Wednesday, February 13, 2019

عبادة بردى وحرم عين الفيجة

معبد عين الفيجة من الجنوب عام ١٧٤٥ حسب بوكوك

لينابيع المياه في الشرق الأدنى قبل المسيحيّة مكانة خاصّة كأماكن عبادة ومبعث للحياة وهناك عدّة أمثلة على ذلك في مغارة أفقا مصدر نهر أدونيس (لبنان) وبانياس الجولان في حرمون ورأس العين قرب بعلبك وعين الفيجة (موضوعنا اليوم) وغيرها. 

جميع المعلومات أدناه مأخوذة بتصرّف من مقال بالفرنسيّة بقلم Julien Aliquot و Pauline Piraud-Fournet (الرابط المرفق) يعود لعام ٢٠٠٨ هو أفضل ما عثرت عليه عن عين الفيجة حتّى الآن. يعتمد كاتبيّ المقال على الصور والمرسّمات التاريخيّة ووصف جغرافييّ القرون الوسطى والعصور الحديثة يضاف إليها الاكتشافات المعاصرة وآخرها نقش كتابي من القرن الثاني أو الثالث الميلادي باللغة الإغريقيّة على الحجر وجد في خريف عام ٢٠٠٧ داخل خزّان قديم في محطّة تجميع مياه عين الفيجة (تضخّ المحطّة المياه لمدينة دمشق منذ ثلاثينات القرن العشرين) نصّه الآتي:

"بعناية الوكيلين هليودوروس وثيودوروس"

هليودوروس = هبة الشمس وثيودوروس = هبة الله. 

لا يخبرنا النقش الشيء الكثير عن معبد عين الفيجة ولكن باستقراء النقود المسكوكة في القرن الثالث الميلادي تحت الأباطرة ماكرينوس وإيلاغابالوس وفيليب العربي وغالينوس يستخلص المؤلّفان أنّ حرم عين الفيجة كان على الأرجح مكرّساّ لتأليه بردى أو "مجرى الذهب" Chrysorrhoas


الخريطة الملحقة لإيضاح موقع عين الفيجة قرب أبيلا (سوق وادي بردى) ومقام النبي هابيل في جبال لبنان الشرقيّة ومن المعروف أنّ نهر بردى ينبع قرب الزبداني وأنّ الفيجة التي تقع على بعد عشرين كيلومتراً شمال غرب دمشق ترفد بردى وتضيف إلى مجراه ٣٠-٦٠٪ من إجمالي المياه. 



تأتي الآن إلى وصف المعبد ويستند الكاتبان فيه إلى حدّ كبير على وصف ولوحة الإنجليزي Richard Pockoke  (١٧٠٤-١٧٦٥) ومخطّط البريطاني William John Bankes (١٧٨٦-١٨٥٥) كما عدّلتها عام ١٩٩٩ الأستاذة Jacqueline Dentzer-Feydey

يشرف معبد صغير a من الأعلى على النبع. نصف هذا المعبد منحوت في الصخر ونصفه الآخر مبني ويتألّف من حجرة العبادة cella يسبقها رواق pronaos وفي نهايتها محراب كان على الأرجح مخصّصاً لتمثال الربّ. تحّول هذا المعبد إلى كنيسة في القرن العاشر للميلاد أو قبل. 



تتدفّق مياه عين الفيجة من قناة النبع المقبّبة b إلى حوض كبير ونرى إلى الشرق مبنى إضافي c مستطيل الشكل وأكبر أبعاداً من المعبد. يستمرّ جدار المبنى c الخلفي باتّجاه الغرب ويشكّل حنية exedra في d تتمادى حتّى النبع المذكور b وكلاهما (أي b و d) مشمولان في محطّة تجميع المياه الحديثة.

أخيراً تقترح الأستاذة  Jacqueline Dentzer-Feydey وجود بناء  مناظر في الغرب 'c مع حنية 'd تكمل المجمّع الشرقي وتحيط معه بالحوض الكبير. 

عشرون صفحة من المعلومات التي لا تقدّر بثمن عن عين الفيجة مع الصور والمخطّطات الإيضاحيّة الكفيلة بإثارة اهتمام الهواة والتي لا غنى عنها للأخصّائييّن. 



Le sanctuaire d’Ain el-Fijé et le culte du Barada

Tuesday, February 12, 2019

شنتير يريد أن يطير


فوجئت مؤخّراً أنّ مجلّة أسامة المصوّرة للأطفال لا زالت تصدر حتّى اليوم ولها صفحة على الفيسبوك ومقال قصير في الويكيبيديا

عندما رأى عددها الأوّل النور في شباط ١٩٦٩ كانت المجلّة المصوّرة الأولى للأطفال في سوريا وبقيت الوحيدة لسنوات طوال ولربّما لا زالت؟! هذا لا يعني بالطبع عدم وجود غيرها من منشورات الشبيبة ولكنّها كانت وقتها من مصر ولبنان فقط ومعظمها ترجمة وأحياناً سرقة أدبيّة أو تشويه في محاولة صبيانيّة لطمس المعالم الأصليّة الفرنسيّة أو الإنجليزيّة كما اكتشفت في سنوات لاحقة. 

أسامة كانت على عيوبها نتاج محلّي صرف وكانت وقتها أرخص الموجود إذ لم يتجاوز ثمن العدد ربع ليرة سوريّة (الوحيدة التي نافستها في السعر كانت "كروان" المصريّة التي صدرت لفترة قصيرة عام ١٩٦٤ وكانت كأسامة محليّة الإنتاج ١٠٠٪). من لبنان أتى الإصدار الأوّل لمجلّة "بساط الريح" عام ١٩٦٢ بمنوّعاتها التي غلبت عليها القصص البلجيكيّة الفرنسيّة مع تعريب أسماء أبطالها وهناك أيضاً "المغامر" ثمّ أتى عدد "سوبرمان" الأوّل عام ١٩٦٤ وتلاه عن دار المطبوعات المصوّرة "الوطواط" و"البرق" و"طرزان" و"طارق" و"بونانزا" و"لولو الصغيرة" وكان سعر العدد من أيّ من هذه المجلّات نصف ليرة في النصف الثاني من الستّينات. من مصر لدينا "سندباد" وهي الأقدم وهناك أيضاً مجلتيّ "سمير" و"ميكي" وبيع العدد وقتها بخمس وثلاثين قرشاً سوريّاّ ثمّ أتت "تان تان" عام ١٩٧١ وكانت باهظة الثمن بليرة وربع وإن كانت الأفخم والأفضل نوعيّة قصصاً وورقاً وطباعة وألواناً على الأقلّ في بداياتها. 


