Saturday, September 30, 2017

عواصم الإسلام العربي

يحاول الدكتور فيليب حتّي (١٨٨٦-١٩٧٨) بأسلوبه الأخّاذ في هذا الكتاب الصغير (١٧٠ صفحة) الصادر عن University of Minnesota عام ١٩٧٣ أن يعرّف الطلّاب والهواة بتاريخ العرب من خلال ستّة مدن. الدكتور حتّي أكثر من مؤهّل لهذه المهمّة فهو علاوة على معارفه الواسعة في الإسلام وتاريخ الشرق الأدنى عموماً والعرب خصوصاً، متمكّن من اللغتين العربيّة والإنجليزيّة ولا عجب كونه أحد أعضاء المجمع العلمي العربي في دمشق ويبدو أنّ موهبة إتقان اللغات امتدّت إلى أخيه الدكتور يوسف حتّي صاحب قاموس المصطلحات الطبيّة الإنجليزي-العربي المعروف.



هذه المدن الستّ هي مكّة والمدينة ودمشق وبغداد والقاهرة وقرطبة وخصّص المؤلّف لكل مدينة حوالي ٢٥ صفحة. ورغم أنّه ليس موجّهاً للأخصائيّين فقد وجدت فيه بعض المعلومات التي لم أكن أعرفها إضافة لخضمّ من النوادر الطريفة.

مكّة العاصمة الدينيّة
أوّل ذكر معروف لمكّة كان تحت إسم Macoraba في جغرافية المؤلّف الإغريقي-المصري بطليموس في منتصف القرن الثاني للميلاد وإسم أبرهة الحبشي ما هو إلّا أبراهام أو إبراهيم. قصّة مكّة في العهد الإسلامي معروفة ولكن أكثر ما أثار اهتمامي مغامرات الأوروبييّن المسيحييّن الذين نجحوا في دخول مكّة مخاطرين بحياتهم وجمع بعض المعلومات التي تفاوتت دقّتها. كان أوّل هؤلاء الرحّالة الإيطالي Ludovico di Varthema الذي "اعتنق" الإسلام واعتمد إسم يونس ونجح في زيارة المدينة المقدّسة عام ١٥٠٣. تلاه الإسباني Badia y Leblich المدعو علي بك العبّاسي عام ١٨٠٧ومن ثمّ السويسري John Lewis Burckhardt عام ١٨١٤ وأكبر إنجاز لهذا الأخير كان اكتشاف البتراء.

المدينة عاصمة الخلافة
يثرب أيضاً مذكورة في جغرافية بطليموس تحت إسم Iathripa ولكنّها كمكّة لا يعرف عنها شيء يذكر قبل الإسلام خارج الروايات الإسلاميّة اللاحقة والكثير من صفحات هذا الفصل مخصّص للفتوحات العربيّة التي وجد الدكتور حتّي بعض أوجه التشابه (على الأقلّ من ناحية التفسير الديني) بينها وبين دخول العبرييّن إلى أرض الميعاد قبل ظهور الإسلام بثمانية عشر قرناً. 

دمشق عاصمة الإمبراطوريّة
تاريخ دمشق بالطبع أقدم بكثير من العرب والإسلام وعليه يبدأ المؤلّف بأوّل ذكر لها على لائحة غزوات الفرعون تحوتمس الثالث في القرن الخامس عشر قبل الميلاد مروراً بدولة آرام-دمشق وتوسّعها على حساب الممالك المجاورة ومنها إسرائيل قبل أن تسقط على يد الآشورييّن أهل ٧٣٢ ق.م. احتكر الآراميّون تجارة الداخل كما احتكر الفينيقيّون تجارة السواحل والبحار ولكن التاريخ اسدل ستارته على دمشق في العهود اللاحقة تحت الفرس وخلفاء الإسكندر عندما صعد نجم أنطاكيا كمدينة سوريا الأولى. ازدادت أهميّة دمشق في العهد الروماني حين توسّع معبدها الضخم الهائل ويبقى العهد الأموي عهدها الذهبي بامتياز.

دمشق الحديثة


بغداد عاصمة الفكر
تحوّلت الخلافة في العهد العبّاسي إلى ملكيّة على غرار أباطرة الفرس وظهر للمرّة الأولى في الإسلام منصب الوزير ويروي الدكتور حتّي قصّة البرامكة وغناهم وحظوتهم إل أنّ قلب لهم هارون الملقّب بالرشيد ظهر المجنّ ونكّل فيهم أشنع تنكيل. بنيت بغداد في عهد أبي جعفر المنصور وأصبحت في عهد المأمون خصوصاً مركزاً للعلم والتأليف والترجمة سواء في العلوم الدينيّة (أبو حنيفة والشافعي والغزالي إلخ) أو الدنيويّة (الخوارزمي والرازي والفارابي والكندي وثابت بن قرّة وجبريل إبن بختيشوع وحنين إبن إسحاق وغيرهم). لربّما كان أهمّ إنجازات ذلك العصر إقتباس "الأرقام العربيّة" من الهند ولربّما كان الصفر ابتكاراً عربيّاً.

القاهرة العاصمة المنشقّة
من المعروف أنّ من أسّس القاهرة هم الإسماعيليّون في عهد المعزّ لدين الله وعامله جوهر الصقلي. مؤسّس الدولة الإسماعيليّة عبيد الله المهدي سوري الأصل من بلدة السلميّة ولكنّه نجح ببناء إمبراطوريّة في شمال غرب إفريقية امتدّت إلى مصر التي أصبحت مركزها وكانت بداية الحكم الفاطمي مشرقة إذ لم يحاول الحكّام الأوائل إكراه مسلمي مصر على تغيير دينهم وظلّت الأغلبيّة سنيّة وتحسّن أيضاً وضع الأقلّيات المسيحيّة واليهوديّة على الاقلّ حتّى عهد الحاكم بأمر الله. كسف بهاء القاهرة الفاطميّة شمس بغداد وبالنتيجة كانت نهاية العهد الفاطمي على يد صلاح الدين الأيّوبي.

قرطبة العاصمة الأوروبيّة
يشتقّ إسم قرطبة من أصل فينيقي "قرية توب" تحوّل تحت الرومان إلى Corduba وفي العهد الإسباني إلى Cordoba الذي حوّله العرب إلى قرطبة دون معرفة أصله الفينيقي "قرية توب" الذي يعني "البلدة الطيّبة". دمّر يوليوس قيصر في القرن الأوّل قبل الميلاد المدينة لأنّها أيّدت أولاد بومبي ضدّه وذبح عشرين ألفاً من سكّانها. عهد قرطبة الذهبي كان بالطبع كدمشق تحت الأموييّن الذين بنوا الجامع الكبير على عدّة مراحل والذي لا يزال موجوداً كما بنوا قصر الزهراء والمدينة الزاهرة (اندثرا). علماء الأندلس كثيرون وشهرتهم عالميّة وعلى سبيل المثال الزهراوي وإبن رشد وإبن حزم وإبن ميمون. سقطت الخلافة الأمويّة عام ١٠٣١ للميلاد وسقطت المدينة بيد ملك قشتالة عام ١٢٣٦.


https://archive.org/details/CapitalCitiesOfArabIslam-PhilipK.Hitti

تدمير وطن: تردّد الغرب

ينحي الدكتور Van Dam باللائمة على الغرب وكيف أنّه تعامل مع الأزمة السوريّة بمثاليّة بعيدة عن الواقع ويضيف بأنّ مقاطعة الحكومة السوريّة أضاعت على أمريكا وحلفائها إمكانيّة المساومة مع "النظام" والتأثير على سياساته وأنّ موقف الغرب المتشدّد غرّر بالمعارضة ودفعها على التمادي اعتقاداً منها أنّ الفرج (أي التدخلّ العسكري الأمريكي) آت لا محالة إذا قبلنا رواية السيّدة بسمة قضماني (صفحة ١٣٦). أخطاء الغرب كانت في الإستهانة بقدرة النظام على الصمود (صفحة ١١٩) وبرفضه الحوار مع الرئيس الأسد (صفحة ١٢٣)  في نفس الوقت الذي أحجم فيه عن عدم دعم المعارضة عسكريّاً بما فيه الكفاية وعن التدخّل العسكري المباشر أي باختصار أنّه اختار أنصاف الحلول وهذا أدّى إلى استفحال الأزمة واستمرارها. 



يسلّم المؤلّف (صفحة ١٢٣-١٢٤) بأنّ الغرب تجاهل أنّ الكثير من السورييّن وبغضّ النظر عن دوافعهم يؤيّدون "النظام" أو على الأقل لا يثقون بالمعارضة كما ينوّه (صفحة ١٢١) بتشتّت المعارضة بين داخليّة مسلّحة وخارجيّة مدنيّة لا يعترف ممثّلوها بعضهم بالبعض الآخر وعلّ هذا الوضع المعقّد أحد العوامل التي أدّت إلى عقم إجراءات الغرب النصفيّة والمتردّدة والمتأخّرة. 

