بيّنت السنوات التالية أنّ هذا المشروع كان سابقاً لأوانه. اقترح المستشرق الفرنسي الكونت de Volney هذا المخطّط ودرس مناقبه ومثالبه في مائة صفحة أنهاها في ٢٦ شباط ١٧٨٨ وألحقها في كتابه الشهير "رحلة في سوريا ومصر" الذي صدر عام ١٧٨٧ في أعقاب هزيمة العثمانييّن في حروبهم مع "المسكوب" أي الروس وتوقيعهم لاتّفاقيّة Küçük Kaynarca في تمّوز ١٧٧٤.
يروّج كثير من المؤرّخين في الشرق والغرب فكرة أنّ انحطاط الإمبراطورية العثمانيّة بدأ بعد موت سليمان القانوني عام ١٥٦٦ ولربّما كان في هذا بعض الصحّة إذا اعتبرنا أنّ معيار التقدّم هو الفتوحات العسكريّة التي تجمّدت بعد هذا السلطان باستثناء بعض الحملات هنا وهناك وأهمّها المحاولة الثانية الفاشلة للاستيلاء على فيينّا عام ١٦٨٣ (الحصار الأوّل ١٥٢٩) . ليست الفتوحات المقياس الوحيد ولا الأهمّ (هناك النواحي العلميّة والاقتصاديّة والثقافيّة وغيرها) ولكن من وجهة نظر سياسيّة بحتة تكفي نظرة على خارطة الإمبراطوريّة في آخر القرن الثامن عشر (أي قبيل حملة نابوليون على مصر عام ١٧٩٨) حتّى ندرك أنّها كانت حتّى ذلك التاريخ سليمة إلى حدّ بعيد من الناحية الجغرافيّة فهي لا تزال تحكم -ولو ضعفت السلطة المركزيّة- مساحات شاسعة تشمل البلقان وآسيا الصغرى والشام والجزيرة العربيّة ومصر ومعظم شمال إفريقيا ومن المؤكّد أنّ Volney لم يتوقّع وقتها أنّ سقوطها سيتاخّر قرناً من الزمن بعد وفاته.
من المفيد هنا التذكير أنّ علاقات باريس مع القسطنطينيّة كانت إجمالاً سلسة إن لم نقل ودودة منذ سليمان القانوني و François I في القرن السادس عشر وكانت لفرنسا الأسبقيّة على سائر دول أوروبّا في الحصول على الامتيازات Capitulations التي فتحت الطريق لتجّارها وديبلوماسييّها وبالنتيجة محمييّها من المسيحييّن المحلّييّن (خصوصاً الكاثوليك ومن اعترف بسطة البابا كالموارنة) ولربّما كانت نقطة التحوّل حملة نابوليون التي أدّت بالنتيجة لإعادة ترتيب أحلاف الباب العالي وأفضت إلى حلول الصداقة والحماية البريطانيّة محلّ الفرنسيّة في القرن التاسع عشر قبل أن تزيح ألمانيا بدورها إنجلترا في أواخر نفس القرن وحتّى ١٩١٨.
السيّد Volney إذاً سابق لزمانه بعشر سنوات على الأقلّ فما هي الأسباب التي حملته على الاعتقاد أنّ الإمبراطوريّة العثمانيّة في سبيلها للانهيار وأنّ مصالح بلاده تقضي إعادة توجيه سياساتها بناء عليه؟
يرجع الكاتب الضعف إلى الطغيان وهو عموماً -وهذه حسنة تذكر له- ضدّ الإمبراطوريّات بما فيها الفرنسيّة ويرتأي أنّ الهند وأمريكا لن ترتضي العبوديّة لأوروبّا إلى الأبد وأنّ الحروب -الخاسرة منها والرابحة- مكلفة ويدعوا علاوة على ذلك إلى تجنّب الاستعمار الإستيطاني. يناقض المؤلّف نفسه عندما يقول أنّ الروس والنمساوييّن لا يملكون مستعمرات (اللهمّ إلّا إذا كان قصده بالمستعمرات الواقعة منها ما وراء البحار حصراً) ويضيف فيقول أنّ روسيا قوّة صاعدة (وهذا وقتها صحيح) وأنّ الشيء الوحيد الذي يمكن أن يوقف توسّعها على حساب الأتراك هو موقف بقيّة الدول الأوروبيّة من هذا التوسّع (أيضاً صحيح بمنظور رجعي).
