Thursday, January 31, 2019

شيعة الشام في القرن الثامن عشر


إذا أردنا توخّي الدقّة فالمقصود هنا شيعة ما بعرف اليوم باسم لبنان والذين أطلق عليهم وقتها لقب "المتاولة" المشتقّ ممّن تولّوا علي بن أبي طالب ومن المعروف أنّهم حاليّاً من أكثر طوائف لبنان عدداً وحسب بعض المصادر (مع أخذ غياب الإحصائيّات العلميّة عن الطوائف بعين الاعتبار) أكثر الطوائف اللبنانيّة عدداً على الإطلاق. 

كان الوضع مختلفاً عندما نشر الكونت de Volney كتابه "رحلة في مصر وسوريا" عام ١٧٨٧ إذ وصفهم "كشعب صغير" petit peuple يقطن سهل البقاع الواقع إلى الشرق من بلاد الدروز ويدعون أيضاً "العدليّة" من العدل. ذهب المؤلّف أبعد من ذلك فقال أنّه لا ذكر لهم (في الشام) قبل القرن الثامن عشر في الكتب أو الخرائط. معقلهم بعلبك وتتزعّمهم عائلة حرفوش وإن انتشروا في سائر أرجاء البلاد بعد عام ١٨٥٠ فعاثوا فيها فساداً وقطعوا الطرقات ووصلوا حتّى بشرّي وأراضي الموارنة شمالاً ونجحوا في الاستحواذ على صور جنوباً. 

هناك بعض الاختلافات عن السنّة في شعائر الوضوء وغيرها ويعتبر المتاولة التماس مع الغرباء نجساً ولا يأكلون أو يشربون من آنية استعملها من هم على غير ملّتهم ولا يقبلون حتّى بالجلوس على نفس الطاولة.

عن سياساتهم يذكر Volney تقلّب تحالفاتهم مع جيرانهم من الدروز وكيف كانوا بيدقاً في الصراع على السلطة بين علي بك الكبير وضاهر العمر من جهة وبين العثمانييّن من جهة ثانية وبالنتيجة نجح أحمد باشا الجزّار في قمعهم. يضيف الكاتب أنّه لم يبق منهم في نهاية المطاف أكثر من خمسمائة عائلة التجأت إلى جبال لبنان الشرقيّة والغربيّة بعد أن حرمت عليهم مساقط رؤوسهم ويخلص إلى نتيجة أنّ مصيرهم الفناء ولربّما طوى الستقبل حتّى اسمهم في غياهب النسيان. 






Wednesday, January 30, 2019

دروز الشام في القرن الثامن عشر


لربّما كانت الفروقات العشائريّة في سوريا توازي أو تكاد من ناحية الأهميّة نظيرتها الدينيّة والمذهبيّة ولا يستثنى الدروز من هذه القاعدة إذ يمكن تصنيفهم كغيرهم إلى قيسيّة (عرب الشمال ومنهم أسر جنبلاط وأرسلان) ويمنيّة (جنوبييّن على سبيل المثال آل علم الدين ويزبك) ولم تمنعهم معتقداتهم المشتركة عن الاقتتال بعضهم مع البعض الآخر كما حصل في معركة عين دارة عام ١٧١١. 

سأقتصر في الأسطر التالية على ترجمة وتلخيص مقتطفات ممّا كتبه الكونت de Volney عام ١٧٨٧ عن عادات الدروز وأخلاقهم وممارساتهم وما استطاع جمعه عن فكرهم وممارساتهم الدينيّة دون التطرّق إلى تاريخهم الطويل أو التقلّبات السياسيّة التي مرّت عليهم. من البدهي أنّ الكلام هنا بحلوه ومرّه وتناقضاته للمؤلّف الفرنسي دون أي محاولة لتوكيده أو نفيه أو تصحيح ما ورد فيه.   

لا يمارس الدروز الختان ولا الصلاة ولا الصيام وليس لديهم محرّمات أو أعياد إذ يشربون الخمر ويأكلون الخنزير ويزوّجون الأخ من أخته. باختصار ليس لغالبيّتهم "الجهّال" عبادات ولكن هذا لا ينطبق على "العقّال" الذين تتطلّب منزلتهم العزوبيّة ويعتمرون العمامة البيضاء ويحرصون على طهارتهم إلى درجة كسر آنيتهم إذا أكل أو شرب منها سواهم. يجتمع العقّال سرّاً في خلوات على المرتفعات تنضّم إليهم فيها النساء ويزعم البعض أنّهم يمارسون شعائرهم فيها أمام تمثال صغير لعجل أو لثور ممّا أدّى إلى الاستنتاج أنّهم يتحدّرون من السامرييّن. يزعم المسيحيّون الذين يعيشون في جوار الدروز أنّ بعضهم يؤمن بتناسخ الأرواح والبعض الآخر يعبد الشمس والقمر والنجوم كلّ على هواه شأنهم في ذلك شأن النصيريّة وهم يتكلّفون الوضوء والصلاة أمام الأتراك ويرتادون الكنائس أمام الموارنة. عديد منهم من يقبل العماد ليتخلّص من إلحاح المبشّرين المسيحييّن ثمّ يختتن لإرضاء الأتراك ويموتون لا مسلمين ولا مسيحييّن.  

يتزوّج الدرزي -باستثناء الأمير وبعض الأعيان- امرأة واحدة ونساؤهم محجّبات ولا يعرف الرجل من الإناث إلّا وجه زوجه وأخته وأمّه.  يزرع الرجال الكروم والتوت ويبنون الجدران حول الأرض ويشقّون أقنية الريّ بينما تتولّى النساء أمر الخبز والقهوة والغسيل والطبخ وسائر الأعمال المنزليّة. عدد الدروز حوالي ١٢٠٠٠٠ نسمة منهم ٤٠٠٠٠ مسلّح وهم جنود أشدّاء لا يهابون الموت يتمسّكون بالأخذ بالثأر ولا يتحمّلون الإهانة. يبالغ الدروز في كرمهم وضيافتهم إلى درجة أنّ بلادهم خالية من الفنادق وأبسط فلّاح فيهم دائم الاستعداد لتقديم آخر كسرة خبز يملكها لعابر السبيل. عندما يشاطرهم ضيف ما الخبز والملح تصبح حمايته عليهم واجباً مقدّساً يتعلّق بها شرفهم وهم يذهبون إلى أبعد الحدود لإغاثة الملهوف الذي طرق بابهم. 

يعيش الدروز -المتسامحين دينيّاً- والموارنة في بلادهم الوعرة متمتّعين بحريّة لا تعرفها بقيّة بلاد الشام ممّا شجّع هجرة عدد من العائلات المسيحيّة إلى بلادهم لتساعدهم في فلاحة الأرض وتتحالف معهم. .

