Wednesday, September 30, 2020

السويداء في متحف دمشق الوطني: ذو الشرى‎



ذو الشرى إله نبطيّ أو بالأحرى كبير آلهة الأنباط وهو بمثابة المشتري لديهم ويمكن في نفس الوقت اعتباره تقمّصاً محليّاً لربّ الكرمة Dionysus. 


النصب في الصورة بازلتي بارتفاع ١١٤ عشير التر وعرض ٤٢-٥٢ عشير المتر أعاده الدكتور Thomas M. Weber للقرن الثاني أو الثالث للميلاد ونسبه نقلاً عن الدكتور سليم عادل عبد الحقّ إلى حرّان العواميد ولكنّي لم أنجح في تأكيد هذا الزعم بمراجعة ما كتبه عبد الحقّ أمّا عن الأستاذ جودت شحادة فقد صنّفه مع مقتنيات متحف دمشق الوطني من محافظة السويداء دون الكثير من التفاصيل.


يمثّل النحت حسب Weber صفحة ٢٨-٢٩ العملاق (Titan أو الجبّار) Kronos أمّا شحادة  وعبد الحقّ فيعتقدان أنّه ذو الشرى أو Dusares الذي نشاهده منتصباً على قاعدة ممسكاً بيده اليسرى صولجاناً وباليمنى زهرة منشقّة إلى نصفين ينجبس بينهما تمثال نصفيّ كنبتة متفتّحة. الإله ملتحٍ يرتدي ثوباً سابغاً مزوّداً بنطاق عند صدره ونرى على يمينه في أسفل النحت شخصاً صغيراً مشوّه الوجه لربّما كان كاهناً أو متعبّداً.  









جودت شحادة. السويداء في ذاكرة التاريخ. الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة ١٩٩٠.   




Abu al-Faraj al UshAdnan JoundiBachir Zouhdi (translated from Arabic to English by Muhammad Khalifa). Concise Guide to the National Museum of Damascus.  Directorate General of Antiquities and Museums. 


Selim Abdul-Hak. The Treasures of the National Museum of Damascus.  


Thomas M. Weber. Sculptures from Roman Syria 2006. 

Tuesday, September 29, 2020

السويداء في متحف دمشق الوطني: واجهة ناووس



 الصورة من الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة لواجهة ناووس بازلتيّة من السويداء من مقتنيات متحف دمشق الوطني تحمل الرقم ١٤٤ وهي كناية عن مستطيل طوله ٢٣٢ عشير المتر وعرضه ٥٦ عشير المتر محفوظ إلى جانب الجدار الغربي في جناح حوران وجبل العرب.   


يمثّل هذا النحت البارز النصف العلوي المتوفّي في إطار دائريّ على كلّ من جانبيه ربّة النصر المجنّحة أو Nike حاملة سعفة نخيل. يرتأي الأستاذ جودت شحادة أنّ الفقيد من عليّة القوم ولربّما كان من الحكّام الذين يؤلّهون بعد موتهم بدلالة منحوتات مماثلة في مختلف أصقاع الإمبراطوريّة الرومانيّة أمّا من الناحية الفنيّة فيرجح أنّ النحت جرى في مدرسة تقليديّة محليّة لم تراعى فيها النسب والمقاييس على عكس الحال في مدارس أتقن تنفيذاً وتنتمي لنفس العهد تقريباً في اللاذقيّة وأفاميا والرستن.  






جودت شحادة. السويداء في ذاكرة التاريخ. الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة ١٩٩٠.   





Abu al-Faraj al Ush, Adnan Joundi, Bachir Zouhdi (translated from Arabic to English by Muhammad Khalifa). Concise Guide to the National Museum of Damascus.  Directorate General of Antiquities and Museums. 

أنور السادات على طريق جمال عبد الناصر‎

 


اختار الرئيس الراحل عبد الناصر السادات نائباً له في كانون أوّل ديسمبر ١٩٦٩ و"عاهد" هذا الأخير "الشعب أن يمشي على طريق جمال ويكمل خطّته لإزالة آثار العدوان والنهوض بوطننا الكبير". هذا على الأقلّ ما كتب في عدد مجلّة سمير رقم ٧٥٩ الصادر في الخامس والعشرين من تشرين أوّل أكتوبر عام ١٩٧٠. احتلّت صورة جمال غلاف نفس هذا العدد. 


أكّد أحد الظرفاء بعد هذا بقليل أنّ السادات وفى بوعده وسار فعلاً على خطى عبد الناصر وإن حمل خلال مسيرته هذه "محّاية" (بالعربي الفصيح ممحاة) أزال بواسطتها كلّ سياسات سلفه داخليّاً وخارجيّاً وكثيراً ما تبنّى سياسات معاكسة لها ١٨٠ درجة! 


اغتيل السادات في السادس من تشرين أوّل أكتوبر ١٩٨١ خلال عرض عسكريّ في ذكرى هذه الحرب. الحكم على مآثره ومثالبه رهن بالتاريخ والشعب المصري حصراً إذ أنّه - على خلاف عبد الناصر - لم يكن يوماً رئيساً لسوريا (حافظ جمال على "الجمهوريّة العربيّة المتّحدة" كاسم مصر الرسمي في المحافل الدوليّة حتّى مماته). أضف إلى ذلك أنّ دور مصر القيادي في العالم العربي - ثقافيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً - بدأ بالتآكل مع عقد السبعينات وتدفّق أموال النفط على دول الخليج تحديداً. بقيت مصر أغنى الدول العربيّة على الإطلاق وأكثرها تقدّماً حتّى منتصف القرن العشرين ومع نهاية هذا القرن تغيّر الوضع بصورة جذريّة. 


يذكر في حسنات السادات أنّه نجح باسترجاع سيناء ويتعيّن الإقرار بأنّه استبق هزيمة الاتّحاد السوفييتي (وانهياره اللاحق) "ليراهن على الحصان الرابح" أي الولايات المتّحدة والغرب. اعتقد الرجل أنّ مصلحة بلاده تكمن في قلب تحالفاتها وليس لي أو لغيري أن يلومه على ذلك بغضّ النظر عن المهاترات الإعلاميّة المحزنة بين الدول العربيّة في النصف الثاني من السبعينات. 