إذا طرحنا جانباً تقليل Volney لشأن التجارة الفرنسيّة-العثمانيّة فهو يحبّذ حلفاً بين فرنسا وروسيا وينوّه بتقبّل الروس للأفكار الفرنسيّة والأزياء الفرنسيّة والعادات الفرنسيّة (الكلام طبعاً عن أرستقراطيّة روسيا) وحتّى اللغة الفرنسيّة في الوقت الذي يشنّ فيه هجوماً عنيفاً على كلّ ما هم تركي أو عثماني إذا شئنا إلى درجة اعتبار الحكومة العثمانيّة "عدوّة للجنس البشري".
تراوح عدد سكّان الإمبراطوريّة حسب المؤلّف بين ٢٥-٣٠ مليون نسمة يحكمهم ٢٠٠-٣٠٠ ألف من "قطّاع الطرق". حمّل المستشرق العثمانييّن مسؤوليّة الفقر والجهل والمرض والتخلّف بكافّة أشكاله وذهب إلى حدّ القول بأنهم سبب تفشّي الطاعون في حوض المتوسّط وذلك "بتعصّبهم الغبي" مضيفاً "من سمع بالطاعون والحجر الصحّي في المتوسّط قبل العثمانييّن"؟! معاملة الأتراك لتجّار أوروبّا مهينة فهم معزولون في الخانات وعندما يمشون في الشوارع يقرأون في عيون الناس الاحتقار الذي نكنّه نحن (أي الفرنسييّن) لليهود. إقامة الفرنسي محدودة بعشر سنوات ولا يسمح بالزواج إلّا للقناصل.
ازدراء العثمانييّن للأوروبييّن لا حدود له ويزوّدنا الكاتب بعدد من الأمثلة منها عندما شبّه الصدر الأعظم Köprülü الفرنسييّن والإسبان بالكلاب والخنازير ووصف الملك لويس "بالكافر الذي يحكم فرنسا". وصلت صفاقة الوزير التركي إلى حدّ الأمر بصفع ابن سفير لويس الرابع عشر عندما فقد هذا الأخير اثنين من أسنانه تمّ بعدها زجّه في سجن تتصاعد منه أبخرة العفونة ثمّ سجن السفير نفسه لمدّة شهرين ولم يتمّ الإفراج عنه إلّا بافتدائه بالمال والهدايا. تلقّى إثنان من المترجمين في صيدا فلقة عام ١٧٦٩ وقتل القنصل الفرنسي في الإسكندريّة عام ١٧٧٧ وهلمجرّا.
لا داعي للدخول في مشروع التقسيم بالذات وإن تعرّض Volney لحالة مصر "أخصب بلاد الأرض" وهي سهلة الغزو والاحتفاظ بها أمر يسير علاوة على أهميّتها التجاريّة (تجارة العبيد بالذات رابحة للغاية) على طريق الهند واحتمال أن تحلّ السويس يوماً محلّ رأس الرجاء الصالح (هذا الكلام قبل شقّ القناة يثمانين عاماً). يحذّر المؤلّف أنّ استيلاء فرنسا على مصر سيزيد خطر الحرب مع إنجلترا "الأنانيّة الحسودة".
غني عن الذكر أنّ القسطنطينيّة تيقى -على الأقلّ بالنسبة لروسيا والنمسا- الجائزة الكبرى في أي تقسيم للإمبراطوريّة العثمانيّة ولكنّها لا تزال تركيّة في عام ٢٠١٩ كما كانت عام ١٧٨٨ وإن بدا للبعض لوهلة في أواخر الحرب العالميّة الأولى أنّ هذه المدينة العظيمة قد "أينعت وحان قطافها".
No comments:
Post a Comment