Saturday, April 29, 2017

المعهد الدانمركي في دمشق وقصة بيت العقاد


لربما كان بيت العقاد أقدم بيوت دمشق على الإطلاق إذ يعود إلى القرن الخامس عشر للميلاد والعهد المملوكي. كما هو الحال في الكثير من "البيوت" الدمشقية الكبيرة هذه الدار أقرب إلى قصر منها إلى منزل للسكن وأيضاً كما هو الحال في كثير من قصور دمشق فقد بني بيت العقاد على عدة مراحل:
1. المرحلة الأولى بين أعوام 1450-1475 زمن المماليك.
2. بين 1747-1754.
3. بين 1759-1763 أي بعد زلزال 1759.
4. حوالي عام 1840 بعد دخول طراز الروكوكو العثماني إلى دمشق.
5. حوالي عام 1900 عندما جدده عبد القادر العقاد الذي ينسب البيت إليه.

توفي عبد القادر العقاد عام 1908 وتركت عائلته البيت عام 1947 عندما تحول الصرح إلى مدرسة زينب فواز للبنات وأضيف إليها مدرسة أحمد مريود للبنين حوالي عام 1973 وتم هجر المبنى عام 1976 وأصبح موطناً للنسيان ومرتعاً للجرذان.

صحن الدار قبل الترميم

كان المعهد الدنماركي يبحث عن موطن له في دمشق القديمة في تسعينات القرن العشرين ومن حسن الحظ أن اختياره وقع على هذا البيت العريق وجرى بالنتيجة اتفاق بين المعهد والجهات المسؤولة في سوريا أن يتكفل الدانماركيون بنفقات ترميم البناء وأن يتم هذا الترميم بمشاركة خبرات ومهارات محلية ودنماركية وبالمقابل يكون للمعهد ملء الحق أن يستعمل البيت كمقر له ولخبرائه من الأكاديميين والفنانين لفترة زمنية معينة. كان هدف الترميم المهني إظهار محاسن البيت بأمانة كما كانت تحت تقمصاته المتعددة خلال العصور قدر حدود الإمكان وقد حققوا هدفهم عام 2000 ونشروا تقريراً مسهباً عن تاريخ البيت وتفاصيل مكوناته وأعمال الترميم فيه في مجلد ضخم يباغ عدد صفحاته 440 بقياس حوالي 27 سم في 27 سم. صدر هذا السفر النفيس عام 2005 تحت إشراف السيد Peder Mortensen وتزينه مئات من الصور التاريخية والحديثة وعدد لا بأس به من المخططات والخرائط. 

صحن الدار بعد الترميم


لا تتسع هذه السطور القليلة لجولة في صحن البيت ولا لزيارة غرفه الكثيرة التي تنتمي إلى أزمنة وعهود مختلفة ولا لعرض تيهور من الصور الفنية. تكفي هنا الإشارة أن هذا البيت متحف كامل بكل ما في هذا من معنى وبالطبع ليس هو بالمتحف الوحيد في دمشق التي تحضن قصر أسعد باشا العظم وبيت خالد العظم وبيت نظام والمجلد وشامية وكثيرغيرها. نعم في دمشق كل هذا وأكثر ومع ذلك يبقى لبيت العقاد أهمية تتجاوز الدار بحد ذاتها كما سنرى. 

قاعة في بيت العقاد


لنبدأ بالتعرف على مكان البيت:  يقع هذا البناء التاريخي داخل سور دمشق القديمة على سوق الصوف جنوب الشارع المستقيم أو ما عرف سابقاً بسوق جقمق ويعرف حالياً بسوق مدحت باشا. يحده شمال الشارع المستقيم خان الزيت وخان جقمق ويجاوره غرباً بيت حورانية الذي لربما كان لا يقل عنه عراقةً وإن لم تقيض الأقدار له حتى الآن من يوفر له من الوقت والخبرة والمال والحب ما يكفي لنفض غبار الزمن والإهمال عن كنوزه الظاهرة منها والدفينة.

بيت العقاد رقم 24 وبيت حورانية 22

المسرح الروماني

عندما حزم المعهد الدانماركي أمره على اختيار بيت العقاد مقراً له وترميم هذا البيت لم يحلم القيمون عليه أنهم  في واقع الأمر كانوا يقفون على أنقاض المسرح الروماني في دمشق الذي ذكره مؤرخ القرن الأول للميلاد اليهودي Flavius Josephus ونسب أمر بنائه لملك يهوذا Herod the Great الذي حكم بين الأعوام 37 إلى 4 قبل الميلاد.

لم يكن وجود هذا المسرح مجهولاً لكثير من المستشرقين بما فيهم Watzinger & Wulzinger و Jean Sauvaget ولكن دون أي دليل مادي عليه إلى أن أثبتت الحفريات التي أجراها المعهد الدنماركي في أواخر تسعينات القرن العشرين خلال ترميم بيت العقاد وجود أطلال هذا المسرح تحت بيتي العقاد في الشرق وحورانية في الغرب.

إسقاط بيت العقاد على المسرح الروماني


تمركزت دمشق الرومانية بطبيعة الحال حول معبد جوبيتر الدمشقي (الجامع الأموي حالياً) وكانت المواكب الدينية والرسمية تنطلق من مدخله الرئيس في الشرق إلى الطريق المقدسة Via Sacra في القيمرية حالياً ثم تتجه جنوباً حتى تصل إلى الشارع المستقيم Via Recta أو decumanus كما سمي محور المدينة من الشرق إلى الغرب في عهد الرومان ومن ثم تنعطف غرباً حتى تصل إلى المسرح الواقع جنوب الشارع المستقيم بينما يقابله إلى شمال هذا الشارع حديقة محاطة بأروقة معمدة أو ما يدعى باللاتينية portico post scaenam وهي مربعة أو مستطيلة الشكل. 

الطريق المقدسة بين معبد جوبيتر والمسرح الروماني

قد يبدوا لنا للوهلة الأولى أن هناك إطالة لا مبرر لها (440 صفحة من القطع الكبير) في رواية قصة بيت واحد لمدينة تزهى بالكثير من القصور ولكن ليس بيت العقاد بالبيت العادي ولا حتى بالقصر العادي. كثيرة هي معالم دمشق التي لا تزال راقدة كالأميرة النائمة تنتظر قبلة أمير لتصحى من سباتها.




