Wednesday, June 21, 2017

سوريا: التاريخ والجغرافية والإقتصاد والسياسة من منظور الحكومة الأمريكيّة

الكتاب قيد المراجعة واحد من سلسلة من الدراسات التي نشرتها حكومة الولايات المتّحدة وتحديداً قسم الأبحاث الفدرالي في مكتبة الكونغرس Federal Research Division of the Library of Congress عن العديد من البلدان إن لم نقل معظم أو حتَى كلَ البلدان. أتعرَض هنا إلى طبعة عام 1988 وهي ليست الأولى ويمكن  بفضل CIA أو وكالة المخابرات المركزيَة تحديث بعض المعلومات فيها وأرفق أدناه الرابطين لمن يرغب بالمقارنة. 

يبلغ عدد صفحات الكتاب حولي 350 يزيَنها عدد لا بأس به من الخرائط والصور بالأبيض والأسود والمخططات والجداول وكثير منها سوري المصدر سواء من أشخاص أو مؤسسّات حكوميّة. لا داعي لأن نوافق على آراء المؤلَفين السياسيّة كي نعترف أن هذا الكتاب كنز من المعلومات وهو أوَلاً وآخراً عمل أكاديمي ومهني وعلى علمي لا مثيل له باللغة العربيَة لا بل ولا يتجرَأ معظم الكتَاب العرب والسورييَن أن يخوضوا في كثير من المواضيع التي يتناولها ولو من منظور سوري وطني. 


يتوزَع العمل على خمسة فصول الأوَل مخصَص للتاريخ منذ البدايات وحتَى عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد والثاني للجغرافية والمجتمع والمكوَنات الدينيَة والطائفيَة للشعب السوري والتعليم والصحَة. الفصل الثالث يعالج الإقتصاد بمختلف قطاعاته والرابع الحكومة والسياسة والخامس والأخير الأمن القومي بما فيه علاقة سوريا مع جيرانها، المعارضة ضدَ الحكومة، الجيش والقوَات المسلَحة، و"رعاية سوريا للإرهاب" بين أبو نضال ونزار هنداوي مروراً بحزب الله


بلغ عدد سكَان سوريا 10.6 مليون نسمة عام 1986 منهم ربع مليون لاجىء فلسطيني وبلغ معدَل تزايد السكَان 3.7% وهذا يعني بالطبع أنَ معظم السورييَن كانوا (ولا يزالون) من الشباب. قدَرت نسبة المسلمين  بحوالي 85% منهم 13-15% من العلوييَن وأما عن المسيحييَن فشكَلوا قرابة 10% بينما أعطع المؤلَفون الدروز نحو 3% من الإجمالي. بالنسبة لتعداد القوَات المسلَحة وقتها فسأوردها كما في المصدر وإن خامرني بعض من الشكَ في دقَتها: الجيش النظامي 396،000 مع 300،000 احتياط، القوى الجويَة 100،000 نظامي و 37،000 احتياط وأما عن نفقات الجيش فتشكَل 42% من إجمالي نفقات الحكومة. لدى سوريا 4،100 دبَابة و 650 طائرة مقاتلة. 

تستند بنية الحكومة السوريَة على دستور 13 آذار 1973 والذي ينصَ على وجوب كون الرئيس مسلماً، عربيَاً سوريَاً، وبالغاً من العمر 40 سنة على الأقلَ ويعطيه صلاحيات هائلة فهو ليس فقط رئيس السلطة التنفيذيَة بل وأيضاً القائد الأعلى للقوَات المسلَحة ويستطيع تعيين وإقالة أي ضابط وأي وزير بما فيهم رئيس مجلس الوزراء.  كما يستطيع حلَ مجلس الشعب واستلام السلطة التشريعيَة بشكل مؤقت عند اللزوم وعلاوة على كل هذا فهو الأمين العام لحزب البعث ويمكن في حال تعرَض البلاد للخطر أن يستحوذ على صلاحيات استثنائيَة (حسب المادة 113) تجعله فوق كل القوانين. 


على الصعيد الإقتصادي شهدت فترة منتصف الثمانينات انهيار أسعار النفط وتدهور حجم الصادرات السوريَة ومعها قيمة الليرة  ودخلت سوريَا في عهد تقشَف وإن ساعدها على عبور الأزمة بشكل أو بآخر اكتشاف كميَات لا بأس بها من البترول قرب دير الزور وأمَا على الصعيد السياسي فهناك بالطبع الحرب الأهليَة اللبنانيَة والصراع السوري-الإسرائيلي وتوتَر العلاقات مع العراق وتركيَا والمد والجزر في العلاقات مع الأردن ومنظَمة أو بالأحرى منظَمات التحرير الفلسطيني ممَا لا يتَسع المجال للخوض فيه في هذه الأسطر. 


http://www.dtic.mil/dtic/tr/fulltext/u2/a198839.pdf

https://www.cia.gov/library/publications/the-world-factbook/geos/sy.html


Tuesday, June 20, 2017

دليل زائر دمشق في منتصف القرن العشرين

ما أقلّ الكتب السياحيَة وغير السياحيَة عن دمشق مقارنة مع أي عاصمة أو حتى مدينة متوسطة في أوروبا الغربيًة خاصة إذا أخذنا بعين الإعتبار تاريخ المدينة الطويل وعراقتها وغناها بالمعالم الأثريًة والكنوز الفنيًة. 

كان هذا الكتيّب الصادر باللغة الإنجليزيَة عن Librairie Universelle في لبنان عام 1949 محاولة لسدَ هذه الثغرة. المؤلف هو السيَد جميل روحي وله عدَة كتب عن لبنان وسوريَا والكتاب Damascus Gate of a World ينتمي إلى سلسلة معروفة للسيَاح وهي Green Guide Books. الكتاب كتاب جيب 11 سم في 15 سم بطول حوالي 70 صفحة تزيَنه 8 لوحات تحتوي على صور فوتوغرافيَة بالأبيض والأسود لبعض أشهر معالم المدينة: الجامع الأموي، قصر العظم، التكيَة السليمانيَة، الجامعة السوريَة، فندق الشرق، الكنيسة المريميَة، ساحة المرجة، وبناء مؤسسَة مياه عين الفيجة. المصوَرون جورج درزي، بوياجيان، Gulbenk. يحتوي الدليل أيضاً على خريطة مطويَة للمدينة 24 سم في 35 سم. 


يقدَر المؤلف عدد سكَان المدينة بحوالي 310,000 وينتقل بعد لمحة جغرافيَة سريعة عن دمشق ووادي بردى إلى سرد لتاريخها يتجاوز 15 صفحة بادئاً من الأصول التي تختلط فيها الحقائق مع الأساطير ليصل إلى "النظام الجديد" عندما "استلم قائد الجيش السوري الحكم" في 30 آذار 1949 و"استقال رئيس الجمهوريَة" في 6 نيسان. المقصود طبعاً إنقلاب حسني الزعيم والذي عيَن لجنة لكتابة دستور للبلاد ومن ثم صدَق هذا الدستور بعد "استفتاء شعبي" وكان من "منجزات" هذا النظام الجديد إلغاء الأوقاف الذريَة وتدشين قانون مدني جديد وانتهاج سياسة التعاون على الصعيد الدولي وفقاَ "لروح ميثاق الأمم المتحدة". ما علينا.. الكتاب بالنتيجة سياحي بالدرجة الأولى وأشك أن سائح ذلك الزمان قد أعار السياسات المحليَة السورية أو حتى الشرق أوسطيَة الكثير من الإهتمام هذا إذا قرأ الأسطر القليلة التي تعرَضت لها على الإطلاق. 


الشطر الأكبر من الكتاب مخصَص لزيارة ممنهجة للمدينة تبدأ من ساحة المرجة ومن ثم القلعة وسوق الخجا يليها سوق الأروام والحميديَة والعصرونيَة فالبيمارستان النوري والجامع الأموي وضريح صلاح الدين والمدرسة الظاهريَة والعادليَة والخانات العديدة وأشهرها طبعاً خان أسعد باشا الواقع في سوق البزوريَة بالقرب من قصر العظم. يصف الكاتب هذه المعالم باختصار ويتعرَض لتاريخها قدر الإمكان. يتابع القارىء أو السائح جولته خارجاً من باب الجابية ومبتعداً عن مركز المدينة باتجاه حيَ الميدان وطريق قافلة الحجَ مروراً بجامع سنان باشا ومقبرة الباب الصغير إلى جامع مراد باشا والمصطبة أو الزاوية السعديَة نهاية ببوابة الله.