عودة على مجلّة أسامة كان شنتير في رأيي من أطرف شخصيّاتها ومن اسمه نستنتج دوره الذي تلخّص بالولد الطائش البليد ومن حسن الحظّ أنّ صديقه منقذ كان موجوداً إلى جانبه على الدوام لينصحه و"ينقذه" من المآزق التي يوقعه فيها تهوّره ورعونته. شغلت قصّة "شنتير يريد أن يطير" صفحة واحدة من العدد الأوّل حاول فيها بطلنا أو كان على وشك محاولة الطيران على غرار عبّاس ابن فرناس مستعملاً جناحين من الريش ألصقهما على كتفيه بواسطة الصمغ وكتبت له النجاة على يد صديقه منقذ (في هذه الحالة القارىء المشترك في مسابقة لإنقاذ حياة شنتير رغماً عنه) الذي نصحه فأحسن نصحه. 

لمنقذ العديد من الأيادي البيضاء على شنتير ففي عدد آخر يبدأ هذا الأخير في قول بعض النكات البذيئة التي اعتقدها مضحكة ولكن منقذ لم يضحك بل شكّك بذوق شنتير ووعظه علّه يرعوي عن خطأه وضلاله. 

سقا الله!  

Monday, February 11, 2019

مقاهي دمشق منذ البدايات وحتّى القرن التاسع عشر


أرفق أدناه رابط المقال الأصلي بالفرنسيّة ويمكن للملمّ بهذه اللغة والمهتمّ بالتوسّع مطالعة صفحاته العشرين بالكامل في أمسية وأعتقد أنّه جدير بالقراءة. المؤلّفة Brigitte Marino (لها كتاب قيّم عن حيّ الميدان في العهد العثماني) والمقال يعود لعام  ١٩٩٥. أستعرض فيما يلي بسرعة بعض ما وجدته جديراً بالاهتمام فيه. 

يعود أصل القهوة إلى اليمن ودخلت بلاد الشام في القرن السادس عشر ودرجت بسرعة رغم اختلاف العلماء على جواز احتسائها من عدمه. من القهوة أتت المقاهي ولدينا كميّة لا بأس بها من المعلومات عنها من عدّة مصادر منها روايات الرحّالة الأوروبييّن ومنها الأوقاف وسجلّات المحاكم. يعود الفضل في أقدم مقهى مذكور في المصادر المتوافرة إلى مراد باشا الذي جعله وقفاً عام ١٥٩٥ وكان موضعه بجوار الجامع الأموي. أوقف سنان باشا في العام الذي تلاه ثلاثة مقاهي للمؤسّسات الدينيّة إثنان منها في العمارة وباب مصلّى. شهد منتصف القرن الثامن عشر مقهى في الميدان أمر ببناءه فتحي أفندي الدفتردار وتجاوز عدد المقاهي المائة خلال القرن التاسع عشر.   

تمايزت المقاهي وفقاً لعدّة معايير فمنها الكبيرة على ضفاف بردى وأقنيته وهي التي جذبت انتباه الرحّالة الغربييّن الذين وصفوها ورسموها وبالنتيجة صوّروها ومنها الصغيرة داخل المدينة ونعرفها بالدرجة الأولى من سجلّات المحاكم المتعلّقة بالبيع والشراء والإرث والتأجير. المعلومات عن عمارة هذه المقاهي قليلة للغاية ويعوّض عن ذلك وصف مفصّل لجوارها وكثير منها تواجد قرب الجوامع والحمّامات ودكاكين الحلّاقين ولا غرابة في ذلك إذ قد يحلو لمن يستحمّ (أثناء الاسترخاء في "البرّاني") أو يقصّ شعره أن يستمتع بارتشاف القهوة بعد قضاء حاجته الأساسيّة. الأثاث بسيط ويقتصر على البسط والحصر والطنافس والسجّاد والمصاطب والكراسي والتخوت والقناديل للإضاءة. تتكوّن "العدّة" من الأركيلة و"الدولة" والفناجين ويمكن أخذ فكرة عن حجم المقهى بعدد أراكيله وكراسيه. 

الزبائن متنوّعون فمنهم العسكر ومنهم المدنييّن وتخدم بعض المقاهي جماعات حرفيّة معيّنة أو قوميّة كالأكراد والدروز وغيرهم. حاول بعض المسؤولين منع تعاطي القهوة والتبغ دون جدوى ويخبرنا البديري الحلّاق (منتصف القرن الثامن عشر عن تفشّي ظاهرة التدخين وشرب القهوة من قبل النساء اللواتي يجلسن على ضفاف بردى كالرجال وحبّة مسك. بعض المقاهي كانت مشبوهة يرتادها المثلييّن والبغايا (اشتكى سكّان حيّ قرب جامع درويش باشا عام ١٧٤١ من الفواحش المرتكبة في أحد المقاهي فأمر القاضي بإغلاقه).

وسائل التسليّة تتراوح بين التدخين والموسيقى والغناء والرقص الذي تقوم به "العالمة" وهناك أيضاً الحكواتي والكراكوز

كانت المقاهي أحد مصادر دخل الإنكشاريّة الذين استفادوا من الضرائب المفروضة عليها واستثمروا فيها ولم يمنع الجدل القائم حتّى القرن التاسع عشر على شرعيّة وأخلاقيّة هذه المؤسّسات النساء وحتّى القصّر من توظيف أموالهم فيها. 

