العديد من أجمل المؤلَّفات عن دمشق وأكثرها طلاوةً كَتَبَها أجانبٌ تعلّقوا بالمدينة كأهلِها أو كادوا. Colin Thubron روائي ورحّالة إنجليزي من مواليد ١٩٣٩، شائت الأقدار أن يكون كتابُهُ عن دمشق أوّلَ أعمالِهِ. حاز هذا الكتاب على جائزة، وعلّهُ الأوّل من نوعِهِ عن عاصمة سوريّا بعد انقطاعٍ تجاوز نصف القرن .
زار السيد Thubron دمشق للمرة الأولى عام ١٩٦٢، وأقام فيها حتّى ١٩٦٦، ليرى الكتاب النور سنة ١٩٦٧. المؤلّفُ ملمٌّ بتاريخ المدينة، اطّلع على الكثير ممّا كُتِبَ عنها في الأدب الأوروپي عموماً، والإنجليزيّة والفرنسيّة خصوصاً. مع ذلك، أكّدَ ثبرن في منتهى التواضع والدماثة في مقدّمة كتابِهِ - الذي لا يخلوا والحقّ يُقال، من الأخطاء والهنات - أنّه لا يهدف إلى إضافةِ معلوماتٍ جديدة أو سدّ ثغرات، وأنّ عَمَلَهُ بالأحرى بدأ كوصفٍ وتأريخ، قبل أن يتّخِذَ طابعاً شخصياً، وأنّه بكل بساطة "a work of love" يعكسُ حبَّهُ للمدينة.
لم يزر الكاتب دمشق كملكٍ أو أمير، أو حتّى كدارس ممتهن، بل كيافعٍ دون الثلاثين من عمره، اعتمدَ في تنقّلاتِهِ على قدميهِ أو درّاجتِهِ مع الاستعانة ببعض الأدلّة المحلييّن. أقام ثبرن لدى عائلةٍ مسيحيّةٍ سكنت في جوار الشارع المستقيم: الياس وأم طوني. نجح الكاتب، على الرغم من تواضعِ وسائِلِه، في زيارة العديد من معالم المدينة ومحيطها. جابه ثبرن تحدّياً مزدوجاً، تمثّلً في معرفته المتواضعة باللغة العربيّة من جهة، وجهل الدمشقييّن ممّن احتكّ بهم باللغات الأجنبيّة من جهةٍ ثانية. لا عجب في ذلك إذ اقتصر اختلاطُهُ على الطبقة الوسطى من ذوي الدخل المحدود، في مدينةٍ محافظة، لا زالت معزولةً نسبيّاً عن العالم الخارجي.
تعرّضَ الكاتبُ بتفصيلٍ لا بأس به أبداً إلى تاريخ المدينة، من أقدم العهود وصولاً إلى المشهد المعاصر، والانقلاب الذي أطاح بأمين الحافظ في شباط ١٩٦٦. تميّز وصفُهُ لمعالم دمشق بالإيجاز، ودقّةٍ معقولة نسبةً لحجم الكتاب. لا مبالغة في وصفِ أسلوبِهِ بالمختصر المفيد أوالسهل الممتنع. رَبَطَ ثبرن الأوابد بالأحداث والأشخاص، معتمداً على المراجع التي قرأها والمواقع التي زارها وعاينها. لاحظ أحد الظرفاء اهتمامَهُ بالأضرحة فسأله: "أراك تتأمّل القبور على الدوام، ألا يموت الناس في لندن؟" يحتوي الكتاب على مجموعةٍ صغيرةٍ من الصور الجميلة بالأبيض والأسود.
عني ثبرن أيضاً بوصف أهالي دمشق، وكأديب، كان لا مناص له من إطراء جمال نسائِها، خصوصاً اليهوديات منهنّ؛ أمّا بالنسبة للملثّمات، فقد ارتأى أنّ الحجاب يزيد في إغرائهنّ. عن التوزيع الطائفي، قدّر المؤلّف عددّ يهود دمشق بحوالي أربعة آلاف (بلغ عددّهم أربعة عشر ألفاً عام١٩٤٧)، والمسيحييّن ٦٥٠٠٠ أو عُشْر سكّان المدينة. بلغ عدد الدروز١٦٠٠٠ وهم، في زعم الكاتب، "أجمل أهل دمشق". أضاف ثبرن بعض "المعلومات" التي استقاها من الشائعات المحليّة من نوع أنّهم يعبدون العجل الذهبي، ويصلّون للأبقار، ولم يفته أن يذكر بعض الأساطير عن أصولهم ومنها جدّهم الأكبر المزعوم Comte de Dreux.
الكتاب ممتعٌ للغاية، لغته يسيرة المتناول، أقرب إلى السرد القصصي، وأبعد ما تكون عن المصطلحات والتعابير الأكاديميّة الجافّة والتقعّر والحذلقة. يعكس هذا العمل صورةً جذابةً لدمشق منتصف الستّينات في مرآةٍ بريطانيّة.

No comments:
Post a Comment