هدف الغرب نبيل فهو يريد نظاماً ديمقراطيّاً في سوريا (صفحة ١٢٠) يحلّ محلّ الأسد وفي مكان آخر (صفحة ١٢٧) "من الواضح أنّ ما يريده الغرب هو نظام معتدل ديمقراطي علماني تعدّدي" بينما (نفس الصفحة) ركّزت السعوديّة وقطر دعمهما على المسلّحين الإسلامييّن كأحرار الشام وجيش الإسلام. مشكلة الغرب أنّ تدخلّه المحدود كان إجمالاً ردود فعل (صفحة ١٣١) دون خطّة واضحة تنظر إلى مرحلة "ما بعد الأسد" وإمكانيّة حلول ديكتاتوريّة إسلاميّة محلّه. أحد ردود الفعل هذه كانت (صفحة ١٢٧) عندما قام الإتّحاد الأوروبي عام ٢٠١٣ برفع حظر السلاح عن المعارضة بضغط من فرنسا وإنجلترا والذي لم يؤدّي إلى النجاح المأمول (المنطق هنا هو تعزيز المعارضة المسلّحة حتّى تهزم "النظام" أو على الأقلّ تتفاوض معه من موقف قوّة وهو نفس الخطاب الذي يسوّغ به السياسيّون في أمريكا وأوروبا دعمهم العسكري والمالي لإسرائيل) . مونولوج حسن نوايا الغرب يتردّد في أكثر من مكان (صفحة ١٥٤) وأنّه شعر إزاء الوضع المحزن في سوريا بواجبه في "عمل شيء ما" (صفحة ١٢٩) لإنقاذ "الملايين من السورييّن" والشعب السوري الذي "يضطهد ويذبح" وكيف نادى البعض بمناطق "حظر جوّي" وآخرون "بمعابر إنسانيّة" وغيرهم "بمناطق آمنة" (صفحة ١٣٠) وكيف طرحت جميع هذه الخيارات جانباً لسبب أو لآخر. 

ما لم يتعرّض إليه الدكتور Van Dam هو إمكانيّة سوء نيّة الغرب. السياسة الخارجيّة لأي حكومة تحكمها اعتبارات كثيرة أغلبها داخليّة لا علاقة لها بالأخلاق والإنسانيّة إلاّ ضمن أضيق الحدود. قد يتسائل البعض ما هي مصلحة الغرب في تدمير سوريا أو تغيير نظام الحكم فيها وأستطيع دون عناء ذكر بعض الأسباب على الأقلّ كاحتمال:

١. سوريا رفضت تأييد ومساعدة "تحرير" الولايات المتّحدة وأتباعها للعراق عام ٢٠٠٣. 
٢. سوريا متحالفة مع إيران التي تجرّأت عام ١٩٧٩ على خطف رهائن أمريكييّن. 
٣. دمشق عارضت السلام المصري الإسرائيلي في أواخر السبعينات وأقامت قي وجهه العقبات. 
٤. "احتلال" سوريا للبنان لمدّة ثلاثين عاماً (الولايات المتّحدة وفرنسا أيّدتا دخول الجيش السوري إلى لبنان عام ١٩٧٦ ولكن ما علينا) و"اغتيالها" لرئيس الوزراء رفيق الحريري عام ٢٠٠٥. 
٥. دعم سوريا لحزب الله "الإرهابي".
٦. إصرار سوريا بكل وقاحة وصفاقة وجه على حقّها المزعوم في الجولان.

يشكّك الكاتب (صفحة ١٧١) بحكمة التدخّل العسكري الغربي المباشر في سوريا (وهو في نهاية المطاف الطريقة الوحيدة لإسقاط نظام لا تملك المعارضة تأييداً شعبيّاً كافياً لإسقاطه بنفسها) ويبني -وبحقّ- رأيه على النتيجة المحزنة لهذا التدخّل في أفغانستان والعراق وليبيا (من المضحك المبكي أن ينادي بعضهم بكل جدّية بقتل سورييّن بهدف إنقاذ باقي السورييّن وهو ما يسمّى بحقّ أو مسؤوليّة الحماية Responsibility or Right to Protect صفحة ١٨٠). يضيف المؤلّف (صفحة ١٧٢) أنّ المطالبة باستقالة رئيس دولة كشرط مسبق للحلّ السياسي فريد من نوعه ومحكوم عليه بالفشل منذ البداية.  

ختاماً يدعو الدكتور Van Dam إلى مواصلة السعي لإيجاد حلّ سياسي (صفحة ١٨١-١٨٢) وأنّه يتحتّم إعطاء الأولوية لهذا الحلّ أمّا العدالة (أي محاسبة مجرمي الحرب) فبإمكانها أن تنتظر دورها. 

http://bornindamascus.blogspot.com/2016/05/1961-1978.html
http://bornindamascus.blogspot.com/2017/09/blog-post_27.html
http://bornindamascus.blogspot.com/2017/09/blog-post_28.html
http://bornindamascus.blogspot.com/2017/09/blog-post_29.html

Friday, September 29, 2017

تدمير وطن: المجابهة بين جيش "النظام" والمعارضة




لا يخلو الفصل الثالث من كتاب الدكتور Van Dam من التناقضات وأحد المطارحات المتواترة في أكثر من مكان (صفحة ٩٧ مثلاً) أنّه لو ساعدت الولايات المتّحدة والغرب "الجيش الحرّ" المعتدل بما فيه الكفاية فلربّما سارت الأمور في مسار مختلف عمّا جرى فعلاً ألا وهو بروز الأكراد المقاتلين وصعود نجم الإسلامييّن المتطرّفين وعلى رأسهم الدولة الإسلاميّة أو داعش (صفحة ١٠٠). بالطبع ليس المؤلّف الوحيد الذي يجادل بهذا المنطق فهناك جيوش جرّارة من الخبراء والصحافييّن والسياسييّن العرب والأجانب الذين يدلون بنفس الرأي وهنا لا بدّ من بعض إشارات الإستفهام:

أوّلاً: هل من الصحيح أنّ الجيش الحرّ او فلنخلع عليه إسماً أكثر وسامة "المعارضة المعتدلة" لم يتلقّ ما يكفي من الدعم؟ من ناحية التغطيّة الإعلاميّة أخذت هذه المعارضة المعتدلة دعماً غير محدود بداية من فضائيّات قطر والسعوديّة حتّى أوروبا وعبر الأطلنطي إلى أمريكا. من ناحية المال من الصعب القول أنّ سوريا تملك معشار ثروة دول الخليج والنفط لتنفقه على المرتزقة سواء كانوا من المسلّحين أم ممّن يسمّون بالصحفييّن تجاوزاً كالسيّدين فيصل القاسم وأحمد منصور . من ناحية العدد والعدّة فالميزان راجح لصالح المعارضة اللهمّ إذا استثنينا سلاح الطيران وحتّى هذا السلاح لم يكن دائماً حكراً على سوريا فالطيران الإسرائيلي بين وقت وآخر يسرح ويمرح في الأجواء السوريّة وكأنّه يقول "نحن هنا" وإسرائيل قدّمت -إنسانيّة منها ما في ذلك من شكّ- عناية طبّية مجّانية للثوّار المعتدلين وغير المعتدلين. لربّما كانت الأفضليّة الوحيدة للجيش السوري أنّه يحارب على أرضه ودفاعاً عن وجوده. 

ثانياً: على فرض أنّ الجيش الحرّ فشل لقلّة الدعم فهل هذا يعني أنّ نجاح داعش والنصرة ناجم عن توافر هذا الدعم؟ وإذا كان الأمر كذلك فمن يدعم هؤلاء المتطرّفين خاصّة وأنّ العالم كلّه -على الأقلّ من الناحية النظريّة- ضدّهم؟ يقول المؤلّف (صفحة ١٠١) أنّ تنظيم الدولة الإسلاميّة نشأ في العراق بعد الإطاحة بالرئيس صدّام حسين على يد الأمريكييّن والإنجليز عام ٢٠٠٣ ويضيف في الصفحة ١٠٢ (نقلاً عن Christopher Phillips) أنّ "انسحاب الولايات المتّحدة السابق لأوانه" من العراق عام ٢٠١١ ترك ورائه جيشاً عراقيّاً ضعيفاً سهل على داعش أن تهزمه عام ٢٠١٤ في الموصل. يفهم من هذا الكلام أنّه لولا الغزو الأمريكي للعراق لما كانت داعش ومع ذلك فانسحاب أمريكا "السابق لأوانه" هو الذي أدّى لأن تملأ داعش فراغ القوّة بعد سقوط صدّام حسين. إذاً تبقى أمريكا (المقصود بالطبع صنّاع القرار في أمريكا) هي الحلّ رغم أنّها هي التي خلقت المشكلة أساسا على الأقلّ إذا فهمت أنا فحوى المكتوب.  