وصف Addison دمشق عام ١٨٣٨ بباريس الشرق مستنداً في ذلك على عدد مقاهيها وجمال هذه المقاهي ولربّما جازت مقارنتها في هذا المجال مع كبريات مدن الإمبراطوريّة العثمانيّة كالقسطنطينيّة والقاهرة. 




Thursday, February 7, 2019

مشروع تقسيم الإمبراطوريّة العثمانيّة


بيّنت السنوات التالية أنّ هذا المشروع كان سابقاً لأوانه. اقترح المستشرق الفرنسي الكونت de Volney هذا المخطّط ودرس مناقبه ومثالبه في مائة صفحة أنهاها في ٢٦ شباط ١٧٨٨ وألحقها في كتابه الشهير "رحلة في سوريا ومصر" الذي صدر عام ١٧٨٧ في أعقاب هزيمة العثمانييّن في حروبهم مع "المسكوب" أي الروس وتوقيعهم لاتّفاقيّة Küçük Kaynarca في تمّوز ١٧٧٤. 

يروّج كثير من المؤرّخين في الشرق والغرب فكرة أنّ انحطاط الإمبراطورية العثمانيّة بدأ بعد موت سليمان القانوني عام ١٥٦٦ ولربّما كان في هذا بعض الصحّة إذا اعتبرنا أنّ معيار التقدّم هو الفتوحات العسكريّة التي تجمّدت بعد هذا السلطان باستثناء بعض الحملات هنا وهناك وأهمّها المحاولة الثانية الفاشلة للاستيلاء على فيينّا عام ١٦٨٣ (الحصار الأوّل ١٥٢٩) . ليست الفتوحات المقياس الوحيد ولا الأهمّ (هناك النواحي العلميّة والاقتصاديّة والثقافيّة وغيرها) ولكن من وجهة نظر سياسيّة بحتة تكفي نظرة على خارطة الإمبراطوريّة في آخر القرن الثامن عشر (أي قبيل حملة نابوليون على مصر عام ١٧٩٨) حتّى ندرك أنّها كانت حتّى ذلك التاريخ سليمة إلى حدّ بعيد من الناحية الجغرافيّة فهي لا تزال تحكم -ولو ضعفت السلطة المركزيّة- مساحات شاسعة تشمل البلقان وآسيا الصغرى والشام والجزيرة العربيّة ومصر ومعظم شمال إفريقيا ومن المؤكّد أنّ Volney لم يتوقّع وقتها أنّ سقوطها سيتاخّر قرناً من الزمن بعد وفاته.  

من المفيد هنا التذكير أنّ علاقات باريس مع القسطنطينيّة كانت إجمالاً سلسة إن لم نقل ودودة منذ سليمان القانوني و  François I في القرن السادس عشر وكانت لفرنسا الأسبقيّة على سائر دول أوروبّا في الحصول على الامتيازات Capitulations التي فتحت الطريق لتجّارها وديبلوماسييّها وبالنتيجة محمييّها من المسيحييّن المحلّييّن (خصوصاً الكاثوليك ومن اعترف بسطة البابا كالموارنة) ولربّما كانت نقطة التحوّل حملة نابوليون التي أدّت بالنتيجة لإعادة ترتيب أحلاف الباب العالي وأفضت إلى حلول الصداقة والحماية البريطانيّة محلّ الفرنسيّة في القرن التاسع عشر قبل أن تزيح ألمانيا بدورها إنجلترا في أواخر نفس القرن وحتّى ١٩١٨. 

السيّد Volney إذاً سابق لزمانه بعشر سنوات على الأقلّ فما هي الأسباب التي حملته على الاعتقاد أنّ الإمبراطوريّة العثمانيّة في سبيلها للانهيار وأنّ مصالح بلاده تقضي إعادة توجيه سياساتها بناء عليه؟

يرجع الكاتب الضعف إلى الطغيان وهو عموماً -وهذه حسنة تذكر له- ضدّ الإمبراطوريّات بما فيها الفرنسيّة ويرتأي أنّ الهند وأمريكا لن ترتضي العبوديّة لأوروبّا إلى الأبد وأنّ الحروب -الخاسرة منها والرابحة- مكلفة ويدعوا علاوة على ذلك إلى تجنّب الاستعمار الإستيطاني. يناقض المؤلّف نفسه عندما يقول أنّ الروس والنمساوييّن لا يملكون مستعمرات (اللهمّ إلّا إذا كان قصده بالمستعمرات الواقعة منها ما وراء البحار حصراً) ويضيف فيقول أنّ روسيا قوّة صاعدة (وهذا وقتها صحيح) وأنّ الشيء الوحيد الذي يمكن أن يوقف توسّعها على حساب الأتراك هو موقف بقيّة الدول الأوروبيّة من هذا التوسّع (أيضاً صحيح بمنظور رجعي). 

إذا طرحنا جانباً تقليل Volney لشأن التجارة الفرنسيّة-العثمانيّة فهو يحبّذ حلفاً بين فرنسا وروسيا وينوّه بتقبّل الروس للأفكار الفرنسيّة والأزياء الفرنسيّة والعادات الفرنسيّة (الكلام طبعاً عن أرستقراطيّة روسيا) وحتّى اللغة الفرنسيّة في الوقت الذي يشنّ فيه هجوماً عنيفاً على كلّ ما هم تركي أو عثماني إذا شئنا إلى درجة اعتبار الحكومة العثمانيّة "عدوّة للجنس البشري".  

تراوح عدد سكّان الإمبراطوريّة حسب المؤلّف بين ٢٥-٣٠ مليون نسمة يحكمهم ٢٠٠-٣٠٠ ألف من "قطّاع الطرق". حمّل المستشرق العثمانييّن مسؤوليّة الفقر والجهل والمرض والتخلّف بكافّة أشكاله وذهب إلى حدّ القول بأنهم سبب تفشّي الطاعون في حوض المتوسّط وذلك "بتعصّبهم الغبي" مضيفاً "من سمع بالطاعون والحجر الصحّي في المتوسّط قبل العثمانييّن"؟! معاملة الأتراك لتجّار أوروبّا مهينة فهم معزولون في الخانات وعندما يمشون في الشوارع يقرأون في عيون الناس الاحتقار الذي نكنّه نحن (أي الفرنسييّن) لليهود. إقامة الفرنسي محدودة بعشر سنوات ولا يسمح بالزواج إلّا للقناصل. 