ننتقل بعد هذا إلى الأحياء الغربيَة: شارع النصر وجامع تنكز ومحطة الحجاز في القنوات إلى الجامعة السوريَة (سابقاً الثكنة أو القشلة الحميديَة) والتكيَة السليمانيَة والمتحف الوطني. الخطوة التالية زيارة الحيَ المسيحي أو حيَ باب توما والتعرَف على بعض الكنائس خاصة المريميَة وحنانيا مع ذكر خاص لبيت شاميَة

بعد استعراض سريع لحيَ الصالحيَة وجامع الشيخ محيي الدين  نبدأ بزيارة "المدينة الحديثة" من المرجة إلى جسر فيكتوريا فشارع فؤاد الأوَل (بور سعيد حاليَاً). إذا أخذنا ترام رقم 4 في المرجة إلى المهاجرين فسوف نمر بالتجهيز والبرلمان وسنرى على اليسار "شارع بريطانيا" (حاليَاً أبو رمَانة). يتابع الراكب إلى  محطَة عرنوس وعلى يساره الشارع المؤدَي إلى حيَ الروضة الأنيق ومن ثمَ إلى الجسر الأبيض وحي المهاجرين الذي يمرَ بالقصر الرئاسي قبل أن نصل إلى آخر الخطَ ونقف قبيل قبَة السيَار

لا يخلو هكذا دليل من الدعايات وأهمَها لشركة طيران Pan American والبنك العربي المحدود (مركره في "القدس فلسطبن") وشركة أصفر وسركيس (تحف وسجَاد وأقمشة ومجوهرات) وحلويَات غراوي والمخزن الهندي الشرقي (حرير وسجَاد وغيرها). 





Sunday, June 18, 2017

دليل الجندي الأمريكي إلى سوريا

حاربت الولايات المتحدة في الحرب العالميّة الثانية على عدّة جبهات في الشرق والغرب ولم تكن سوريا  منها رغم أنها شهدت ولفترة قصيرة عام 1941 قتال الإنجليز مع حلفاءهم من الفرنسييّن الأحرار ضد قوات Vichy. على ما يبدو كان المسؤولون الأمريكيّون في إحدى المراحل يتحسّبون لإمكانية إرسال جيوشهم إلى الشام وهذا ما حدا قسم الحرب والبحريّة إلى طباعة دليل مختصر إلى سوريا عام 1942 وتوزيعه على الجنود وبالطبع كان هذا الدليل واحداً من عشرات الأدلة المماثلة لمختلف البلدان. 


الكتيّب صغير الحجم 11 سم في 13 سم وخفيف الحمل يمكن بكل سهولة وضعه قي الجيب وعدد صفحاته حوالي الستين خصّص منها قسم لا بأس به لتعليم الجندي بعض العبارات الكثيرة الاستعمال في الحياة اليومية وكيفية لفظها بعربيّة معقولة. هدف المنشور بالدرجة الأولى كسب ود السورييّن في الحرب ضد هتلر الذي "يسعى للسيطرة على العالم" وهو يذكّر القرّاء أن الكثير من السورييّن تلقّوا العلم في الجامعة الأمريكية في بيروت وأن سوريا بلد صديق يحبّ أهله الأمريكان بدليل أنهم حاولوا وضع أنفسهم تحت إنتداب أمريكي في أعقاب الحرب العالميّة الأولى وبالتالي فسيرحّبون بالجيش الأمريكي بكل تأكيد. المقصود بسوريا طبعاً وكما نرى في الخريطة المرفقة  سوريا ولبنان مع ذكر مختصر لفلسطين. 


يقدّم الكاتب أو الكتّاب بعض أهمّ المدن السوريّة بشكل مختصر فبيروت مدينة يلتقي فيها الغرب مع الشرق واللاذقية تزرع التبغ الممتاز الذي تستعمله بعض الماركات الأمريكيّة وأما دمشق فقد نالت حصة الأسد إذ خصّص المؤلفون لها صفحة كاملة ونيف. الباب التالي يتحدّث عن السورييّن البالغ عددهم 3,5 مليون منهم ربع مليون بدوي يعيشون على لحوم وألبان حيواناتهم وتقتصر حاجاتهم الإضافيّة على القهوة والسكّر والتبغ. ينصح الدليل القارىْ في أكثر من موضع أن يتجنّب أي مناقشة في الدين ويسرد بسرعة أركان الإسلام ويطلب من الجندي أن يعامل المسلمين برفق في شهر رمضان وأن يتوقع ضيق خلقهم وعجزهم عن العمل بكفاءة خلال الصيام وبالطبع ليس كل السورييّن مسلمون. 


أهرق الكاتب كميّة لا بأس بها من المداد لتعليم الجندي الأمريكي أصول التعامل مع السوريين اخترت منها ما يلي:

- لا تضرب السوري وتذكّر أن الكثير من السورييّن يحملون الخناجر ويمهرون في استعمالها.
- لا تبول في وجود السوري.
- لا ترفض السيجارات أو القهوة عندما يقدّمها مضيفك واشرب القهوة حتّى الثمالة.
- لا تغازل أو تتحرّش بالنساء وفي كلّ الأحوال لن نتجح مساعيك إذ أن البغايا يلتزمن محلّات معيّنة ولن تجدهن في الشوارع.
- لا تبصق بالقرب من جامع ولا تدخّن.
- لا تتعرّى أمام السورييّن.
- لا تأكل الخنزير أمام السورييّن ولا تشرب الكحول ولا تقدّمه لهم. 
- اطرق الباب عندما تدخل إلى بيت وإذا أجابتك امرأة أعطها ما يكفي من الوقت لتنسحب.
- لا تجلب الكلاب إلى بيوت السورييّن.
- عندما تتعرّف على سوري اسأله عن صحّته. 
- كن لطيفاً مع الشحّاذين وأعطهم بعض الفكّة. 
- ساوم على الأسعار ولكن كن مهذّباً.
- استعمل عقلك ومحاكمتك وتذكّر أنك ممثّل غير رسمي لبلادك وسفير لنواياها الحسنة.

ختاماً هناك بعض المعلومات المفيدة كالتعريف بالعملة المحليّة (الليرة السوريّة تعادل 46 سنت أمريكي والليرة الفلسطينيّة 4 دولارات) والتقويم الهجري والأوزان والمقاييس. 



Saturday, June 17, 2017

دمشق ترحّب بكم

صدّق أو لا تصدّق:  بإمكانك الحصول على خارطة كبيرة ومفصّلة لمدينة دمشق لقاء ثلاث ليرات سورية (أو دولار أمريكي واحد) فقط لا غير ولكن بشرط أن تشتريها عام 1954 عندما صدرت عن المكتب السوري السياحي للمعلومات (الواقع شارع فؤاد الأوّل أو شارع بورسعيد حاليّاً) وبالطبع كانت الليرة ونصف الليرة وحتى ربع الليرة فضيّة في ذلك الوقت. 


لتوخي الدقة هذا الكتيّب يحتوي على خريطتين للمدينة: الأولى لدمشق الكبرى مع ضواحيها بقياس 60 سم في 90 سم والثاني (على قفا الخريطة الأولى)  بدقة أعلى للمدينة القديمة 30 سم في 55 سم مع فهرس لمعالمها التاريخية والحديثة. بالنسبة لشكل الكتيّب ككل فهو قطعة من الورق السميك تبلغ أبعادها 86 في 114 سم وقابلة للطي طولاً وعرضاً 9 في 4 بحيث تبلغ الأبعاد النهائية للكرّاس المطوي 13 سم في 22 سم. 