ثالثاً: يتسائل الدكتور Van Dam صفحة ١١٥ وبحقّ عن السبب الذي جعل الولايات المتّحدة تحجم عن قصف أرتال داعش في طريقها إلى تدمر والتي كانت تشكّل هدفاً سهلاً لطيرانها في الصحراء في أيّار ٢٠١٥ ممّا سمح للمخبولين بدخول المدينة وتدمير بعض أثمن كنوزها ومع ذلك يعود فيقول (صفحة ١١٧) أنّ أولويّة الولايات المتّحدة هي الحرب ضدّ داعش!  

يستشهد المؤلّف بالسيّد Tobias Schneider الذي أسهب (صفحة ١١١) في وصف فساد النظام وتعفّنه و"حربه الشرسة ضدّ مواطنيه" ألى آخر الأسطوانة المشروخة التي ثقبوا طبلة آذاننا فيها. نعم للحكومة السوريّة عيوب كثيرة ونعم كان الفساد ولا يزال موجوداً ونعم قصّرت في مجالات كثيرة (قبل الحرب) منها حماية البيئة وتنظيم الأسرة والتعليم والبنية التحتيّة والحفاظ على الآثار وفصل الدين عن الدولة وهلمّجرا ولكن المعارضة التي شاهدناها تشارك الدولة في جميع عيوبها عمليّاً وتضيف إليها المزيد من العيوب أهمّها الطائفيّة المعلنة بأبشع صورها (لا يوجد مقابل في الحكومة السوريّة لشخصيّات مثل عدنان العرعور ومأمون الحمصي وأبو محمّد الجولاني لا من قريب ولا من بعيد) والإستعداد المطلق للتعاون مع أي قوّة خارجيّة وعند اللزوم أعداء سوريا التاريخييّن بهدف "إسقاط النظام". أمّا أنّ النظام يحارب ويقتل مواطنيه فهذا كلام "من فوق الأساطيح" كما يقول الشوام . الحكومة السوريّة تحارب من يحاربها ونعم لها كثير من المعارضين في سوريا ولكن ورائها أيضاً كثير من المؤيّدين وليس كلّ هؤلاء المؤيّدين من العلوييّن و"الأقلّيات". 

للحديث بقيّة. 

http://bornindamascus.blogspot.com/2017/09/blog-post_27.html

http://bornindamascus.blogspot.com/2017/09/blog-post_28.html

Thursday, September 28, 2017

تدمير وطن: هل كان من الممكن تجنّب الحرب في سوريا؟




يشكّل هذا السؤال عنوان الفصل الثاني في كتاب الدكتور Van Dam ويبدأ فيقول بأنّه إذا أخذنا بعين الاعتبار تاريخ "النظام" وسلوكه خلال نصف قرن من الحكم فموضوع حلول يوم "الحساب" كان مسألة وقت ليس ألّا. لربّما كان من المفيد هنا التعرّض لبعض "المصطلحات" السياسيّة الدارجة:

١. كلمة "نظام" ظاهريّاً بريئة ولكنّها تستعمل بمعنى سلبي ومن جميع الأطراف. "النظام" هو باختصار حكومة عدوّة أو مغضوب عليها وأذكر جيّداً عندما كان الإعلام السوري في السبعينات يهاجم "الأنظمة" المصريّة والعراقيّة والأردنيّة وبالطبع كالت هذه "الأنظمة" لحكومة دمشق أو فلنقل "النظام السوري" الصاع صاعين. أمّا عندما تستعمل الإدارة الأمريكيّة هذا التعبير لوصف حكومة شرق أوسطيّة فهذه علامة مشؤومة إلى أقصى الحدود وقد رأينا نتائجها في العراق. 

٢. "الربيع العربي" يترادف في الإعلام الغربي (على الأقلّ في البداية) بمحاولات الشعوب العربيّة المغلوبة على أمرها التخلّص من حكوماتها المتسلّطة الفاسدة ولكن إذا استثنينا التوقيت فهناك اختلافات كبيرة للغاية ليس فقط بين أحداث تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا والبحرين، وإنّما أيضاً في الطريقة التي تعامل بها "الغرب" مع هذه الأحداث. لا يوجد ما يدعو للإعتقاد أنّ واشنجتون سعت للتخلّص من الرئيس حسني مبارك وإن تخلّت عنه بالنتيجة وبالنسبة للبحرين جرى تعتيم إعلامي شبه كامل عندما قمعت حكومة هذه "المملكة" المظاهرات بالاستعانة بالجيش السعودي أمّا في حالة ليبيا فقد تمّ إسقاط القذّافي وقتله والتمثيل بجثّته عن طريق تدخّل عسكري مباشر للغرب وأذنابه العرب (دويلة قطر مثلاً) بحجّة "حماية المدنييّن" أمّا في سوريا فكلّنا نعرف المقاطعة الإقتصاديّة وسحب السفراء والإدانة الدوليّة وما تلاها من دعم "الثوّار المعتدلين" ونتائجها المحزنة. 

٣. الديكتاتوريّة هي نظام الحكم في دولة مستهدفة من "الغرب الديموقراطي" أمّا الحاكم في دولة سلطويّة authoritarian صديقة فهو ملك أو شيخ أو رجل قوي strongman ولكنّه بالتأكيد ليس ديكتاتوراً والعياذ بالله. 

يسلّم المؤلّف في أكثر من موضع (صفحة ٧٤ مثلاً) أنّ المظاهرات بدأت سلميّة وأنّ طلباتها كانت معقولة للغاية وأنّ "النظام" أجاب بالعنف وعندما عرض تنازلات كانت هذه التنازلات أقلّ ممّا ينبغي وأتت متأخّرة أكثر ممّا ينبغي وبالنتيجة تحوّلت المعارضة إلى العنف وسيطر عليها ميدانيّاً الإسلاميّون المتطرّفون ولكنّه وللأمانة يحرص على إيراد وجهة النطر المعاكسة أي الموالية للحكومة وإن كان الصواب -في اعتقادي على الأقلّ- جانبه (صفحة ٧٦) عندما كتب أنّ تركيا والسعوديّة والجامعة العربيّة بذلت في البداية "جهوداً جديّة" لإنهاء العنف ولم تتحوّل إلى فتح حدودها (تركيّا) للمسلّحين وتمويلهم وتسليحهم (السعوديّة) إلّا عندما عيل صبرها من عنف "النظام". 

شملت طلبات المعارضة "المعقولة" (صفحة ٧٥) "الحقّ بالقيام بالمظاهرات السلميّة دون إذن مسبق من الحكومة (للعلم فقط لا يتمتّع المواطنون في الولايات المتحّدة الأمريكيّة يهذا "الحقّ") وبناء عليه زار السفير الأمريكي Robert Ford ونظيره الفرنسي Eric Chevalier (صفحة ٨٨) حماة في تمّوز ٢٠١١ لتشجيع "المظاهرات السلميّة" ضاربين عرض الحائط بأبسط الأعراف الديبلوماسيّة إذ مهمّة السفير أوّلاً وأخيراً التواصل مع الحكومة المضيفة وليس مع المعارضة سلميّة كانت أو غير سلميّة ولو كانت العلاقة بين سوريا من جهة وأمريكا وفرنسا من جهة ثانية علاقة أنداد لتمّ طرد السفراء فوراً ودون تردّد كما سيكون بالتأكيد موقف فرنسا والولايات المتّحدة لو تجاسر سفير أي دولة على تشجيع المظاهرات المعارضة في بلادها. 

يتجاهل المؤلّف أو يكاد دور الإعلام العربي (القطري مثلاً) في تأجيج العنف والطائفيّة بأبشع صورها ولكنّه يسلّم أنّ المعارضة الداخليّة لجأت بالنتيجة للعنف وإن لم يذكر جيوش الجهادييّن التي أمّت سوريا من أصقاع الأرض ومنهم أبو عمر الشيشاني وأبو هريرة الأمريكي وكثير غيرهم والذين ما كان لهم أن يصلوا إلى سوريا دون معابر وتمويل وتسليح إلخ. بالنتيجة تحوّلت "الحرب الأهليّة’" إلى "حرب بالواسطة"  proxy بين سوريا وإيران وروسيا وحزب الله من جهة والولايات المتّحدة الأمريكيّة (ومن وراء أو حتّى أمام الكواليس إسرائيل) وتركيا والسعوديّة وقطر الخليج العربي وفرنسا وبريطانيا العظمى من جهة ثانية. أمّا من الأغنى موارداً والأكثر عدداً وعدّة فهذا متروك لحسن تقدير القارىْ. 

يختم الدكتور Van Dam هذا الفصل بالتأكيد بأنّ جميع السورييّن (اللهم إلّا بعض الأكراد وبتأييد من إسرائيل)  ورغم كلّ ما جرى ضدّ التقسيم ويضيف بأنّ الأقليّات حاليّاً موزّعة في كل أنحاء سوريا فهناك مثلاً نصف مليون علوي في دمشق والعلويّون قطعاً لا يسعون لإقامة دولة في الساحل كما يزعم البعض (صفحة ٩٤-٩٥) وأنّ آل الأسد أباً عن جدّ ووجهاء العلوييّن رفضوا في عهد الإنتداب عرض فرنسا لإعطاء دولة مستقلّة لطائفتهم. 