للمصرييّن تقييم "الرئيس المؤمن" وشعارات "السلام والديموقراطيّة والرخاء" التي أطلقها وسياسات "القلب المفتوح والفكر المفتوح" التي تبنّاها وحتّى قيامه بعقد صلح منفرد مع إسرائيل دون استشارة حلفاء الأمس. 



بالنسبة للسورييّن كان هناك اتّفاق بين مصر وسوريا - جهد حافظ الأسد وأنور السادات لإبقائه سرّاً عن ملك الأردن - لشنّ حرب على إسرائيل في خريف ١٩٧٣ (السادس من تشرين الثاني أكتوبر لتوخّي الدقّة). لسبب أو لآخر قدّم الجانب المصري لنظيره السوري خطّة وهميّة مفادها باختصار أنّ الجيش المصري ينوي مواصلة التقدّم في سيناء نحو المضائق بعد عبور قناة السويس ولكن ما حدث فعلاً أنّ السادات أصدر تعليماته - بناءً على الخطّة الحقيقيّة - لقوّاته المسلّحة بالتوقّف بمجرّد أنّ تمّ العبور وخرق خطّ بارليف ممّا سمح لإسرائيل بتركيز جهودها في الجبهة الشماليّة وعرّض القوّات السوريّة لضغط هائل بدا معه للبعض وقتها  أنّ إسرائيل على وشك احتلال دمشق وأنّ الجيش السوري برمّته سائر على طريق الدمار. 


في هذه الأثناء كان السادات يتواصل سرّاً مع الولايات المتّحدة مطمئناً الإدارة الأمريكيّة أنّه لا ينوي توسيع مدى المعركة ولكنّه لم يكن مستعدّاً للوقوف مكتوف الأيدي تجاه خطر انهيار سوريا والجبهة الشرقيّة التي اجتهد في بنائها وبالتالي اضطرّ مكرهاً لإرسال مدرّعاته إلى سيناء في الرابع عشر من تشرين أوّل أكتوبر خلافاً لرأي قادة جيشه وخصوصاً الفريق سعد الدين الشاذلي الذي عارض وبحقّ مغامرة من هذا النوع خارج الغطاء الصاروخي. مع الأسف تحقّقت أسوأ مخاوف الشاذلي ودمرّ سلاح الجوّ الإسرائيلي مئتين وخمسين من الدبابات المصريّة في مجزرة سهّلت على تلّ أبيب التقدّم خلال "ثغرة الدفرسوار" فيما بعد وتطويق الجيش الثالث وبالتالي فرض هدنة تحت ظروف أسوأ بكثير من المأمول. 


صدّ السوريّون مع ذلك تقدّم إسرائيل عند سعسع وأنهى الإسرائيليّون حصار الجيش الثالث عندما ناشدهم الدكتور هنري كيسنجر أن يفعلوا ذلك في محاولة منه "لإنقاذ الإسرائلييّن من أنفسهم" وإعطاء الصلح فرصة كما كتب في الجزء الثاني من مذكّراته (سنوات القلاقل) "ليس بوسعكم أن تدمّروا الجيش الثالث وإذا فعلتم فستدمّرون السلام". 


هل خان السادات سوريا في حرب تشرين-أكتوبر؟ لا يمكن اتّهام رجل ضحّى بمئات من مدرّعاته في محاولة يائسة وشجاعة (وإن أتت بعد فوات الأوان) لتخفيف الضغط عن حلفائه السورييّن بالخيانة والأصحّ أن يقال أنّه أخطأ عندما لم يعلمهم سلفاً بنواياه الحقيقيّة التي لم تتجاوز "تحريك" أزمة الشرق الأدنى بغية الحصول على سلام عادل أو على الأقلّ كافٍ لحفظ ماء الوجه وتبرير ما دفعته بلاده من النفس والنفيس في مواجهتها المتكرّرة مع إسرائيل . 


الخلاصة حاول الرئيس المصري تدارك هفوته عندما بدت دمشق على وشك السقوط وقام بإرسال جيشه إلى سيناء خارج غطاء الصواريخ الروسيّة الصنع بعد ضياع عنصر المفاجأة وزوال الفرصة ودفعت مصر ثمناً باهظاً في الأرواح والمعدّات نتيجة لهذا التذبذب.      

Monday, September 28, 2020

السويداء في متحف دمشق الوطني



في حوزة متحف دمشق مجموعة ثمينة من المقتنيات الحورانيّة حاول الأستاذ جودت شحادة من المديريّة العامّة للآثار والمتاحف تعريفنا ببعض ما يخصّ السويداء منها من خلال مقال مصوّر قصير (11 صفحة) نشر في عدد الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة الصادر عام ١٩٩٠.


السويداء مدينة قديمة وعريقة شأنها في ذلك شأن الكثير من المدن السوريّة عرفت في العهود الكلاسيكيّة تحت اسم Dionysias نسبة إلى Dionysus ربّ الكروم وللتوضيح الكلام هنا ليس عن السويداء كمدينة وإنّما كمحافظة فيها كثير من المواقع التاريخيّة كالقنوات وشهبا وغيرها.


ازدهرت حوران في العهد الروماني واعتلى فيليب العربي أحد أبنائها عرش القياصرة وإليه تنسب مدينة Philippopolis أو شهبا. أكّد المؤلّف أنّ هذا الإمبراطور اعتنق المسيحيّة وكان "أوّل من أدخل النصرانيّة إلى روما وتسامح مع معتنقيها" ولكن هذا مختلف عليه. عموماً للرجل إنجازاته علّ أحد أهمّها الصلح الذي عقده مع الإمبراطوريّة الساسانيّة خلال حكمه الذي دام من ٢٤٤ إلى ٢٤٩ للميلاد. 