تحيط خريطة مدينة دمشق 11 صورة بدقة جيّدة بالأبيض والأسود لمختلف معالم المدينة ومنها الجامع الأموي والتكيّة السليمانيّة وقصر العظم والجامعة السوريّة (سابقاً الثكنة أو القشلة الحميديّة) والشارع المستقيم وسوق الحميديّة وحديقة السبكي. وعلى اعتبار أن هذا الدليل موجّه للسيّاح أوّلاً وآخراً فهو يحتوي على العديد من المعلومات والعناوين المفيدة من البنوك الغربيّة مثل British Bank of the Middle East و Credit Lyonnais والعربيّة كبنك مصر وسوريّا ولبنان والبنك العربي المحدود (له فرع في القدس) إلى دعايات شركات الطيران Air France و KLM (الهولنديّة) ووكالات النقل والسياحة ومنها الكرنك ووكالة سعادة للسفر ذات الملكيّة والإدارة الأمريكيتين والواقعة في شارع بغداد وهذه الوكالة الأخيرة وفّرت للسيّاح جولات في الأماكن المقدّسة المسيحيّة واليهوديّة Biblical Land Tours ونزلاً hostel لمن لم يرغب في ارتياد الفنادق الفخمة الحديثة مثل قطّان وأميّة والشرق واليرموك



غني عن الذكر أن كافة معلومات هذه النشرة باللغة الإنجليزيّة. 

Monday, June 12, 2017

الحكم العثماني في دمشق 1708-1758

ينظر كثير من المؤرخين -لربما معظمهم-  في الشرق والغرب إلى العهد العثماني بعد موت سليمان القانوني عام 1566 كعهد انحطاط تدهورت فيه الإمبراطورية وبشكل مستمر من سيء إلى أسوأ إلى أن سقطت مع نهاية الحرب العالمية الأولى. من العدل أن يقال أن هذا التقييم مجحف ومبسط أكثر من اللزوم إذ اقتضت وفاة "الرجل المريض" -وهو تعبير استعمل للمرة الأولى في القرن التاسع عشر- 350 سنة بعد موت السلطان سليمان وبالتالي لربما لم يكن مريضاً لهذه الدرجة وعلاوة على ذلك لم تكن الإمبراطورية العثمانية هي الوحيدة التي سقطت عام 1918 ففي نفس العام سقطت ثلاث امبراطوريات غيرها: أعدائها التاريخيين في روسيا والنمسا وحليفها في الحرب العظمى ألمانيا. 

لا يجادل أحد أن أوج الإمبراطورية العثمانية كان في القرن السادس عشر عندما كانت ليس ققط أقوى الإمبراطوريات الإسلامية الثلاث (الأخريتان الإمبراطورية الصفوية في فارس والمغولية أو التيمورية في الهند) وإنما أيضاً أقوى ممالك أوروبا خاصة بعد احتلالها المجر في أعقاب معركة Mohacs عام 1526 ومن ثم حصار Vienna الأول عام 1529. تزايدت التحديات لسلطة القسطنطينية في القرن السابع عشر ولكنها ظلت تحكم أراض شاسعة في أوروبا وشمال أفريقيا وجنوب غرب آسيا واستطاع العثمانيون حصار Vienna للمرة الثاتية عام 1683 ولكن جهودهم تكللت بالفشل وتلى ذلك عدد من الهزائم كرستها معاهدة Karlowitz عام 1699 وخسر بها العثمانيون المجر إلى غير رجعة. 

يركز المؤرخ الأستاذ Karl Barbir في هذا الكتاب الصادر عن Princeton University Press عام 1980 على دمشق تحت العثمانيين في القرن الثامن عشر ويقول -على عكس أغلب الأخصائيين- أن هذا القرن أو على الأقل النصف الأول منه لم يكن بهذه الدرجة من السوء فعلى الصعيد الدولي هزم العثماتيون بطرس الأكبر الروسي وجمهورية البندقية ونجحوا في استعادة بلغراد وأما فيما يخص دمشق وهو موضوع الكتاب فقد أجروا مجموعة من الإصلاحات لتقوية السلطة المركزية واحتواء الجماعات المحلية (الأعيان والإنكشارية والبدو) وتنظيم قافلة الحج لتعزيز مكانة السلطان "كخادم الحرمين". 



كان إسهام دمشق في حروب الإمبراطورية التي لا نهاية لها محدوداً جداً فعلى سبيل المثال أرسلت المدينة 500 جندي للمساهمة في الحملة الأوروبية وحصار Vienna عام 1683 بينما بلغ تعداد الجيش العثماني ككل 350,000 جندي ونتيجة لذلك قررت السلطة المركزية في مطلع القرن الثامن عشر أن تعفي حاكم دمشق من المساهمة في الحروب وتحمله عوضاً عن ذلك مسؤولية الإشراف على قوافل الحج وتزويدها بما تحتاجه عن طريق جمع الضرائب اللازمة وحمايتها وخصوصاً من غارات البدو ونجح الولاة في القيام بهذه المهمة الشديدة الأهمية من الناحية المعنوية اعتباراً من عام 1708 عندما تولى نصوح باشا مقاليد الأمور وحتى 1757 عندما هلك الألوف من الحجاج من الحر والعطش وهجمات البدو وشّك الباب العالي بضلوع أسعد باشا العظم في هذه الكارثة مما كلفه رأسه. 

ولاة دمشق في النصف الأول للقرن الثامن عشر

هيمن آل العظم على ولاية دمشق لسنوات عديدة في مطلع ومنتصف القرن الثامن عشر مما حدى بالكثير من المؤلفين أن يربطوا بين صعود نجمهم وتدهور السلطة المركزية ولكنهم في الحقيقة كانوا ينفذون سياسات رسمت خارج دمشق في الأستانة وإن عززوا تفوذهم وجمعوا الثروات في نفس الوقت وهنا تجدر الإشارة أن سوريا -خلافاً لمصر- لم تستطع أن تستقل عن القسطنطينية لا إسماً ولا فعلاً إلا لفترات قصيرة وتحت ظروف معينة  ولكن عاصمة الإمبراطورية فقدت المبادرة مع نهايات القرن الثامن عشر تحت الضغوط الخارجية (الحرب مع روسيا القيصرية ومن ثم حملة بونابارت) والداخلية (تمرد المغامرين من أمثال ظاهر العمر)  وأعطت المزيد من حرية التصرف للولاة وعل أشهرهم الجزار باشا. قصة القرن التاسع عشر وعهد التنظيمات ودمشق قبل وبعد 1860 تخرج عن نطاق هذه الدراسة. 



Sunday, June 11, 2017

دمشق من منظور مبشّر أمريكي في مطلع ستينات القرن التاسع عشر

تختلط الحقيقة مع الخيال في هذا الكتيب الذي صدرت طبعته الأولى عام 1864. المؤلف السيد Daniel Clarke Eddy من مواليد Massachusetts عام 1823 وتوفي في Brooklyn نيويورك عام 1896 والكتاب حوالي 220 صفحة من القطع الصغير 17 سم في 11 سم يمكن تحميله بالمجان على الرابط أدناه. 


أود التنويه منذ البداية أن هذا العمل موجّه لجمهور غربي مسيحي بالدرجة الأولى والأخيرة وليس فيه من "اللباقة السياسية" لا كثيراً ولا قليلاً ويمكن دون مبالغة أن نعتبره عنصريّاً بمقاييس القرن الحادي والعشرين ولكنه بالطبع عادي بالنسبة لمعايير القرن التاسع عشر ويعكس عقلية أهل زمانه ومكانه. 

"بطل" السرد شاب يافع يدعى Walter وهو حاد الذكاء وشديد الرغبة بالاطلاع إذ "يطلب العلم ولو في سوريا". زار Walter دمشق بمعية جماعة من الأمريكان أحدهم واعظ واسع العلم ويعرف عن الشرق والإسلام أكثر بكثير من الأغلبية الساحقة من الغربيين وإن كانت معلوماته ممزوجة بشعور بالفوقية والاستعلاء. 

على الصعيد الأمريكي جرت هذه الزيارة بعد نشوب الحرب الأهلية بقليل وبعد أن طرد الجنرال الجنوبي Pierre Beauregard الشماليين من قلعة صمتر Fort Sumter (صفحة 14) أما عن الصعيد المحلي فهناك بالطبع مجزرة 1860. الكاتب من أنصار الشمال في أمريكا وهو بالطبع مسيحي حتى العظم واهتمامه بسوريا ودمشق ناجم  بالدرجة الأولى عن مكانتهما البارزة في التاريخ والأدب المسيحيين. 