للحديث بقيّة. 


http://bornindamascus.blogspot.com/2017/09/blog-post_27.html

Wednesday, September 27, 2017

تدمير وطن: الحرب الأهليّة في سوريا

يمكن بقليل من الجهد قراءة آخر كتاب للدكتور Nikolaos Van Dam في يومين أو ثلاثة (٢٤٠ صفحة من القطع الصغير) وهو جدير بالقراءة لأكثر من سبب: المؤلّف يعرف سوريا ويحبّها ويحبّ أهلها وعلى عكس العديد من كتّاب الغرب يتكلّم العربيّة بطلاقة (إضافة إلى عدّة لغات) وله كتاب آخر عن الصراع على السلطة في سوريا صدر عام ١٩٧٩ وأعيد طبعه (مع تعديلات وإضافات) عام ٢٠١١ إذاً فمعرفته بسيسات الشرق الأدنى ليست وليدة الأمس. أضف إلى ذلك أنّ الكتاب مهما كانت الإعتراضات عليه أبعد ما يكون عن دعاية رخيصة. 



للتوضيح أنا لا أدّعي مطلقاً الحياديّة في موضوع سوريا ولا أعتقد أنّ هناك كثير من السورييّن الحيادييّن. لي بالطبع قناعات مسبقة تبلورت وتطوّرت خلال عشرات السنين بتأثير العديد من العوامل المختلفة ولكنّي سأحاول ما أمكن أن أنقل وجهة نظر الأستاذ  Van Dam بأمانة مع التعليق عليها من منظور شخصيّ فأنا بالنهاية أمثّل نفسي فقط لا غير.   

الكتاب موزّع على خمسة فصول يضاف إليها مقدّمة في البداية وخلاصة في النهاية تليها حواشي النصّ ومراجع الكتاب والفهرس الأبجدي. 

صورة غلاف الكتاب تمثّل رجلاً في شرق حلب يحمل طفلاً في أعقاب غارة في ٢٧ آب ٢٠١٦ ألقيت فيها "reportedly" البراميل المتفجّرة. في المقدّمة يتعرّض الكاتب لتعريف سوريا ككيان "ثقافي وجغرافي" (صفحة ٣) طرأت على حدوده السياسيّة الكثير من التعديلات عبر العصور كما يشرح الاشتقاق اللغوي "لسوريا" (صفحة ٦) في القرن السادس قبل الميلاد وكيف تحوّلت إلى بلاد الشام مع بدايات الإسلام لتعود تسمية سوريا في أواخر القرن التاسع عشر للميلاد. ينتقل بعدها إلى موضوع حساسيّة العروبييّن من التسميات ذات المدلول االطائفي (صفحة ٧-٨) وكيف تحوّل جبل الدروز إلى جبل العرب وجبال العلوييّن إلى جبال الساحل ووادي النصارى إلى وادي النضارة... 

في صفحة ١١ يتحدّث المؤلّف عن الأنظمة الديكتاتوريّة الشموليّة التي يتحكّم فيها قائد فرد ويعدّد منها مصر والعراق وسوريا وليبيا واليمن والجزائر و"بلاد عربيّة أخرى". سواء عن قصد أو عن غير قصد القاسم المشترك بين كلّ هذه "الأنظمة" أنّها جمهوريّة أو على الأقلّ تدّعي أنّها جمهوريّة ولا نجد أي إشارة إلى مملكة أو إمارة أو مشيخة بحيث يمكن لمن لا يعرف العالم العربي أن يستنتج أنّ السعوديّة وقطر والأردن والمغرب "ممالك دستوريّة".  

بالنسبة لي أكبر نقطة استفهام في المقدّمة كانت في صفحة ١٥ عندما ذكر الكاتب أنّه تمّ تجريد العديد من الأكراد السورييّن من جنسيّتهم عام ١٩٦٢ والأغرب أنّه لم يذكر مصدر معلومة بالغة الأهميّة كهذه ممّا جعلني أبحث عنها في google وأجدها على الويكيبيديا ولكن على اعتبار أنّ مصداقيّة الويكيبيديا في المواضيع السياسيّة ليست على المستوى المطلوب (عندما كان أولادي في المرحلة الثانويّة يقومون ببحث وطيفة للمدرسة على الشبكة كانت تعليمات أساتذتهم بتجنّب الموسوعات عموماً والويكيبيديا خصوصاَ) فقد وسّعت البحث والمصادر التي وجدتها كانت كرديّة أو نقلاً عن الأكراد. أنا لا أقول أنّ الحكومة السوريّة لم تجرّد الأكراد من جنسيّتهم ولكنّي أطلب الدليل ومع الأسف الرواية المعاكسة إن لم تكن مفقودة فهي غير مسموعة. 

الفصل الأوّل من الكتاب مخصّص للكيفيّة التي وصل بها حزب البعث أوّلاً ثمّ الرئيس حافظ الأسد ثانياً إلى السلطة وهي ليست أكثر من تلخيص لكتاب الدكتور Van Dam الصادر في نهاية السبعينات ويمكن أيضاً الرجوع إلى كتاب حنّا بطاطو Syria's Peasantry وترجمة Patrick Seale للراحل حافظ الأسد وبهدف الإختصار كان البعث في البداية نوعاً من الثورة الإجتماعيّة للريف على المدينة ورغم أنّ خطاب الحزب كان علمانيّاً فقد استعملت الأطراف المتنازعة الورقة الطائفيّة والإقليميّة والعشائريّة كطريقة لضمان ولاء المرؤوسين وهذا الكلام ينطبق على أكثر من فئة. بالنتيجة بقي صلاح جديد وحافظ الأسد بالساحة وكان الأوّل يريد إعطاء الأولوية للتحويل الإشتراكي بينما احتلّ الصراع العربي الإسرائيلي مركز الصدارة بالنسبة للأسد. فترة السبعينات والثمانينات شهدت صراعاً على السلطة من نوع مختلف بين الحكومة والإسلامييّن (مدرسة المدفعيّة و حماة إلخ) ومن ثمّ المواجهة التي أجهضت بين الرئيس وأخيه الأصغر رفعت الأسد (١٩٨٣-١٩٨٤) استتبّت بعدها الأمور ولو ظاهراً حتّى نهاية القرن العشرين. 

للحديث بقيّة. 



http://bornindamascus.blogspot.com/2016/05/1961-1978.html

Monday, September 25, 2017

ولاية دمشق من ١٧٢٣ إلى ١٧٨٣

لا تزال دراسة الدكتور عبد الكريم رافق بعد نصف قرن أقضل الموجود عن التاريخ السياسي لدمشق خصوصاً وجنوب سوريا عموماً وتبقى النتائج التي توصّل إايها مرجعاً لا غنى عنه لمن تبنّاها كما هي ومن تحفظّ عليها أو على بعضها (الأستاذ Carl Barbir مثلاً في دراسة نشرت عام ١٩٨٠). اعتمد الدكتور رافق على مصادر أصليّة من المخطوطات التاريخّية ومراسلات الدبلوماسييّن الفرنسييّن والإنجليز وسرد الرحّالة الأوروبييّن والمؤلّفات المعاصرة واللاحقة بعدّة لغات وقام بهذه الدراسة منطلقاً من أبحاث للحصول على دكتوراة من جامعة لندن. صدر الكتاب عام ١٩٦٦ ويبلغ عدد صفحاته ٣٧٠. 



تميّز القرن السابع عشر بقصر ولاية حكّام دمشق الذين لا نكاد نعرف عنهم شيئاً اللهمّ إلّا الإسم وتاريخ التولّي وتاريخ الإقالة. تغيّر هذا الوضع جذريّاً في بدايات القرن الثامن عشر عندما أعفي ولاة دمشق من مهمّة تزويد السلطان بجنود لحروب لا نهاية لها في مختلف أصقاع الأرض وتمّ تكليفهم عوضاً عن ذلك بإمارة الحجّ البالغة الأهميّة من الناحيتين الدينيّة والسياسيّة وأدّى هذا بالنتيجة إلى تمديد ولاية عدد لا بأس به من حكّام دمشق طالما تكفّلوا بمهمّتهم الأساسيّة ألا وهي تجهيز وتمويل قافلة الحجّ والسهر على سلامتها ذهاباً وأياباً ممّا يترتّب عليه غياب الوالي عن الشام عدّة أشهر كلّ سنة. بالطبع هناك عوامل عديدة -غير الحجّ- تتدخّل في نجاح الوالي في الحفاظ على منصبه ومن أهمّها "الواسطة" الذي يتمتّع بها في القسطنطينيّة سواء كانت عن طريق الصدر الأعظم أو الكزلار آغا (رئيس خصيان حريم السلطان) أو أعوانهما وهذه الواسطة تشرى بالمال بطبيعة الحال. 