Tuesday, April 25, 2017

دمشق وتدمر

كتاب موزع بين مجلدين صدر عام 1838 للمؤلف Charles G. Addison وهو محام ورحالة بريطاني مات عام 1866. عنوان الكتاب "دمشق وتدمر" أو "رحلة إلى المشرق" ويهدف إلى وصف وضع سوريا في ثلاثينات القرن التاسع عشر أي تحت حكم إبراهيم باشا مع محاولة رسم صورة عن توجهاتها المستقبلية كما بدت وقتها للكاتب. يمكن قراءة الكتاب بالمجان على الرابط الملحق وقد أرفقت رابطاً مستقلاً للوحاته الملونة. 



المؤلف بريطاني قلباً وقالباً ويفخر بمجد وسؤدد الإمبراطورية التي ينتمي إليها وتفوقها على كل الأصعدة ولا غرابة في ذلك بعد أن كرست هزيمة نابوليون من جهة وقوة الأسطول البريطاني من جهة أخرى القرن التاسع عشر قرناً بريطانياً.  يترتب على ذلك أنه من الممكن أن يفتتن الأوروبيون الغربيون  بسحر الشرق ولكن تبفى نظرتهم إليه فوقية يمتزج فيها الفضول مع الشفقة مع الازدراء  مع الرغبة في تحسين أوضاع الشرقيين المساكين أو على الأقل إجهارالنية الحسنة بهدف المتاجرة فيها. 

يبدأ الكاتب رحلته في نيسان 1835 من جزيرة مالطا متجهاً إلى اليونان التي استقلت حديثاً عن العثمانيين وكانت لا تزال في حالة يرثى لها ومن ثم ينتقل إلى محطته التالية في آسيا الصغرى قلب الإمبراطورية العثمانية وعلى رأسها في ذلك الوقت السلطان المصلح محمود الثاني الذي قضى على الإنكشارية وأدخل الطربوش كبديل للعمامة في محاولة للحاق بركب التقدم عن طريق تغيير أشياء كثيرة بما فيها الأزياء وهنا لا يتردد الكاتب في السخرية من هذه الإصلاحات التي تناولت القشور وأهملت اللباب. 

المجلد الثاني هو بيت القصيد إذ يتناول رحلة السيد Addison إلى سوريا والتي بدأت من لبنان حيث قابل إبراهيم باشا والأمير بشير الشهابي ولم يفته التعرض للموارنة والدروز وقصة إعتناق الأمير بشير للمسيحية قبل أن يواصل رحلته إلى دمشق التي وصلها في 12 تشرين أول عام 1835.

تختلف دمشق النصف الأول من القرن التاسع عشر اختلافاً جذرياً عن دمشق اليوم. كانت المدينة وقتها لا تزال معزولة إلى حد كبير عن العالم الخارجي وبالتالي شرقية ومحافظة وعلى سبيل المثال لا يسمح للمسيحيين فيها بدخول الجامع الاموي ولا يباع القرآن للأجانب (عندما حاول الكاتب شراء نسخة طرده صاحب المكتبة شر طردة مع وابل من الشتائم واللعنات استمطرها على رأس "الكلب الكافر"). ومع ذلك فقد نجح Addison بعد جهد جهيد أن يقنع بوساطة قرينة القنصل البريطاني إحدى جميلات صبايا دمشق أن تقف بثيابها الزاهية كموديل للرسم مما أناح له وصفها ووصف الزي الذي ارتدته بتفصيل معقول. 

فتاة دمشقية


ينتقل المؤلف لوصف أسواق دمشق ذات المتاجر التي تفتقد إلى الواجهات (أي الفترينات)  وحماماتها التي تخصص في أيام وأوقات معينة للنساء والويل كل الويل لأي رجل يحول الدخول للحمام في هذه الأوقات تحت عقوبة الموت. عن بيوت دمشق يصف الكاتب منزل علي آغا خزنة كاتبي (يعرف حالياً ببيت نظام) الذي زاره وتعرف على صاحبه. بالطبع يتعرض Addison لمعالم دمشق خاصة ما له صلة مع التاريخ اليهودي والمسيحي وهو ذو إلمام لا بأس به أبداً بتاريخها القديم والإسلامي (يركز هنا على هزال المصادر اليونانية عن فتح سوريا وأن المعلومات المتداولة جميعها عملياً إسلامية المصدر خاصةً عن طريق الواقدي)  حتى حملة إبراهيم باشا ومن ثم دخول القنصل البريطاني Farren للمدينة عام 1833 للميلاد. 

سيدة دمشقية بقبقابها العالي

يقوم صاحبنا في خلال ترحاله بزيارة تدمر التي اكتشفها الإنجليز للمرة الأولى عام 1691 ويقارن بين عظمة ماضيها وجلال آثارها وبين تواضع البلدة المعاصرة التي عاينها ويشكك في رأي البعض أن اسمها Palmyra مشتق من النخيل Palm حيث أن مصدره إغريقي وليس لاتينياً. يضيف أن الكلمة السورية "تدمر" يقابلها Thadamoura حسب المؤرخ اليهودي Josephus في عهد الرومان.

يختم الكاتب بعدة صفحات يمكن النظر إليها كمحاولة منه "لتشخيص أمراض" سوريا واقتراح العلاج المناسب وهو هنا يدين بالطبع الإدارة العثمانية التي تخلفت عن ركب التقدم ولكنه يتشائم  بنفس الوقت من مستقبل سوريا في ظل إبراهيم باشا (وعامله في دمشق شريف باشا) وإمبراطورية محمد علي المتمركزة في مصر إذ في رأيه أن نجاح المصريين عسكرياً لا يعني بالضرورة رفاه البلاد إقتصادياً خاصةً عندما ترزح تحت الضرائب التي تمتصها إدارة مكلفة ومجهود حربي باهظ الثمن مما يفقد السكان وخصوصاً الفلاحين أي حافز للاستثمار في الأرض عندما لا يرون أملاً في تحسين حياتهم ومستقبل أطفالهم.




https://archive.org/details/damascusandpalm03addigoog

https://commons.wikimedia.org/wiki/Category:Damascus_and_Palmyra_(1838)_by_ADDISON

Saturday, April 22, 2017

ضواحي دمشق

لا يختلف إثنان على أهمية مدينة دمشق داخل السورمن النواحي التاريخية والعمرانية والفنية والإنسانية ولكن ماذا عن ضواحيها التاريخية التي عانت  من الإهمال والجهل  وقصر نظر (إن لم نقل جشع) سماسرة العقارات وما يسمى تجاوزاً "تنظيم المدينة" وهو في الحقيقة "تعليب مبهرج" لتدمير معالمها ونسيجها العمراني؟! 


