك العصور وأمّنت استقلاله وحمت بيضة الإسلام وأعلت شوكته وتساهلت مع غير المسلمين ومنحتهم مساعدات...وهي...تفضل جميع الدول الغابرة والحكومات الحاضرة بلا مراء". سواءً وافق القارىء على آراء المؤلّف أم لم يوافق فلا يمكن اتّهامه بالمداهنة والنفاق حيث أنّه كتب ما كتب بعد سقوط الإمبراطوريّة وفي وقت كان مديحها فيه آخر ما يمكن أن يفكّر به الوصوليّون والمتسلّقون. 

يذكر المؤلّف (صفحة ٢٦٨) قائمة الوزراء من "أصدقاء فرنسا" بعد طرد فيصل ومنهم عبد الرحمن باشا اليوسف وفارس بك الخوري كما ينصّ على برقيّة (صفحة ٢٨٥) وقّعها عدد من أبرز شخصيّات سوريا يناشد هؤلاء فيها فرنسا ويخطبون ودّها  وثانية إلى غورو ومن الأسماء الكثيرة الواردة السادة محمّد كرد علي وعطا الأيّوبي وعبد المحسن الأسطواني والأمير طاهر الجزائري والدكتور رضا سعيد وغيرهم. 

نعم هناك سوريّون (وليس أي سورييّن) أيّدوا الانتداب الفرنسي ولربّما فعل بعضهم ذلك عن قناعة وأمّا عن ممارسي مبدأ "من تزوّج أمّي فهو عمّي" فهم موجودون في كلّ زمان ومكان.    



http://bornindamascus.blogspot.com/2018/05/blog-post.html



دمشق في عيون عبد العزيز العظمة


يعطي الراحل عبد العزيز العظمة وصفاً مفصّلاً لمدينته التي أحبّها كلّ الحبّ وقد اعتمد الكثير من الباحثين لاحقاً على المعلومات التي وثّقها. من الملفت للانتباه أنّ الكتاب خالي تماماً من الخرائط وهذه نقيصة لا يمكن الاستهانة بها وفي نفس الوقت لا يمكن لومها على المؤلّف الذي مات قبل أربعين عاماً ونيّف من نشر عمله ويا حبّذا لو أعيد طبع الكتاب مع الخرائط التي لا غنى عنها لتحديد التقسيمات (الأثمان)  والشوارع والأوابد التي يتعذّر فهمها دون خرائط اللهمّ ألّا لمن يعرف دمشق مسبقاّ معرفة دقيقة. قام ابن عساكر بوصف دمشق في القرن الثاني عشر واستطاع العالم Nikita Elisséeff في منتصف القرن العشرين رسم خريطة لدمشق كما كانت في زمن ابن عساكر استناداً على كتابات هذا الأخير فإذا كان ذلك في حيّز الإمكان بعد انقضاء ٨٠٠ سنة فبالأحرى أن يكون ممكناً بعد بضع عشرات من السنوات خصوصاً وأنّ الكثير من الخرائط العالية الدقّة أصبحت متوافرة اعتباراً من القرن التاسع عشر. 



يستطرد الكاتب من خلال بضع صفحات (٥٥ إلى ٦١)  إلى محاولة تغطية المذاهب الإسلاميّة (سنّة ومعتزلة وشيعة ومرجئة وخوارج) مع تفرّعاتها ووصف مختصر لكّل منها سيّان عنده إذا انقرضت أو كانت لا تزال موجودة وحكماً محاولة تغطية ما يتطلّب مجلّدات في صفيحات معدودة محكوم عليها بالفشل مسبقاً مع تقديري للجهد المبذول فيها. علاوة عن سطحيّة هذه التغطية فعلاقتها بدمشق مشكوك بها خاصّىة وأنّه لا يوجد تغطية مشابهة للطوائف غير الإسلاميّة التي كان ولا يزال وجودها في المدينة ملموساً وإن ذكر المؤلّف عادات (وليس معتقدات) هذه الطوائف تحت باب آخر. 

كان عبد العزيز العظمة مسلماً سنيّاً محافظاً ينظر "للبدع" عموماً بعين الشكّ والريبة فهو مثلاً (صفحة ٧١) ضدّ "نور الكهرباء الشديد الذي ساقنا إليه حبّ التقليد والاعتياد" والذي اعتبره مضرّاً للبصر وضدّ استعمال المواقد الكهربائيّة والصوبات أو الصوبيات للتدفئة كونها تسبّب "صداعاً في الرؤوس ونقصاً في الجيوب" وضدّ السفور (صفحة ٧٥) والمساواة بين الجنسين وضدّ السينما والمراقص (صفحة ٧٩) التي تحتوي على "كلّ مفسد للأخلاق" ويتحسّر (صفحة ١٣٩) على إضاعة "ثروة الآباء" على "السيّارات والطيّارات والدرّاجات والتليفون والراديو وغيرها من مخترعات هذه الأيّام" ويندب (صفحة ١٤٤) التخلّي عن الدواب كوسيلة للنقل ولكنّه يستدرك (صفحة ١٤٧) فيدعو إلى إقامة معمل للسيّارات في سوريا يغنيها عن الإستيراد ويبدو أنّه -على كرهه للتقنيّة الحديثة- أدرك في نهاية المطاف أنّ هذه التقنيّة لا غنى عنها إذا أرادت سوريا أن تلحق بركب العالم المتقدّم لا بل وينظر بعين الرضا والفخر إلى مدّ سكك الحديد إلى بلاده وخصوصاً الخطّ الحديدي الحجازي الذي دعى إليه السلطان عبد الحميد خان (الذي كان يحترمه إلى أقصى الحدود) والذي خرّبه الثوّار العرب بقيادة لورانس في الحرب العظمى. 



خصّص المؤلّف حيّزاً صغيراً -على غناه بالمعلومات- للبيوت الدمشقيّة وتقسيماتها ومسمّيات وحداتها ومكوّناتها كما وصف الأثاث والثياب والزينة والسهرات والسيارين (جمع سيران) والخطبة والزواج والجهاز والعرس والختان والأعياد القديمة منها والمحدثة والمآتم وأصناف الطعام  والمدارس والمناهج والنباتات والحيوانات والصنائع والتجارة وكثير غيرها من المعلومات التي لا تقدّر بثمن.

للحديث بقيّة.