فلنتعرّف باختصار على أهمّ ولاة دمشق في القرن الثامن عشر والأحداث الرئيسة التي جرت في عهدهم:

١. نصوح باشا (١٧٠٨-١٧١٤) وفي عهده أصبح والي دمشق أميراً للحجّ.

٢. عثمان باشا أبو طوق تولّى دمشق مرّتين ١٧١٩-١٧٢١ و ١٧٢٣-١٧٢٥. كان واسع النفوذ ولكنّه أقيل بعد أن تمرّد الدمشقيّون على ممارساته.

٣. إسماعيل باشا العظم تولّى الشام  ١٧٢٥-١٧٣٠ وهو أوّل والي من أبناء البلد وأوّل من يحكم دمشق من آل العظم وكغيره حاول إثراء نفسه وعائلته بوسائل تتفاوت درجة "شرعيّتها" كاحتكار بيع اللحوم مثلاً ونجح في تعيين أقربائه في مواقع حسّاسة وفي مرحلة من المراحل تولّى آل العظم مباشرة أو "كمالكانات" ينتفعون بها دمشق وصيدا وطرابلس وحماة والمعرّة في نفس الوقت ومع ذلك فلم يحاولوا أبداً الإستقلال عن الدولة العثمانيّة واقتصرت طموحاتهم على اكتساب المال والنفوذ ضمن إطارها. أقيل ولاة العظم بالجملة في تشرين ثاني ١٧٣٠ وصدر فرمان شاهاني أو فرمانات بمصادرة أموالهم وسجنهم.

٤. عبد اللّه باشا أيضنلي ١٧٣١-١٧٣٤ نجح في تأمين سلامة قافلة الحجّ لثلاث سنوات متتالية.

٥. سليمان باشا العظم (أخو إسماعيل باشا) تولّى دمشق ١٧٣٤-١٧٣٨ و ١٧٤١-١٧٤٣. بنى خانه المعروف في دمشق وتميّز عهده بصعود نجم فتحي أفندي الفلاقنسي (الدفتردار أو الدفتري) في دمشق والمغامر ظاهر العمر المتمركز في طبريّا وصفد وعكّا. مات سليمان باشا في إحدى حملاته ضدّ ظاهر العمر. 

٦. أسعد باشا العظم (إبن إسماعيل باشا). أشهر ولاة هذه الأسرة وأقواهم إذ حكم ١٣ سنة من ١٧٤٣ إلى ١٧٥٧ وشهد عهده في دمشق بناء الخان الشهير في سوق البزوريّة والقصر المعروف باسمه. تميّزت سياسته الخارجيّة بتجنّب الاحتكاك مع ظاهر العمر ولكنه فاز في صراع على القوّة داخل دمشق على فتحي الدفتردار  الذي قتل وسحل بعد أن هاجم أتباع أسعد باشا أنصار فتحي أفندي في سوق ساروجا والميدان ونهبوا وأحرقوا. بالنتيجة فقد أسعد باشا ولايته أوّلاً ورأسه ثانياً (قتل ١٧٥٨) بعد إتّهامه بالضلوع في هجوم البدو على قافلة الحجّ عام ١٧٥٧ التي ماتت فيها أخت السلطان. لا يبدو أنّ لهذه التهمة أساس من الصحّة وما قرّر مصير أسعد باشا كان على الأغلب عدّة عوامل منها تغيّر الممسكين بمقاليد الأمور في القسطنطينيّة والحاجة إلى كبش فداء لتحميله مسؤوليّة الكارثة التي حلّت بالقافلة وحاجة السلطان إلى المال الذي بمكن الحصول عليه بمصادرة ثروة أسعد باشا. تجدر هنا الإشارة للجوء الولاة بشكل عامّ إلى ابتزاز الريف لتوفير الحدّ الأدنى من حاجات المدينة وتمويل الحجّ وكنز الأموال أو إنفاقها على المدارس والجوامع والخانات والدور الباذخة. 

٧. ولاية عثمان باشا الكرجي ١٧٦٠-١٧٧١. شهدت هذه الفترة على الصعيد الدولي بداية حرب روسيّة-عثمانيّة (١٧٦٨-١٧٧٤) أمّا على صعيد الشرق الأدنى فقد تمرّد المملوك علي بك الكبير في مصر وتحالف مع ظاهر العمر. استطاع قائد جيش علي بك، المملوك محمّد بك أبو الذهب، أن يهزم عسكر عثمان باشا ويدخل إلى دمشق في حزيران ١٧٧١ ولكن أبا الذهب كان يضمر خططاً مختلفة عن علي بك وهكذا انسحب من دمشق بعد أيّام من احتلالها بحجّة أنّ مهمتّه انتهت بفرار عثمان باشا.

٨. تولّى محمّد باشا العظم (حفيد إسماعيل باشا وزوج إبنة أسعد باشا) دمشق مرّتين ١٧٧١-١٧٧٢ و ١٧٧٣-١٧٨٣. شهد عهده موت علي بك الكبير ومقتل ظاهر العمر ممّا خلق power vacuum أي فراغ قوّة شغله بالنتيجة مغامر جديد: أحمد باشا الجزّار

٩. لا يغطّي الكتاب هذه الفترة ولكن تحسن التذكرة أنّ آخر والي لدمشق من هذه الأسرة كان عبد الله باشا العظم الذي حكم ثلاث مرّات بين ١٧٩٥ و ١٨٠٧ أمّا عن الجزّار فقد تولّاها أربع مرّات بين ١٧٨٤ و ١٨٠٤ ولكن مركز قوّته الحقيقي كان في صيدا وعكّا بينما أضفت عليه ولاية دمشق المزيد من المهابة ليس إلّا. 

خصّص الدكتور رافق آخر ٢٠ صفحة من الكتاب للتعريف بالمراجع التي استعملها وذكر ما لها وما عليها فعلى سبيل المثال من الرواة يبقى البديري الحلّاق أحد أهمّ المصادر للفترة ما بين ١٧٤١ و ١٧٦٢ وهناك أيضاً تاريخ الشام لميخائيل بريك وهو يغطّي الفترة ١٧٢٠-١٧٨٢ بينما يمكن الرجوع لعمل الأمير حيدر أحمد الشهابي فيما يتعلّق بجبل لبنان. بالنسبة للتراجم هناك "سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر" للمرادي ولكنّه يركّز فيه على علماء الدين ولا يذكر من آل العظم إلّا محمّد باشا وهلمجرّا.

لا أعلم إذا كان هناك ترجمة عربيّة لهذا الكتاب النفيس ولكن للدكتور رافق دراسة ثانية باللغة العربيّة بعنوان "بلاد الشام ومصر من الفتح العثماني إلى حملة نابوليون" وهي كما هو واضح تغطّي فترة زمنيّة أطول ومساحة جغرافيّة أوسع وهذا بالطبع غير ممكن دون اختصار الكثير من التفاصيل ولهذا محاسنه ومساوئه. 

http://bornindamascus.blogspot.com/2017/08/blog-post_21.html

http://bornindamascus.blogspot.com/2017/06/1708-1758.html

Friday, September 22, 2017

قمم عالميّة في تراث الحضارة العربيّة الإسلاميّة المعماري والفنّي

لربّما كان هذا الكتاب الجميل من منشورات وزارة الثقافة في سوريا عام ٢٠٠٠ آخر عمل للدكتور عبد القادر الريحاوي رحمه الله ويشترك مع سابقه "العمارة في الحضارة الإسلاميّة" الذي صدر عام ١٩٩١ في الكثير منها مقدمّة مفصّلة عن السمات المشتركة للعمارة الإسلاميّة بشكل عامّ أو ما أسماه "بالمدرسة الأمّ" ينتقل بعضها إلى دراسة المدارس المتفرّعة عنها على مدى العصور وعلى امتداد جغرافيّ واسع من الهند والسند شرقاً إلى إسبانيا وشمال أفريقيا غرباً ومن اليمن جنوباً إلى آسيا الصغرى والقسم الأوروبي من تركيّا الحاليّة شمالاً. يختم المؤلّف الكتاب بحوالي ثلاثين صفحة يخصّصها للمصطلحات بالعربيّة مع مقابلها في الإنجليزيّة والفرنسيّة (كما فعل في كتابه السابق المذكور) يليها سرد المراجع العربيّة والأجنبيّة. 



هذا لايعني أنّ هذا العمل مجرّد تكرار لكتابه السابق بحلّة جديدة فكتاب "قمم عالميّة" يركّز على عدد أقلّ من الأوابد في محاولة لتسليط الأضواء على ما اعتبره ذروة الإبداع على مستوى العالم الإسلامي بأسره مع اختصار الحيّز المخصّص للأقلّ أهميّة أو حتى إغفال ذكره خاصّة إذا كانت شهرته بالدرجة الأولى محلّية.  الكتاب أيضاً يركّز على الخلفيّة التاريخيّة ويعطيها عدداً أكبر من الصفحات من سابقه كما يخصّص فصلاً كاملاً جديداً (الأوّل بعد المقدّمة) للحرمين في مكّة والمدينة ويختم (الفصل الرابع عشر) ببحث عن البيت العربي وتطوّره.

