أصبح الضعف المتزايد للإمراطورية العثمانيّة جليّاً مع نهاية القرن الثامن عشر وحملة ناپوليون على مصر وسوريّا. تسارع التدخّل الأوروپّي في القرن التاسع عشر، وأخذ أشكالاً متعدّدةً، اقتصاديّةً وثقافيّةً ودينيّةً وسياسيّة. مِنَ الأوروپييّن من قَصَدَ الشرق الأدنى كتّجار ومستثمرين وعسكر، ومنهم من أتى إليه مبشّراً ومعلّماً. تفاوتت نوايا الغرب بين نفعيّةٍ بحتة إلى مثاليّةٍ خالصة، وعلّ مآرِب الأغلبيّة كانت خليطاً بنسبةٍ متفاوتة بين النقيضين.
عدد صفحات الكتيّب موضوع الحديث ٩٠، أضِف إليها ٢١ صورة تاريخّية، بعضها للمؤلِّفة، وبعضها الآخر من مصادر مختلفة. الناشر هو البعثة التبشيرّية البريطانية وسنة النشر ١٩٢٠ للميلاد. الكاتبة، السيّدة Jessie Edith Hutcheon رحّالة بريطانيّة وزميلة في الجمعيّة الجغرافيّة الملكيّة، ولم أنجح في الحصول على المزيد من المعلومات عنها.
يحسن هنا التنويه أنّ هذا العمل كُتِبَ، ليس فقط من وجهة نظرمسيحيّة تبشيريّة، وإنّما أيضاً أوروپيّة وتحديداً بريطانيّة، واثقة كلّ الوثوق من تفوّق الغرب وحضارتِه وقيمِهِ على الشرق عموماً والإسلام خصوصاً. هذا الغرب المنتصر مع ذلك مفتونٌ بغموض الشرق، يسلِّمُ بأسبقيتِهِ الدينيّة، ومكانَتِهِ كمهدٍ للديانات التوحيديّة، وعراقتِهِ التاريخيّة. يمكن في هذا لصدد الاستشهاد بالمحترم Reverend J. Kelman مؤلِّف كتاب "من دمشق إلى تدمر" الصادر عام ١٩٠٨( الذي سيأتي ذِكْرُهُ)، وقولِهِ "بإمكان حجارة دمشق، لو استطاعت الكلام أن تروي قصّة العالم أكثر من أيّ مكانٍ آخر".
قدّمت المؤلّفة لمحةً تاريخيّةً وجيزة عن المدينة، ركّزت على تراثِها المسيحي؛ وأكّدت نقلاً عن المستشرق Margoliouth (١٨٥٨ - ١٩٤٠)، أنّه عندما دخل المسلمون دمشق في القرن السابع للميلاد، وجدوا أهلَها متمسّكين بديانةِ آبائِهِم (المسيحيّة)، ولم يعتنق أيٌّ منهم دين الإسلام باستثناءِ عائلةٍ واحدة ليس إلّا. تطرّقت هتشيون بعد ذلك إلى موضوعين عزيزين على قلوب الغربييّن: الأوّل اضطهاد المسيحييّن في الشرق على مرّ العصور (في هذا على الأقلّ بعضٌ من الصِحّة)، والثاني المكانة المتدنّية للمرأة في العالم الإسلامي، وكيف مُنِعَت من المشاركة بصلاة الجماعة في الأموي، وكيف حُرِمَت التعليم، والإسفار عن وجهِها، وهلمّجرّا.
عكست أغلبيّةُ فصولِ الكتاب، وضعَ دمشق قبيل الحرب العالميّة الأولى (عُرِفَت آنذاك بالحرب العظمى). قّدرت الكاتبة عدد سكّان المدينة بحوالي ٤٠٠٠٠٠ نسمة، معظمهم من المسلمين، وإن بشّرت "الأرض العذراء" بحصادٍ واعد للرسالة المسيحيّة. عددُ اليهود - حسب المؤلِّفة - قرابةّ ١٠٠٠٠، و"مسيحيّي الكنائس الشرقيّة" ٢٠٠٠٠، أضف إلى الإجمالي بضع مئات من الدروز.
لم تغفل الكاتبة التعليقَ على البيوت الشاميّة المتواضعة المظهر من الخارج، والتي تبهر الزائرَ بداخِلِها الأشبه بألف ليلة وليلة. شدّ انتباهَهَا بالذات أطفال دمشق، المتلهّفين لتعلّم الإنجيل الذي مَنَعَهُم عنهُ أهلُهم.
لا شكّ أنّ دمشق - شأنها شأن أي بلد في حالة حرب - عانت خلال ما سمّي وقتها بالسفر برلك، بيد أنّ مزاعم المؤلِّفة مبالغٌ فيها إلى أقصى الحدود، إذ ادّعت أنّ ١٢٠٠٠٠ إنسان من سكّان المدينة ماتوا خلال عامين من المجاعة والحروب والوباء. تباكت هتشيون حصول هذه المآسي في أرضٍ غنيّة، ومن نافل القول أنّها حمّلت العثمانييّن وحلفائهم الألمان المسؤوليّة الكاملة، وتخيّلت عظام الشهداء من نساء وأطفال سوريّا، تستصرخ السماء، وتهيب بإنجلترا "حامية الضعفاء"، التي تحارب نيابةّ عن "الحضارة والإنسانيّة"، أن تأتي لنجدة الدمشقييّن المنكوبين.
ما كان للجنرال Allenby أن يتقاعسَ عن تلبية نداء السورييّن كما تصوّرته السيّدة Hutcheon، وبالنتيجة نجح هذا القائد العبقري، رغم محدوديّة إمكانياته - أو هكذا زعمت المؤلِّفة - في طرد الأتراك والألمان المكروهين من دمشق في خريف عام ١٩١٨، واستقبل أهلُ المدينة، إذ غَمَرَهُم الفرح إلى درجةِ النشوة، الجنودَ البريطانيّين استقبال الأبطال، وهرعت الوفود زرافاتٍ زرافات، لتهنئة الفاتح الإنجليزي والتسبيح بحمده والتنويه بمآثرِهِ ومناقِبِهِ.
تختم المؤلفة الشديدة الورع كتَابها بالقول أنّ هذا الإنجاز، الذي حقّقه البريطانيّون في ساحات الوغى، نفض غبارَ الأزمنة عن المدينة، وفتح إمكانيّاتٍ جديدة للمبشّرين. ختمت هتشيون باقتباس شهيرعن المزمور ١٤٥ كُتِبَ باليونانيّة على الجدار القبلي للجامع الأموي، وتحديداً على ساكف بوّابة هيكل المشتري بعد أن استحال إلى كنيسة:
"ملكك أيّها المسيح ملك كل الدهور، وسلطانُك في كلّ دور فدور".

No comments:
Post a Comment