أصبحت دمشق مع العهد العثماني مجرّد مدينة كبيرة في إمبراطوريّة متراميّة الأطراف بعد أن كانت ثاني مدن دولة المماليك وبالتالي تراجع نشاطها التجاري الدولي خصوصاً مع بوادر أفول نجم الشرق الأدنى كمركز تبادل بين الشرق والغرب نجح البرتغالييّن في تجاوزه عن طريق رأس الرجاء الصالح. عوّض عن هذه الخسارة إلى درجة كبيرة تزايد أهميّة المدينة كمحطّة على طريق الحجّ الآسيوي على الأقلّ خلال موسم هذا الحجّ (أربعة من أشهر السنة) وكان تأمين سلامة قوافل الحجّاج أحد أخطر أولويّات الباب العالي استمدّ منه السلطان شرعيّة دينيّة لا تقلّ من الناحية المعنويّة عن سلطته الدنيويّة ومهابة جيوشه.
إذاً أخذ طريق الحجّ جنوب المدينة مكان الصدارة واتّصلت الأرباض خارج باب الجابية: السويقة وباب مصلّى وميدان الحصى والقبيبات لتشكلّ الميدان كأكبر أحياء دمشق ومركز تجارة الحبوب وما يتعلّق بها إضافة لتأمين لوازم الحجيج.
هذا عن الجنوب أمّا شمال المدينة فقد تطوّرت سلسلة من الأسواق بمحاذاة السور من باب توما إلى القلعة (الدباغة وحواصل الخشب) وإلى الشمال والغرب في السنجقدار والسوق العتيق (للّحوم والخضار والفواكه).
حافظت أسواق مركز المدينة على أهمّيتها كمركز لتجارة المفرّق والأقمشة والعطور والبضائع النفيسة وتجمّع فيها تجّار دمشق التقليديّون القادرون على تحمّل الأكلاف الباهظة الناجمة عن ارتفاع قيمة الأرض والأبنية داخل السور. من ناحية العمارة تميّز العهد العثماني بتطوّرين:
الأوّل تغطية الأسواق بقباب آجريّة محمولة على عقود عوضاً عن الأسقف الجملونيّة. ظهر هذا الطراز للمرّة الأولى في القرن السادس عشر في السوق الجديد شرق باب جيرون الذي بناه القاضي وليّ الدين بن الفرفور عام ١٥٢٦-١٥٢٦. استثمار مكلف من هذا النوع يعني حكماً توقّع عائدات وأرباح تتناسب طرداً مع حجمه ولربّما استوحي هذا النمط من النماذج الحلبيّة.
التطوّر الثاني ظهور الخانات الحجريّة المنفّذة بمنتهى الإتقان بداية من القرن السابع عشر بنيت - كما في قيساريّات العهود السابقة -لإيواء الحرف المهمّة المتخصّصة أو بغية تأجيرها للمتعاملين بالسلع الغالية. توّج هذا التطوّر مع منتصف القرن الثامن عشر في خان أسعد باشا الذي بلغ الكمال أو كاد.
ظهرت بوادر عهد جديد مع دخول إبراهيم باشا إلى دمشق تميّز بزيادة التدخّل الأوروبي على جميع الأصعدة التجاريّة والاقتصاديّة والسياسيّة وتعيّن على أسواق الدولة العثمانيّة والعالم الآسيوي-الإفريقي عموماً وليس فقط دمشق قيد الحديث التأقلم مع ظروف مستجدّة ومنافسة مجحفة غير مسبوقة لا مجال للدخول فيها هنا.
الخارطة الأولى لدمشق في بداية القرن التاسع عشر عن Jean Sauvaget.
ناصر الربّاط. تطوّر السوق في دمشق. الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة ١٩٨٨-١٩٨٩.
أسواق دمشق من الأيّوبييّن إلى الأموييّن
No comments:
Post a Comment