ازدراء العثمانييّن للأوروبييّن لا حدود له ويزوّدنا الكاتب بعدد من الأمثلة منها عندما شبّه الصدر الأعظم Köprülü الفرنسييّن والإسبان بالكلاب والخنازير ووصف الملك لويس "بالكافر الذي يحكم فرنسا". وصلت صفاقة الوزير التركي إلى حدّ الأمر بصفع ابن سفير لويس الرابع عشر عندما فقد هذا الأخير اثنين من أسنانه تمّ بعدها زجّه في سجن تتصاعد منه أبخرة العفونة ثمّ سجن السفير نفسه لمدّة شهرين ولم يتمّ الإفراج عنه إلّا بافتدائه بالمال والهدايا. تلقّى إثنان من المترجمين في صيدا فلقة عام ١٧٦٩ وقتل القنصل الفرنسي في الإسكندريّة عام ١٧٧٧ وهلمجرّا. 

لا داعي للدخول في مشروع التقسيم بالذات وإن تعرّض Volney لحالة مصر "أخصب بلاد الأرض" وهي سهلة الغزو والاحتفاظ بها أمر يسير علاوة على أهميّتها التجاريّة (تجارة العبيد بالذات رابحة للغاية) على طريق الهند واحتمال أن تحلّ السويس يوماً محلّ رأس الرجاء الصالح (هذا الكلام قبل شقّ القناة يثمانين عاماً). يحذّر المؤلّف أنّ استيلاء فرنسا على مصر سيزيد خطر الحرب مع إنجلترا "الأنانيّة الحسودة".

غني عن الذكر أنّ القسطنطينيّة تيقى -على الأقلّ بالنسبة لروسيا والنمسا- الجائزة الكبرى في أي تقسيم للإمبراطوريّة العثمانيّة ولكنّها لا تزال تركيّة في عام ٢٠١٩ كما كانت عام ١٧٨٨ وإن بدا للبعض لوهلة في أواخر الحرب العالميّة الأولى أنّ هذه المدينة العظيمة قد "أينعت وحان قطافها".  






Wednesday, February 6, 2019

نظرة فرنسيّة للإسلام والشرق الأدنى في عصر التنوير


ختم المستشرق الفرنسي الكونت de Volney طبعة ١٧٨٧ الأولى من كتاب "رحلة في سوريا ومصر" بثمانين صفحة تطرّق فيها إلى أثر الدين في الامبراطوريّة العثمانيّة وظروف الحياة والملكيّة وحالة الزراعة وأهل الريف والحرفييّن والتجّار والفنون والعلوم والجهل وعادات الناس وطبائعهم. العمل موسوعي بمقاييس ذلك الوقت ولكنّه مشوب بجرعة كبيرة من العنصريّة كانت هي القاعدة وليس الاستثناء في زمن سبق ما يعرف اليوم باسم "اللباقة السياسيّة" أو political correctness. للإنصاف النمطيّة العنصريّة كانت -ولربّما لا زالت من وراء الكواليس- متبادلة بين الشرق والغرب ويكفي هنا الرجوع ليس إلى كتابات ابن تيميّة الدمشقي  (١٢٦٣-١٣٢٨ للميلاد) إذ من الظلم الحكم عليها بالمقاييس المعاصرة بل إلى حقيقة أنّ كثير من مسلميّ القرن الحادي والعشرين لا يزالون يستشهدون إيجاباً بما قاله في ذمّ وتكفير بعض الأقليّات. حتّى في أدب القصّة شتم غير المسلمين عادي كما في ألف ليلة وليلة  (انظر على سبيل المثال الليالي ١٠٧-١٠٩ وكيف تبرّك البيزنطيّون بغائط "خره" البطريق الأكبر وتبخّروا به ولطّخت به عوارضهم ومسحت شواربهم قبل الذهاب لقتال المسلمين). 

يبدأ المؤلّف بهجوم صريح على الإسلام ومقدّساته فيدعوا إلى نبذ الرأي القائل بأنّ الإسلام كفيل بعلاج مساوىء الحكومة وأنّ هذا الدين -على العكس- هو أصل الشرور. يمكن تلخيص القرآن المليء "بالقصص الصبيانيّة والأساطير السخيفة والإنشاء المملّ... عن الحوريّات بانتظار الشهداء" بكونه هذيان فوضوي لتعصّب مضطّرم لا يلين. المشكلة أنّ القرآن -مصدر التشريع والسياسة والفقه- ليس فيه ما يستحقّ الذكر عن واجب الإنسان تجاه مجتمعه ولا فنّ الحكم وسنّ القوانين باستثناء ما يتعلّق بالإرث والزواج والطلاق والعبوديّة. أمّا عن النبي محمّد فهو "أكثر المشرّعين جهلاً على الإطلاق ولا نجد في كافّة المؤلّفات الغبيّة للفكر الإنساني أتفه من كتابه كما برهنت على ذلك أحداث آسيا خلال ١٢٠٠ سنة". 

اقتصر دور العرب حتّى في عصرهم الذهبي على النقل عن الإغريق باستثناء العلوم اللغويّة وأمّا عن ضحولة الفقه الإسلامي والأسئلة السخيفة التي يجتهد العلماء لإيجاد جواب لها فحدّث ولا حرج. هناك مجموعتان للكتب فقط لا غير في بلاد الشام أولاهما في عكّا لدى أحمد باشا الجزّار والثانية في مار حنّا (الشوير) في لبنان ولا يوجد في البلاد الناطقة بالعربيّة أي مكان غني بالكتب باستثناء القاهرة ومكتبة الأزهر. القاهرة هي المكان الوحيد الذي نجد فيه إلماماً معيّناً بالعلوم الموسيقيّة ولكنّهم يستعملون في نوطهم رموزاً إيرانيّة أمّا عن الرقص أمام العامّة فهو يقتصر على البغايا ويطلق على الراقصة الماهرة اسم "العالمة". الجهل بالطب سائد وهناك نفور ديني من التشريح. استعيض عن علم الفلك astronomy بالتنجيم astrology. باختصار انتهى عهد الخلفاء الزاهر لدى العرب ولم يلد ما يقابله لدى الأتراك بعد وأسباب التخلّف ترجع للحكومة والدين. 