كثير من محبي دمشق وحتى الأخصائيين من اعتقد أن هذه الضواحي كتب عليها الفناء وعلى سبيل المثال أسر السيد Michel Ecochard إلى الدكتور سامي عبد الحق بأنه ولشديد أسفه لا يؤمن بإمكانية إنقاذ هذه الضواحي وبالتالي فقد فضل أن يركز جهوده على حماية المدينة داخل السور. هذا الكتاب الصادر عام 2010 بالفرنسية والعربية عن المعهد الفرنسي للشرق الأدنى جاء في محاولة لإثبات العكس: أي أن هذه الضواحي ليست كيانات جامدة وإنما هي على العكس كانت ولا تزال تتطور وتتأقلم مع الظروف المتغيرة وأن إنقاذها كان ولا يزال في حدود الإمكان وقد قرن المؤلفون رأيهم بدراسة تقدم مقترحات لحلول واقعية وعملية مدعومة بعدد كبير من المخططات والخرائط والصورالمهنية ذات الدقة العالية.


الكتاب حوالي 400 صفحة بقياس 32 سم في 23 سم والمؤلفان السادة Yves Roujon و Luc Vilan وقد استغرق العمل بما فيه جمع المعطيات من قبل 150 من طلاب العمارة في "ورشة دمشق" في مدارس Versailles و Belleville حولي عشر سنوات.

للتوكيد وكما نرى في الخارطة اللاحقة المقصود بضواحي دمشق ضواحيها التاريخية أي الصالحية وسوق ساروجة (ويشمل العقيبة) والعمارة والقنوات والسويقة والميدان والشاغور. أضاف المؤلفان بهدف التنظيم والتبويب "ضاحية ثامنة" هي "أحياء بردى" الواقعة شمال المدينة القديمة داخل السور والمتاخمة للعمارة وساروجة. 


يتناول المؤلفان الأحياء أو بالأحرى الضواحي الواحد بعد الآخر بشكل منهجي ونقطة البداية هي خريطة المسح العقاري التي رسمت في ثلاثينات القرن العشرين زمن الإنتداب الفرنسي ومن ثم يتقصيان الطرق والمقاسم والآثار وبعض البيوت وهنا التركيز على بيوت عادية نمطية للشام القديمة وليس القصور التي تسمى تجاوزاً بيوتاً كبيوت نظام والسباعي والمجلد وهلمجرا. بعد البيوت نأتي إلى الأماكن العامة كالساحات والمقابر كل هذا مزين بمجموعة من الصور البديعة الملونة.

الصالحية

يختم الكاتبان كل فصل بعرض لوضعه الراهن (أي في العقد الأول للقرن الحادي والعشرين) ومن ثم يقدمان مقترحات لما يتحتم الحفاظ عليه وما يمكن التضحية به وما يمكن تطويره. منهج رائع وطرح منطقي يمكن تعميمه على الكثير من المدن السورية والمجاورة لسوريا. 

سباط في سوق ساروجة

بعض الملاحظات السريعة: أولاً ليست كل الضواحي مهددة بنفس الدرجة فعلى سبيل المثال سوق ساروجة عانى أكثر من غيره من "غزوات وفتوحات" تجار العقارات و"منظمي" المدينة. ثانياً هناك خصائص مشتركة تجمع هذه الأحياء ولكن يتميز البعض منها عن البعض الآخر بمزايا معينة فمثلاً بعض الأحياء يغلب عليها الطابع التجاري وبعضها السكني. الصالحية تقع على سفح قاسيون وتتبع أبنيتها تضاريس انحداره وتكثر فيها المعالم الأيوبية بينما يقع الميدان على أرض مستوية ويزخر بالآثار المملوكية علاوة على بايكاته (جمع بايكة) المشهورة. 

العمارة في اتجاه شارع بغداد

يقوم المؤلفان في نهاية الكتاب بتجميع المعطيات من مختلف الضواحي لبناء مخطط ورؤية مستقبلية شاملة ومتفائلة تميز بين المدينة داخل السور وضواحيها التاريخية موضوع البحث والمدينة الحديثة.

جامع التيروزي في السويقة ويفصل الشارع حرم الصلاة والضريح عن المئذنة

بدت الأمور هكذا أو كادت عام 2010 ولا حاجة للتذكير بالأحداث الأليمة التي بدأت بعد نشر الكتاب بعام واحد لا أكثر ناهيك عن الدخول فيها.

كنيسة رقاد السيدة العذراء في الميدان


Friday, April 21, 2017

مدن سلاطين مصر الثلاثة: القاهرة والقدس ودمشق

المؤلف هو المستشرق الإنجليزي David Samuel Margoliouth 1858-1940 والكتاب مجلد يبلغ عدد صفحاته 470 ونيف تزينه عشرات من اللوحات الملونة الرائعة للفنان Tyrwhitt وعام النشر 1907 للميلاد. أهدى الكاتب عمله لسمو الأميرة نازلي 1853-1913 حفيدة ابراهيم باشا قاهر الوهابيين وإبن محمد علي باشا الذي يعتبره الكثيرون باني مصر الحديثة. 


ثلثا صفحات الكتاب مخصص للقاهرة وليس في ذلك غرابة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن صعود العاصمة المصرية تزامن مع عهود الانحطاط العباسية وتراجع مكانة بغداد على رأس العالم الإسلامي. يرجع فضل التصدي للمغول بالدرجة الأولى لمصر والقاهرة التي أصبحت العاصمة الغربية للإسلام في عهد المماليك إلى أن انتقل مركز الثقل مجدداً إلى القسطنطينية في العهد العثماني.

تحتل المدينة موقعاً استراتيجياً على نهر النيل وقبل تفرعه إلى منطقة الدلتا ولكنها ليست أول عاصمة إسلامية في مصر إذ تعود الأسبقية إلى الفسطاط التي بنيت في القرن السابع للميلاد وتلتها القطائع في القرن التاسع وعهد إبن طولون. بالطبع لا يبعد هذان الموقعان -شأنهما في ذلك شأن ممفيس الفرعونية- عن قاهرة المعز لدين الله الفاطمي كثيراً ويعزى الفضل لهذا الأخير وعامله جوهر الصقلي في وضع حجر أساس المدينة العظيمة. 

للتبسيط يقسم Margoliouth تاريخ القاهرة إلى خمسة عهود: الفاطمي ثم الأيوبي ثم المملوكي ثم التركي (يقصد العثماني) وأخيراً "الخديوي" ويعتبر الخديوي إسماعيل 1830-1895 مؤسس عاصمة مصر الحديثة التي كانت لا تزال من الناحية النظرية والقانونية في أواخر القرن التاسع عشر جزأً من الإمبراطورية العثمانية وإن كانت في واقع الأمر محمية للإمبراطورية البريطانية.