يتوزّع الكتاب في جزئين على ٧٠٠ صفحة بقياس ١٧ سم في ٢٣ سم ويحتوي على العشرات من الصور معظمها ملوّن مع الكثير من الإسقاطات والمخطّطات.  تتسلسل فصول الكتاب كما يلي:

١. الحرمان الشريفان المكّي والمدني ويتعرّض فيه للأصول والتوسّعات اللاحقة ومن حسن الحظّ لا نجد هنا ذكراً لبرج الساعة القبيح الذي بني بعد نشر الكتاب بسنوات لا لقيمة دينيّة أو جماليّة وإنّما لإشباع غرور البعض وملء جيوب البعض الآخر وحدث شيء مشابه في فندق الفصول الأربعة في دمشق وإن كان على مستوى أقلّ تواضعاً.
٢. الحرم الشريف في القدس أي المجمّع الذي يشمل قبّة الصخرة والمسجد الأقصى والذي استطاع الدكتور ريحاوي زيارته قبل أن تستولي عليه إسرائيل عام ١٩٦٧. 
٣. الفصل الثالث مخصّص لجامع بني أميّة الكبير في دمشق (للمؤلّف كتاب مستقلّ عن هذا الجامع أعيد طبعه عام ٢٠٠٤). 
٤. العمائر العبّاسيّة وبغداد المنصور (التي اندثرت) وبقايا سامرّاء.
5. تونس وجامع القيروان وعمائر الأغالبة.
٦. جامع قرطبة وتوسّعاته على مدى أكثر من قرنين من الزمن وهو أحد أجمل فصول الكتاب.
٧. القاهرة وتطوّرها من الفسطاط (بداية العهد الإسلامي) مروراً بالعسكر (العهد العبّاسي) فالقطائع (العهد الطولوني) فقاهرة المعزّ لدين الله وعامله جوهر الصقلي ويتعرَض الكاتب لسور وأبواب المدينة والجامع الأزهر وغيرها من المعالم الفاطميّة قبل أن ينتقل إلى العهد الأيّوبي (والذي ترك معالماً في بلاد الشام أكثر من مصر) فالمملوكي الذي شهد اتساع المدينة وازدهارها وهذا الفصل أيضاً من أجمل فصول الكتاب وهو مفيد للغاية للمهتمين بمعالم القاهرة ولا يملكون الوقت لاستشارة مؤلّفات أكثر تفصيلاً.
٨. قلعة دمشق. بحث فيه المختصر المفيد عن هذا الصرح الأيّوبي الشديد الأهميّة وللدكتور ريحاوي كتاب مستقلّ عن هذه القلعة يتجاوز طوله ٥٠٠ صفحة لمن يرغب في التوسّع. 
٩. مدرسة الفردوس في حلب.
١٠. عمارة المغرب الأقصى.
١١. قصر الحمراء في غرناطة والذي يعتبره المؤلّف قمّة العمارة الإسلاميّة في المغرب. أيضاً من أجمل وأغنى فصول الكتاب.
١٢. عمائر إيران (بالذات أصفهان) وتركستان والهند ويعتبر الدكتور ريحاوي تاج محلّ في أغرا قمّة العمارة الإسلاميّة في الشرق وصنو قصر الحمراء في غرناطة في الغرب بالجمال والإبداع.
١٣. الجوامع العثمانيّة وتأثّرها بكنيسة جستنيان البيزنطيّة آيا صوفيا ثمّ تطوّرها.
١٤. الفصل الأخير مخصّص للبيت العربي والذي نرى نماذج مبكّرة باذخة له خارج المدن كما في قصر الحير مثلاً أمّا في المدن فلا توجد بقايا تستحقّ الذكر سابقة للعهد المملوكي وإن كانت هناك أدلّة لا بأس بها على شكل وتوزيع البيت الذي يشبه إلى حدّ كبير -إن لم يطابق- المدرسة وبالفعل تخبرنا المصادر أنّ بعض البيوت تحوّلت إلى مدارس (من أشهرها دار العقيقي في دمشق الذي أصبح المدرسة الظاهريّة) وأنّ بعض المدارس استعملت لسكن العلماء (المدرسة العادليّة أعطيت لإبن خلّكان).

إذا كان هناك تحفّظات على هذا العمل القيّم فعلّ أهمّها صوره ليس من ناحية الكمّ أو النوع وإنّما من ناحية التوزيع فبعضها يتواجد مرافقاً للنصّ وبعضها الآخر مستقلّ عنه وترقيمها بالذات اعتباطي أو يكاد وبالطبع لا يمنع كلّ هذا القارىء من الإستفادة منها والإستمتاع بها وإن صعّب مهمّته إلى حدّ ما. 

جزيل الشكر للدكتور ريحاوي طيّب الله ثراه.  


http://bornindamascus.blogspot.com/2017/09/blog-post_3.html
  

Wednesday, September 13, 2017

حمّامات دمشق، تتمّة

يدرس العالمان Ecochard و Le Coeur في الجزء الثاني من بحثهما حول حمّامات دمشق ٣٨ من هذه الحمّامات من ناحية التخطيط والتوزيع والتاريخ (قدر الإمكان مع الاستعانة بالنقوش والمخطوطات الأثريّة) والوضع الراهن ويرتّبان هذه المنشئات حسب تسلسلها الزمني بداية من أقدمها (ما قبل القرن الرابع عشر) إلى أحدثها (حمّام المزّة الذي بني عام ١٩٣٣). بلغت هذه الأبنية ذروة كمالها وفخامتها في القرنين الرابع عشر والخامس عشر تحت حكم المماليك وبدأت تتراجع بداية من القرن الثامن عشر (رغم طفرات في النصف الأوّل من هذا القرن) ومع حلول القرن التاسع عشر أصبحت الحمّامات في أحسن الأحوال تكراراً لنماذج سابقة وتحوّلت القاعات إلى أشكال مستطيلة تزايدت فيها المساحة المخصّصة للجوّاني على حساب الوسطاني. سأقتصر فيما يلي على ذكر بعض الأمثلة.



أوّلاً. لربّما كان حمّام الملك الظاهر في باب البريد هو الأقدم وإن طرأ عليه الكثير من التعديلات لاحقاً. هناك أدلّة (ترجمة Sauvaire للعلموي عن النعيمي) أنّ هذا الحمّام بني قبل عام ٩٧٩ للميلاد وكان اسمه وقتها حمّام العقيقي نسبة لصاحب دار العقيقي الذي أصبح لاحقاً المدرسة ثمّ المكتبة الظاهريّة. 

ثانياً. حمّام نور الدين (نسبة للأتابك نور الدين زنكي) أو حمّام البزوريّة وهو غنيّ عن التعريف. يعود للقرن الثاني عشر (بين ١١٥٤ و ١١٧٢) وتمّ تحويله إلى خان قبل أشهر من نشر كتاب المستشرقين.  

ثالثاً. حمّام التيروزي وهو أجمل حمّامات دمشق وأفضل ما يمثّل هذه الأبنية العريقة وواجهته بالذات هي الأكمل والأبهى من نوعها. بني عام ١٤٤٤ وقد أرفقت مخطّطه.



رابعاً. حمّام الجسر (قرن خامس عشر) أو حمّام عبد الباسط على نهر تورا قرب المدرسة الماردانيّة وكان له بّوّابة كبيرة فريدة من نوعها هدمتها يد الجهل عام ١٩٣٣ عندما تمّ تحويل المشلح لمخبز وأجهز الأوباش على بقاياه عام ١٩٦٩ ليحلّ مكانها بناء حديث قبيح.

خامساً. حمّام فتحي في الميدان نسبة لفتحي أفندي الفلاقنسي المشهور بالدفتردار وقد بني عام ١٧٤٥ ويمتاز بغنى زخرفته وبهاء واجهته وهو في حيّ الميدان  ولا يزال بحالته الأصليّة ووضعه جيّد وعلى علمي لا يزال شغّالاً. أرفق مخطّطه.



سادساً. حمّام قصر العظم (بني ١٧٤٥ إلى ١٧٤٩) وهو حمّام خاصّ لوالي دمشق المشهور وأسرته والقصر بحالة جيّدة اليوم كمتحف للتقاليد الشعبيّة.

لا أدري كم من هذه الحمّامات لا يزال موجوداً اليوم وإن كان من المعروف أنّ عدداً لا بأس به منها استصلح وفتحت أبوابه لمن يرغب في تذوّق نكهة ماضي الشام العريق ولو لسويعات قصيرة.