للحديث بقيّة.  








Tuesday, January 29, 2019

أصل الدروز الصليبي



يذكر المؤلّف الفرنسي لكتاب "رحلة في مصر وسوريا" الصادر عام ١٧٨٧ الكونت de Volney رواية تاريخيّة طريفة عن أصل الدروز هذه ترجمتها:

علّق فخر الدين (المعني الثاني) آمالاً كبيرة على علاقاته في إيطاليا وقرّر أن يرحل إليها بنفسه لالتماس النجدة التي وعدوه بها مقتنعاً بأنّ وجوده في إيطاليا سيلهب حماس أصدقائه في نفس الوقت الذي يخفّف فيه بعده عن لبنان غضب أعدائه. غادر الأمير لبنان من بيروت بعد أن ولّى ابنه علي زمام الأمور في غيابه وأمّ بلاط أسرة مديتشي في فلورنسا. أثار وصول أمير شرقي في إيطاليا انتباه الناس وتسائل البعض عن ملّته خصوصاً وأنّ الوقائع التاريخيّة وطبيعة ديانته كانت ملتبسة إلى درجة أنّهم احتاروا في أمر الدروز: مسلمون هم أم مسيحيّون؟! عاد الخيال إلى الماضي والحملات الصليبيّة مع الافتراض بأنّ هذا الشعب المعتصم بالجبل والمعادي لأهل البلاد الأصلييّن لا بدّ وأن يكون متحدّراً من الصليبييّن. هذا الرأي المسبق كان شديد الموائمة لفخر الدين فلم يكذّبه بل -على العكس- ادّعى صلات مع أسرة لورين وأيّد زعمه المبشّرون -بهدف نشر الدعوة- والتجّار -بهدف الربح-. راج هذا الاعتقاد وأضيف له مزاودات الباحثين عن أدلّة. شدّ تشابه أسماء "الدروز" و "Dreux" انتباه خبراء الأصول الذين أدلوا بأنّ المصطلحين يعبّران عن شيء واحد وأنّ مستعمرة فرنسيّة صليبيّة مزعومة قد تأسّست في لبنان بزعامة كونت من أسرة Dreux.       






http://bornindamascus.blogspot.com/2019/01/comte-de-dreux.html

Comte de Dreux


Fakr-el-din.... entretenait en Italie des relations sur lesquelles il fondait de grandes espérancesil résolut d'aller lui-même solliciter les secours qu'on lui promettait, persuadé que sa présence échaufferait le zèle de ses amis, pendant que son absence refroidirait la colère de ses ennemis; en conséquence, il s'embarqua à Bairout, et après avoir remis les affaires dans les mains de son fils Ali, il se rendit à la cour de Médicis à Florence. L'arrivée d'un prince d'Orient en Italie, ne manqua pas d'éveiller l'attention publique; l'on demanda quelle était sa nation, et l'on rechercha l'origine des Druses. Les faits historiques et les caractères de religion se trouvèrent si équivoques , que l'on ne sut si l'on en devait faire des Musulmans ou des Chrétiens. L'on se rappella les croisades, et l'on supposa qu'un peuple réfugié dans les montagnes, et ennemi des naturels , devait être une race de croisés. Ce préjugé était trop favorable à Fahr-el-din pour qu'il le décréditât; il eut l'adresse au contraire de réclamer de prétendues alliances avec la maison de Lorraineil fut secondé par les missionnaires et les marchands , qui se promettaient un nouveau théâtre de conversions et de commerce. Dans la vogue d'une opinion , chacun renchérit sur les preuvesdes savants à Origines, frappés de la ressemblance des noms, voulurent que Druses et Dreux ne fussent qu'une même chose, et ils bâtirent sur ce fondement, le système d'une prétendue Colonie de croisés Français, qui, sous la conduite d'un comte de Dreux, se serait établie dans le Liban.


Voyage en Egypte et en Syrie Tome I

Monday, January 28, 2019

حضر الشام في القرن الثامن عشر: الموارنة


قتل الصليبيّون أعداداً كبيرة من العلوييّن-النصيرييّن في طريقهم من المعرّة باتّجاه لبنان وهناك ما يدعوا للاعتقاد أنّ علاقتهم مع الموارنة -وإن تأرجحت- كانت أكثر نعومة إذ اتّحد هؤلاء مع روما أي الكرسي البابوي عام ١٢١٥ للميلاد. هذه المعلومات ملخّصة من كتاب "رحلة في مصر وسوريا" للفرنسي de Volney وتعكس انطباعاته الشخصيّة وما اطّلع عليه من عدّة مصادر وعلى أرض الواقع في أواخر القرن الثامن عشر.

ينسب المذهب إلى مار مارون الذي عاش على ضفاف العاصي في نهايات القرن السادس وبعد موت هذا القدّيس أسّس أتباعه ضريحاّ وكنيسة في حماة ومن ثمّ ديراً ذاع صيته في سوريا. شهدت نهاية القرن السابع صعود نجم راهب من دير حماة يدعى يوحنّا الماروني تحالف مع البابا ضدّ امبراطور بيزنطة وجمع حوله اللاتين في لبنان. أصبح جبل لبنان ملاذاً للمردة وغيرهم وأمّا عن تسمية كسروان فهي من كسرو أحد أمرائهم. 

استولى المردة (أي العصاة وهناك خلاف إذا كانت تسميتا المردة والموارنة مترادفتين)  أو الجراجمة على لبنان (أي جبل لبنان) عام ٦٧٦ وتزايدت قوّتهم إلى درجة أنّهم أوقفوا زحف العرب المسلمين وأرغموا معاوية على طلب هدنة ثلاثين عاماً من بيزنطة ودفع الجزية للقسطنطينيّة (٦٧٨) وكان أحد دوافعه التفرّغ لقتال أتباع علي. جدّد عبد الملك المعاهدة بعد سبع سنوات مع جستينيان الثاني مطالباً إيّاه بتسليم الموارنة وغدر هذا الأخير بهم واغتال أحد أزلامه زعيمهم ليتركهم تحت رحمة المسلمين. دمّر البيزنطيّون بعد هذا دير حماة وذبحوا خمسمائة راهب فيه. توالت القرون واضطرّ الموارنة لشراء حسن نيّة صلاح الدين ونجح العثمانيّون في لجمهم فيما بعد وأجبروهم عام ١٥٨٨ على دفع الجزية. 