احد شوارع القاهرة


الجزء الثاني في الكتاب وهو أصغرالثلاثة مخصص للقدس ويتعرض الكاتب بالطبع لسليمان وداود والهيكل التوراتي قبل أن ينتقل للعهود الإسلامية ومن ثم الصليبية وصولاً إلى العثمانية ويتطرق في الختام إلى تعريف سريع بالحركة الصهيونية والهجرة اليهودية فراراً من الإضطهاد الديني ويسمي هذه العملية "غزو أوروبي سلمي" bloodless invasion from Europe بالطبع الكتاب صدر قبل عشر سنوات من تصريح بلفور وقبل السفر برلك والانتداب البريطاني الذي تلاه.

الحرم الشريف

تحتل مدينة دمشق القسم الأخير من الكتاب ولا يبدوا أن الكاتب قد تأثر كثيراً بتغني اللرواة عبر العصور في محاسنها فهو يعزو وصفهم إلى التناقض الذي يشاهده الرحالة الشرقيون بين خضرتها ومياهها من جهة وبين الصحراء المجدبة المحيطة بها من جهة أخرى ومن المفهوم أن هكذا تناقض ليس كافياً لفتنة الأوروبيين -الشماليين الغربيين بالذات- المحاطين بالطبيعة الخصبة والأنهار الغزيرة من كل حدب وصوب منذ نعومة أظفارهم. 

بالنسبة لمعالم المدينة لم يجد الكاتب من الأبنية ما يشد انتباهه باستثناء الجامع الأموي الذي كان لا يزال في "طور النقاهة" إذا جاز هذا التعبير من حريق عام 1893 أما عن القلعة فقد لاحظ أنها مهيبة المنظلر عن بعد ولكنها متداعية من الداخل. تلى ذلك وصف مبتسر لأنهار المدينة ومعابدها ومدافنها وخاناتها وحماماتها قبل أن ينتقل إلى ما يمكن اعتباره بيت القصيد في هذا السرد أو ما أسماه "بمشاهد من تاريخ دمشق" وقد اختار من تاريخها الطويل أربعة أحداث.

بردى وسور دمشق

المشهد الأول يتعرض لدخول العرب المسلمين إلى المدينة عام 634 للميلاد بقيادة خالد إبن الوليد وأبو عبيدة إبن الجراح استناداً إلى الواقدي والطبري وكيف نهب جنود خالد وذبحوا عندما أخذوا المدينة عنوة من الشرق بينما أخذها أبو عبيدة سلماً من الغرب.

المشهد الثاني عن استيلاء هولاكو على المدينة عام 1260 وكيف منح المسيحيين فيها حمايته مما نجم عنه -حسب المؤرخين المسلمين- أنهم تجاسروا علع شرب الخمور علانية حتى في رمضان بل صبوها على ثياب المسلمين وأبواب مساجدهم وهلمجرا. أجبر المغول بعد هزيمتهم في عين جالوت على الإنسحاب من دمشق بعد احتلال دام سبعة أشهر وعندها صب مسلمو المدينة جام غضبهم على مسيحييها ونهبوا وقتلوا وطال انتقامهم أيضاً يهود دمشق. 

المشهد الثالث يحدثنا عن نهب وتدمير دمشق على يد تيمور الأعرج أو تيمورلنك عام 1400 و من المعروف أن الفيلسوف العظيم إبن خلدون كان أحد شهود عيان هذه المأساة.

المشهد الرابع وخاتمة الكتاب يفصل في مجزرة 1860 وهنا لا يتردد المؤلف في إلقاء المسؤولية كاملة على الوالي أحمد باشا والذي "لم يشهد تاريخ تركيا نذلاً أحقر وأخبث وأمكر منه". حسب إدعاء Margoliouth تسبب الوالي في المذبحة عمداً وعن سبق الإصرار عندما أصدر أمره بتوقيف ثلاثة من شباب المسلمين الذين أهانوا الصليب علانية ثم أمر بتكبيلهم بالقيود وسوقهم مخفورين إلى الحي المسيحي وبنفس الوقت أوعز لأزلامه بنشر الشائعات بين المسلمين أن الفتية سيصبحون عبيداً للمسيحيين عقاباً على إهانة الصليب. عندما سمع العوام ذلك تصاعدت الصيحات تطالب "بالدفاع عن دين محمد ضد النصارى الكفار" وجرى ما جرى. 

دور الأمير عبد القادر الجزائري في هذه المأساة معروف وتتفق كل الأطراف على أنه كان مشرفاً ونبيلاً ولكن الكلمات التي وضعها Margoliouth في فم بطل الشرق والغرب عندما جابه الحشود التي مسها السعار غريبة إن لم نقل أنها منافية للعقل "اذهبوا من هنا يا كلاب المسلمين ويا حثالة البشرية! أهكذا تعزون نبيكم وتنفذون تعاليمه يا أخس الكفار؟....اذهبوا وإلا ما أعدت سيفي إلى غمده قبل أن أشبعه من دمائكم....ستندمون عندما يأتي الإفرنج للانتقام من الأذى الذي ألحقتموه بهؤلاء المسيحيين وعندما يحولون جوامعكم إلى كنائس ويجعلونكم عبرة لمن اعتبر..."

لا داعي للدخول في مصداقية الكاتب الذي يتهمه كثيرون بالانحياز ضد الإسلام ولكن تجدر الإشارة أن مؤلفاته عن الإسلام ظلت لفترة طويلة المعيار (على الأقل حتى منتصف القرن العشرين) والمرجع الأساسي في هذا الصدد لدى الغربيين وأنه كان ضليعاً بعدة لغات: العربية والعبرية والسريانية والفارسية والتركية والأرمنية.  لا يحتاج القارىْ أن يوافق على آراء المؤلف كي يستمتع بالصور والنص كوجهة نظر عند اللزوم ليس إلا.



الرابط الملحق لمن يريد قراءة النص الكامل من قلم الكاتب.

https://books.google.com/books?id=UgFLAQAAIAAJ&printsec=frontcover&source=gbs_ge_summary_r&cad=0#v=onepage&q&f=false

Wednesday, April 19, 2017

عندما كانت دمشق عاصمة الإقليم الشمالي

صدر كتاب "مصور الإقليم السوري" عن المديرية العامة للدعاية والأنباء في دمشق وتولى السيد سليم ديراني إخراجه من الناحية الفنية. عدد صفحاته 220 بقياس 33 سم في 25 سم ونوعية الورق شأنها شأن غلاف الكتاب جيدة جداً إذ من الولضح أن هدف الناشر إظهار سوريا الوحدة في أبهى حلة. يمكن قراءة الكتاب في أمسية فهو عبارة عن مقدمة عربية تتلوها مقدمة إنجليزية ومن ثم مئات من الصور معظمها بالأبيض والأسود وبعضها ملون ويذيل كل صورة شرح مختصر بالعربية مع ترجمة بالإنجليزية. 