Les bains de Damas: monographies architecturales
Michel Ecochard et Claude Le Coeur
Institut Français de Damas 
1942-1943
Imprimerie Catholique, Beyrouth

حمّامات دمشق

بلغ تعداد حمّامات دمشق ٥٢ في القرن الثاني عشر للميلاد حسب رواية الحافظ إبن عساكر و ٦٠ عندما أجرى العالمان الفرنسيّان Michel Ecochard و Claude Le Coeur دراستهما عن هذه الحمّامات التي نشرها المعهد الفرنسي في دمشق بالتعاون مع المطبعة الكاثوليكيّة في بيروت على جزئين الأوّل عام ١٩٤٢ والثاني عام ١٩٤٣ وهذه الدراسة على حدّ علمي أفضل وأكمل الموجود حتّى وقتها ولربّما حتّى يومنا هذا وهي بالطبع باللغة الفرنسيّة. 



يتوزّع الجزء الأوّل على ٦٠ صفحة من القطع الكبير ٣٤ سم في ٢٥ سم وسّتة فصول تصف الحمّام وكيفيّة تزويده بالماء وتشغيله وأكلافه ومردوده والحياة الإجتماعيّة فيه ومستقبله كما بدا وقتها ويختم بقائمتين بالحمّامات نجد فيها أسمائها وإيجارها وكلفة دخولها وساعات عملها وما إذا كانت مخصّصة للنساء أو الرجال أو كليهما وأماكن تواجدها وما إذا كانت لا تزال شغّالة وحالتها (جيّدة أو متداعية إلخ) ويختم بخريطة كبيرة مطويّة ٦٨ سم في ٤٧ سم نعاين فيها مواقع هذه الحمّامات. 

الجزء الثاني يتوزّع على ١٣٢ صفحة تعطي وصفاً مفصّلاً ل ٣٨ حمّاماً يتوزّع على ثمانية فصول تصنّف فيها الحمّامات حسب تسلسلها الزمني وهناك فصل إضافي يحاول أن يربط بين حمّامات العصور الوسطى (أي العهد الإسلامي) وبين ما سبقها من المباني المشابهة في العهود البيزنطيّة والرومانيّة. 

يحتوي الكتاب على العديد من المخطّطات والإسقاطات ذات النوعيّة العالية ولكنّه يفتقر مع الأسف إلى الصور الفوتوغرافيّة. 

أجريت هذه الدراسة في زمن شهد دخول الحمّامات الإفرنجيّة إلى بيوت الطبقات الغنيّة والمتوسّطة في المدن وشكّل هذا بالطبع تهديداً لمستقبل "حمّام السوق" الذي أصبح يعتمد على الزوّار وذوي الدخل المحدود ممّا أدّى إلى تناقص مردود الحمّام وبالنتيجة عدد الحمّامات أو على الأقلّ عدد الحمّامات التي لا تزال شغّالة والذي لم يتجاوز ٤١ من أصل ٦٠ درسها المستشرقان. الغالبيّة العظمى من هذه الحمّامات كانت أوقافاً يتعيّن على الحمّامجي أو الحمّامي أن يدفع لها أجراً سنويّاً وبالطبع يتوجّب عليه دفع أجور الصنعيّة (منهم من كان من أفراد العائلة) وثمن المواد الأوّلية (الوقود مثلاً وهو وقتها زبل وتبن وما شابه) والضرائب وكما نرى في الجدول الملحق كانت الدخوليّة بين القرشين والعشرة قروش بينما يمكن أن تبلغ أجرة الحمّام مئات الليرات ولم تكن الضرائب رمزيّة. الخلاصة لم يكن الحمّامجي وصنعيته بالأغنياء ويمكن التماس العذر لمن اعتقد وقتها أنّ المهنة في طريقها للإنقراض خاصّة وأنّ عناية البلديّة بتمديدات فنوات فروع بردى تضائلت بعد جرّ مياه الفيجة وبالتالي أضيفت نفقات صيانة هذه التمديدات إلى أكلاف الحمّامجي.


نأتي الآن إلى وصف الحمّام وهنا تحسن الإشارة بأنّ المظهر الخارجي كان متواضعاً حتّى العهد المملوكي أمّا عن تنظيمه الداخلي فله عناصر ثابتة  عبر مئات السنين (وإن تغايرت نسبها وتفاصيلها)  يمكن معاينتها على المخطّط الملحق لحمّام البزوريّة أو حمّام نور الدين وتلخيصها كما يلي:

أوّلاً. المشلح A وفيه مساطب للزبائن يمكن فيه تناول القهوة والأركيلة وسرير يجلس عليه المعلّم الذي يلمّ "الغلّة".
ثانياً. المراحيض E وفيها مياه جارية تخفّف من وطأة نقص التهوية.
ثالثاً. الصالة الباردة B أو "الوسطاني برّاني" ويمكن استعمالها كمشلح للمسنّين والمرضى خاصّة في فصل الشتاء.
رابعاً. الصالة الفاترة C أو "الوسطاني جوّاني"  وفيها مقصورات ملحقة يمكن استعمالها لإزالة الشعر.
خامساً. الصالة الحارّة D أو الجوّاني وهي أيضاً تحتوي على مقصورات ملحقة ويأتيها البخار مباشرة من خلال فجوة في الجدار وكان فيها قديماً مقصورة لمغطس عمقه مترين ألغي بعد أن أصيب عدّة أشخاص بالاحتقان بعد نزولهم فيه. 
سادساً. قسم التدفئة F والخدمات الإضافيّة.



بالنسبة لطاقم العمل فهناك المعلّم (أو زوجه في ساعات النساء) والمكيّس أو المدلّك وتابعيه أو مساعديه والوقّاد والزبّال (الذي يجلب المحروقات).

بشكل عامّ خصّصت ساعات الصباح للرجال وبعد الظهر للنساء والأطفال (بما فيهم الذكور دون سنّ السابعة) وهناك حمّامات للرجال حصراً وثانية تعتمد على الزبائن المسيحييّن (البكري) وثالثة اليهود والمسيحييّن (المسك). تميل النساء بشكل عامّ لقضاء ساعات أكثر في الحمّام وعلّ هذا كون أماكن التسلية البديلة خارج المنزل المتاحة لهنّ (المقاهي مثلاً) آنذاك قليلة أو حتّى معدومة.

للحديث بقيّة.  

Les bains de Damas: monographies architecturales
Michel Ecochard et Claude Le Coeur
Institut Français de Damas 
1942-1943
Imprimerie Catholique, Beyrouth

توزيع المياه في واحة دمشق

ينبع نهر بردى من جبال لبنان الشرقيّة ويتّجه غرباً إلى دمشق لترفده مياع عين الفيجة حوالي ٢٠ كيلومتراً قبل دخوله إلى المدينة. النهر هبة الطبيعة ولكن لولا تفرّعاته لما روى أكثر من شريطين ضيّقين من الأرض على ضفّتيه وهنا يأتي دور الإنسان الذي شقّ أقنية شمالاً وجنوباً على أعلى مستوى ممكن من الإرتفاع بهدف سقاية المنحدرات. هذه الفروع هي يزيد وتورا شمالاً وبانياس والقنوات والداراني والمزّاوي جنوباً. يعتقد أنّ بانياس وتورا آراميّة والقنوات روماني ويزيد أموي وإن كان هناك جدل على ذلك. 

نرى في الخريطة الأولى الأراضي التي ترويها كلّ من هذه الأقنية وأكبرها تورا الذي يأخذ ١٤ قيراطاً من ٢٤ من مياه بردى ولكن المدينة داخل السور تعتمد بشكل أساسي على بانياس والقنوات والثاني هو الأهمّ. 



الصورة الثانية لمقطع عند خانق الربوة يوضّح توزّع أقنية بردى وارتفاع كلّ منها. 



Les bains de Damas: monographies architecturales
Michel Ecochard et Claude Le Coeur
Institut Français de Damas 
1942-1943
Imprimerie Catholique, Beyrout

Saturday, September 9, 2017

The Arab Academy of Damascus

Two renowned authors, Sami Dahan (Syria) and Henri Laoust (a French orientalist), provide a nice summary of the history and activities of the Arab Academy of Damascus in an article published  in 1951 by the Institut Français de Damas in its periodical, the Bulletin d'Etudes Orientales. This brief study covers the period from 1918 till 1950.



It all started right after WWI and the expulsion of the Ottomans from Syria under King Faisal and his military governor, Rida Pasha al-Rikabi when a section for translation and publication was established in the fall of 1918. This section morphed into the Supreme Council of Public Education in February 1919 presided by Muhammad Kurd Ali. On June 8 the Arab Government assigned Mr. Ali the task of founding an Arab Academy to be modeled after its French namesake for the purpose of reviving the Arab language and literature casting aside religious and political polemics. Thus defined, the Academy was the first of its kind in the Arab-speaking lands. 

As for its organization, its membership comprised two categories: 
1. Active members, 20 in total. They had to be Syrian citizens, residents of Damascus, aged 35 years or more. 
2. Corresponding members: no limit as far as residence or numbers are concerned. 