النقد في الصورتين "طرّة ونقش" لفيليب العربي من مقتنيات متحف دمشق الوطني أمّا الرأس الرخامي الذي يمثّله فهو في متحف شهبا حيث تمّ العثور عليه. 





جودت شحادة. السويداء في ذاكرة التاريخ. الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة ١٩٩٠.   

Sunday, September 27, 2020

أسواق دمشق العثمانيّة‎

 


أصبحت دمشق مع العهد العثماني مجرّد مدينة كبيرة في إمبراطوريّة متراميّة الأطراف بعد أن كانت ثاني مدن دولة المماليك وبالتالي تراجع نشاطها التجاري الدولي خصوصاً مع بوادر أفول نجم الشرق الأدنى كمركز تبادل بين الشرق والغرب نجح البرتغالييّن في تجاوزه عن طريق رأس الرجاء الصالح. عوّض عن هذه الخسارة إلى درجة كبيرة تزايد أهميّة المدينة كمحطّة على طريق الحجّ الآسيوي على الأقلّ خلال موسم هذا الحجّ (أربعة من أشهر السنة) وكان تأمين سلامة قوافل الحجّاج أحد أخطر أولويّات الباب العالي استمدّ منه السلطان شرعيّة دينيّة لا تقلّ من الناحية المعنويّة عن سلطته الدنيويّة ومهابة جيوشه. 


إذاً أخذ طريق الحجّ جنوب المدينة مكان الصدارة واتّصلت الأرباض خارج باب الجابية: السويقة وباب مصلّى وميدان الحصى والقبيبات لتشكلّ الميدان كأكبر أحياء دمشق ومركز تجارة الحبوب وما يتعلّق بها إضافة لتأمين لوازم الحجيج. 


هذا عن الجنوب أمّا شمال المدينة فقد تطوّرت سلسلة من الأسواق بمحاذاة السور من باب توما إلى القلعة (الدباغة وحواصل الخشب) وإلى الشمال والغرب في السنجقدار والسوق العتيق (للّحوم والخضار والفواكه).  


حافظت أسواق مركز المدينة على أهمّيتها كمركز لتجارة المفرّق والأقمشة والعطور والبضائع النفيسة وتجمّع فيها تجّار دمشق التقليديّون القادرون على تحمّل الأكلاف الباهظة الناجمة عن ارتفاع قيمة الأرض والأبنية داخل السور. من ناحية العمارة تميّز العهد العثماني بتطوّرين: 


الأوّل تغطية الأسواق بقباب آجريّة محمولة على عقود عوضاً عن الأسقف الجملونيّة. ظهر هذا الطراز للمرّة الأولى في القرن السادس عشر في السوق الجديد شرق باب جيرون الذي بناه القاضي وليّ الدين بن الفرفور عام  ١٥٢٦-١٥٢٦. استثمار مكلف من هذا النوع يعني حكماً توقّع عائدات وأرباح تتناسب طرداً مع حجمه ولربّما استوحي هذا النمط من النماذج الحلبيّة. 


التطوّر الثاني ظهور الخانات الحجريّة المنفّذة بمنتهى الإتقان بداية من القرن السابع عشر بنيت - كما في قيساريّات العهود السابقة -لإيواء الحرف المهمّة المتخصّصة أو بغية تأجيرها للمتعاملين بالسلع الغالية. توّج هذا التطوّر  مع منتصف القرن الثامن عشر في خان أسعد باشا الذي بلغ الكمال أو كاد. 





ظهرت بوادر عهد جديد مع دخول إبراهيم باشا إلى دمشق تميّز بزيادة التدخّل الأوروبي على جميع الأصعدة التجاريّة والاقتصاديّة والسياسيّة وتعيّن على أسواق الدولة العثمانيّة والعالم الآسيوي-الإفريقي عموماً وليس فقط دمشق قيد الحديث التأقلم مع ظروف مستجدّة  ومنافسة مجحفة غير مسبوقة لا مجال للدخول فيها هنا.   


الخارطة الأولى لدمشق في بداية القرن التاسع عشر عن Jean Sauvaget.  





ناصر الربّاط. تطوّر السوق في دمشق. الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة ١٩٨٨-١٩٨٩.


تطوّر السوق في دمشق


أسواق دمشق من الأيّوبييّن إلى الأموييّن


أسواق دمشق المملوكيّة


يوم رحيل عبد الناصر

 


قدّر لجمال عبد الناصر أن يلفظ آخر أنفاسه في الثامن والعشرين من شهر أيلول سبتمبر عام ١٩٧٠ وصادف أن يكون هذا في نفس اليوم الذي أجهضت فيه الوحدة المصريّة-السوريّة عام ١٩٦١. الصورة الملحقة غلاف العدد ٧٥٦ من مجلّة سمير الصادر في الرابع من تشرين ثاني عام ١٩٧٠ وأتى أكثر من غلاف بعده حاملاً صورة الفقيد مع مقال أو مقالات في متن المجلّة عن سيرته وإنجازاته. 


أمسك جمال عبد الناصر زمام الأمور في مصر - مباشرة أو من وراء الكواليس - لفترة دامت ثمانية عشر عاماً بداية من تمّوز يوليو عام ١٩٥٢ والحكم على أداءه في ذلك الجيل رهن بالشعب المصري بالدرجة الأولى ولكن يصحّ القول أنّ أثره تجاوز بكثير حدود مصر على أهمّيتها واتّساعها ولم يكن الفكر الناصري مقتصراً على وادي النيل كما أوضح الرئيس الراحل في كتابه فلسفة الثورة الذي رسم من خلاله دور مصر في ثلاثة دوائر: عربيّة وإسلاميّة وإفريقيّة. أقتصر هنا على محاولة سريعة لفهم ظاهرة جمال من منظور سوري.