الشرق الأدنى تعيس ومن المعروف أنّ مباعث البهجة في الغرب هي الخمر واختلاط الجنسين. تناول الخمر والاستمتاع به حكر على كسروان والدروز في لبنان والفصل بين النساء والرجال موجود في كلّ مكان. لا ذكر في القرآن والسيرة النبويّة لثواب النساء في الآخرة ولا لممارستهنّ الدين ولا يسمح للمرأة بالتملّك لا بل ويتسائل المسلمون فيما إذا كان للأنثى روح. السفور علامة الدواعر والمسلمون لا يعرفون من الحبّ إلّا إرضاء الغرائز. تسود العفّة في الأرياف وينتشر الفجور في المدن خصوصاً في القاهرة لدى المتزوّجات. العنانة متفشّية وسببها تعدّد الزوجات من جهة والزواج المبكّر من جهة ثانية. سكّان الداخل أبسط وأكرم وأطيب خلقاً من سكّان الساحل والتجارة عدوّ لدود للفضيلة. يلجأ المؤلّف كما نرى إلى التعميم والأحكام المطلقة دون تردّد أو تحفّظ ومن الواضح أنّه لا يشكّ في صحّة كلامه. 
   
أمضى السيّد Volney  ثلاث سنوات في مصر والشام بين الأهالي متكلّماً لغتهم ويخطىء من يعتقد أنّ وصفه النمطي العنصري يقتصر على الإسلام والمسلمين إذ لم يتردّد في الجزم بأنّ المسيحييّن الأرثوذوكس أسوأ من المسلمين من عدّة أوجه. صحيح أنّ المسلم متكبّر إلى درجة العجرفة ولكنّه أيضاً ذو طيبة وإنسانيّة وحسّ بالعدالة ومن شيمه التصميم والحزم في وجه الشدائد أمّا المسيحييّن الأورثوذوكس فهم عموماً مكرة وخبثاء وكاذبون تتملّكهم الضعة عندما يحطّ شأنهم والسفاهة إذا ارتفع مقدارهم إلخ.. إلخ..


الروابط أدناه للنصّ الأصلي بالفرنسيّة مع الترجمة الإنجليزيّة لمن يريد التوسّع. 



Tuesday, February 5, 2019

عندما سطعت أطلال تدمر على أوروبا


تدمر -هذه الأعجوبة الفريدة- اليوم أشهر من نار على علم داخل وخارج الشام ولا مبالغة في القول أنّ عروس الصحراء تراث للإنسانيّة جمعاء. تاريخ المدينة المجيد ومحنها عبر العصور امتداداً إلى مطلع القرن الحادي والعشرين والجرائم التي اقترفها بحقّها أشباه البشر من داعش غنيّة عن التعريف ومقال اليوم لا يتعدّى كونه ترجمة عن المستشرق الفرنسي الكونت de Volney وكتاب "رحلة في سوريا ومصر" الصادر عام ١٧٨٧ لقصّة اكتشاف أوروبا العصور الحديثة للمدينة.

أريد أن أتكلّم عن تدمر الذائعة الصيت بفضل الدور اللامع الذي لعبته في العصر الروماني الثالث والخلافات بين البارثييّن والرومان، وقصّة سعود ثمّ سقوط نجم أذينة وزنّوبيا ودمار المدينة على يد أوريليان. ترك اسم تدمر منذ ذلك العهد ذكرى جميلة في التاريخ ولكنّها لم تكن إلّا ذكرى دون معرفة تفاصيل ودرجة عظمتها. كانت الأفكار عنها ضبابيّة وبالكاد وعى الأوروبيّون وجودها حتّى نهاية القرن الفائت عندما أصاب الكلال مجموعة من التجّار الإنجليز في حلب من سماع البدو يتكلّمون عن أنقاض هائلة في البادية. قرّر هؤلاء التجّار إلقاء الضوء على القصص العجيبة التي وصلتهم فقاموا بمحاولة أولى في رحلة إلى الآثار المذكورة عام ١٦٧٨ لم تكلّل بالنجاح إذ نهبهم العرب وأرغموهم على العودة بخفّي حنين. استجمع الإنجليز شجاعتهم واستأنفوا محاولاتهم فاستطاعوا أخيراً عام ١٦٩١ الوصول إلى الأوابد التدمريّة ونشروا تقريرهم في "المطارحات الفلسفيّة" ولكنّه اصطدم بكثير من المكذّبين والمعترضين الذين عجزوا عن استيعاب فكرة إمكانيّة وجود مدينة على هذه الدرجة من الفخامة والأبّهة -كما شهدت الرسوم-  في مكان بعيد عن الأرض المعمورة إلى هذه الدرجة، بله الاقتناع بهذا الوجود. لم يعد هناك مجال للشكّ بعد أن نشر الفارس دوكينز الإنجليزي عام ١٧٥٣ خرائط مفصّلة أخذها بنفسه على أرض الواقع عام ١٧٥١ وتوجّب الاعتراف أنّ الأزمنة القديمة لم تترك لا في اليونان ولا في إيطاليا ما يمكن مقارنته ببهاء أطلال تدمر



Ruines de Palmyre



* Ruines dPalmyre, I vol, in-fol. de cinquante planches gravées à Londres, en 1753, et publiées  par Robert Wood.