نزل ضيوف دمشق الأمريكان في فندق في المدينة متواضع المظهر من الخارج وجميل للغاية من الداخل  متمركز حول الديار والبحرة في وسطه شأنه في ذلك شأن البيوت الشامية التقليدية وطال تجوالهم أسواق المدينة ومقبرة الباب الصغير والجامع الأموي وأحد الحمّامات كما زاروا ما وصفوه بمقهى مغربي ترقص فيه "العالمة" وتغني المغنيات على إيقاع الدربكة وأنغام الآلات الشرقية أمام المشاهدين الذين يحتسون القهوة ويدخنون الأركيلة.


كان الجامع الأموي ولا يزال أهم معالم المدينة ولكنه لم يحدث الإنطباع المأمول لدى زوّارنا الأفاضل ولم ينس الكاتب بالطبع أن يذكرنا أنه كان كنيسة مسيحية قبل أن يهدمها الوليد ويبني الجامع مكانها وأضاف (صفحة 123) أن معبد Rimmon (كما ذكر في كتاب العهد القديم وهو يعادل الإله السامي "بعل") كان بالتأكيد أجمل من البناء الحالي ويستطرد فيقول (صفحة 121) أن "المسلمين الحمقى" يعتقدون أن المسيح سيقف على مئذنة عيسى يوم القيامة. تفوق المؤلف على نفسه عندما تحدث عن زيارة "الحمّام التركي" وأكد  بكل صفاقة (صفحة 154) أن "العرب يستحمّون كثيراً مع أنهم شعب قذر للغاية". 


زار الأمريكان بالطبع الحي المسيحي المنكوب  ويصف الراوي المسيحيين ككل "بالموارنة" ويقول أن أمريكا قد لا تعترف "بمسيحيتهم" (صفحة 58)  وأنه لم يبق في دمشق إلا المسلمين واليهود بعد قتل عشرين ألف مسيحي في مجزرة 1860 وأضاف (صفحة 103 وهنا طبعاً الإشارة إلى ما حدث في لبنان) أن 160 مدينة أحرقت وأن عشرة آلاف إنسان قتلوا وأن 25000 امرأة تم بيعهن إلى الأتراك كجواري ولكنه أشاد كغيره من الشرقيين والغربيين بدور الأمير عبد القادر في هذه المأساة وإن كان رأيه في المسلمين المتدينين بشكل عام (صفحة 206) يتلخص في ترجمة تقريبية للقول الشامي المأثور "إذا حج جارك بيع دارك وإذا حج مرتين بيعو بالدين". 

من الواضح كما أسبقت أن المؤلف ملم بتاريخ الإسلام فهو يحدثنا عن محمد وزوجاته (خديجة وعائشة التي يذكرنا صفحة 175 أن عمرها لدى زواجها كان سبع سنوات) وغزوات بدر وأحد والخندق وخيبر وقصة الإسراء والمعراج ومحاولة قريش لاغتيال النبي والملذات التي وعد الله بها المؤمنين في الجنة وهلمجرا. 


لا شك أن هذا الكتاب على علاته أو لربما بسبب هذه العلات لاقى رواجاً لا بأس به أبداً إذ أعيد طبعه ناهيك عن توافره على الشبكة. الكاتب غزير الإنتاج في عدة مجالات ومن كتب الترحال التي ألفها واحد إلى القسطنطينية وآخر إلى أثينا وثالث إلى مصر وغيرها.

https://books.google.com/books?id=ElQvAAAAYAAJ&printsec=frontcover&source=gbs_ge_summary_r&cad=0#v=onepage&q&f=false

https://en.wikipedia.org/wiki/Daniel_C._Eddy

Saturday, June 10, 2017

دمشق في عهد المماليك

كتيب أنيق وصغير الحجم 13 سم في 19 سم يبلغ عدد صفحاته بما فيها المقدمة والفهارس 160 صدر عن جامعة أوكلاهوما عام 1964 والمؤلف هو الدكتور نقولا زيادة 1907-2006 وهو دمشقي المولد وله عدة مؤلفات بالعربية والإنجليزية. 


حكم المماليك سوريا ومصر بين عام 1250 إلى عام 1516 أو 1517 (في حالة مصر) أي الفترة الواقعة بين نهاية العهد الأيوبي وبداية العهد العثماني. تعني كلمة المملوك بالطبع "عبد" وتستعمل عادة للعبيد البيض والمماليك بالأصل عبيد تم شراؤهم في أسواق النخاسة أو أسرهم في حروب ضد "الكفار" حيث أن استعباد المسلمين (على الأقل من الناحية النظرية) من المنكرات. قام سلاطين الأيوبيين وغير الأيوبيين بتدريب مماليكهم في فنون الحرب واستعمالهم كعسكر وضباط إلى أن اكتشف هؤلاء -كما حصل للحرس البريتوري Praetorian Guard في عهد الرومان مثلاً- أن الحل والربط بالنتيجة بين يديهم فمن يحمي السلطان يستطيع إذا أراد أن يدعم سلطاناً آخر أو حتى يحل محل هذا السلطان وهكذا ولدت إحدى أغرب امبراطوريات القرون الوسطى المحكومة من الملوك-المماليك أو بتعبير آخر الملوك-العبيد. 

بعد أن سقطت بغداد وقضى المغول على الخلافة العباسية عام 1258 للميلاد، قام السلطان الظاهر بيبرس 1260-1276 (وهم المؤسس الحقيقي لإمبراطورية المماليك) بجلب أحد سليلي آل عباس إلى القاهرة وأعلنه خليفة لإضفاء الشرعية على ملكه. بالطبع كان هذا الخليفة "رجل كرسي" في أحسن الأحوال مهما أحاطه السلطان بالتعظيم والتبجيل. 

يغطي الكتاب رغم صغر حجمه فترة أطول من حكم المماليك إذ يتطرق لتطوردمشق وأحيائها منذ البدايات وتزيد كثافة التغطية اعتباراً من عهد نور الدين مروراً بالأيوبيين ويعتمد في وصفه على روايات الرحالة المسلمين (ابن جبيرالأندلسي الذي زار دمشق عام 1184 أدقهم على الإطلاق وهناك أيضاً ابن بطوطة في القرن الرابع عشر)  والأوروبيين إضافة إلى كتابات المؤرخين ويركز ليس فقط على تجارة المدينة وأسواقها ومعابدها ومدارسها ومعالمها ومشافيها وإنما أيضاً على الكوارث التي أصابتها عندما هاجمها المغول  بقيادة غازان (أول من اعتنق الإسلام من أباطرة المغول) عام 1299-1300 في عهد ابن تيمية ومن ثم تيمورلنك الورع 1400-1401 (كان ابن خلدون موجوداً في دمشق وقتها) مع كل ما رافق هذا وذاك من قتل وتدمير ونهب وانتهاك حرمات.


بعد المقدمة يتوزع الكتاب على سبعة فصول: الأول للتعريف بالمماليك، الثاني يتحدث عن عهد صلاح الدين مع التركيز على زيارة ابن جبير، الثالث عما قاله الرحالة الأوروبيون عن المدينة مثلاً Niccolo of Poggisboni في منتصف القرن الرابع عشر و Giorgio Gucci الفلورنسي بعده بقليل وBertrandon de la Brocquière في مطلع القرن الخامس عشر وغيرهم، الفصل الرابع يصف المدبنة وضواحيها، الفصل السادس يتحدث عن الشؤون الإدارية.