الفصل الأول يعرف القراء بالمدن السورية. يبلغ إجمالي عدد سكان الإقليم 4.5 مليون نسمة وأكبر المدن حلب بتعداد 700000 ثم دمشق 500000 وحمص 135000 فحماة 100000 فدير الزور 74000 فاللاذقية 52000 فالحسكة 21000 فدرعا 18000 فالسويداء 16000. هناك تقديم سريع لكل مدينة يرافقه بعض الصور الجميلة عن معالمها ومبانيها.


يتعرض المؤلف أو المؤلفون للإقتصاد السوري وتطوره السريع منذ الاستقلال حتى الوحدة على مختلف الأصعدة زراعياً وصناعياً وتجارياً وعلى سبيل المثال بلغ عدد مصارف سوريا العربية والأجنبية 20 برأس مال 495 مليون ليرة ولها 75 فرعاً في مختلف المدن السورية. خصص حيز لا بأس به لمعرض دمشق الدولي ولأماكن السياحة ذات الطبيعة الخلابة علاوة على المعالم الأثرية  في سوريا وما أكثرها وركز الكتاب على النهضة العمرانية. 


بالنسبة للتعليم العالي فقد بلغ عدد طلاب جامعة دمشق وقتها 10220 أما في المرحلة الثانوية فلدينا 66196 طالب وطالبة و 3462 مدرس ومدرسة ناهيك عن المدارس الصناعية والتجارية. على الصعيد الفني لم يفت على المؤلفين ذكر الحرف السورية والصناعات اليدوية والمتاحف وإضافة إلى ذلك تزين الكتاب عدة لوحات لفناني سوريا وقتها وعلى سبيل المثال "ذات الزنار الأحمر" للفنان ألفريد بخاش عام 1954. 

ذات الزنار الأحمر ألفريد بخاش
ملكت سوريا وقتها 26 مشفى عام و48 مشفى خاص وبلغ عدد أطبائها 966 ولا أدري مدى دقة هذه الأرقام إذ يصعب القبول أن بلداً يبلغ عدد سكانه 4.5 مليون لديه أقل من ألف طبيب. بالطبع الرعاية الصحية ليست وقفاً على الأطباء والمشافي فهناك المستوصفات والتمريض والوقاية. 

بعد استعراض النشاطات الرياضية والكشفية والموسيقية والحياة الليلية نأتي إلى القوات المسلحة ويتصدر هذا الفصل تنويه ببطل ميسلون يوسف العظمة ثم عدنان المالكي الذي "برز بشجاعته الفائقة في حرب فلسطين" و"استشهد في الملعب البلدي بدمشق عام 1955 على يد بعض عملاء حلف بغداد". يلي ذلك عدد من الصور عن الجيش السوري بفروعه البرية والجوية والبحرية. 

تشغل آخر صفحة في الكتاب صورة لمبنى التلفزيون في دمشق ويذكر التعليق أن البث فيه بدأ في عيد الثورة 23 يوليو تموز 1960 ويطل البناء على دمشق من قاسيون وبرامجه تقارب الخمس ساعات يومياً. 


Saturday, April 15, 2017

لؤلؤة الشرق

أصبح الضعف المتزايد للإمراطورية العثمانية واضحاً للعيان مع نهاية القرن الثامن عشر وحملة نابوليون إلى مصر وسوريا ومع حلول القرن التاسع عشر تسارع التدخل الأوروبي وأخذ أشكالاً متعددة اقتصادية وثقافية ودينية وسياسية. من الأوروبيين من قصد الشرق الأدنى كتجار ومستثمرين وعسكر ومنهم من أتى إليه كمبشرين ومعلمين وأما عن نواياهم فتفاوتت بين نفعية بحتة إلى مثالية خالصة وعل مآرب الأغلبية كانت خليطاً بنسبة متفاوتة بين النقيضين.


تبلغ عدد صفحات هذا الكتيب 90 يضاف إليها 21 صورة تاريخية بعضها للمؤلفة وبعضها الآخر من مصادر مختلفة. الناشر هو البعثة التبشيرية البريطانية وسنة النشر 1920 للميلاد أما عن الكاتبة Edith Hutcheon فلم أنجح في الحصول على أي معلومات تستحق الذكر.


يجب التنويه أن هذا العمل مكتوب ليس فقط من وجهة نظرمسيحية تبشيرية وإنما أيضاً أوروبية وخصوصاً بريطانية واثقة من تفوق الغرب وحضارته وقيمه على الشرق عموماً والإسلام خصوصاً. يبقى هذا الغرب المنتصر مع ذلك مفتوناً بغموض هذا الشرق ومسلماً بأسبقيته الدينية ومكانته كمهد للديانات التوحيدية علاوة على عراقته التاريخية ويمكن هنا الإستشهاد بالمحترم Reverend J Kelman مؤلف كتاب "من دمشق إلى تدمر" الصادر عام 1908 إذ قال "تستطيع حجارة دمشق لو قدرت على الكلام أن تروي قصة العالم أكثر من أي مكان آخر". 

تقدم المؤلفة لمحة تاريخية وجيزة عن المدينة تركز على تراثها المسيحي وتؤكد نقلاً عن المستشرق Margoliouth 1858-1940 أنه عندما دخل المسلمون دمشق في القرن السابع للميلاد وجدوا أهلها متمسكين بديانة آبائهم (المسيحية) ولم يعتنق أياً منهم دين الإسلام باستثناء عائلة واحدة ليس إلا ومن ثم تتطرق إلى موضوعين عزيزين على قلوب الغربيين الأول إضطهاد المسيحيين في الشرق على مر العصور (وبالطبع في هذا على الأقل بعض من الصحة) والثاني المكانة المتدنية للمرأة في العالم الإسلامي وكيف لا يسمح لها بالمشاركة بصلاة الجماعة في الجامع الأموي وكيف تحرم من التعليم ولا يسمح لها أن تسفر عن وجهها وهلمجرا. 

الصورة الأولى لمصلين في الجامع الأموي والثانية لسيدات دمشقيات في زي الخروج أما الثالثة فلسبيل مياه في دمشق

تعكس أغلبية فصول الكتاب وضع دمشق قبيل الحرب العالمية الأولى أو الحرب العظمى إذ تقدر الكاتبة عدد سكانها بحوالي 400 ألف نسمة معظمهم من المسلمين وإن كانت "الأرض العذراء" فيما يتعلق بالرسالة المسيحية تبشر بحصاد واعد. عدد اليهود قدر بحوالي 10 آلاف و"مسيحيي الكنائس الشرقية" 20 الفاً وهناك بضع مئات من الدروز. 