بلغت شعبيّة عبد الناصر في الشرق الأدنى الذروة مع تأميم قناة السويس والأحداث التي تلتها وكلّلت أمجاده في الوحدة مع سوريا في شباط ١٩٥٨ بينما كان خصومه الإقليميّين يتراجعون على كلّ الجبهات أو هكذا بدت الأمور وقتها خصوصاً مع سقوط الملكيّة في العراق صيف ١٩٥٨. حتّى على الصعيد العالمي كشفت حرب السويس (بفضل التدخّل الأمريكي) عام ١٩٥٦ عجز القوى الاستعماريّة التقليديّة الممثّلة في إنجلترا وفرنسا عن الدفاع بمفردها عن مصالحها وامتيازاتها في العالم الثالث واستطاعت السياسة المصريّة استغلال الوضع الدولي الجديد بمنتهى المهارة وتحويل هزيمة عسكريّة لا شكّ فيها إلى انتصار ديبلوماسيّ ومعنويّ من الطراز الأوّل.  


إذاً بنى عبد الناصر في العالم العربي عموماً وسوريا خصوصاً رصيداً ضخماً توّج بالوحدة التي دغدغت أحلام السورييّن الوطنيّة منذ عهد الانتداب على أقلّ تقدير.


مع الأسف تضافرت الكثير من العوامل المحليّة والإقليميّة والدوليّة لإجهاض المشروع وإلى اليوم لا يستطيع كثير من السورييّن النظر إلى ما جرى وقتها بتنزّه عن العواطف فبعضهم (كالشاعر الراحل نزار قبّاني) يمجّد عبد الناصر إلى درجة رفعه - واو مجازيّاً - إلى رتبة الأنبياء والبعض الآخر يعتبرونه مسؤولاً عن جميع المصائب التي حلّت بسوريا إلى اليوم. 


النقيض الثاني مرفوض جملة وتفصيلاً. حتّى لو سلّمنا جدلاً أنّ عهد الوحدة كان كارثة على الشام من ألفه إلى يائه فهذا العهد لم يدم أكثر من ثلاثة سنوات ونصف سنة مضى على انصرامه ستّون عاماً وعلى موت عرّابه نصف قرن وكان باستطاعة أي حكومة سوريّة أن تمحي كلّ آثاره إذا اختارت وقد محي منها بالفعل الكثير.  


الأسطر التالية وما سبقها "لسوريا لا لعبد الناصر" (مع الإذن من الصحافي الكبير الراحل محمّد حسنين هيكل). 


هل كان عبد الناصر ملاكاً؟ 


بالتأكيد لا. لا يمكن لأي قدّيس أن يؤسّس دولة ويدافع عنها. الملائكيّة في موضع مسؤوليّة بهذا الحجم غير محمودة العواقب وعلى رئيس أي بلد كبير أن يعرف أين تجوز المساومة والتفاهم وأين يتعيّن البطش بالخصوم دون رحمة أو وازع من ضمير في سبيل المصلحة العليا. الغاية تبرّر الواسطة وليس الخير والبرّ والإحسان بمغهوم مطلق من سمات القادة.  


هل تضرّر البعض من سياسات عبد الناصر؟


الردّ قطعاً بالإيجاب. أي نظام اقتصادي فيه الرابحون وفيه الخاسرون والدولة المثلى (واقعيّاً وليس عاطفيّاً) هي التي تسهر على مصلحة أكبر عدد ممكن من مواطنيها وليس على امتيازات فئة أو فئات معيّنة. إرضاء الجميع غير وارد وإذا كان هناك متضرّرون من التأميم (وبعضهم تعرّض للظلم ما في ذلك من شكّ) فهناك أيضاً منتفعون. في كلّ الأحوال حاولت حكومة "الانفصال" إعادة عقارب الساعة إلى الوراء وإلغاء التأميم وفشلت وتبقى تأميمات عبد الناصر محافظة بالمقارنة مع تأميمات البعث (خصوصاً في الستينات) لاحقاً. 


ماذا عن هزيمة حزيران ١٩٦٧؟ 


يتعيّن هنا الإقرار بمسؤوليّة عبد الناصر ولكن من العدل التذكير بأنّ مصر تورّطت في الحرب في محاولة من عبد الناصر لردع إسرائيل عن ضرب سوريا. يمكن بسهولة التحقّق ممّا أقول باستقراء الحوادث التي سبقت الكارثة وكيف أغلق الرئيس المصري مضائق تيران بعد أن وصلته عن طريق الروس معلومات (هناك خلاف على مصداقيّتها) تفيد بحشد إسرائيلي على الحدود السوريّة. مع الأسف لم تكن مصر ولا حلفائها السورييّن والأردنيييّن على قدر كافٍ من القوّة للتصدّي لإسرائيل وقتها وجرى ما جرى.

أضف إلى ذلك أنّ عبد الناصر هو القائد العربي الوحيد وقتها الذي اعترف بمسؤوليّته الكاملة عن الكارثة وعرض أن يتنحّى. حتّى لو كانت استقالته تمثيلاً (وليس على ذلك دليل) فهي رصيد له لا يجوز إسقاطه من أي محاولة لموازنة حسناته وسيّئاته. 


 تشير الدلائل المتوافرة أنّ جمال عبد الناصر كان مدركاً لضعف الدول العربيّة وعزوفاً عن خوض مغامرة عسكريّة لا يمكن حسبانها على عكس بعض المسؤولين السورييّن (بداية من مزاودات الرئيس الراحل أمين الحافظ) واعتقد - مخطئاً كما ثبت لاحقاً - أنّه يستطيع كبح جماح إسرائيل دون مجابهة عسكريّة. 


لا داعي للدخول في تفاصيل محاولات تخوين عبد الناصر واتّهامه بالعمالة للمخابرات الأمريكيّة (كما فعل بعض أبواق الإنفصال ومنهم على سبيل المثال نهاد الغادري) أو تكفيره (كما فعل الإعلام السعودي) فهي ليست جديرة بمناقشة جدّية. 


مع نهاية حرب الأيّام الستّة بدأت شمس اليسار العربي (وحتّى الدولي كما في حالة الاتّحاد السوفييتي) بالأفول وإن لم يدرك ذلك الكثيرون وقتها وتزايد نفوذ دول النفط والمصالح الغربيّة ورائها.        