عن عاداتهم فهم مضيافون وإن كانوا أقلّ كرماً من العرب فهم لا ينقصونهم تمسّكاً بوجوب الأخذ بالثأر. الزواج بينهم كثيراً ما يتمّ دون أن يرى الرجل المرأة قبل عقد القران. شعائرهم سريانيّة ولكن قراءة الإنجيل بالعربيّة. يسمح لكهنتهم بالزواج شرط أن تكون الفتاة عذراء. يفخر المورانة بقراهم وكنائسهم ولا يسمحون لايّ مسلم أن يحيا بين ظهرانيهم وهم يستطيعون لبس العمامة الخضراء وهذا أمر يكلّف أي مسيحي حياته خارج حدود موطنهم. يعود الفضل في انتشار التعليم والقراءة والكتابة بينهم إلى وحدتهم مع روما ومنه تزايد أهميّة دورهم ككتبة ووكلاء لدى الأتراك وخصوصاً لدى حلفائهم وجيرانهم الدروز.

قدّر Volney عدد الموارنة بحوالي١١٥٠٠٠ منهم ٣٥٠٠٠ من القادرين على حمل السلاح. 

للحديث بقيّة. 




Sunday, January 27, 2019

حضر الشام في القرن الثامن عشر: النصيريّة


يتعيّن هنا التنويه بأنّ المعلومات المتوافرة للغربييّن --وحتّى لأهل البلاد- عن الأقليّات السوريّة في القرن الثامن عشر كانت أكثر من متواضعة وعلّ كتاب المستشرق الفرنسي René Dussaud عام ١٩٠٠ كان أوّل الدراسات العلميّة  عن النصيرييّن (أو العلوييّن اعتباراً من القرن العشرين). من هنا نستطيع أن نعذر الكونت de Volney الذي كتب عام ١٧٨٧ معتمداً على ما نقله العلّامة الماروني يوسف بن سمعان السمعاني (١٦٨٧-١٧٦٨) ولم يكن هذا بالشيء الكثير ناهيك عن خلط التاريخ مع الخيال والقيل عن قال. 

مع هذه التحفّظات وغيرها لربّما كان من المفيد تلخيص المعلومات عن العلوييّن في كتاب "رحلة في مصر وسوريا" كما هي للبيان والذكرى. 

يقطن النصيريّون الأراضي التي تمتدّ على جبال الساحل السوري من أنطاكيا شمالاً إلى النهر الكبير جنوباً ويدفعون الجزية لباشا طرابلس. جبالهم أقلّ وعورة من جبال لبنان (الغربيّة) وبالتالي أسهل على الزراعة وأكثر قابليّة لمحاصيل التبغ والحبوب والكروم والزيتون ومع ذلك فهي أقلّ اكتظاظاً بالسكّان من موطن الموارنة والدروز وهذا يعود لسهولة دخول الأتراك إليها وبالتالي إثقالها بالضرائب وإفقار أهلها. 

يرجع السمعاني أصول النصيريّة إلى العام ٨٩١ للميلاد وشيخ ورع زاهد في قرية نصر (نصار؟!) قرب الكوفة. سجن هذا الشيخ عندما ازدادت شعبيّته وكثر أتباعه ومريديه ولكنّه فرّ بمساعدة ابنة السجّان وكتب لاحقاً أنّه رأى المسيح الذي هو بنفس الوقت أحمد بن محمّد من نسل علي الذي هو أيضاً جبريل. قال المسيح-محمّد-جبريل للشيخ  المذكور أنّه الروح القدس ويحيى بن زكريّا وأوعز إليه بنشر رسالته بين الناس ومن تعاليمها اتّخاذ القدس قبلة وتحريم الجعة مع السماح بالخمر وعدم غسل القلفة وعدم أكل اللواحم. تختلف المعتقدات بين الإيمان بالتقمّص لدى البعض ورفض خلود الروح لدى البعض الآخر.

خلط المؤرّخ الصليبي وليام الصوري (١١٣٠-١١٨٩) بين النصيريّة والإسماعيلييّن (الباطنيّة أو الحشّاشين حسب المصدر والكاتب والفترة الزمنيّة).

يقسم النصيريّون إلى مذاهب الشمسيّة (عبدة الشمس) والكلبيّة (عبدة الكلب) والقدموسيّة (عبدة الأعضاء التناسليّة الأنثويّة) ويرتأي de Volney أنّ ما ينسب إليهم من الفواحش ليس مستحيلاً على التصديق إذا أخذنا بعين الاعتبار مدى الشذوذ الذي يمكن أن يصل إليه الإنسان خاصّة في الشرق حيث يتفشّى الجهل والسذاجة والاستعداد لتقبّل أكثر الخرافات تفاهة ومنافاة للعقل. 

بقيت جبال النصيريّة منيعة إلى حدّ كبير على المسيحيّة ممّا سهّل التغلغل الإسلامي فيما بعد. 

المقال المقبل عن الموارنة.






Saturday, January 26, 2019

بدو الشام في القرن الثامن عشر: التركمان والأكراد والعرب


جميع المعلومات أدناه مستقاة دون تصرّف أو تحريف باستثناء الترجمة والإيجاز من كتاب رحلة في مصر وسوريا طبعة ١٨٢٥ (الطبعة الأولى ١٧٨٧) للفرنسي الكونت de Volney. مقال اليوم يغطّي البدو الرحّل الذين صنّفهم الكاتب إلى ثلاث فئات:

التركمان
ينتشر هؤلاء في سهول أرمينيا وآسيا الصغرى وأنطاكيا ويصل عددهم في ولايتيّ حلب ودمشق إلى الثلاثين ألفاً. لغتهم تركيّة ولا يختلف نمط حياتهم عن بدو العرب إلّا أنّ مراعيهم أكثر خصوبة. تعمل نساؤهم في غزل الصوف وشغل السجّاد بينما تقتصر مهامّ رجالهم على تدخين الغليون ورعي القطعان وهم جنود أشدّاء يهابهم الأتراك. يفترض أنّهم مسلمون ويمارسون الختان ولكنّهم يقلّون تعصّباً وتمسّكاً بالمظاهر الدينيّة عن الحضر وهم ليسوا لصوصاً كالعرب وإن لم يقلّوا عنهم جوداً.  

الأكراد
أرض كردستان خصبة وشعبها قديم ذكره Xénophon (فيلسوف ومؤرّخ إغريقي قرن ٥-٤ قبل الميلاد) باسم Kard-uques يقدّر عدد رجالهم المسلّحين بحوالي ١٤٠٠٠٠ وهم كالتركمان أفّاقين ورعاة ويختلفون عنهم بسمعتهم كقطّاعي طرق. يفترض أنّهم مسلمون ولكنّهم لا يكترثون بالعقائد ولا الشعائر ومنهم اليزيدييّن الذين يعبدون الشيطان وفي هذا استمراريّة لكثير من الأديان القديمة الازدواجية (أي التي تعبد قوى الخير والشرّ) التي يمكن تقصّيها في الزرادشتيّة وحتّى لدى المصرييّن القدماء. أصول لغتهم المنطوقة إيرانيّة وكذلك أبجديّتهم. 

