لا يمكن لإنسان منصف أن يقيّم المعرفة قبل قرنين ونصف من الزمن بمعايير القرن الواحد والعشرين والعصر المعلوماتي. تبدوا لنا آراء خبراء الماضي مسليّة إن لم نقل مضحكة وبالطبع لا يقلّل هذا من أهميّتها التاريخيّة ولا من فضل من بذل وقته وجهده في تحصيل العلم بالوسائل المحدودة المتاحة وقتها. فلنتعرّض بسرعة لأمراض مصر الشائعة في أواخر القرن الثامن عشر كما وصفها -وحاول تشخيص سببها- الفرنسي de Volney الذي كان رجلاً دقيق الملاحظة إن لم يكن خبيراً أخصّائيّاً:
الرمد
لاحظ المؤلّف أو على الأقلّ ادّعى أنّه لاحظ خلال تجواله في شوارع القاهرة انتشار الرمد إلى درجة أنّ العميان يشكّلون ٢٠٪ من الأشخاص الذين صادقهم والعور ١٨٪ يضاف إليهم ٢٠٪ من ذوي العيون الحمراء والمتقيّحة وعمليّاً يغطّي الجميع عيونهم بعصابات. يقبل المصريّون مصابهم كقضاء وقدر لا مردّ لهما ولا يحاولون البحث عن الأسباب (أو هكذا يزعم الكاتب). عامّة الناس أكثر عرضة لهذا المرض من الأغنياء والمماليك وأهل البلد أكثر من الأجانب. بالنسبة للسبب فهو يعود في رأي Volney إلى الحرارة والرطوبة وغذاء الناس من الجبن واللبن والفواكه الفجّة والخضار النيئة والإفراط في أكل البصل ممّا يؤدّي إلى إفساد أخلاط الجسم التي يتمّ تصريفها في الرأس الذي ينصبّ عرقه إذا كشفناه على الأسنان والعيون.
الجدري
أحد أهمّ أسباب العمى في مصر ولا يعالج أبداً كما يجب وتقتصر الإجراءات المتّخذة على حمية تبدأ بالدبس ومنه إلى العسل والسكّر ثمّ السمك المملّح. لا يعطى المريض حقناً شرجيّة ولا تغسل عينيه المليئة بالخبث إلى درجة تلتصق فيها الأجفان ببعضها .
الداء المبارك
لا أعلم من أين أتت البركة للأمراض الزهريّة ولا كيف أتى المؤلّف بهذه التسمية لعدوى السفلس (المعروف أيضاً باسم الإفرنجي وفي بعض مناطق أوروبا بداء نابولي). يزعم Volney أنّ نصف سكّان القاهرة مصابون بهذا المرض ويعتقدون أنّ سببه الخوف أو السحر أو القذارة. هذا الداء صعب العلاج إلى أبعد الحدود ويستعمل الزئبق والخضار المساعدة على التعرّق (؟!). المرض أخطر في بلاد الشام منه في مصر نظراً لاختلاف الحرارة بينهما.
القيلة المائيّة (تجمّع السوائل في كيس الصفن لدى الرجال)
هذا الداء يصطفي خصوصاً الأقباط والإغريق ولربّما كان هذا مبعثه إفراطهم في تناول الزيوت. تصبح هذه القيلة مؤلمة لدى تناول المشروبات الروحيّة المشتقّة من التين والجمّيز وليس من شرب النبيذ المعمول من العتب المجفّف.
البرداء (الملاريا)
أنقذ الكينا الكثيرين من الموت بهذا الوباء وأمّا الفصادة فهي غير مفيدة لأنّ المأكولات غير الصحيّة كالفواكه الخضراء والخضار الغير ناضجة والجبن والزيتون فيها قليل من الدم وكثير من الأخلاط الضارّة.
الطاعون
تدخل هذه الجائحة مصر عن طريق الاسكندريّة ومنها إلى رشيد فالقاهرة فدمياط فبقيّة الدلتا ولربّما كان مصدرها القسطنطينيّة حيث أرست جذورها بفضل إهمال الأتراك. يمكن الحدّ من انتشار الإصابات عن طريق عزل المصابين وقد يدوم هذا العزل ثلاثة أو أربعة أشهر ومن المثير للاهتمام أنّ الطاعون ينتشر في مصر في فصل الشتاء على عكس القسطنطينيّة. هذا المرض نادر في الشام.
للحديث بقيّة.
No comments:
Post a Comment