Saturday, September 26, 2020

أسواق دمشق المملوكيّة



نهضت المدينة بسرعة من كبوتها على يد المغول عام ١٢٦٠ وشهد العهد المملوكي في بداياته نشاطاً عمرانيّاً حافلاً كعاصمة شماليّة للإمبراطوريّة  الجديدة وتوسّعت أرباض دمشق خارج السور إذ أمّها عدد لا بأس به من أمراء المماليك وقوّادهم. ازداد الطلب على السلع الكماليّة كالحلي والسيوف الدمشقيّة الشهيرة والسروج الفاخرة وازدهرت التجارة ليس فقط بين مصر والشام وإنّما أيضاً مع الصليبييّن (إلى أن دالت دولتهم مع أواخر القرن الثالث عشر) والأوروبييّن. 


أدّى هذا النشاط المتسارع إلى ظهور أسواق جديدة منها تحت القلعة حيث تركّزت الحرف المتعلّقة باحتياجات المماليك كالبياطرة والحدّادين والسروجيّة والبقسماطيّة (من البقسماط وهو نوع من الكعك) وغيرها كما تطوّر سوق الخيل إلى الشمال من سوق تحت القلعة لتلبية متطلّبات الحامية المملوكيّة التي انفردت بامتياز ركوب الخيل في المدينة. انتقلت سوق البطّيخ للخضار والفواكه من موقعها القديم على الشارع المستقيم إلى شمال غرب المدينة خارج السور ومعها  الكثير من أسواق المواد الغذائيّة.


توسّعت المدينة وتشكّلت خارج السور أرباض جديدة ألا وهي:


السويقة (أي السوق الصغير) جنوب غرب المدينة لتجارة الحبوب مع حوران وامتدادها على الطريق المؤدّي إلى فلسطين ومصر حيث بنيت مخازن الحبوب (البوايك). مارس المماليك الفروسيّة في ميدان الحصى (منه اسم الميدان اليوم) وتشكّلت قرية القبيبات إلى الجنوب. 


سوق ساروجة نسبة للأمير صارم الدين صاروجا (لقي حتفه ١٣٤٢) إلى الشمال والغرب الذي بدأ كسوق ثمّ تحوّل إلى منطقة سكنيّة لأمراء المماليك ومن يتعلّق بهم. تمركز هذا الربض أو الحيّ حول جامع الورد


المنيبع والخلخال: قرب القصر الأبلق غرب المدينة (التكيّة السليمانيّة ومنطقة الجامعة إلى الشمال منها حاليّاً) وكان هذان الموقعان بمثابة منتزهات لذوي اليسار.    


إذاً أصبح لدينا ثلاث مجموعات من الأسواق في العهد المملوكي أقدمها ضمن سور المدينة والثاني والثالث خارجه إلى الشمال (تحت القلعة وساروجة) وإلى الجنوب (السويقة). هذا ناهيك عن الصالحيّة التي كانت في ذلك العصر منفصلة عن دمشق. 


تدهور الوضع بعد جائحة تيمورانك في عهد المماليك البرجيّة (الشراكسة) وإن حاول عدد من الحكّام في القرن الخامس عشر وحتّى مطلع السادس عشر رأب الصدع وإنقاذ ما تبقّى. 


الصورة الثانية لدمشق في القرن السادس عشر عن Sauvaget. 





للحديث بقيّة.    






ناصر الربّاط. تطوّر السوق في دمشق. الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة ١٩٨٨-١٩٨٩.


تطوّر السوق في دمشق


أسواق دمشق من الأيّوبييّن إلى الأموييّن

Friday, September 25, 2020

أسواق دمشق من الأموييّن إلى الأيّوبييّن


قليلة هي المعلومات المتوافرة عن أسواق دمشق قبل الإسلام ولكن يرجح أنّها تركّزت حول الشارع المستقيم الذي اجتازها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب وكان قسمه المركزيّ الأعرض مخصّصأ للعربات بينما كرّس رواقاه الجانبيّان للمشاة. أضف إلى ذلك الأنشطة التجاريّة حول معبد المشتري الخارجي (peribolos) والسوق التي تحاذي ضلعيه الشمالي والغربي والمدعوّة Gamma نسبة لشكلها Γ الذي يشبه هذا الحرف اليوناني. 


لربّما تركّزت العمائر الإسلاميّة الأولى في العهد الأموي جنوب وشرق معبد المشتري الداخلي temenos وبقيت ساحة المدينة شرقه (agora أو forum) خالية تحت اسم رحبة خالد بن أسيد أمّا عن الأسواق فلم يطرأ على توزيعها تغيّرات تستحقّ الذكر إلى أن بني الجامع الأموي في مطلع القرن الثامن للميلاد وبدأ بجذب الأسواق إلى محيطه. 


نتج عن سقوط الدولة الأمويّة (٧٥٠ للميلاد) تدهور وضع دمشق الإقليمي إذ انتقل مركز ثقل الإمبراطوريّة الإسلاميّة شرقاً إلى العراق وبغداد وتلى ذلك عهود سادت فيها القلاقل وأصبحت الشام أرضاً تنازع عليها العبّاسيّون والطولونيّون والإخشيديّون والفاطميّون. تلاشى مخطّط المدينة الشطرنجي وظهرت الأزقّة المنعرّجة الضيّقة وانفصلت الأحياء بعضها عن البعض الآخر لأسباب تتعلّق بالأمن والاختلافات الدينيّة والمذهبيّة والقبليّة والإثنيّة وأدّى ذلك إلى تطوّر السويقات أي الأسواق الصغيرة المتوزّعة داخل الأحياء لتأمين الحاجات اليوميّة للسكّان دون الحاجة إلى المخاطرة بمغادرة الحارة والخروج إلى السوق العامّ وأصبح للحارة مسجدها (أو كنيستها أو كنيسها) وحمّامها وبابها. 