لم تغفل الكاتبة التعليق على البيوت الدمشقية المتواضعة المظهر من الخارج بينما يرى الزائر داخلها منظراً أشبه ما يكون بألف ليلة وليلة ولكن ما شد انتباهها بالذات أطفال دمشق المتلهفين لتعلم الإنجيل الذي منعهم عنه أهلهم. اخترت بعض صور الأطفال وجميعها بالطبع تعود إلى مطلع القرن الماضي.


أطفال دمشقيون مسيحيون من صف الحضانة في مدرسة القديس بولس

الصورة العليا لمدرسة القديس بولس والسفلى لمدرسة فرانسيس بينتر في دمشق


اطفال دمشق يتعلمون الأبجدية


اطفال حي الميدان يقومون بكنس صحن مدرستهم

أما أن دمشق -شأنها شأن أي بلد في حالة حرب-  قد عانت خلال ما سمي وقتها بالسفر برلك فهذا لا جدال فيه ولكن مزاعم المؤلفة على الأغلب مبالغ فيها إلى أقصى الحدود إذ قالت أن 120 ألفاً من سكان المدينة ماتوا خلال عامين من المجاعة والحروب والوباء وتتباكى أن هذه المآسي جرت في أرض غنية وبالطبع قامت بإلقاء اللوم على الحكم العثماني وحلفائه الألمان وتخيلت عظام الشهداء من نساء وأطفال سوريا تستصرخ السماء وإنجلترا "حامية الضعفاء" والتي تحارب نيابة عن "الحضارة والإنسانية" أن تأتي لنجدة الدمشقيين المنكوبين. 

ما كان للجنرال Allenby أن يتقاعس عن تلبية نداء السوريين كما تصورته السيدة Hutcheon إذ نجح هذا القائد العبقري رغم محدودية إمكانياته -أو هكذا زعمت المؤلفة- بطرد الأتراك والألمان المكروهين من دمشق في خريف عام 1918 واستقبل أهل المدينة  الذين غمرهم الفرح إلى درجة النشوة  الجنود البريطانيين استقبال الأبطال وهرعت الوفود زرافات زرافات لتهنئة الغازي الإنجليزي والتسبيح بحمده والتنويه بمآثره ومناقبه.

تختم المؤلفة الشديدة التقى والورع كتابها بالقول أن هذا الإنجاز الذي حققه البريطانيون في ساحات الوغى قد نفض غبار العهود عن المدينة وفتح إمكانيات جديدة للمبشرين وتختم مستشهدة باقتباس شهيرعن المزمور 145 مكتوب باليونانية على الجدار الجنوبي للجامع الأموي وتحديداً على ساكف بوابة المعبد عندما كان كنيسة:

"ملكك أيها المسيح ملك كل الدهور وسلطانك في كل دور فدور".


Tuesday, April 11, 2017

مرآة دمشق

من المؤسف أن العديد من أجمل المؤلفات عن دمشق كتبها أجانب تعلقوا فيها كأهلها أو كادوا. الكاتب Colin Thubron روائي إنجليزي من مواليد عام 1939 وشائت الأقدار أن يكون كتابه عن دمشق أول أعماله في مؤلفات الترحال وأول كتاب من هذا النوع عن المدينة بعد انقطاع تجاوزالنصف قرن من الزمن. 



زار السيد Thubron دمشق للمرة الأولى عام 1962 وأقام فيها لفترة انتهت عام 1966 أما الكتاب فقد صدر في 1967 ومن الواضح أن المؤلف ملم بتاريخ المدينة ومطلع على الكثير مما كتب عنها في الأدب الأوروبي خاصة باللغتين الإنجليزية والفرنسية ومع ذلك فقد أكد بكل تواضع ودماثة في مقدمة كتابه (والذي لا يخلوا من بعض الأخطاء والهنات) أنه لا يهدف إلى إضافة معلومات جديدة أو سد ثغرات وأن عمله بالأحرى بدأ كوصف وتأريخ قبل أن يتخذ طابعاً شخصياً وأنه بكل بساطة "a work of love" يعكس حبه للمدينة. 

لم يزر الكاتب دمشق كملك أو أمير لا بل ولا حتى كأكاديمي. كان وقتها شاباً لم يبلغ عمره الثلاثين وكانت تنقلاته على قدميه أو بواسطة دراجته مع الإستعانة ببعض الأدلة المحليين أما عن إقامته فكانت لدى عائلة مسيحية تقطن في جوار الشارع المستقيم: الياس وأم طوني. رغم تواضع وسائله نجح الكاتب في زيارة العديد من معالم المدينة والمنطقة المحيطة بها وكانت أحد أهم الصعوبات التي واجهها لغوية فلغته العربية كانت محدودة وكذلك الوضع فيما يتعلق بإلمام الدمشقيين الذين احتك معهم في اللغات الأجنبية ولا عجب فقد كانوا من الطبقى الوسطى الأقل يسراً في مدينة لا تزال محافظة ومعزولة نسبياً عن العالم الخارجي. 



يتعرض الكاتب بتفصيل لا بأس به أبداً إلى تاريخ المدينة من أقدم العهود وصولاً إلى المشهد المعاصر وآخر حدث دونه كان الإنقلاب الذي أطاح بأمين الحافظ في شباط 1966 وأما عن معالم دمشق فقد وصفها بإيجاز ولكن بدقة معقولة بالنسبة لحجم الكتاب ونستطيع وصف أسلوبه دون مبالغة بالمختصر المفيد والسهل الممتنع الذي ربط الأوابد بالأحداث والأشخاص معتمداً على المراجع التي قرأها والمواقع التي زارها وعاينها. لاحظ أحد الظرفاء اهتمامه بالأضرحة فسأله: "أراك تتأمل القبور باستمرار ألا يموت الناس في لندن؟" تزين الكتاب مجموعة صغيرة ولكنها رائعة من الصور بالأبيض والأسود والتي لا يتسع المجال لتحميلها هنا وآمل أن أفعل ذلك مستقبلاً بالتدريج مع تقديم موجز. 