الفصل السابع والأخير يتحدث عن الحياة الفكرية والتي لا يمكن فصلها في هذا العهد عن الحياة الدينية. للتذكرة يعتبر الكثيرون القرن العاشر الميلادي "قرناً شيعياً" إذا جاز هذا التعبير إذ لدينا البويهيين في العراق وإيران، الحمدانيين في حلب، والفاطميين (أي الإسماعيليين)  في سوريا الجنوبية ومصر وشمال أفريقيا. يعترض البعض أن أغلبية المسلمين ظلت مع ذلك سنيّة وإن كان الحكام من الشيعة وفي كل الأحوال شهد القرن الحادي عشر ردة فعل سنيّة تحت السلاجقة وتابع الأتابك نور الدين مكافحة "الرافضة" قبل أن يجهز الناصر صلاح الدين على الخلافة الفاطمية في مصر ويعيد الدعاء على المنابر للخليفة العباسي المغلوب على أمره. استمر المماليك في هذه السياسة  وشهد عهدهم صعود نجم ابن تيمية الدمشقي 1263-1328 الفقيه الحنبلي. يختم الدكتور زيادة  فيقول أن وضع الحنابلة في دمشق تدهور بعد الغزو العثماني (باعتبار أن العثمانيين يتبعون مذهب أبي حنيفة) وظل ابن تيمية منسياً أو كاد في مدينته وبلده حتى أواسط القرن الثامن عشر عندما شهدت نجد ولادة الحركة "الإصلاحية" التي بشّر بها محمد ابن عبد الوهاب وساعده على نشرها آل سعود وبعدها بقرن من الزمن أسّس محمد ابن علي السنوسي في ليبيا حركة اصلاحية مماثلة وأخيراً وليس آخراً أعلن السلفي رشيد رضا ناشر ومحرّر مجلة المنار نفسه وريثاً لأفكار ابن تيمية الذي يمكن دون مبالغة أن نعتبر الأثر الذي تركه بعد مماته أهم وأخطر من الذي مارسه في حياته. 



نقولا زيادة



كنوز النحت الروماني في متحف دمشق الوطني

 هذا الكتاب هو حصيلة تعاون سوري-فرنسي-ألماني يهدف إلى تصنيف ووصف كتابي وفوتوغرافي لبعض أهم موجودات متحف دمشق من العهد الروماني وهو الجزء الأول من سلسلة من الكتب بغرض توثيق المقتنيات التي جمعها المتحف من سوريا المركزية والجنوبية. صدر هذا "العدد الأول" عام 2006 وعلى حد علمي لم يصدر عدد ثاني حتى الآن.


المؤلف عالم الآثار الألماني Thomas M Weber بالتعاون مع السيد قاسم المحمد والكتاب مهدى إلى ذكرى مدير قسم الفن الروماني والإغريقي في متحف دمشق الدكتور سليم عبد الحق وقرينته السيدة آندريه والسيد أنطوان ميخائيل المقدسي الذي كان مسؤولاً عن مديرية الترجمة والتأليف في وزارة الثقافة لعشرات السنوات في النصف الثاني للقرن العشرين.

عدد فصول الكتاب خمسة: الأول ببحث في آثار دمشق والمنطقة المحيطة بها، الثاني لآثار النقرة Batanaea أو باشان، الثالث للجاة أو Trachonitis وهي تقع بين درعا والسويداء، الرابع الجولان، والخامس (الأطول) حوران وجبل العرب. يبدأ كل فصل بلمحة تاريخية وجغرافبة مع خريطة مفصّلة يليها وصف دقيق (أشبه ما يكون بوصف كتب التشريح)  لكل تمثال وكل نقش استناداً على صورجيدة وغالباً من عدة زوايا بالأبيض والأسود وتشغل اللوحات والصور والمصورات حوالي نصف صفحات المجلد البالغ عددها حوالي 200 من القطع الكبير 30 سم في 21 سم.


إذا جاز لي النقد فهناك على الكتاب مأخذان: الأول أنه لا يورد أسماء المواقع بالأبجديّة العربية (علماً أنه يستعمل الأبجديّة اليونانية عندما يصفها على بعض النقوش) ويمكن لهذا أن يسبب بعض الإلتباس في بعض القرى والمواقع الصغيرة الأقل شهرة والثاني كثرة الأخطاء في النحو وتركيب الجمل وأسلوب صياغتها الركيك (دون ذكر الأغلاط المطبعية) مما لا يترك مجالاً للشك أن الكاتب الألماني غير متمكن من اللغة الإنجليزية رغم طلاقته فيها. لا يؤثر هذا على السرد فوجود الكثير من الصور يزيل أي التباس أو يكاد ولكن من المؤسف ألا يخضع كتاب فخم وبالغ الأهمية كهذا إلى مراجعة وتنقيح لغوي هو به أكثر من جدير.

إيجابيات الكتاب تفوق سلبياته بما لا يقاس فلم يكتف المؤلف بعرض الصور (الرائعة وإن كانت مع الأسف غير ملونة) والتعليق المهني الفصل عليها وعلى حسبها ونسبها ومن وجدها وكيف انتقلت إلى المتحف ومتى وإنما أيضاً قارنها مع مثيلاتها من مقتنيات المتاحف العالمية وعلاوة على ذلك ذكر الكثير من الآثار التي اكتشفت في القرن العشرين و"ضاعت" دون تفسير مقنع وما أكثرها مع الأسف!

أرفق على الرابط التالي سيرة الأستاذ Weber وأما عن لوحات الكتاب فأرجو أن أقوم بتحميل بعضها مع تعليق موجز متى سمح الوقت وإذا الله عطانا عمر.

http://www.klassische-archaeologie.uni-mainz.de/176.php





Wednesday, June 7, 2017

ماذا جرى في دمشق عام 1860 ومن كان المسؤول؟

لكل إنسان حق بإبداء رأيه وليس بتقديم هذا الرأي كحقيقة لا شك فيها. هذه ترجمة تقريبية لقول مأثور باللغة الإنجليزية "Every one is entitled to his own opinion, but not his own facts" يعزى لعضو مجلس الشيوخ الأمريكي الراحل Daniel Patrick Moynihan. جميعنا نعلم أن الآراء الفيسبوكية تقدم بمناسبة وغير مناسبة كحقائق وتتم مشاركة هذه "الحقائق" على أوسع نطاق في وسائل التواصل الاجتماعية دون تفكير ناهيك عن التحقق والتدقيق وفي النهاية تصبح أي رواية متواترة بما فيه الكفاية قرآناً منزلاً يستشهد به القاصي والداني لإثبات وجهة نظره وإفحام الخصوم والأقران والمزاحمين بسعة علمه وطول باعه وفضله. 

الخطوط العريضة لما يسمى طوشة النصارى (والتسمية الأدق مذبحة أو مجزرة) معروفة ولا داعي لتكرارها في هذه السطور القليلة وبالتالي سأقتصر على اقتباس "بوست فيسبوكي" بحذافيره  ودون تسمية صاحبه أو صاحبته ثم التعليق عليه من منظور شخصي هو بالنهاية ليس أكثر من رأي ضمن العديد من الآراء.

فلنبدأ بالإقتباس:

 تؤكد المؤرخة الأميريكية ليندا شيلشر صاحبة كتاب "دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر" في نهاية الفصل الذي كتبت فيه عن أحداث عام 1860 في دمشق أن تلك الأحداث لم تكن على أساس ديني أبداً حيث تقول:
(((ثمة الكثير من الإحتمالات التي يمكن أن تحمل المرء على اعتبار حوادث 1860 في دمشق من الحوادث التاريخية المحكمة. ومع ذلك، لا بد لنا من مواصلة البحث عن آلية "أو آليات" معينة ومركزية أطلقت شرارة أعمال الشغب صبيحة ذلك اليوم من تموز"9 تموز". ويتوجب علينا أن نوضح أمراً واحداً: إن ما لدينا هنا هو  انفجار صراع اجتماعي واجتماعي - اقتصادي واجتماعي - نفسي وسياسي، وليس حرباً طائفية. وهذا ما تؤكده حقيقتان أولاهما، ان جماعة معينة من المسيحيين فقط قد تعرضت للهجوم، بينما ترك المسيحيون الآخرون في سلام. وثانيهما، ان بعض المسلمين فقط قد قاموا بالهجوم، بينما قام المسلمون الآخرون بحماية المسيحيين وتقديم العون لهم)))
(الصفحة 126 من كتاب دمشق في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للمؤرخة الاميريكية ليندا شيلشر، وهذا الكتاب يعد من المراجع المهمة وربما 
من أهمها في تاريخ سوريا الحديث ومازال يحتل مكانه فريدة بين الكتب التي تبحث في التاريخ الحديث لبلاد الشام)"

 انتهى الإقتباس


هنا أريد أن أبدي الملاحظات أو بالأحرى التحفظات التالية: 

أولاً. أعجب هذا البوست الكثيرين وكانت التعليقات عليه إيجابية إلى درجة العاطفية. ألم تقل خبيرة غربية في كتاب "يحتل مكانة فريدة" أن هذه "الأحداث" الأليمة "لم تكن على أساس ديني أبداً؟!"  شهد شاهد من أهله وقضي الأمر الذي كنتم فيه تختلفون! بالطبع لم تكن الدكتورة شيلشر المستشرقة الوحيدة التي أبدت هذا الرأي (إذا أردنا توخي الدقة فرأيها لم يكن بهذه الدرجة من الوضوح إذ كتبت فصلاً كاملاً عن مأساة 1860 اختار منها صاحب البوست أعلاه بضعة سطور أعجبته)  وأما عن الكتاب المحلييّن فحدّث ولا حرج. ما فات كاتب البوست والمعجبين الكثر بهذا البوست أن أغلب المستشرقين يركّزون على الخلفيّة الطائفيّة ولكننا كالعادة نختار منهم من يعجبنا ونضرب بآراء البقية عرض الحائط. 