يحسن هنا تصنيف الأسواق تحت الأبواب التالية:


أوّلاً: أسواق سلع الاستهلاك اليومي (الأغذية بالدرجة الأولى) ويمكن للسويقة تأمين هذه السلع. 

ثانياً: أسواق السلع الضروريّة دوريّاً أو حسب الحاجة كالحبوب والثياب والأدوات المنزليّة والأثاث (هذا الأخير بسيط للغاية حتّى القرن التاسع عشر). 

ثالثاً: أسواق الكماليّات (مجوهرات ومنتجات محليّة أو مستوردة). 

رابعاً: أسواق الحرفييّن المختصّة من صنّاع النحاس والفخّار والزجاج وهلمّجرّا وتتوزّع في المدينة حسب قربها من موادها الأوّليّة أو زبائنها أو طرق التجارة أو لاعتبارات تتعلّق بالضجيج والتلوّث الذي تحدثه ومن هنا الرغبة في إبعادها عن المناطق السكنيّة إلى أطراف المدينة. 


تحسّن الوضع الأمني في العهد المسمّى خطأً بالبوري (بدأ في الواقع مع الأتابك ظهير الدين طغتكين) وبدأت أرباض جديدة في الظهور خارج سور المدينة: العقيبة شمالاً والشاغور جنوباً وقصر حجّاج (نسبة للحجّاج بن عبد الملك) إلى الجنوب والغرب. 


ساد الرخاء والاستقرار في دمشق في عهد نور الدين وشهد ملكه نشاطاً عمرانيّاً واسع النطاق خصوصاً أنّ المدينة استعادت دورها كمركز لدولة قويّة. لا داعي للتفصيل في العمائر الدفاعيّة والمدارس والبيمارستان النوري الشهير فما يهمّنا هنا هو الأسواق وسقفها بالجملونات الخشبيّة وبناء القيساريّات الجديدة وترميم القديمة. تظهر الخارطة الملحقة توزيع هذه الأسواق حسب اخنصاصاتها: سوق القمح (البزورييّن أو البزوريّة حاليّاً) جنوب الجامع الأموي وسوق الأنسجة شرقه ودار البطّيخ (القديمة) جنوب الشارع المستقيم وفيها تباع الخضار والفواكه أمّا رحبة خالد بن أسيد فعقدت فيها الأسواق الأسبوعيّة وهكذا دواليك. 


أضف إلى ذلك محلّ ضرب النقد (دار السكّ أو دار الذهب أو دار الفلوس) ومعاصر الزيت والطواحين على بردى والأحياء الجديدة خارج السور (الصالحيّة مثلاً) مع مساجدها الجامعة.


أضاف العهد الأيوّبي الكثير إلى مآثر العهد النوري وبني خلاله المزيد من المنشئات التجاريّة داخل وخارج سور المدينة. 


الخريطة أدناه لدمشق في القرن الثالث عشر عن Sauvaget. 





للحديث بقيّة.





ناصر الربّاط. تطوّر السوق في دمشق. الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة ١٩٨٨-١٩٨٩.


تطوّر السوق في دمشق



Thursday, September 24, 2020

تطوّر السوق في دمشق

 


يتعرّض الدكتور ناصر الربّاط في مقال من ثلاثين صفحة نشر في عدد الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة الصادر عن العامين ١٩٨٨-١٩٨٩ إلى تطوّر السوق في دمشق من القرن السابع الميلادي وحتّى القرن التاسع عشر أي بعد الفتح الإسلامي. 


يتحدّى المؤلّف في هذا البحث الشيّق فرضيّتين للعمرانييّن المستشرقين أولاهما أنّ الأسواق في كافّة المدن الإسلاميّة (وتخطيط هذه المدن عموماً) تتبع نظاماً واحداً من خراسان إلى المغرب مروراً بالشرق الأدنى والثانية أنّه لا فرق من هذه الناحية بين المدن المندثرة والباقية إلى يومنا. اعتماداً على هاتين الفرضيّتين تتبع الأسواق "الإسلاميّة" القواعد التالية:


أوّلاً: يمتدّ محور السوق بين قطبيّ المدينة: الجامع من جهة ودار الإمارة أو القلعة من جهة ثانية.

ثانياً: تتوزّع الأسواق حول المركز في دوائر مشتركة تتناقص أهميّتها كلّما اتّجهنا نحو المحيط أي أنّ أسواق السلع الثمينة هي الأقرب إلى المركز بينما تتواجد المهن "الغير مرغوبة اجتماعيّاً" في أطراف المدينة. تعتمد هذه الخاصيّة على منطلق سليم وألا وهو تخصّص الأسواق (الحرير والحبوب والصاغة والسلاح وهلمّجرّا). 


تحفّظ الدكتور ربّاط على هذه الأطروحات واعتمد مقابلها مبدأ خصوصيّة المدينة -دمشق في هذه الحالة- ووجوب أخذ العوامل التاريخيّة والظروف المتغيّرة بعين الاعتبار ويمكن لنا أيضاً إضافة الخلفيّة الجغرافيّة والمعطيات الطبوغرافيّة. 


للتبسيط صنّف الكاتب تاريخ أسواق دمشق في العهد الإسلامي تحت خمسة أبواب أو حقب أخذها عن Jean Sauvaget و Nikita Elisséeff كما يلي:


- الفترة الأمويّة.

- الفترة المتوسّطة المضطربة (من سقوط الأموييّن وحتّى دخول نور الدين إلى المدينة في منتصف القرن الثاني عشر.

- فترة الانبعاث (العهدان النوري والأيّوبي).

- عهد المماليك.

- الفترة العثمانيّة منذ معركة مرج دابق وحتّى دخول ابراهيم باشا المصري في مطلع ثلاثينات القرن العشرين. 


الصورة الملحقة عن Sack تصوّر لدمشق في العهد البيزنطي ونرى فيها محور الشارع المستقيم الكبير أو decumanus maximus (طول  ١٥٠٠  متر وعرض خمسة وعشرين متراً ونصف المتر) والمحور الأصغر أو الطريق المقدّسة بين هيكل المشتري وساحة المدينة agora أو forum مع الأبواب الرومانيّة. بدأ المخطّط الشطرنجي في التآكل بداية من ذلك العهد .