الأعراب
سكّان البادية يمتازون بالنحول والبشرة السمراء ويبلغ وسطي قاماتهم حوالي ١٥٧ سنتيمتراً. يعيشون عموماً في شقاء وفاقة ويتميّز طعامهم بتقشّفه وهم -على عكس الهنود الحمر "المتوحّشين" في أمريكا- لا يأكلون لحم البشر. دمهم لزج ولا يجري في عروقهم إلّا بفضل حرارة الطقس ومع ذلك صحّنهم أفضل من الحضر وتفشّي الأمراض في ربوعهم أقلّ. يتمسّك الأعراب بالثأر ولو بعد حين وإذا لزم الأمر من أقارب الذي أساء إليهم إن عجزوا عن النيل منه لسبب أو لآخر. ليس الأعراب بشديديّ التديّن ويدّعي الكاتب أنّ أحد شيوخ القبائل عرض عليه يد إحدى البدويّات وعندما أبدى de Volney دهشته على اعتبار أنّه يدين "بديانة الإفرنج" أجابه شيخ القبيلة "ألا ترى أنّ العرب يعيشون غير آبهين بالنبي  والكتاب" (أي القرآن)؟ يستشهد الرحّالة الفرنسي لتعزيز كلامه بما ذكره العالم والمكتشف الألماني Carsten Niehbur عن "تسامح" الدولة الوهّابيّة الأولى (منتصف القرن الثامن عشر) في نجد.

 الخطوة التالية استعراض ما كتبه Volney عن حضر الشام.   




Friday, January 25, 2019

شوام القرن الثامن عشر


المقصود بالشوام هنا السوريّون أي سكّان سوريا الجغرافيّة أو برّ الشام  والمعلومات مأخوذة من كتاب الرحّالة الفرنسي (الروابط الملحقة للطبعة الفرنسيّة الأصليّة عام ١٧٨٧ وترجمتها للإنجليزيّة) الكونت de Volney وتعكس الوضع كما كان في أواخر القرن الثامن عشر. 

تقبّل الشعب السوري الوافدين الأجانب أكثر من نظيره المصري واختلطت الدماء إلى درجة لا بأس بها وإن تفاوت لون البشرة بين الساحل والداخل وبين الشمال والجنوب. تشتهر نساء دمشق وطرابلس بجماههنّ وبياض نشرتهنّ ولكن لا سبيل للعابر من التحقّق إذ تختفي ملامحهنّ تحت النقاب. بالمقابل القرويات في بعض الأقاليم أقلّ تمسّكاً بالحجاب وإن لم يكنّ أقلّ عفّة ففي فلسطين مثلاً نرى المتزوّجات سافرات الوجه عمليّاً  وتسمح ثيابهنّ السابغة بتمييز استدارات أجسادهنّ.

لبلاد الشام أمراض تقتصر عليها كحبّة حلب ولدينا أيضاً الزحار والجدري والبرداء (الملاريا) وسببها إفراط الأهالي في تناول الفواكه الفاسدة وبناء عليه فالعلاج الأوّل لأي مرض هو المقيّئات أما الفصادة فليست ضروريّة ولا نفع لها. 

لغة البلاد العربيّة وهناك بقايا من السريانيّة في معلولا وصيدنايا وهي عموماً بائدة باستثناء أنّ الموارنة يستعملونها في قدّاسهم ويردّدونها دون فهم وينطبق هذا إلى حدّ ما على اللغة اليونانيّة المستعملة من قبل قلّة من أحبار الروم. التركيّة لغة الحكومة وقيادة الجيش والتركمان. 

تتفرّق بعض الجماعات الدينيّة السوريّة في كلّ أرجاء البلاد بينا يتمركز بعضها الأخر في مناطق معيّنة فمثلاً نرى الدروز بين نهر الكلب وصور والموارنة بين نهري الكلب والبارد وإلى شمالهم النصيريّة.   

يقسم سكّان الشام إلى فئتين: تتكوّن الفئة الأولى من الرحّل ويمكن تصنيف هؤلاء إلى تركمان وأكراد وعرب بدو. الفئة الثانية هي الحضر ويمكن توزيع هذه بدورها كما يلي:

١. أحفاد الشعوب الإغريقيّة البيزنطيّة التي غزاها العرب ومن هؤلاء الروم الأورثوذوكس الذين شقّوا عصا الطاعة على روما والبابويّة ومنهم الروم الكاثوليك الذين اعترفوا بسلطة الفاتيكان وأخيراً لدينا الموارنة

٢. أحفاد العرب الفاتحين (على الأغلب الإشارة إلى المسلمين السنّة دون تسميتهم)  وهم الأغلبيّة السائدة التي امتزجت دماؤها مع السكّان الأصلييّن إلى درجة كبيرة ومنهم أيضاً المتاولة (أي الشيعة الإثني عشريّة) والنصيريّة

٣. الأتراك وهم السادة اليوم.

سأستعرض في الأيّام المقبلة بعض التفاصيل التي زوّدنا بها المؤلّف عن عددٍ من هذه الجماعات الدينيّة والإثنيّة والمذهبيّة ملتزماً بروايته ليس لأنّها دقيقة ومنزّهة عن الغرض والنمطيّة وإنّما لأهمّيتها التاريخيّة وتأثّرها بالانطباعات الأوروبيّة السائدة قبلها وأثرها على الانطباعات التي تلتها بحلوها ومرّها. 





Thursday, January 24, 2019

برّ الشام


يبدأ الرحّالة وعضو الأكاديميّة الفرنسيّة الكونت de Volney وصفه لبلاد الشام التي زارها في ثمانينات القرن الثامن عشر بالتعريف يسوريا ويقول في هذا الصدد أنّها من الناحية الجغرافيّة محدودة بين خطّين يمتدّ الأوّل في الشمال من اسكندرون والبجر المتوسّط غرباً للفرات شرقاً والثاني في الجنوب من غزّة غرباً إلى البادية شرقاً. يسمّي سكّان البلاد هذه الأرض برّ الشام أي بلاد الشمال لتمييزها عن اليمن أو بلاد الجنوب ونقطة المرجع لكليهما هي الحجاز ومكّة.