ثانياً. كون "جماعة معينة من المسيحييّن فقط تعرضت للهجوم" وأن "بعض المسلمين فقط قاموا بالهجوم" لا ينفي أن جميع الضحايا عملياً كانوا مسيحيين وأن الأيدي التي تلوثت بدمائهم كانت بالدرجة الأولى أيدي مسلمة. الذي يبرّر تدمير الحي المسيحي بهذه الطريقة يمكن له أن يستعمل نفس الحجّة -ولربما بقوة أكثر- لتبرير القصف الفرنسي لسيدي عامود (الحريقة) عام 1925. نعم كانت الدول الأوروبية تبحث عن مصالحها ولربما شرحت بعض ممارساتها خلفية الفتنة ونعم استغلت هذه الدول المأساة لتعزيز نفوذها ولكن من قتل ونهب وحرق هم السوريون. 

ثالثاً. من المؤكد أن مسلمي اليوم أبرياء 1000% مما جرى قبل أكثر من قرن ونصف ومن المؤكد أن مسيحيي اليوم ليسو ضحايا هذه الأحداث: مات الجناة والمجني عليهم بل حتى أبنائهم وأحفادهم منذ أجيال فلم لا نحاول النظر إلى تاريخنا بقليل من الموضوعية والتجرد؟ هذا يشبه إنكار الأتراك لمذابح الأرمن في مطلع القرن العشرين أو محاولة تسويغها بأغرب التبريرات.  

رابعاً. قد يشير البعض أن تاريخ الغرب مليء بالمجازر الدينية وهذا قطعاً صحيح ولكن الغربيين اليوم لا يحاولون تبرئة ساحة محاكم التفتيش في إسبانيا والفتك بالبروتستاتت Huguenot في فرنسا واضطهاد الكاثوليك في انجلترا بذريعة تدخل الاستعمار والإمبريالية في شؤونهم.  

خامساً. هل يجادل عاقل أن العقلية القبلية والعشائرية والإقليمية والطائفية لا تزال متفشية في أبشع مظاهرها حتى يومنا هذا في سوريا و"العالم العربي"؟ كيف يمكن حل أي مشكلة لا نعترف بوجودها أصلاً؟ التدخل الأجنبي كان ولا يزال وسيبقى موجوداً ولكنه ممكن لأننا ضعفاء أولاً ولأننا نرفض النظر في المرآة ثانياً. 

سادساً. ليس ما حدث عام 1860 المثال الوحيد على مذبحة طائفية في تاريخ سوريا (ودون التطرق لما يحصل اليوم). إذا كان تاريخنا قبل "تدخل الإستعمار" سلسلة متصلة من التعايش الودي بين الطوائف فلم اعتصمت الكثير من الأقليات بالجبال منذ قرون وقرون؟ 

كل هذا لا ينتقص من أهمية كتاب الدكتورة Schilcher والذي يمكن مطالعة ترجمته بالمجان على الرابط أدناه ولكن مع كامل احترامي لوجهة نظرها فهي بالنتيجة إحدى العديد من وجهات النظر التي يجدر بنا مراجعتها إذا أردنا تسمية الأمور بمسمياتها عوضاً عن تحميل المسؤولية الكاملة للآخرين. 


http://home.earthlink.net/~schilchersupport/id1.html

https://drive.google.com/file/d/0B1ifv83-qBTyajI0RUVrNi12VUE/view

http://bornindamascus.blogspot.com/2017/05/blog-post.html



دمشق التاريخية الحديثة

هجرت كثير من العائلات الدمشقية المدينة القديمة وبيوتها الشامية التقليدية باتجاه الضواحي والشقق الحديثة قبيل منتصف القرن العشرين وبالنتيجة أصبحت هذه المدينة موطناً للمهاجرين من أبناء الأرياف ومقصداً للسياح والمتسوّقين وأصبحت رغم أهميتها التاريخية والعاطفية والتراثية مترادفة لا شعورياً مع "الماضي المتخلف" وظل هذا الوضع سائداً حتى أواخر الثمانينات.

المطبخ الشامي غني عن التعريف ومع ذلك يبقى أقل شهرة من نظيره اللبناني أو التركي ولربما كان أحد الأسباب تفضيل الدمشقيين وإلى أمد قريب تناول الطعام في بيوتهم أما عن المطاعم فكان "أرقاها" موجوداً في ضواحي دمشق الحديثة وحتى خارج المدينة وكثير من هذه المطاعم كانت تقدم أطباقاً غربية كأفضل ما لديها.  

تغير هذا الوضع اعتباراً من بداية التسعينات عندما شرع الكثير من الدمشقيين "باكتشاف" المدينة القديمة عن طريق المطاعم التي غزت البيوت العربية (من أقدمها بيانو بار في باب توما) ونجحت الفكرة إلى حد كبير وتلت هذا المطعم مطاعم ركزت على الجو الشرقي والأطباق الشرقية إلى درجة أن إدارة شيراتون على سبيل المثال تبنت في النتيجة هذا النمط الشرقي الذي أثبت نفسه وكانت المسألة مسألة وقت قبل أن ينتشر هذا الطراز بمأكولاته وجوّه وأراكيله انتشار النار في الهشيم. تجدر هنا الإشارة أن "العودة إلى دمشق" لم تقتصر على المطاعم إذ امتدت أيضاً للنشاطات الثقافية المختلفة من التلفزيون والمسلسلات والأفلام "الوثائقية" إلى كتب نصر الدين البحرة وسهام ترجمان وناديا خوست وهلمجرا.  

الكتاب إصدار 2004 عن Indiana University Press والكاتبة الدكتورة Christa Salamandra وهي أخصائية بالعلوم الإنساتية Anthropology من جامعة Oxford. أمضت الدكتورة Salamandra سنة في دمشق عام 1987 لدراسة اللغة العربية وكان هذا بعد حصولها على إجازة في لغات وآداب الشرق الأدنى أما عن كتابها فقد استندت معلوماته إلى دراسة ميدانية أجرتها خلال إقامة سنتتين في العاصمة السورية من 1992 إلى 1994 قابلت فيها الكثير من وجوه المجتمع السوري مثل صادق العظم ونجاة قصاب حسن واستشهدت بآخرين: عفيف بهنسي ورنا قباني وخالد معاذ وكثير غيرهم. تتوزع فصول الكتاب الخمسة على 200 صفحة يتخللها عدد لا بأس به من الصور بالأبيض والأسود. 


غني عن الذكر أن ارتياد المطاعم والمقاهي لا يعني العودة فعلاً إلى دمشق القديمة و لا نرى لدى حتى أكثر محبي المدينة التاريخية الغيورين على تراثها أي رغبة في السكن فيها فالبيت العربي بالنسبة لهم لا يناسب الحياة الحديثة والمحافظة عليه في حالة جيدة عملية مكلفة للغاية وبالتالي تقتصر هذه "العودة" على "استهلاك اصطفائي" لتقاليد وأجه ثقافية معينة في سبيل "بناء هويّة" عن طريق الشراء والثياب والطعام ومراسم الخطبة والزواج وكيفية صرف أوقات الفراغ (صفحة 2) وحتى جمعية أصدقاء دمشق (تأسست عام 1977) اضطرت أن تعير الكثير من وقتها واهتمامها للمشاريع الثقافية والسياحية (صفحة 80) عوضاً عن التركيز على هدفها الأصلي ألا وهو الحفاظ على المدينة إذ وجدت الصراع مع سماسرة العقارات ومهندسي محافظة دمشق عملية صعبة ومضنية وبالطبع كان هناك من لجأ بكل بساطة إلى لوم حزب البعث وهنا (صفحة 84) يتهم أحد "الناشطين"  -بعد أن يؤكد أنه ليس طائفياً والعياذ بالله على الإطلاق- المسؤولين بتدمير الأحياء المسلمة عن قصد أو جهل  في الوقت الذي يحافظون فيه على الحي المسيحي وهذا وفقاً لمخطط Ecochard "المسيحي".   