للحديث بقيّة. 



ناصر الربّاط. تطوّر السوق في دمشق. الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة ١٩٨٨-١٩٨٩.

Wednesday, September 23, 2020

مكتب عنبر



تعود الصور الملحقة للعدد الخامس والثلاثين من الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة أمّا عن المعلومات فتعريب عن صفحة ١٢٨ و ٤١٢ من دراسة الدكتور Weber عن دمشق في أواخر العهد العثماني. 


مدرسة عنبر أو مكتب عنبر أو المكتب السلطاني


بني المكتب أصلاً ليكون داراً للتاجر اليهودي يوسف أفندي عنبر وهو ثاني بيوت دمشق من ناحية المساحة (بعد قصر العظم) وأحد أكثرها بهاءً. بدأ بناء البيت عام  ١٢٨٤ للهجرة (١٨٦٧ للميلاد) وانتقلت ملكيّته إلى الإدارة العثمانيّة حوالي عام  ١٨٧٥ بعد أن أثقلت الديون كاهل عنبر. تأسّست فيه عام ١٣٠٤ (١٨٨٦) حسب الحصني أو ١٣٠٥ (١٨٨٧-١٨٨٨) حسب السلنامة أوّل مدرسة ثانويّة حديثة في دمشق "مكتب الإعداديّة الملكيّة" أو "المدرسة السلطانيّة" وتخبرنا تقارير السلنامة أيضاً أنّ ٢٦٨ طالباً درسوا فيها عام ١٣١٦ (١٨٩٨-١٨٩٩) ليرتفع العدد إلى ٣٩٨ في العام التالي. تزوّدنا السلنامة أيضاً بأسماء المدرّسين والمواد المدرّسة. كان المكتب -في جملة ما كان- مدرسة داخليّة.





البناء شديد الأهميّة وتحوّل في مطلع القرن العشرين إلى مدرسة حكوميّة أو المدرسة التجهيزيّة للفنون النسويّة أمّا حاليّاً فهو مقرّ لجنة حماية دمشق القديمة والمسؤولين عن التخطيط العمراني. حالته جيّدة. 


شيّد المكتب-المنزل دفعة واحدة والبنية الحاليّة تعود للنصف الثاني من القرن التاسع عشر. هدم بيت عمر السفرجلاني (توفّي ١١١٢ للهجرة الموافق ١٧٠١ للميلاد) بالكامل لتقوم دار عنبر مكانه وكان إنجازها وشيكاً عام ١٨٧٠ عندما ذكرت السيّدة Isabel Burton احتوائها على حمّام خاصّ وكنيس. شغل البيت مساحة ٤٠٥٩ متر مربّع وكلّف بناؤه ٤٦٠٠٠ ليرة ذهبيّة عثمانيّة.


رمّم البناء عام ١٩٧٨. 








فريد جحا. مكتب عنبر.  الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة المجلّد الخامس والثلاثون ١٩٨٥.



مكتب عنبر. الخلفيّة التاريخيّة




مكتب عنبر من جلاء العثمانييّن إلى الانتداب الفرنسي





Stefan WeberDamascus, Ottoman Modernity and Urban Transformation 1808-1918. Proceedings of the Danish Institute in Damascus V 2009.


Tuesday, September 22, 2020

مكتب عنبر من جلاء العثمانييّن إلى الانتداب الفرنسي



يستشفّ القارىء دون عناء النزعة العروبيّة في مقال الأستاذ فريد جحا القيّم عن مكتب عنبر في الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة. لا ضير في ذلك طالما التزم الكاتب بمنهج موضوعي متجرّد من الأهواء والأحكام المسبقة قدر الإمكان. لنأخذ على سبيل المثال الأسطر التالية (صفحة ٤٠٤) التي نقلها جحا عن الأستاذ ظافر القاسمي:


"بعض الأساتذة الأتراك أنفسهم وإن كان قلّة نادرة كان مسلماً حقّاً كثير التقديس للرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم ولقومه العرب". 


في هذه الكلمات قدر لا يستهان به من العنصريّة والتعصّب. سواءً أحبّ المرء الأتراك أم كرههم وسواءً كان صديقاً ودوداً للدولة العثمانيّة أم عدوّاً لدوداً لها فلا مناص للعاقل من الإقرار أنّ الأتراك مسلمون وأنّ كلّ من عرّف نفسه مسلماً فهو مسلم والادّعاء أنّ المسلمين الحقيقييّن منهم "قلّة نادرة" كلام "من فوق الأساطيح" كما يقول المثل الشامي.


كان مكتب عنبر أوّل مؤسّسة تعرّبت بشكل كامل بعد جلاء العثمانييّن عندما "نعمت البلاد بالاستقلال" حسب تعبير المؤلّف ولكن هذا الاستقلال (الذي دعمته بريطانيا في البداية) لم يكمل السنتين ويخبرنا الأستاذ حجا أنّ مكتب عنبر تحوّل إلى ثكنة عسكريّة عشيّة يوم ميسلون إذ جلب إليه السلاح الذي وزّع بين الطلّاب وجرى تدريبهم عليه و"الذي لا شكّ فيه أنّ فريقاً من أبنائه قد حمل السلاح وذهب إلى العركة وقاتل". يتابع المؤلّف سرده عن الدور الوطني الذي لعبه طلّاب المكتب في عهد الانتداب من التظاهر ضدّ زيارة بلفور (صاحب التصريح الشهير) عام ١٩٢٥ إلى تحدّي المندوب السامي الفرنسي في العام الذي تلاه ومطالبته باستقلال سوريا وكيف خطب الأستاذ شكري الشربجي مذكّراً "بالعهود التي قطعت للعرب الذين صدّقوكم فقاموا بثورتهم العربيّة الكبرى" (لتوخّي الدقّة "العهود" المزعومة لم تكن للسورييّن بل للهاشمييّن ولم يعطها الفرنسيّون بل الإنجليز وفي رأيي أنّهم أوفوا بها وزادوا وأنّ كرمهم مع أولاد الشريف حسين كان حاتميّاً). 