Ruines de Palmyre


Je veux parler de Palmyre, si connue dans le troisième âge de Rome par le rôle brillant qu'elle joua dans les démêlés des Parthes et des Romains, par la fortune d'Odénat et de Zénobie, par leur chute et par sa propre ruine sous Aurélien. Depuis cette époque, son nom avait laissé un beau souvenir dans l'histoire; mais ce n'était qu'un souvenir; et faute de connaître en détail les titres de sa grandeur, l'on n'en avait que des idées confusesà peine même les soupçonnait-on en Europe, lorsque sur la fin du siècle dernier, des négociants anglais d'Alep, las d'entendre les bédouins parler des ruines immenses qui se trouvaient dans le désert, résolurent d'éclaircir les récits prodigieux qu'on leur en faisait. Une première tentative, en 1678, ne fut pas heureuse; les Arabes les dépouillèrent complètement, et ils furent obligés de revenir sans avoir rempli leur objet. Ils reprirent courage en 1691, et parvinrent enfin à voir les monuments indiqués. Leur relation, publiée dans les Transactions Philosophiques, trouva beaucoup d'incrédules et de réclamateurs: on ne pouvait ni concevoir ni se persuader comment, dans un lieu si écarté de la terre habitable, il avait pu subsister une ville aussi magnifique que leurs dessins l'attestaient. Mais depuis que le Chevalier Dawkins*, (Dâkins) anglais, a publié, en 1753 , les plans détaillés qu'il en avait lui-même pris sur les lieux en 1751, il n'y a plus eu lieu d'en douter, et il a fallu reconnaître que l'antiquité n'a rien laissé, ni dans la Grèce, ni dans l'Italie, qui soit comparable à la magnificence des ruines de Palmyre.





* Ruines dPalmyre, I vol, in-fol. de cinquante planches gravées à Londres, en 1753, et publiées  par Robert Wood.




Monday, February 4, 2019

بعلبك ومعبد الشمس في القرن الثامن عشر


عرف الإغريق والرومان بعلبك تحت اسم مدينة الشمس أو Heliopolis ويقابلها هليوبوليس مصر أو ضاحية عين شمس شمال شرق القاهرة. لربّما كانت التسمية الكلاسيكيّة مشتقّة من الأصل السامي إذ تعني كلمة "بعل" ربّ ويمكن بناءً عليه اعتباره مكافئاً لإله الشمس المصري رعّ. 

خصّص المستشرق لفرنسي الكونت de Volney في كتاب "رحلة في مصر وسوريا" ١٣ صفحة لوصف المدينة وتاريخها مع خارطة مستقلّة لمعبدها ولوحة مطويّة اضطررت لتقسيمها إلى جزئين عندما قمت بمسحها. يمكن مراجعة الراوابط أدناه بالفرنسيّة والإنجليزيّة لمن يرغب في قراءة النصّ الكامل وسأقتصر في هذا البوست على بعض رؤوس الأقلام.


زار البريطاني Robert Wood بالاشتراك مع الفارس James Dawkins الشرق الأدنى عام ١٧٥٠-١٧٥١ ونشر في لندن عام ١٧٥٧ كتابه الشهير "أطلال بعلبك" الذي كان أفضل وأدقّ وصف للمدينة العظيمة إلى حينه ومنها استنتج Volney الذي تميّز بدقّة الملاحظة فروقات بين الوصف المبني على زيارة Wood وشركاه عام ١٧٥١ ويبن ما وجده عندما تفحّص الأنقاض عام ١٧٨٤ إذ أصيبت المدينة بأضرار لا بأس بها بين الزمنين عزاها الرحّالة الفرنسي إلى زلزال عام ١٧٥٩ من جهة، وإلى جهل الأتراك الذين قاموا بانتزاع الحديد الذي يربط بعض الأعمدة من جهة ثانية. 


يعزوا سكّان البلاد -مسلمين كانوا أم مسيحييّن أم يهود- جميع المنشئات الضخمة إلى سليمان وهو الذي -حسب زعمهم- بنى آبار صور وأوابد تدمر وبعلبك وغيرها. يعود هذا الاعتقاد بالطبع للكتاب المقدّس وخصوصاً العهد القديم، المصدر الوحيد تقريباً لكافّة السير التي يتداولونها وهم يعتقدون بوجود كنوز مدفونة في الأطلال وأنّ الزوّار الأوروبييّن قد يستطيعون بسحرهم فكّ الطلاسم والرموز الموجودة وبالتالي الاستحواذ على هذه الكنوز وعبثاً حاولنا إقناعهم بالعكس.

في كلّ الأحوال لا نجد في النصوص الإغريقيّة واللاتينيّة القديمة إلّا النزر اليسير من المعلومات عن بعلبك وهناك إشارة في يوحنّا الأنطاكي (Jean d'Antioche قرن سابع ميلادي) تعزوا بناء بعلبك إلى الإميراطور الروماني Antonin-le-Pieux (القرن الثاني للميلاد). 

كانت حالة المدينة بائسة عندما زارها Volney إذ أضيف إلى زلزال ١٧٥٩ سوء إدارة آل حرفوش وحروب الأمير يوسف الشهابي وأحمد باشا الجزّار إلى درجة أنّ عدد سكّانها تناقص من خمسة آلاف عام ١٧٥١ إلى ١٢٠٠ عام ١٧٨٤-١٧٨٧ من الفقراء الذين لا حرفة لهم ولا تجارة وتقتصر زراعتهم غلى القليل من القطن والبطّيخ والذرة.  





Sunday, February 3, 2019

دير مار يوحنّا ودخول الطباعة العربيّة إلى الشرق الأدنى


لا ريب أنّ أحد أهمّ أسباب جمود ومن ثمّ تقهقر الشرق في مواجهة أوروبا على المستويات العلميّة والأدبيّة وبالنتيجة السياسيّة والعسكريّة كان رفض تبنّي الطباعة في مرحلة مبكّرة ممّا حصر القراءة والمعرفة بأقليّة نخبويّة وجرّد بالتالي الملايين من المؤهّلات التي تسمح لهم باللحاق بركب الحضارة.  أوّل الكتب المطبوعة باللغة العربيّة كانت في أوروبا وليس العالم العربي ويستعرض المستشرق الفرنسي الكونت de Volney مشكوراً في كتاب "رحلة في مصر وسوريا" الصادر عام ١٧٨٧كيفيّة دخول الطباعة إلى الشام ألخّصها كما يلي:

أسّس اليسوعيّون تحت الحماية الفرنسيّة بعثة تبشيريّة وتعليميّة في حلب كان الهدف منها نشر التعاليم الكاثوليكيّة ومكافحة الهرطقة. اقتصرت معرفة المسيحييّن في الشرق الأدنى آنذاك على العربيّة العاميّة إذ قاوم علماء المسلمين تدريس الفصحى وعلوم القواعد والنحو للكفّار وإن تساهلوا بالنتيجة عندما تمّ إرضاء جشعهم وحبّهم للمال. يأتي هنا دور الطالب النجيب عبد الله زاخر الذي تميّز بعلمه وقام بالتبشير في حلب قلباً وروحاً ممّا أثار غيرة المسيحييّن المنشقّين (أي الأورثوذوكس) الذين استطاعوا بدسائسهم الحصول على فرمان شاهاني أو "خطّ شريف" من القسطنطينيّة يأمر بقطع رأسه. 