علّ أحد أسباب هذه الطريقة التجارية الاستهلاكية في العودة إلى القديم تغير نخبة Elite  (أو على الأقل طبيعتها) السوريين في زمن لم يعد التعليم فيه بالضرورة علامة على مكانة المثقف الإجتماعية ولا وسيلة مضمونة لتحسين وضعه social mobility وأصبحت هذه  النخبة تعرض ثروتها في الفنادق الفاخرة والمطاعم والأعراس وملابس النساء والمآتم بل وحتى في شهر الصيام رمضان عن طريق مآدب الفطور والسحور.  





Saturday, June 3, 2017

الحفاظ على مدينة دمشق التاريخية

قامت السيدة فائدة طوطح مؤلفة هذا البحث بأربعة زيارات إلى دمشق بين الأعوام 2001 و2008 كان أطولها الأولى (عندما أقامت في شقة في حي الشعلان للفترة (2001-2002) والثانية (سكنت خلالها في حارة حنانيا في باب توما من تشرين أوّل 2003 ألى كانون أوّل 2004). أضافت الكاتبة خلاصة النتائج التي حصلت عليها من خلال دراساتها الميدانية إلى قرائاتها وخبرتها المهنية  لتقّدّم لنا هذا الكتاب الأكاديمي والممتع الذي صدر عن جامعة Syracuse عام 2014 في حوالي 300 صفحة تتضمّن 15 صورة بالأبيض والأسود. 


تشغل الدكتورة طوطح منصب أستاذ مساعد في العلوم السياسية في Virginia Commonwealth University وتتكلم العربية والإنجليزية دون لكنة وأعتقد أنها فلسطينية الأصل أمّا عن الدراسة قيد البحث فهي تحاول الإجابة من خلالها على عدة أسئلة وخصوصاً:

أولاً: كيف ينظر الشوام والمقيمين في دمشق ومسؤولو الحكومة إلى الإستحالات الطارئة على المدينة؟
ثانياً: لماذا ترافقت عملية إعادة إحياء المدينة القديمة مع التركيز على هوية شامية مثالية علماً أن معظم الشوام هجروا هذه المدينة  منذ عقود؟
ثالثاً: ما هو دور "غير الشوام" في الثقافة الشاميّة؟
رابعاً: ما هي دوافع رفض دور الثقافة الريفية في دمشق؟
خامساً: ما هو دور الإزدواجية ريف-مدينة في التطورات التي تشهدها المدينة؟


تبدأ المؤلفة بتعريف بعض المصطلحات التي لا غنى عنها لمن يريد استيعاب مطارحاتها:

الشامي: هو من ينسب نفسه إلى دمشق القديمة حتى وإن لم يعد يقطنها.
المقيم في دمشق: من سكن المدينة قبل بداية عملية ال gentrification بغض النظر عن أصله ومعظم هؤلاء من أصول ريفية وكثير من "الشوام" الذين لم يسكنوا المدينة القديمة في حياتهم يعتبرون هؤلاء وافدين مهما طالت إقامتهم ضمن السور. 
لا يوجد مصطلح يقابل gentrification في اللغة العربية وتعرّفه المؤلفة "بالكيفية التي تؤدي فيها ظروف إقتصادية جديدة إلى تجدد المدن من خلال إعادة تأهيل بيوتها لتسخيرها لاستعمالات جديدة اجتماعية وثقافية". 

يعلم المهتمون بدمشق أن الطبقة الموسرة والوسطى من أبنائها هجرت بالتدريج المدينة القديمة إلى الضواحي الجديدة والشقق الحديثة اعتباراً من أواخر عهد الإنتداب الفرنسي ومنتصف القرن العشرين وزامن هذا وفود العديد من أبناء الأرياف ليشغلوا الفراغ الذي تركه الشوام ورائهم ويقطنوا البيوت العربية ونتج عن ذلك فقدان دمشق القديمة لأهميتها السياسية والإجتماعية وإن حافظت على مكانتها الثقافية. ظل هذا الوضع سائداً حتى مطلع التسعينات عندما بدأت عملية العودة إلى البيوت الشامية عن طريق تحويلها إلى مطاعم ومقاهي وفنادق بهدف جذب الشوام وغير الشوام من الموسرين مجدّداً إلى المدينة القديمة.


كل ما سبق لا يعني بالطبع غياب الأصوات التي ناشدت الجهات المعنية أن تفعل المزيد من أجل إنقاذ النسيج العمراني للمدينة عبر السنوات وعلى سبيل المثال قامت الحكومة باستشارة الفرنسي Ecochard (للمرة الثانية) في الستينات وقدم هذا الأخير عدداً من التوصيات ولكن اهتمامه كان مركّزاً على إبراز المعالم الأثرية وتسهيل المواصلات على حساب النسيج العمراني وهذا دون أن ننفي أن اهتمام الفرنسيين بدمشق ألهم بعض السوريين كالسيد خالد معاذ الذي بذل جهده لتوثيق دمشق بالإشتراك مع المستشرق والعالم الفرنسي Sauvaget وأما عن الراحل الدكتورعبد القادر ريحاوي فقد دافع عن تحديث المدينة وتزويدها بالخدمات على ألا يكون هذا على حساب تشويه بنيتها التاريخية ونسيجها العمراني. يمكن إضافة أسماء وأصوات السيد نصر الدين البحرة (كتاب "دمشق الأسرار") والسيدة ناديا خوست (الهجرة من الجنة) والشاعر العظيم نزار قباني وغيرهم.

كان لا مناص للمؤلفة التي سكنت لفترة في شقة ثم في بيت عربي أن تقارن بين الإثنين وأن تلاحظ أن الحياة في هذا الأخير لها تحدياتها إذ تصعب تدفئة الغرفة في الشتاء كما تصعب المحافظة على البيت نظيفاً خاصةً عندما تهب الرياح الصيفية مع ما يرافقها من الغبار دون التعرض للتخبط في الوحل في الشهور الممطرة في الحارات الضيقة التي  يتعذر دخول السيارة إليها أو يكاد وتضيف فتقول أن الكثيرين ممن يعيشون في البيوت القديمة يحلمون بالانتقال إلى شقة أكثر انسجاماً مع الحياة العصرية.

تختم السيدة طوطح دراستها بالقول أن سبب ديمومة دمشق عبر آلاف السنين يكمن في قدرتها على النمو والتكيف واجتذاب موجات جديدة من الناس وأنه لربما كان من الخطأ أن نعتبرها ملكاً لمجموعة أوفئة معينة وتستطرد أن قرار UNESCO عام 1979 بإدراجها كموقع تراث عالمي World Heritage Site بهدف حماية الأحياء الداخلية كان له سلبياته ومنها تجميد المدينة القديمة كما كانت في أربعينات القرن العشرين عندما كان "الشوام" يقطنونها مما أدى أو يمكن أن يؤدي إلى تهميش "المقيمين" فيها من سكانها الحاليين.



حاشية:
تزامنت الحركة لحماية المدينة القديمة في أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات مع الإضطرابات السياسية التي شهدتها سوريا في هذه الفترة وارتأى البعض أن أحد أهداف تحديث المدينة وشق شوارع كشفت القلعة والأموي إلخ كان محاولة من الحكومة لاحتواء الإخوان المسلمين عن طريق تسهيل دخول عناصرها وآلياتها إلى معاقلهم في الأحياء السكنية (قام الفرنسيون بتدابير مشابهة يشكل أو بآخر في العشرينات الغاية منها عزل دمشق عن الغوطة). 