جاء في كتاب الأستاذ ظافر القاسمي عن مكتب عنبر أنّه أمضى فيه أحلى أيّام حياته وأنّ المدرسة ضمّت جمهرة المتعلّمين في البلد وكانت الثانويّة الرسميّة الوحيدة في دمشق وخرّجت نخبة البلد. كان من تلاميذ المكتب "رجال الرعيل الأوّل وكانوا أوّل من رفع صوته بذكر العربيّة على عهد الاتّحادييّن من الترك وتسلّلت القوافل من بعضهم".   


شارف دور المكتب كمدرسة التجهيز على الانتهاء مع إنجاز البناء الحديث في منتصف الثلاثينات (ثانويّة جودت الهاشمي + ابن خلدون لاحقاً) ولا زال قصر يوسف أفندي عنبر قائماً في قلب المدينة القديمة وشاهداً على تاريخ عريق. 





للحديث بقيّة.





فريد جحا. مكتب عنبر.  الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة المجلّد الخامس والثلاثون ١٩٨٥.



مكتب عنبر. الخلفيّة التاريخيّة





Monday, September 21, 2020

مكتب عنبر: المناهج المدرسيّة بين التركيّة والعربيّة


 

أكمل فخري البارودي خمس سنوات من التعليم الابتدائي التحق بعدها بمكتب عنبر ليمضي فيه سبع سنوات من ١٩٠١ إلى ١٩٠٨ كتب عنها في مذكّراته ونقل عنه الأستاذ حجا المعلومات التالية:


أعطى المكتب شهادتين الأولى متوسّطة في نهاية السنة الخامسة والثانية إعداديّة بعد إتمام السابعة. المواد المدرّسة هي الآتية: 


القرأن والعلوم الدينيّة والفقهيّة، الأخلاق، المنطق، اللغات العربيّة والتركيّة والفرنسيّة والإيرانيّة، علم الثروة، علم أحوال السماء (الفلك؟!)، جغرافيا وتاريخ (مع تركيز على الإمبراطوريّة العثمانيّة)، الصحّة، القانون، "علم الأشياء"، الرياضيّات بفروعها، الزراعة، الخطّ، الكيمياء، الحكمة (الفلسفة؟!)، الماكينة (فيزياء؟!)، أصول مسك الدفاتر، الأرض (الجيولوجيا)، النبات، الحيوان. 


من الواضح أنّ المناهج تهدف بالدرجة الأولى إلى تخريج طبقة بيروقراطيّة مهنيّة وكفوءة ولائها للإميراطوريّة العثمانيّة أمّا عن رأي البارودي (من نافل القول أنّه أدلى به بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى) فهو باختصار "أنّهم كانوا يدوّخون رؤوس الطلبة بهذه العلوم" مضيفاً أنّ الغالبيّة المعظمى من المدرّسين كانوا من الأتراك  بما فيهم معلّم اللغة العربيّة! وأنّ عدد المعلّمين العرب لم يتجاوز الإثنين الأوّل مسؤول عن تعليم القواعد والقراءة التركيّة!! والثاني أستاذ الديانة وكلاهما من دمشق. 


بالنسبة للغة التعليم فهي تركيّة في جميع المواد والعلاقة بين العرب والأتراك (حسب البارودي) علاقة محكوم مع حاكم كما نرى في الأسطر التالية من مذكّراته:


أربعمائة سنة كانت قد مرّت على الأتراك وهم يحكمون بلادنا لمّا دخلنا مكتب عنبر وكان من الطبيعي أن يتولّد شيء من النفور بين أبناء الحاكم وأبناء المحكوم ولم يكن واحد منّا يجرؤ على رفع رأسه أمام المعلّمين ورجال الإدارة وكلّهم من الأتراك كما أنّ رهبة الحكم العثماني كانت تملأ القلوب وبسبب هذا الرعب الذي بثّه الحكم العثماني في النفوس لم نكن نجرؤ على ذكر العرب والعروبة.  


بالطبع العربيّة كانت اللغة الأمّ للأكثريّة الساحقة من الطلّاب بينما كان المعلّمون الأتراك -حسب الدكتور سامي الميداني- "جهلة وليسوا في الأصل معلّمين بل مبعدين غضب عليهم فكان إرسالهم إلى سوريا نوعاً من التأديب أو العقاب". يضرب الدكتور ميداني أمثلة ومنها أنّ "تعليم اللغة الفرنسيّة كان يتمّ بالتركيّة وكان مدرّسها جزائريّاً منفيّاً يجهل اللغة ويدرّسها للانتفاع ليس أكثر". 


تلخّص الاقتباسات أعلاه التوجّه العروبي للأستاذ جحا نقلاً عن البارودي والميداني وفي اعتقادي أنّ إسقاط العروبة بمفعول رجعي على سوريا في مطلع القرن العشرين وتحديداً قبل أن تضع الحرب العظمى (١٩١٤-١٩١٨) أوزارها فيه من المبالغة الشيء الكثير وخلط (سواءً كان عفويّاً أو مع سبق الإصرار) بين العروبة كمفهوم لغوي-ثقافي والقوميّة العربيّة كمفهوم جغرافي-سياسي. بالنسبة للسفر برلك من الأقرب إلى الصواب القول أنّ معظم السورييّن كانوا يتلهّفون لانتهاء هذا الكابوس بشكل أو بآخر بغضّ النظر عن المنتصر والمهزوم أمّا من حمل السلاح منهم فقد استمرّ معظمهم في ولاءه للقسطنطينيّة حتّى جلاء آخر جندي عثماني عن بلاد الشام. 


للحديث بقيّة.







فريد جحا. مكتب عنبر.  الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة المجلّد الخامس والثلاثون ١٩٨٥.



مكتب عنبر. الخلفيّة التاريخيّة