نجح الزاخر في الفرار إلى جبل الدروز (أي جبل لبنان) وكان الدروز وقتها يشجّعون هجرة الموارنة والأورثوذوكس إلى لبنان حيث سمح لهم ببناء الأديرة والكنائس وأحدها كان دير مار يوحنّا الذي أسّسه الروم الكاثوليك قرب الشوير حوالي عام ١٧٠٠ حيث التجأ الزاخر ليدشّن فيه أوّل مطبعة في لبنان ونجح عام ١٧٣٣ في إصدار مزامير داود (الزبور حسب المسلمين) في مجلّد واحد.   

مات الزاخر حوالي عام ١٧٥٥ وسار تلميذه على خطاه وإن تعثّرت خطى المطبعة وقلّت مبيعاتها باستثناء كتاب المزامير وعلّ هذا سببه طبيعة المؤلّفات الدينيّة الجافّة المقتصرة على التعاليم المسيحيّة المتقشّفة والوعظ عوضاً عن التركيز على المواضيع العمليّة المفيدة والفنيّة الممتعة. يعطي Volney جرداً بمقتنيات المطبعة-المكتبة بطول أربع صفحات لتعزيز وجهة نظره تحتوي على أقلّ من خمسين عنواناً اخترت منها التالية:

الكتب المطبوعة
دليل الآثم، غذاء الروح، العقيدة المسيحيّة، مزامير داود (مترجمة من الإغريقيّة)، الإنجيل والرسائل.

المخطوطات
تقليد يسوع المسيح، اللاهوت الأخلاقي، لاهوت القدّيس توما، مواعظ القدّيس يوحنّا فم الذهب، المنطق (مترجم عن الإيطاليّة)، ملخّص القاموس المحيط.

كتب ومؤلّفات إسلاميّة
القرآن، ألفيّة ابن مالك، مقامات الحريري، الطبّ لابن سينا، تاريخ اليهود ليوسيفوس. 

إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ مكتبة دير مار يوحنّا ومكتبة أحمد باشا الجزّار كانتا الوحيدتين في الشام فبإمكاننا تخيّل حالة العلم في سوريا آنذاك. لم تكن بقيّة الأقاليم الناطقة بالعربيّة أفضل حالاً وحتّى في مصر تعيّن على الطباعة أن تنتظر حملة نابوليون وعهد محمّد علي. 






Saturday, February 2, 2019

شام القرن الثامن عشر: إذا حجّ جارك بيع دارك


رأينا أنّ عدد سكّان دمشق قدّر بحوالي أربعين ألف نسمة في النصف الثاني من القرن الثامن عشر أي أقلّ من نصف عدد سكّان حلب وقتها وهذا لا يشمل زوّراها في موسم الحجّ الذين قدّرهم المستشرق الفرنسي الكونت de Volney في كتاب "رحلة في مصر وسوريا" الصادر عام ١٧٨٧ بثلاثين إلى خمسين ألفاً. إذا صحّ هذا الرقم -وأشكّ في ذلك- فهذا يعني أنّ المدينة كانت أشبه بفندق كبير يتضاعف عدد سكّانه في أشهر معيّنة. في كلّ الأحوال لا يمكن إنكار أهميّة الحجّ إلى مكّة من النواحي الاقتصاديّة والتجاريّة والثقافيّة عبر التاريخ وإن تمتّعت الشام علاوة على ذلك بمزايا عديدة حبتها بها الطبيعة.

دمشق الشام واحة في الصحراء وهي "أعذب أماكن سوريا وأفضلها تروية" لا يكلّ العرب من التغنّي بأشجارها وفاكهتها وصفاء مياهها وينابيعها. دمشق أغنى المدن قاطبةً بالأقنية والسبل ولكل منزل فيها مصدر مياه مستقلّ ولا جدال في كونها أحد أجمل مدن تركيّا. مع ذلك تجب الإشارة إلى أنّ موقعها ليس ملائماً من الناحية الصحيّة وأنّ الشوام عرضة للانسدادات obstruction وأنّ بياض بشرتهم ليس علامة على العافية ولكن بالأحرى النقاهة من المرض. يفرط الأهالي في أكل الفواكه وينتج عن هذا أوبئة البرداء (الملاريا) والزحار في فصليّ الصيف والخريف.

يؤكّد الأتراك أنّ الدمشقييّن أكثر سكّان الإمبراطوريّة لؤماً ومسيحيّو المدينة أكثر مكراً وخسّة من أي مكان آخر ولا ريب أنّ هذا يعود لسفاهة المسلمين وتعصّبهم وهم يماثلون أهل القاهرة في هذا المضمار ويمقتون الإفرنج مثلهم سواءً بسواء. لا يستطيع الغربيّون ارتداء الأزياء الأوروبيّة في دمشق ويعجز تجّارهم عن تأسيس وكالات فيها ولا نجد فيها إلّا مبشّرين اثنين من الكبوشييّن وطبيباً واحداً غير مؤهّل. 

