يستشفّ القارىء دون عناء النزعة العروبيّة في مقال الأستاذ فريد جحا القيّم عن مكتب عنبر في الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة. لا ضير في ذلك طالما التزم الكاتب بمنهج موضوعي متجرّد من الأهواء والأحكام المسبقة قدر الإمكان. لنأخذ على سبيل المثال الأسطر التالية (صفحة ٤٠٤) التي نقلها جحا عن الأستاذ ظافر القاسمي:
"بعض الأساتذة الأتراك أنفسهم وإن كان قلّة نادرة كان مسلماً حقّاً كثير التقديس للرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم ولقومه العرب".
في هذه الكلمات قدر لا يستهان به من العنصريّة والتعصّب. سواءً أحبّ المرء الأتراك أم كرههم وسواءً كان صديقاً ودوداً للدولة العثمانيّة أم عدوّاً لدوداً لها فلا مناص للعاقل من الإقرار أنّ الأتراك مسلمون وأنّ كلّ من عرّف نفسه مسلماً فهو مسلم والادّعاء أنّ المسلمين الحقيقييّن منهم "قلّة نادرة" كلام "من فوق الأساطيح" كما يقول المثل الشامي.
كان مكتب عنبر أوّل مؤسّسة تعرّبت بشكل كامل بعد جلاء العثمانييّن عندما "نعمت البلاد بالاستقلال" حسب تعبير المؤلّف ولكن هذا الاستقلال (الذي دعمته بريطانيا في البداية) لم يكمل السنتين ويخبرنا الأستاذ حجا أنّ مكتب عنبر تحوّل إلى ثكنة عسكريّة عشيّة يوم ميسلون إذ جلب إليه السلاح الذي وزّع بين الطلّاب وجرى تدريبهم عليه و"الذي لا شكّ فيه أنّ فريقاً من أبنائه قد حمل السلاح وذهب إلى العركة وقاتل". يتابع المؤلّف سرده عن الدور الوطني الذي لعبه طلّاب المكتب في عهد الانتداب من التظاهر ضدّ زيارة بلفور (صاحب التصريح الشهير) عام ١٩٢٥ إلى تحدّي المندوب السامي الفرنسي في العام الذي تلاه ومطالبته باستقلال سوريا وكيف خطب الأستاذ شكري الشربجي مذكّراً "بالعهود التي قطعت للعرب الذين صدّقوكم فقاموا بثورتهم العربيّة الكبرى" (لتوخّي الدقّة "العهود" المزعومة لم تكن للسورييّن بل للهاشمييّن ولم يعطها الفرنسيّون بل الإنجليز وفي رأيي أنّهم أوفوا بها وزادوا وأنّ كرمهم مع أولاد الشريف حسين كان حاتميّاً).
جاء في كتاب الأستاذ ظافر القاسمي عن مكتب عنبر أنّه أمضى فيه أحلى أيّام حياته وأنّ المدرسة ضمّت جمهرة المتعلّمين في البلد وكانت الثانويّة الرسميّة الوحيدة في دمشق وخرّجت نخبة البلد. كان من تلاميذ المكتب "رجال الرعيل الأوّل وكانوا أوّل من رفع صوته بذكر العربيّة على عهد الاتّحادييّن من الترك وتسلّلت القوافل من بعضهم".
شارف دور المكتب كمدرسة التجهيز على الانتهاء مع إنجاز البناء الحديث في منتصف الثلاثينات (ثانويّة جودت الهاشمي + ابن خلدون لاحقاً) ولا زال قصر يوسف أفندي عنبر قائماً في قلب المدينة القديمة وشاهداً على تاريخ عريق.
للحديث بقيّة.
فريد جحا. مكتب عنبر. الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة المجلّد الخامس والثلاثون ١٩٨٥.
مكتب عنبر. الخلفيّة التاريخيّة
No comments:
Post a Comment