لا يستعمل المحليّون تسمية سوريا Syrie الإغريقيّة الأصل وأمّا عن اشتقاقها فهو من آشور Assyrie واعتمد اليونان هذه التسمية بعد أن غزا حكّام نينوى بلاد الإيونييّن (آسيا الصغرى) حوالي عام ٧٥٠ قبل الميلاد وبالتالي كان المقصود بمصطلح سوريا وقتها مختلفاً عنه لاحقاً عندما امتدّت التسمية لتشمل فلسطين والساحل الفينيقي. لا يذكر هوميروس الذي كتب في بداية القرن الثامن قبل الميلاد سوريا ولكنّه يلقّب قاطنيها Erembos تحريفاً لكلمة آرام والآرامييّن. 

ينتقل المؤلّف بعدها إلى وصف جغرافية البلاد بجبالها ووديانها وأنهارها وبحيراتها ويقسم سلسلة جبال لبنان الغربيّة إلى كسروان شمالاً وجبل الدروز جنوباً. براكين البلاد خامدة ولكنّها تعاني من الزلازل بين حين وآخر كالذي أصاب وادي بعلبك عام ١٧٥٩ فحصد فيه الألوف. لا تقتصر الكوارث الطبيعيّة على الهزّات الأرضيّة فهناك مثلاً أرجال الجراد ويضيف المؤلّف أنّ مواجهة التتار خير وأبقى من مواجهة هذه الدويبات المدمّرة. 

تتفاوت خصوبة الأرض حسب المنطقة وتتنوّع الزراعة بناء عليه (التبغ في اللاذقيّة ودود القزّ في جبل الدروز والفستق في حلب إلخ)  وكذلك يتفاوت المناخ حرارة ورطوبة. يسهب الكاتب في وصف الرياح والغيوم والأمطار والظواهر الجويّة عموماً كما يعطينا تفاصيل لا بأس بها عن حيوانات سوريا البريّة (ابن آوى والضبع وغيرها) وطيورها ونباتاتها. 

للحديث بقيّة. 




Wednesday, January 23, 2019

هرم خوفو والجيزة في أواخر القرن الثامن عشر


لا غرابة أن ينظر الرحّالة الأوروبيّون إلى أهرام مصر كلغز مستعصٍ يتحدّى العقول في عهد سبق فكّ طلاسم حجر رشيد وفي زمن كان جهل سكّان مصر بالماضي السابق للمسيحيّة -إن لم نقل الإسلام- يكاد يكون مطبقاً. اقتصرت المصادر العربيّة عمليّاً على القرآن والسرد الإسلامي أمّا المصادر الغربيّة فاعتمدت على الكتاب المقدّس -خصوصاً العهد القديم- وما نالته أيديهم من الأعمال الكلاسيكيّة وأهمّها الإغريقيّة التي تركها لنا هوميروس (القرن السابع قبل الميلاد أو قبل) وهيرودوت (القرن الخامس قبل الميلاد).

كيف بنيت الأهرامات ومتى بنيت ومن بناها وبأي هدف؟ هذه بعض الأسئلة التي حاول الفرنسي de Volney إجابتها دون الكثير من النجاح وحتّى قياس أبعادها بدقّة معقولة بدا له من الصعوبة بمكان وإن استنتج بعد البحث والتمحيص أنّها قبور قلّد نماذجها فيما بعد العبرانيّون في أضرحة أبشالوم وزكريّا المتواجدة في وادي يهوشافاط قرب القدس.

نقل المؤلّف عن هيرودوت رأيه الذي أفتى بأنّ باني الهرم الأكبر هو خوفو "ثاني الملوك بعد Proteus" وعلى اعتبار أنّ هذا الأخير كان إلهاً للبحر في الأساطير الإغريقيّة زمن حرب طروادة فهذا يعني أنّ الهرم المذكور بني حوالي ١٤٠-١٦٠ سنة بعد هيكل سليمان أي تقريباً العام ٨٥٠ قبل الميلاد. 

صمدت أهرامات الجيزة رغم القرون وتجاوزات البشر ولا تزال شامخة بعد أكثر من ٤٥٠٠ سنة من بنائها (وليس ٢٩٠٠ سنة كما اعتقد Volney) ولا بعود الفضل في هذا لحجم حجارتها الهائل فحسب وإنّما أيضاً لموقعها خارج المناطق المعمورة ويلاحظ المؤلّف هنا وبحقّ أنّ صحراء الصعيد وقلّة السكّان فيه لعبت دوراً كبيراً في حماية آثاره بينما لا نجد في الدلتا الشديدة الخصوبة الشيء الكثير بعد أن دمّر أهلها معالمها القديمة سواء بدافع نفعي لاستعمال مواد بنائها في عمائرهم أو عن دوافع دينيّة. 

المرحلة التالية في تجوال Volney سوريا أو ما يسمّى برّ الشام.








Tuesday, January 22, 2019

أوبئة مصر القرن الثامن عشر: الرمد والجدري والطاعون والزهري المبارك


لا يمكن لإنسان منصف أن يقيّم المعرفة قبل قرنين ونصف من الزمن بمعايير القرن الواحد والعشرين والعصر المعلوماتي. تبدوا لنا آراء خبراء الماضي مسليّة إن لم نقل مضحكة وبالطبع لا يقلّل هذا من أهميّتها التاريخيّة ولا من فضل من بذل وقته وجهده في تحصيل العلم بالوسائل المحدودة المتاحة وقتها. فلنتعرّض بسرعة لأمراض مصر الشائعة في أواخر القرن الثامن عشر كما وصفها -وحاول تشخيص سببها- الفرنسي de Volney الذي كان رجلاً دقيق الملاحظة إن لم يكن خبيراً أخصّائيّاً:

الرمد
لاحظ المؤلّف أو على الأقلّ ادّعى أنّه لاحظ خلال تجواله في شوارع القاهرة انتشار الرمد إلى درجة أنّ العميان يشكّلون ٢٠٪ من الأشخاص الذين صادقهم والعور ١٨٪ يضاف إليهم ٢٠٪  من ذوي العيون الحمراء والمتقيّحة وعمليّاً يغطّي الجميع عيونهم بعصابات. يقبل المصريّون مصابهم كقضاء وقدر لا مردّ لهما ولا يحاولون البحث عن الأسباب (أو هكذا يزعم الكاتب). عامّة الناس أكثر عرضة لهذا المرض من الأغنياء والمماليك وأهل البلد أكثر من الأجانب. بالنسبة للسبب فهو يعود في رأي Volney إلى الحرارة والرطوبة وغذاء الناس من الجبن واللبن والفواكه الفجّة والخضار النيئة والإفراط في أكل البصل ممّا يؤدّي إلى إفساد أخلاط الجسم التي يتمّ تصريفها في الرأس الذي ينصبّ عرقه إذا كشفناه على الأسنان والعيون. 