عوامل تطور دمشق بين 1860 والحرب العالمية الأولى

تبحث هذه الدراسة في خلفية أو خلفيات تحول دمشق من عاصمة إقليمية في العهد العثماني تستمد هيبتها من تاريخها العريق وأهميتها الدينية  كمحطة رئيسة على طريق الحج الذي تتمحور حوله حياتها الإقتصادية، إلى مركز للقومية العربية وبالنتيجة عاصمة دولة مستقلة حديثة أو في طريقها إلى الحداثة. الكاتبة هي Leila Hudson أستاذة في قسم دراسات الشرق الأدنى للتاريخ والعلوم الإنسانية Anthropology في جامعة أريزونا والكتاب إصدار عام 2008. 


تطور أي كيان جغرافي سياسي عملية معقدة للغاية لها إيجابياتها وسلبياتها ولها إنجازاتها وكبواتها. يميل الأكاديميون الغربيون إلى عزو التطور إلى تأثير أورروبا البنّاء والعثرات إلى "تخلف الشرقيين" بينما يدعي القوميون أن الفضل يعود إلى "يقظة العرب" واللوم والتثريب إلى تدخل الإمبرياليين الغربيين في شؤونهم. من ناحية ثانية تعطي الدراسات التقليدية أهمية لربما كانت مبالغ فيها لدور النخبة Elite في تطور المجتمعات وكأنهم يقرّرون كل الأمور بفرمان من الأعلى وعلّ ذلك عائد إلى كون المؤرخين والكتّاب يروون سيرتهم دون سواهم ويتجاهلون دور الناس العاديين والذين يشكّلون الأغلبية الساحقة في كل مكان. 

تحاول المؤلفة في هذا العمل أن تصلح هذا الخلل وتعيد نوعاً من التوازن إلى منهج الدراسات التاريخية وتنجح مشكورة في ذلك إلى حدّ ما. بالطبع لا يمكن تجاهل دور النخبة والذي اختارت السيدة Hudson أن ترسمه اعتباراً من مجزرة عام 1860 عندما أرسل الباب العلي فؤاد باشا مزوّداً بصلاحيات استثنائية لمعاقبة المسؤولين وإعادة الأمن والأمان وحكم القانون وتميّزت هذه الفترة بمحاولة الدولة لتعزيز السلطة المركزيّة على حساب أعيان دمشق الذين جرى تهميش بعضهم وصعود البعض الآخر (أي وجوه جديدة) أكثر استعداداً للتعاون مع القسطنطينية في برامجها التنظيمي والتحديثي. رافق كل هذا تغيّرات إقتصادية (توسّع وزيادة التبادل مع الغرب) وتجارية ومالية (تضّخم) والعديد من المشاريع في عهد مدحت باشا وغيره مع تعاظم أهمية ضواحي المدينة (خاصة الغربية) خارج السور وتوسّع هذه الضواحي وزيادة عدد السكان.  

قامت الكاتبة باستقراء الوثائق والملفات وسجلّات المحاكم والتركات بغية إعطاء سائر الطبقات الإجتماعيّة بعض حقّها وجنت في هذا الصدد كميّة لا بأس بها من المعلومات عن الوضع الإقتصادي لعامّة الناس وكيفية إنتقال الثروة والعوامل التي تدخل في حسابات الزواج (العائلة والمهر) وما يمكن تسميته "علمنة الأسماء" (من الأسماء الدينية "محمد" وعبد" إلى "كمال" و"أديب" إلخ) ثم تناولت النواحي الثقافية فعن الكتب مثلاً كان من يملكونها قلّة وأغلب هؤلاء من علماء الدين وأما أكثرها تداولاً فهو بالطبع القرآن وتقول (ص 88) أن كتاب "مقامات الحريري" يضاهيه انتشاراً! العديد من المؤلّفات كانت لصوفيين من أمثال عبد الغني النابلسي وعبد القادر الجزائري وخالد النقشبندي. 


تعود التغيرات والتطورات التي طرأت على دمشق في النصف قرن السابق للحرب العظمى إذاً إلى الكثير من العوامل منها الإراديّة ومنها التراكمية ومنها الخارجيّة والداخلية ومنها الكبيرة والصغيرة وتبقى العوامل المحلّية والبيئية والعائلية (تغيّر مكان الإقامة والطبقات والمؤسسات والمواصلات والثقافة) بالغة الأهميّة والنتيجة النهائية ما هي إلّا ترجمة لجميع هذه العوامل.

ظهور وجوه جديدة و"نخب" جديدة أمر طبيعي ومتوقّع في أي مجتمع حركي dynamic  وتختم الأستاذة Hudson فتقول أن الأبحاث الحديثة توحي بأن اعتماد القيم المدنيّة والتعليميّة والوطنية كانت أفضل سلاح للإنسان لتعزيز مكانته في المجتمع social mobility في القرن العشرين. 

Friday, June 2, 2017

معالم دمشق التاريخية

المستشرق الفرنسي Jean Sauvaget غني عن التعريف والكتاب أو بالأحرى الكتيب الصادر عن المطبعة الكاثوليكية عام 1932 بعنوان Les Monuments Historiques de Damas والذي "تشرّف باشتراك قسم الآثار لإدارة المندوب السامي" هو أحد المساهمات العديدة لهذا العالم في التعريف بالتاريخ والحضارة والفنون السورية على مدى ثلاثين عاماً انتهت مع نهاية حياته القصيرة والغنية عام 1950 للميلاد. 


هدف الدراسة كما حدّده المؤلف هو تقديم لائحة بمعالم دمشق حسب تسلسلها الزمني مع شرح وجيز يضاف إليه لزيادة الإيضاح عدد اللزوم عدد لا بأس به من الخرائط والرسوم. الكتاب يخلو من الصور الفوتوغرافية لضيق الحيّز ويشجع المؤلف في هذا الصدد مراجعة كتاب دمشق الكلاسيكي للألمانييّن Watzinger & Wulzinger بشقّيه عن المدينة القديمة والمدينة الإسلامية. 

يبلغ عدد صفحات الكتاب حوالي 130 من القطع الصغير خصّص منها 11 صفحة لدمشق قبل الإسلام والباقي للمدينة الإسلامية. المعالم القديمة والبيزنطية المذكورة خمسة: الباب الشرقي ومعبد جوبيتر (أهمها) والقنوات الرومانية والباب الصغير أو باب الشاغور (وهو روماني أعيد بنائه في عهد الأتابك نور الدين) وكنيسة حنانيا. 

يحتل الجامع الأموي مركز الصدارة في دمشق الإسلامية وقد خصص له المؤلف 27 صفحة (أي حوالي ربع الكتاب إذا أضفنا إليها 5 صفحات عن معبد جوبيتر) وليس هذا بالكثير إذ كان الأموي ولا يزال أهم وأعرق أوابد دمشق على الإطلاق. يصف الكاتب الجامع ومكوناته ويتطرق لتاريخه وللنظريات المختلفة عن بنائه والكوارث التي أصابته وآخرها حريق 1893 ولترميمه على مر العصور. 


ينتقل الباحث بعدها إلى تحصينات دمشق أي سورها وأبراجها (برج نور الدين وبرج الصالح أيوب) وأبوابها وقلعتها ثم يبدأ بمعالمها -كما وعدنا حسب تسلسلها الزمني- بداية بضريح فاطمة في مقبرة الباب الصغير (لربما كان المعلم الوحيد الباقي من العهد الفاطمي) إلى ضريح صفوة الملك (سلجوقي) فالمعالم العديدة من العهود الأتابكية فالأيوبية فالمملوكية فالعثمانية من أضرحة وجوامع ومدارس وحمامات وبيمارستانات وهلمجرا. يتفاوت طول السرد حسب أهمية الصرح وكمية المعلومات المتوافرة عنه والتقييم الشخصي للمؤلف إذ خصص مثلاً ثلاث صفحات للتكية السليمانية وسبعاً لقصر العظم.

آخر 13 صفحة في الكتاب مكرسة لحي الصالحية مثوى الشيخ المتصوّف محي الدين إبن عربي ومعقل الآثار الأيّوبية في دمشق ومن أهمها جامع الحنابلة (مطلع القرن الثالث عشر) الذي يعتبره البعض نسخة مصغّرة للجامع الأموي والمدرسة الركنية وبقايا المدرسة الماردانية (الجسر الأبيض) وكثير غيرها. 

كتب السيد Sauvaget الكثير عن حلب الحبيبة وأترك هذه القصة لأبناء هذه المدينة العظيمة ومن هو خبير بها وبمعالمها.