علاوة على وصف المدينة ومحيطها لم يغفل الكاتب وصف سكانها وكان لا مناص له كأديب أن يطري جمال نسائها وقد أعجب خصوصاً باليهوديات وأما بالنسبة للملثمات فقد ارتأى أن الحجاب يزيد في إغرائهن. بالنسبة للتوزيع الطائفي فقد قدرعدد يهود دمشق بحوالي أربعة آلاف (بينما كان عددهم أربع عشر ألفاً عام 1947) والمسيحيين 65 ألف أو 10% من سكان المدينة أما عن الدروز فبلغ عددهم 16 ألف ونعتهم "بأجمل أهل دمشق" وهنا أضاف بعض "المعلومات" التي استقاها من الشائعات المحلية من نوع أنهم يعبدون العجل الذهبي وأنهم يصلون للأبقار ولم يفته أن يذكر بعض الأساطير عن أصولهم وعلى سبيل المثال جدهم الأكبر المزعوم Comte de Dreux وغيره.



خلاصة الكلام الكتاب ممتع للغاية ولغته يسيرة المتناول أقرب إلى السرد القصصي وأبعد ما يكون عن المصطلحات والتعابير الأكاديمية الجافة والتقعر في الكلام. يبقى هذا العمل جديراً بالترجمة رغم انقضاء نصف قرن من الزمن على نشره. 


Saturday, April 8, 2017

دمشق من البدايات حتى سقوط المدينة بيد الآشوريين عام 732 قبل الميلاد

المؤلف Wayne T Pitard حائز على دكتوراه من جامعة هرفارد ولدى صدور الكتاب عام 1987 كان معلماً للدراسات الدينية في جامعة Illinois في الولايات المتحدة. يركز البحث على المصادر الكتابية وهي كما سنرى محدودة للغاية للفترة قيد الدرلسة. 


يبدأ الكاتب بتعريف جغرافي للمدينة والمنطقة المحيطة بها وعلى اعتبار أن التنقيب تحت المدينة الحالية شديد الصعوبة وباهظ الكلفة لجأ علماء الآثار إلى سبر التلال المحيطة بها كتل الصالحية وتل أسود وغيرها في محاولة منهم لرسم الخطوط العريضة لملامح دمشق عن طريق استقراء معطيات هذه التلال ومقارنتها وتعميمها في حدود الممكن.

أهم مناطق الحفريات في محيط دمشق من العصر الحجري القديم إلى العصر البرونزي المتوسط

فيما يتعلق بالمدينة القديمة نفسها لاحظ المستشرقان الألمانيان Watzinger و Wulzinger وجود تل اصطناعي قرب مركزها والذي قام فوق أنقاض قصر الملك أنطيوخوس التاسع (116-96 قبل الميلاد حسب Sauvaget. أضاف هذا الأخير أن هذا المكان يوافق "البريص" وأن القصر الهلنستي حل محل آخر فارسي قبله والذي بني بدوره على بقايا قصور الملوك الآراميين. 

التل الاصطناعي حوالي 200 متر جنوب الجامع الأموي حسب فالسنجر وفاتسنجر

المصادر الرئيسة للكتاب ثلاثة: مصرية وآشورية وتوراتية (بالأحرى من الكتاب المقدس) وهي بطبيعة الحال محدودة ومتقطعة لا بل وأحياناً متناقضة. بالنسبة للألف الثاني قبل الميلاد عرفت المنطقة المخيطة بدمشق باسم Apu أو Apum وأما بالألف الأول فقد أصبحت التسمية آرام. كان اهتمام الكثير من المصادر قبل هذا الكتاب بمدينة دمشق عائد إلى المكان البارز لها في الكتب المقدسة اليهودية والمسيحية ومن هنا الخلط بين التاريخ الموثق وسير الرواة وقد حاول الكاتب جهده أن يفرق بين الإثنين ولكنه اضطر في عدة مواضع أن يلجأ إلى نصوص العهد القديم ومقارنتها قدر الإمكان مع بقية المصادر والتي لم تخل بالطبع من المبالغات والمغالطات. تجدر هنا الإشارة أن Pettinato قال أن دمشق مذكورة بلوحات إيبلا تل مرديخ من الألف الثالث قبل الميلاد ولكن هذه اللوحات لم تكن منشورة لدى صدور الكتاب. 

كان الظهور الأول لمدينة دمشق بهذا الإسم على مسرح التاريخ على لائحة المدن التي غزاها الفرعون تحوتمس الثالث (1479-1425 قبل الميلاد) كما دونت على جدران معبد الكرنك في الأقصر وكان هذا بعد أن هزم هذا الملك ائتلافاً آسيوياً في معركة Megiddo عام 1457. الظهور الثاني كان في عهد أمنحتب الثالث (1391-1353) في مدفن ومعبد له في طيبة كإحدى المدن ضمن منطقة نفوذ مصروهناك ذكر لها في بعض رسائل العمارنة. علاوة على ما سبق تم اكتشاف رسالة من أحد فراعنة مصر خلال حفريات جنوب وادي البقاع في لبنان عام 1969 للميلاد يأمر فيه العاهل المصري ملك دمشق Zalaia أن يرسل عدداً من الناس إلى مصر بهدف توطينهم في النوبة.

باختصار كانت دمشق محدودة الأهمية وقتها وكل ما نعرفه عنها أنها كانت موجودة وأن لها "ملكاً" يدبر أمورها وأن ولائها كان لمصر وأنها كانت حقلاً للصراع بين الإمبراطوريات المجاورة كالمصرية والحثية. 

بعد فترة إنتقالية طويلة نسبياً يظهر الآراميون وتظهر دمشق من جديد في عهد الملك داود (حوالي العام 1000 قبل الميلاد) ولا يوجد هنا مصادر باستثناء الكتاب المقدس وتحديداً أسفار الملوك وأخبار الأيام واللذان يعلماننا أن داود استولى على المدينة إلى أن تمردت في عهد سليمان. الإنطباع هنا أن إسرائيل قوية وآرام ضعيفة ولكن صعود المملكة الآرامية بدأ بعد موت سليمان إلى أن أصبحت عاصمة أقوى دولة في غرب سوريا في منتصف القرن التاسع قبل الميلاد وهنا تتقاطع المصادر الدينية مع الكتابات الآشورية مع التوكيد أن كافة هذه المصادر دون إستثناء خارجية. 

آرام دمشق في منتصف القرن التاسع قبل الميلاد


شهد القرن التاسع حملات آشورية متكررة ضد سوريا تصدى لها إئتلاف من عديد من الدويلات أهمها دمشق (آرام دمشق) وحماة وإسرائيل ولكن هذا الإتلاف تفكك بالنتيجة إذ تدهورت العلاقة بين دمشق تحت ملكها Hazael وإسرائيل وتصالحت حماة مع آشور وبالنتيجة اضطرت دمشق أن تواجه الآشوريين وشلمنصر الثالث وحيدة وقام هذا الأخير في إحدى حملاته بتطويق المدينة وقطع الأشجار المحيطة بها. شهد عهد Hazael من 842 إلى 796 قبل الميلاد أوج قوة آرام دمشق التي توسعت على حساب إسرائيل والتي أصبحت تابعة لها أما آخر حملات شلمنصر الثالث ضد دمشق فكانت عام 837 قبل الميلاد. 