الجدري
أحد أهمّ أسباب العمى في مصر ولا يعالج أبداً كما يجب وتقتصر الإجراءات المتّخذة على حمية تبدأ بالدبس ومنه إلى العسل والسكّر ثمّ السمك المملّح. لا يعطى المريض حقناً شرجيّة ولا تغسل عينيه المليئة بالخبث إلى درجة تلتصق فيها الأجفان ببعضها .

الداء المبارك
لا أعلم من أين أتت البركة للأمراض الزهريّة ولا كيف أتى المؤلّف بهذه التسمية لعدوى السفلس (المعروف أيضاً باسم الإفرنجي وفي بعض مناطق أوروبا بداء نابولي). يزعم Volney أنّ نصف سكّان القاهرة مصابون بهذا المرض ويعتقدون أنّ سببه الخوف أو السحر أو القذارة. هذا الداء صعب العلاج إلى أبعد الحدود ويستعمل الزئبق والخضار المساعدة على التعرّق (؟!). المرض أخطر في بلاد الشام منه في مصر نظراً لاختلاف الحرارة بينهما. 

القيلة المائيّة (تجمّع السوائل في كيس الصفن لدى الرجال)
هذا الداء يصطفي خصوصاً الأقباط والإغريق ولربّما كان هذا مبعثه إفراطهم في تناول الزيوت. تصبح هذه القيلة مؤلمة لدى تناول المشروبات الروحيّة المشتقّة من التين والجمّيز وليس من شرب النبيذ المعمول من العتب المجفّف.

البرداء (الملاريا)
أنقذ الكينا الكثيرين من الموت بهذا الوباء وأمّا الفصادة فهي غير مفيدة لأنّ المأكولات غير الصحيّة كالفواكه الخضراء والخضار الغير ناضجة والجبن والزيتون فيها قليل من الدم وكثير من الأخلاط الضارّة.

الطاعون
تدخل هذه الجائحة مصر عن طريق الاسكندريّة ومنها إلى رشيد فالقاهرة فدمياط فبقيّة الدلتا ولربّما كان مصدرها القسطنطينيّة حيث أرست جذورها بفضل إهمال الأتراك. يمكن الحدّ من انتشار الإصابات عن طريق عزل المصابين وقد يدوم هذا العزل ثلاثة أو أربعة أشهر ومن المثير للاهتمام أنّ الطاعون ينتشر في مصر في فصل الشتاء على عكس القسطنطينيّة. هذا المرض نادر في الشام.

للحديث بقيّة.   





Monday, January 21, 2019

برّ مصر


لا زلنا في مصر أواخر القرن الثامن عشر والعهد الذي شهد تمرّد علي بك الكبير مع حليفه السوري ضاهر العمر. كانت مقاليد الأمور وقتها في أيدي المماليك ولم يكن هؤلاء في وارد التزاوج مع النساء المحليّات إذ اقتصروا على الجواري اللواتي استوردن كأزواجهنّ من جورجيا واللواتي اشتهرن بجمالهنّ. لم يكن الأوروبيّون عموماً والفرنسي de Volney خصوصاً في وضع يمكّنهم من تقييم هذا الجمال المحجوب عن الأنظار وإن قال المؤلّف أنّ الملاحة في الشرق تقاس ببياض البشرة و"بالقنطار" أي كلّما زادت بدانة المرأة كلّما زاد حسنها وتفتّحت مفاتنها. 

حكم المماليك مصر بدرجات متفاوتة منذ منتصف القرن الثالث عشر بعد أن هوت الامبراطوريّة الأيّوبيّة وهم -كما يعني اسمهم- أصلاً عبيد جرى عتقهم ومن امتيازات هذا العتق السماح لهم بإطلاق لحاهم. المماليك طغاة وخبثاء -الكلام دوماً للمؤلّف- وجهلة وغدّارين وفاسدين ويمارسون اللواطة التي اقتبسوها من الإغريق والتتار وهي أوّل ما يتعلّمونه من سادتهم الذي يلقّنونهم أيضاً فنّ الحرب. يستسلم الكاتب هنا ككثيرين غيره في الشرق والغرب إلى التعميم والوصف النمطي ولا يقتصر هذا على المماليك فهو مثلاً ينعت مسيحييّ الإمبراطوريّة العثمانيّة بأنّهم "أكثر كفراً حتّى من الأتراك" و"أسوأ أخلاقاً من المسلمين". ممّا أدّى لتدهور التجارة الفرنسيّة في القاهرة مقارنة مع غيرها. 

جغرافيّاً المقصود بمصر قديماً مصر السفلى أو الدلتا (الوجه البحري) بينما مصر العليا (الوجه القبلي) تدعى أيضاً النوبة وبلاد كوش أو  Thébaïde نسبة لطيبة (حيث الأقصر والكرنك) أمّا بالنسبة لعدد سكّان مصر وقتها فقد قدّره المؤلّف بحوالي مليونين وثلاثمائة ألف وإن حذّر فقال أنّ سجلّات الولادات والوفيّات غير موجودة في الشرق الأدنى. 

قدّر البعض عدد سكّان القاهرة وقتها -بما فيها ضاحية وميناء بولاق المفصولة عن المدينة- بسبعمائة ألف نسمة ولكن هذا الرقم اعتباطي نظراً لغياب الإحصاء اللهمّ إلّا بالنسبة للمسيحييّن وبهدف تقدير ضرائب الخراج والجزية فقط. احتلّت القاهرة حينئذ مساحة تعادل تقريباً مساحة باريس التي بلغ عدد سكّانها ٧٠٠٠٠٠ ولكن هذه الأخيرة أكثر اكتظاظاً ويصل ارتفاع بعض أبنيتها إلى خمس طوابق بينما لا يتجاوز في القاهرة طابقين أو ثلاثة على أبعد تقدير وبالتالي استنتج Volney أنّ رقم ربع المليون أقرب إلى الصواب.   

أغلب بيوت القاهرة مبنيّة من الطين والآجرّ وكميّة معيّنة من الحجارة وهي أشبه ما تكون بالسجن كونها محرومة من إطلالة على الشارع. توزيع البيوت من الداخل سيّء وإن وجدنا علامات الترف في البيوت الموسرة حيث نرى الخزف والرخام الملوّن والبسط والسجّاد الثمين الذي يتربّع أهل الدار فوقه. يلي ذلك وصف الطنافس والجدران المخطوطة بالآيات القرآنيّة والرفوف المزيّنة بالآنية الصينيّة واليابانيّة والبوّابات والنوافذ والمشربيّات وصحن البيت الداخلي. وصف معقول وإن لم يحدث بيت القاهرة الانطباع المأمول في زائره الفرنسي الذي ارتأى أنّ الأغنياء يكتسون بثياب لا تناسب مناخ البلاد الحرّ وأنّ ولعهم بالفراء يعرّضهم لأمراض تبدوا أقلّ وطأة على عامّة الناس الذين يرتدون القمصان الزرقاء البسيطة. 