سبب تعصّب الدمشقييّن علاقتهم مع مكّة وهم يزعمون أنّ مدينتهم مقدّسة ونرى فيها في موسم الحجّ أناساً من مختلف أصقاع الأرض. رغم كلّ مزايا الحجّ التجاريّة منها والروحيّة يقرّ بعض الحجّاج الصادقين بأنّ هذه الرحلة هي أكثر الأسفار شقاءً على الإطلاق ويقول المثل الشائع "دير بالك إذا حجّ جارك مرّة وإذا حجّ مرتين انتقل من بيتك" هذه ترجمة لما قاله المؤلّف والمثل الأصلي الذي يعرفه كلّ الشوام "إذا حجّ جارك بيع دارك وإذا حجّ مرتين بيعو بالدين". يضيف الكاتب فيقول أنّ التجارب أثبتت صفاقة وسوء نيّة معظم حجيج مكّة وكأنّهم ينتقمون من الخداع الذي وقعوا ضحيّة له (أي رحلة الحجّ) عن طريق التحوّل بدورهم إلى نصّابين.  





Friday, February 1, 2019

مدن الشام في القرن الثامن عشر


التاريخ عموماً تاريخ المدن وإن كان معظم سكّان العالم في القرن الثامن عشر (وحتّى منتصف القرن العشرين على الأقلّ في الشرق الأدنى) من أبناء الأرياف. تعتمد التجارة على المدن وفيها يزدهر الأدب والفنّ والعمارة والعلم. المدن -كما كتب وبحقّ الكونت de Volney- عام ١٧٨٧ في "رحلة في مصر وسوريا" آخر من يجوع رغم كون الريف المصدر الأوّل والأخير للغذاء والمواد الأوّليّة وفي نهاية المطاف الثروة التي ترتكز عليها المدن. يضيف المؤلّف أنّ أراضي آسيا أخصب من اراضي أوروبا على اعتبار أنّه يمكن زراعتها لفترات أطول من السنة ومنها ما يمكن زراعته دون انقطاع ودون سماد. فيما يلي استعراض سربع لوضع سوريا في النصف الثاني من القرن الثامن عشر والكلام دوماً اقتباس موجز عن المستشرق الفرنسي مع التنويه أنّ كافّة الأرقام المذكورة تقريبيّة:

قدّر عدد سكّان بلاد الشام وقتها بحوالي مليونين وثلاثمائة ألف نسمة يتوزّعون على خمس ولايات: حلب وطرابلس وعكّا-صيدا ودمشق وفلسطين. وأقتصر على ذكر أهمّ مدن هذه الولايات:

حلب
كانت هذه المدينة العريقة وقتها عاصمة سوريا الاقتصاديّة (كما هي الآن) في وقت كانت العاصمة السياسيّة لا تزال في القسطنطينيّة. تراوح عدد سكّانها وقتها بين ١٠٠٠٠٠-٢٠٠٠٠٠ وبالتالي كانت أكبر مدن الامبراطوريّة العثمانيّة بعد القاهرة واسطنبول وكان فيها قنصل فرنسي وعدّة وكالات تجاريّة لفرنسا وانجلترا والامبراطوريّة النمساويّة وهولندا والبندقيّة وليفورنو (مدينة إيطاليّة). يغذّيها نهر قويق الذي "لا تنضب مياهه أبداً" وهوائها جافّ وصحّي وإن تفشّى فيها داء حبّة حلب المجهول السبب (تكهّن Volney أنّه يعود لطبيعة المياه). 

دمشق 
عدد سكّانها ٤٠٠٠٠ منهم ١٥٠٠٠ مسيحي وسأخصّص لها مقالاً مستقلّاً.

القدس
حوالي ١٢٠٠٠-١٤٠٠٠ نسمة ويتباهى سكّانها بمكانتها الدينيّة المسلمون منهم والمسيحيّون واليهود على حدّ سواء. يظنّ من يرى تبجيلهم للأماكن المقدّسة أنّهم أتقياء ومع ذلك فهم معروفون بكونهم أخبث أهل سوريا قاطبة  ويتجاوزون في خبثهم حتّى أهل دمشق. فيها كثير من البعثات والطوائف المسيحيّة التي تتشاجر بعضها مع البعض الآخر على أولويّة ملكيّة الأوابد الدينيّة وتدفع الرشاوى للأتراك بهدف تجاوز منافسيها ويشجّع الأتراك بالطبع هذه النزاعات المفيدة لهم. استقبلت المدينة ٢٠٠٠ من الحجّاج عام ١٧٨٤ ويقال أنّ عددهم سابقاً تجاوز ١٢٠٠٠ ويندب الرهبان ما يعتبرونه دلالة على تردّي الإيمان مؤخّراً.   

بيروت
٦٠٠٠ إنسان وهي لا تملك مصدراً للماء العذب في داخلها  وتهيمن عليها من الشمال إلى الجنوب سلسلة من التلال وإذا أضفنا إلى هاتين النقيصتين هزال تحصيناتها وسوء مينائها نستنتج أنّها ستبقى أبداً مكاناً رديئاً. لهجة سكّانها هي الأسوأ بين الناطقين بالعربيّة.

صيدا
خمسة آلاف وهي ذات تجارة لا بأس بها وفيها قنصل فرنسي وأربع أو خمس بيوتات تجاريّة (بينما صور ليس أكثر من خمسين إلى ستّين عائلة فقيرة).

طرابلس واللاذقيّة
٤-٥ آلاف نسمة للواحدة. 

حماة
أربع آلاف وفيها بعض النشاط كونها على طريق حلب.

حمص
ألفين نسمة مسلمين ومسيحييّن أورثوذوكس.

غزّة
عاصمة فلسطين وتعدّ ألفين نسمة. تمرّ منها القوافل من الشام إلى مصر وبالعكس إضافة لقاقلة سنويّة تحمل الجردة لحجّاج مكّة. 

دير القمر
عاصمة إقليم الدروز ١٥٠٠-١٨٠٠ نسمة من الموارنة والأورثوذوكس والدروز. سرايا الأمير فيها عبارة عن بيت كبير آيل للتداعي. 

بالطبع هناك ذكر لأطلال أفاميا وبعلبك وتدمر (اكتشفها تجّار انجليز من حلب عام ١٦٩١) وكثير غيرها ولكن ليس البتراء التي لم تكن قد اكتشفت من قبل الغرب بعد.

للحديث بقيّة.