آرام دمشق تحت حكم هازائيل أي أقصى إتساع لها


نجح أداد نيراري الثالث بفرض الجزية على دمشق عام 796 واستمر الآشوريون بالضغط باتجاه الشرق وحاولت دمشق التصدي لهم بمشاركة إسرائيل بينما مالت يهوذا للتعاون مع غزاة الشرق وبالنتيجة تعلمنا النصوص الآشورية أن المدينة سقطت على يد تغلات فلاصر الثالث عام 732 قبل الميلاد.

آخر ملوك دمشق الآراميين



Tuesday, April 4, 2017

معبد دمشق من كنيسة يوحنا المعمدان إلى جامع بني أمية الكبير

يعزوا المؤرخون إلى الإمبراطور ثيودوسيوس (379-395) تحويل معبد جوبيتر الدمشقي إلى كنيسة مسيحية ويجمع الرواة العرب أن الوليد ابن عبد الملك سادس خلفاء بني أمية أمر بهدم هذه الكتبسة عام 705 للميلاد وبناء الجامع الأموي في مكانها والذي أنجز عام 715. إذا أخذنا بالحسبان أن المسلمين دخلوا دمشق عام 634 فالسؤال المنطقي هو التالي: ماذا عن المعبد خلال العقود السبعة التي تفصل بين التاريخين؟

الرواية الأكثر تداولاً تقول استناداً إلى تفسير معين لإبن عساكر (1105-1176) أنه لدى دخول دمشق جرى اتفاق بين الوافدين العرب وسكان المدينة تم بموجبه اقتسام الكنيسة إلى قسمين شرقي للمسلمين سمي مسجد الصحابة وغربي للمسيحيين ويدخل المصلون إلى الحرم من الجنوب ومن ثم يتجه المسلمون إلى اليمين والمسيحيون إلى الشمال.

لعل أفضل ما كتب في هذا الصدد تفسير المؤرخ البريطاني Creswell أخصائي العمارة الإسلامية (ولد 1879 وتوفي 1974) وصاحب أهم مرجع لبواكير هذه العمارة: Early Muslim Architecture والذي نشر على مرحلتين عام 1932 ثم 1940 ومن ثم جرى نشر "موجز" له لا يزيد عن 330 صفحة عام 1958. يتناول هذا الكتاب العمارة الإسلامية من منتصف القرن السابع إلى أواخر القرن التاسع للميلاد.




منهج Creswell يتلخص في مقدمة تاريخية سريعة يتبعها وصف مفصل للبناء من الناحية الهندسية والفنية مع مراعاة تمييز الأصل عن الإضافات اللاحقة ومن ثم مراجعة وصف الرواة للأثر قيد البحث ومقارنته مع الموجودات الملموسة. كثير من الآثار التي تعرض لها درست ومعظم ما تبقى تغير كثيراً منذ إنشائه سواء كان ذلك نتيجة للترميم أو التوسيع أو التغيير المتعمد. بالنسبة لسيرة المؤلف يمكن الرجوع إلى الصورة المرفقة التالية.


تبدوا رواية اقتسام الجامع للوهلة الأولى منطقية إذ كانت سوريا وقتها غنية بالأوابد التي شارك فبها المسلمون أو استحوذوا عليها وهنا تجدر الإشارة أنهم لم يجشموا أنفسهم عناء بناء مدن جديدة في بلاد الشام على عكس ما حدث في العراق الذي شهد نشأة عدد من المدن الإسلامية بداية من البصرة والكوفة وواسط إلى بغداد وسامراء ومع ذلك فقد رفض Lammens هذا الزعم الذي عزاه إلى اختلاق من قبل الشاعر الفرزدق وشكك فيه Sauvaget كأسطورة من تأليف إبن عساكر أو مصادره بينما قبله البعض ك Dussaud مثلاً كحقيقة تاريخية.

يثير Creswell اعتراضين على نظرية تقسيم الكنيسة: الأول أن كل من يعرف دمشق يعلم أن المسيحيين واليهود يقطنون الأحياء الشرقية بينما يقطن المسلمون الغربية فلم يخصص قسم الكنيسة الشرقي للمسلمين (مسجد الصحابة) والغربي للمسيحيين؟ الثاني أن الواقدي (748-823) والذي ادعى رؤية معاهدة تسليم المدينة بأم عينه لا يذكر شيئاً عن هذا التقسيم المزعوم لا بل وينكره من أساسه. بمزيد من التدقيق فيما كتبه إبن عساكر نرى أنه عندما تعرض لاستيلاء الوليد على الكنيسة بهدف بناء الجامع فإنه تكلم عن كنيسة وليس النصف الباقي منها وأن النتيجة المنطقية أن الكنيسة المذكورة شغلت قسماً (الغربي) من معبد جوبيتر الروماني وليس كامل المعبد وبالتالي فمسجد الصحابة بني في القسم الشرقي الجنوبي في هذا المعبد temenos مستقلاً عن الكنيسة وليس على حسابها. بعبارة أخرى ما جرى اقتسامه كان المعبد الروماني وليس الكنيسة المسيحية إلى أن قرر الوليد هدمها بعد سبعين سنة بهدف توسيع الجامع واستيعاب الأعداد المتزايدة من المسلمين.  


من البدهي أن مصداقية إبن عساكر أو غيره هي بالنتيجة مصداقية مصادره التي درست فعلى سبيل المثال روايته عن كيفية طلب الوليد مساعدة "ملك الروم في القسطنطينية" لبناء الجامع منافية للعقل إلى أبعد الحدود إذ "لئن لم يرسل (إمبراطور بيزنطة) العمال والحرفيين (الذين طلبهم الخليفة) فليغزون الوليد بلاده بالجيوش ولييخربن كل كنيسة في بلاده حتى كنيسة القيامة في القدس وكنيسة الرها وجميع كنائس الروم".

 بالنتيجة ليست كلمة Creswell  القول الفصل في هذا الموضوع الشائك والذي دار عليه ولا يزال الكثير من الجدل ولكنه تبقى بعد ستين عاماً ونيف من أفضل ما كتب في هذا الصدد استناداً إلى الموجودات العينية ومدونات الرواة ومحاكمة عقلانية متجردة لأحد ألمع أكاديميي القرن الماضي.

الجدار الغربي لجامع بني أمية الكبير في منتصف القرن العشرين