للحديث بقيّة  



Sunday, January 20, 2019

مصر والمصريّون في أواخر القرن الثامن عشر


لا داعي للدخول في جدل عقيم وعديم الجدوى حول هويّة مصر فهذا أمر يخصّ المصرييّن وفقط المصرييّن. مع ذلك لا يمكن إنكار الدور الرائد الذي لعبه وادي النيل في نهضة العرب الفكريّة والثقافيّة والفنيّة. كانت مصر حتّى منتصف القرن العشرين أغنى الدول العربيّة وأكثرها تقدّماً على جميع الأصعدة وكانت قبلة المهاجرين والمبدعين والباحثين عن الفرص في الشرق الأدنى كما يشهد على ذلك جيلي الذي نشأ على الأدب المصري والموسيقى المصريّة والسينما المصريّة وكما يشهد أعلام من أبي خليل قبّاني إلى صباح وفريد الأطرش ممّن لمع وأنتج وتميّز في أرضها الخصبة المعطاءة. 

يمكن القول أنّ العصور الوسطى انتهت والحديثة بدأت في مصر مع حملة بونابارت وصعود نجم محمّد علي ومن هنا أهميّة كتاب الفرنسي de Volney الذي عكس وضعها في نهاية القرن الثامن عشر عندما كانت محكومة عمليّاً من قبل المماليك واسميّاً العثمانييّن. لن أدخل في تفاصيل الصراع على السلطة فقصّة تمرّد (وليس "ثورة" كما يحلوا لبعض كتّاب التاريخ الرسمي في سوريا تسميته) علي بك الكبير وضاهر العمر والنزاع مع محمّد بك أبي الذهب معروفة ومطروقة. ما أثار اهتمامي هو وصف المؤلّف للأرض والناس وهو وصف -على علّاته- لا تتعرّض له أيّ من الكتب العربيّة التي عاصرت الأحداث على حدّ علمي والتي تقتصر على ذكر الكوارث والتراجم ومن شنّ حرباً على من وهلمّجرّا.

دخل Volney دمشق عن طريق الاسكندريّة التي اعتبرها خارج مصر وتنتمي إلى الصحراء اللهمّ إذا استثنينا القنال الذي يغذّيها من نهر النيل. الدخول الفعلي لمصر عن طريق رشيد Rosette التي اشتهرت عالميّاً بعد أن فكّ شامبوليون طلاسم حجرها وهي تقع في النهاية الشماليّة الغربيّة لما يسمّى دلتا النيل أمّا عن مياه هذا النهر الخالد فقد وصفها الراوية بأنّها عكرة خلال ستّة أشهر من السنة ويجب أن ترقد حتّى يمكن شربها وعندما ينخفض مستواها قبل الفيضان تصبح مخضرّة ونتنة ومليئة بالديدان. يلي ذلك وصف لوشائل تخزين المياه من الصهاريج إلى القوارير. 

هناك أربعة أعراق أو أصناف من البشر في مصر:

أوّلاً: العرق العربي

يقسم هذا العرق إلى ثلاث فئات:
- الأولى تتحدّر من الفاتحين المسلمين الذين أتوا مع عمرو ابن العاص وأصبحوا بالنتيجة فلّاحين وحرفييّن. يبلغ متوسّط طولهم ١٦٢ سم وهم سمر البشرة أقوياء البنية.
-الثانية تتألّف من المغاربة وهم أكثر تواجداً في الصعيد.
- الثالثة مكوّنة من البدو.

ثانياً: العرق القبطي

يكثرون في الصعيد ويتحدّرون من المصرييّن القدماء قبل الإسلام وهم هجين بين هؤلاء وبين العناصر الإيرانيّة والإغريقيّة. ديانتهم المسيحيّة ويتبعون مذهب  Eutychès  (٣٧٨-٤٥٦ للميلاد: كاهن نادى بطبيعة المسيح الواحدة). خصائصهم العنصريّة أشبه ما تكون بالزنوج المخلّطين من ناحية شكل الأنف والعيون والشفاه وهنا يضيف الكاتب أنّه بعد التمعّن في أبي الهول، وجده زنجي الملامح وأنّ Herodotus  (قرن خامس قبل الميلاد) وصف المصرييّن بسواد البشرة والشعر الأجعد الكثيف. هنا يضيف Volney أنّ مثال الأقباط يدحض الزعم القائل أنّ السود أقلّ ذكاءً من البيض. يعمل الأقباط ككتّاب وأمناء ووكلاء مكروهين من قبل الفلّاحين ومحتقرين من قبل الأتراك. 

ثالثاً: العرق التركي

وهم أسياد مصر على الأقلّ نظريّاً وأتوا بالأصل من شمال بحر قزوين حتّى بحيرة آرال في آسيا أي تركستان وأطلق عليهم الإغريقيّون القدماء عدّة أسماء منها البارثييّن والسكوثييّن Scythes ودعاهم الأوروبيّون بالتتار. يلي ذلك تاريخ تغلغلهم في الإمبراطوريّة الإسلاميّة من المعتصم حتّى العثمانييّن. أتراك مصر يتمركزون في القاهرة وهم إمّا رجال دين وإمّا عسكر.

ثالثاً: العرق المملوكي
أصولهم من القفقاس واحتكّ معهم الصليبيّون في القرن الثالث عشر. تمكّنوا في القرن الثامن عشر من الاستيلاء على مقاليد السلطة الفعليّة من الأتراك (أي العثمانييّن).  

لا تختلط هذه الأعراق مع بعضها أبداً ولا تجمعها مصالح مشتركة ولم تنجح أرض مصر في صهر هذه المجموعات المتباينة في بوتقتها.

للحديث بقيّة.  



Saturday, January 19, 2019

رحلة إلى مصر وسوريا بين الأعوام ١٧٨٣-١٧٨٥


الطبعة الأولى لهذا العمل التاريخي باللغة الفرنسيّة تعود لعام ١٧٨٧ وبلغت شأواً بعيداً من النجاح ممّا شجّع دور النشر على إعادة إصدارها مع الإضافات والتنقيح وترجمتها إلى الإنجليزيّة. استطعت الحصول على طبعة ١٨٢٥ وأرفق مع المقال روابط الطبعة الأولى بمجلّديها الأوّل والثاني مع رابط الترجمة للإنجليزيّة. فلنتعرّف الآن على المؤلّف. 

ولد المستشرق الفرنسي Constantin François de Chassebœuf, comte de Volney عام ١٧٥٧ ومات عام ١٨٢٠. ورث -كما يقول في مقدّمة كتابه- حوالي عام ١٧٨١ ثروة صغيرة اختار أن يخصّصها للترحال والعلم عوضاً عن استثمارها بهدف الربح أو إنفاقها على الملذّات. تردّد في البداية بين شدّ الرحال إلى "أمريكا المولودة حديثاً والمتوحّشين" (أي سكّان أمريكا الأصلييّن أو الهنود الحمر) وبين الاتّجاه إلى سوريا ومصر قبل أن يستقرّ على الخيار الأخير نظراً لأنّ الشرق الأدنى يحتلّ مكاناً بالغ الأهميّة من الناحية الدينيّة والفكريّة والتاريخيّة بالنسبة لأوروبا. 

مخر الكاتب صوب مصر في نهاية عام ١٧٨٢ وأقام فيها سبعة أشهر ولكنّه لاقى صعوبات جمّة في التنقّل فيها ولم يستطع العثور على الدعم الكافي لتعلّم اللغة العربيّة وقرّر بالتالي التوجه إلى بلاد الشام حيث أقام ثمانية أشهر في دير في "بلاد الدروز" أمضاها في محاولة لاكتساب ما يكفي من العربيّة لتسهيل تجواله في سوريا لعام كامل عاد بعده إلى فرنسا بعد غياب دام ثلاث سنوات.

الخطوة التالية كانت جمع المعطيات التي حصل عليها ونشرها مع آرائه وتعليقاته كخبير عاين الأحوال على أرض الواقع واحتكّ مع السكّان وتواصل معهم بلغتهم ولم يقتصر على الاهتمام بالآثار والتاريخ السحيق كما فعلت الغالبيّة العظمى من الرحّالة قبله الذين مرّوا على الشرق مرور الكرام.  

يبلغ عدد صفحات الكتاب حوالي ٩٠٠ من القطع الصغير ٢١ سم x ١٥ سم يلحق فيها بعض الخرائط واللوحات بالأبيض والأسود في زمن لا يعرف التصوير الضوئي. 

للحديث بقيّة. 




Friday, January 18, 2019

Coupoles Syriennes


   Quelle est l'origine de ces curieux monuments? Les auteurs arabes qui signalent celui de la grande Mosquée de Damas l'appellent bait al-mal « le trésor », mot auquel on a substitué plus tard, dans le même sens, celui de hhazna; mais ils ne tirent aucune conséquence d'un fait isolé quils se sont bornés à noter sur place. Pour nous, qui pouvons comparer les édicules de Damas et de Hamâ, nous savons encore qu'un monument pareil s'élève dans la cour de la grande  Mosquée  de Höms. Si l'on songe qu'on n'en a pas signalé d'analogue, semble-t-il, dans les autres pays musulmans, on sera tenté de voir, dans la qubbat al-khazna, une tradition syrienne. Cette hypothèse est confirmée par un curieux passage du géographe Istakhri : "En Adharbaijàn, on dépose le trésor dans la grande Mosquée, suivant la coutume syrienne. En Syrie, en effet, on place les trésors dans les Mosquées, en un édicule appelé bait māl, couvert dune toiture en plomb, fermé par une porte en fer et reposant sur neuf (lire huit) colonnes". 

   Puisqu'il s'agit d'une coutume syrienne, ne pourrait-on pas la rattacher à quelque tradition locale antique? On sait que les grandes Mosquées de Damas, de  Höms  et de Hamā s'élèvent sur l'emplacement de trois églises, peut-être aussi de trois temples païens. Est-ce par hasard que ces trois "trésors" sont placés dans la cour de la grande Mosquée, et tous les trois dans sa partie occidentale? Est-ce par hasard que dans ces deux dernières villes, peut-être aussi à Damas, l'édicule du trésor abrite une fontaine? On sait qu'un grand nombre de coutumes antiques se sont islamisées tant bien que mal et qu'en Syrie, les traditions locales ont résisté, peut-être plus qu'ailleurs, aux révolutions politiques et religieuses.   





قبّة الخزنة في دمشق وحماة عام ١٨٩٥

الأسطر التالية ترجمة من الصفحتين ١٧٤-١٧٥ لكتاب "رحلة في سوريا" للعالمين السويسرييّن ماكس فان برشم وادمون باتيو والنصّ الأصلي بالفرنسيّة موجود في رابط مستقلّ مع روابط مصادره بصورها وخرائطها وفهارسها وجميعها مجّانيّة.

ما أصل هذه المعالم المثيرة للفضول؟ يدعو المؤلّفون العرب الموجود منها في جامع دمشق الكبير بيت المال وقد استعيض عنه لاحقاً بتسمية مشابهة ألا وهي الخزنة ولكنّهم اقتصروا على ذكرها دون استخلاص نتائج محدّدة. استطعنا المقارنة بين هاتين المشيّدتين في دمشق وحماة ونعلم أيضاً بوجود بنية مماثلة في صحن جامع حمص الكبير. على حدّ علمنا لا يوجد أي شيء مشابه في بقيّة البلاد الإسلاميّة وبالتالي نميل لاعتبار قبّة الخزنة تقليد سوري وممّا يعزّز هذه الفرضيّة مقطع مثير للاهتمام للجغرافي الاصطخري حيث يقول "توضع الكنوز في اذربيجان في الجامع الكبير حسب العادات السوريّة إذ أنّ تخزين الأموال يتمّ في الجوامع في بلاد الشام في بنية تدعى بيت المال يغطّيها سقف من الرصاص ويغلقها باب حديديّ وتستند على تسعة (الصواب ثمانية) أعمدة".

على اعتبار أنّنا نتعامل هنا مع تقليد سوري. ألا يمكن ربطه مع تقاليد محليّة سابقة للإسلام؟ من المعروف أنّ جوامع دمشق وحماة وحمص الكبيرة بنيت على مواضع احتلّتها في الماضي ثلاث كنائس ولربّما حلّت هذه الاخيرة بدورها محلّ معابد وثنيّة. هل من الصدفة أنّ قباب الخزنة الثلاث هذه موجودة دائماً في صحن الجامع وفي قسمه الغربي تحديداً؟ هل من الصدفة أنّ قبّتي خزنة حمص وحماة تخفي سبيليّ مياه (ولربّما دمشق أيضاً في الماضي)؟ نعلم أنّ الكثير من العادات القديمة جرت أسلمتها لاحقاً بشكل أو بآخر وأنّ التقاليد المحليّة في سوريا صمدت -ولربّما إلى درجة أكبر من مثيلاتها خارج بلاد الشام-  في وجه التقلّبات السياسيّة والدينيّة.