As of 1950, the Academy was presided by Kurd Ali with Sheikh Abdul Kadir al-Maghribi as vice president and Khalil Mardam Bey as secretary (a poet best know as the author of the Syrian National Anthem). An crucial threshold was crossed when the Academy assumed the management of the National Library (al-Zahiryia) in 1927. The Zahiryia Library was established in 1878 at the funerary Islamic school of the Mameluke Sultan Baybars. Starting with the acquisition of the historical manuscripts of 10 different libraries, the Zahiryia's has since added to its priceless collection through purchases and donations. The Academy's choice fell on the Ayyubid Madrasa Adiliyia  for its headquarters.  

In addition to its own periodical, the Academy had published quite few independent review and research works mostly related to studying and commenting historical manuscripts. It also had organized lectures and conferences. 

For a thorough list of its articles and books, one may consult the original article cited above. Following are few names out of a total of 93 members as of 1950:

Two physicians: Dr. Husni Sabah & Dr. Murshid Khatir.
The veteran politician and lawyer Faris bey al-Khuri.
The poets Muhammad al-Bizm, Badawi al-Jabal, Omar abu Rishe, Bishara al-Khuri (al Akhtal al-Sagheer).
The illustrious writers Ahmad Hassan al-Zayat, Taha Hussein Pasha, Abbas Mahmud al-Aqqad, Khayr al-Deen al-Zarkali.
The historian Philip Hitti
The French orientalist  René Dussaud and his German counterpart  Carl Brockelmann

And many more. 


المجمع العلمي العربي في دمشق

يعطي هذا المقال المنشور باللغة الفرنسيّة في العدد الثالث عشر من مجلّة الدراسات الشرقيّة الصادر عام ١٩٥١ نبذة عن تاريخ المجمع العلمي العربي أو مجمع اللغة العربيّة في دمشق ونشاطاته ومنشوراته منذ تأسيسه وحتّى عام ١٩٥٠. البحث للسادة Henri Laoust وسامي دهّان.


كانت البدايات في العهد الفيصلي عندما كان رضا باشا الركابي حاكماً عسكريّاً لدمشق إذ تأسّس قسم للترجمة والنشر في خريف ١٩١٨ ليتحوّل في شباط ١٩١٩ إلى المجلس الأعلى للتعليم العامّ أو ديوان المعارف برئاسة السيّد محمّد كرد علي الذي عهدت إليه الحكومة العربيّة في ٨ حزيران ١٩١٩ بمهمّة إنشاء وتنظيم أكاديمية عربيّة على غرار الأكاديمية الفرنسيّة وكان هذا بهدف إحياء التراث العربي واللغة العربيّة بعيداً عن الجدل الديني والسياسي وكانت هذه المؤسّسة الأولى من نوعها في البلاد الناطقة باللغة العربيّة،

سمح نظام المجمع بنوعين من الأعضاء: عاملين ومراسلين. عدد الأعضاء العاملين ٢٠ ويشترط كونهم سوريّي الجنسيّة ومقيمين في دمشق وأن يكون العمر ٣٥ سنة على الأقلّ أمّا عن المراسلين فهم من كلّ أرجاء العالم. شغل منصب رئيس المجمع عام 1950 العلّامة محمّد كرد علي ونائب الرئيس الشيخ عبد القادر المغربي والأمين العامّ الشاعر خليل مردم بك مؤلّف نشيد حماة الديار. عهد للمجمع عام ١٩٢٧ مهمّة الإشراف على المكتبة الظاهريّة التي كانت وقتها مكتبة دمشق الوطنيّة. تأسّست هذه المكتبة عام ١٨٧٨ عندما جمعت فيها المخطوطات التاريخيّة الثمينة من عشر مكتبات مختلفة وأضافت الهبات والمشتروات إلى مقتتياتها عبر السنوات أمّا عن مقر المجمع فكان في المدرسة العادليّة.

أصدر المجمع نوعين من المنشورات: الأوّل مجلّة دوريّة رأى عددها الأوّل النور في كانون الثاني عام ١٩٢١ والثاني أبحاثاً مستقلّة أولويتها دراسة النصوص القديمة وتدقيقها. قام المجمع علاوة على ذلك بتنظيم المحاضرات والمؤتمرات بين الفينة والفينة.

يمكن الرجوع للمقال الذي يعطي لائحة مفصّلة بمنشورات المجمع منذ البدايات وحتّى منتصف القرن العشرين كما يسمّي أعضائه البالغ عددهم وقتها ٩٣ أذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر العلماء والأدباء السادة:

الأطبّاء حسني سبح ومرشد خاطر ورجل القانون السياسي المخضرم فارس بك الخوري والشعراء محمّد البزم وبدوي الجبل وعمر أبو ريشة وبشارة الخوري (الأخطل الصغير)  والأدباء أحمد حسن الزيّات وطه حسين باشا وعبّاس محمود العقّاد وخير الدين الزركلي والمؤرّخ فيليب حتّي والمستشرق الفرنسي  René Dussaud ونظيره الألماني Carl Brockelmann وعديد سواهم.  



معالم العهد الأتابكي في دمشق

دامت دولة الأتابك نور الدين زنكي من عام ١١٤٦ للميلاد وحتّى وفاته عام ١١٧٤ وكان شاغله الشاغل في هذه السنوات الحرب ضدّ الصليبييّن وبشكل أو بآخر الفاطمييّن. ازدهرت سوريا في عهده أو على الأقلّ المدن السورية وترك وراءه الكثير من العمائر خصوصاً العسكريّة والدينيّة في حلب ودمشق وبعلبك وحماة وحمص ومكّة والمدينة والموصل وكثير غيرها. تحتلّ حلب ودمشق مركز الصدارة في سوريا الأتابكيّة وسأتعرّض هنا لبعض المعالم الشهيرة في دمشق فقط ولمن يرغب بكشف مفصّل للآثار النوريّة يمكن الرجوع للمقال الأصلي  باللغة الفرنسيّة للمستشرق Nikita Elisséeff المنشور عام ١٩٥١ في العدد الثالث عشر من مجلّة الدراسات الشرقيّة الصادرة عن معهد دمشق الفرنسي والمطبعة الكاثوليكيّة في بيروت. 



من ناحية المباني العسكريّة عني نور الدين بتحصين المدينة وترميم سورها وتعزيزه بالأبراج.  كان لدمشق سبعة أبواب قبل نور الدين: الباب الصغير وباب كيسان والباب الشرقي وباب توما وأبواب الجنيق والفراديس والجابية. وبنى نور الدين أربعة أبواب جديدة: باب السلام وباب الفرج وباب الحديد وباب السرّ

بالنسبة إلى التعديلات التي أجراها نور الدين على الأبواب القديمة فقد قام بسدّ باب كيسان وعلّ هذا كان بهدف منع خيانة مماثلة للتي سمحت له بدخول دمشق عندما سهّلت امرأة يهوديّة لعسكره فتح الباب الشرقي. بالنسبة لباب كيسان (باب زحل في العهد الروماني) فهو المكان الذي يفترض أنّ القدّيس بولس هرب من دمشق مستعملاً إحدى النوافذ المجاورة له عام ٣٨ للميلاد. المهمّ ظلّ باب كيسان مسدوداً حتّى عام ١٣٦٤ وبالنتيجة هدم كي يبنى مكانه كنيسة القدّيس بولس التي افتتحت في حزيران ١٩٣٩. أمّا عن الباب الشرقي فقد بنى نور الدين فوقه جامعاً صغيراً ومئذنة وهكذا فعل في الباب الصغير

عن الأبواب التي بنيت في عهد نور الدين:
١. باب السلام في الشمال وقد جدّد عام ١٢٤٣ في عهد السلطان الأيّوبي الملك الصالح.
٢. باب الفرج في الشمال إلى جانب القلعة.
٣. باب الحديد شمال القلعة ويصله مع خارج المدينة جسر فوق بردى وقد شمل ببرج القلعة التي أعاد بنائها الملك العادل فيما بعد.
٤. باب السرّ ويقع في جدار القلعة الغربي قرب القصر (أقام نور الدين في القلعة).

بالنسبة لأهمّ المباني:

أوّلاً. البيمارستان النوري ورمّم عدّة مرّات عبر العصورز حوّله السلطان عبد الحميد عام ١٨٩٩ إلى ميتم للبنات وأصبح مدرسة تجاريّة تابعة للحكومة السوريّة عام ١٩٣٧.
ثانياً. دار العدل وكانت تقع في حيّ الأروام (مدخل سوق الحميديّة لاحقاً) وكانت بالدرجة الأولى لمحاسبة المتنفّذين الذين لا يتجرّأ عليهم القضاة العاديّون (مثل أسد الدين شيركوه). تحوّلت إلى دار السعادة في عهد صلاح الدين وقد اندثرت.
ثالثاً. المدرسة النوريّة الكبرى والتي كانت أكبر مدرسة حنفيّة في دمشق وفيها تربة نور الدين.
رابعاً. دار الحديث النوريّة في حيّ العصرونيّة وكانت الأولى من نوعها في سوريا وكان إبن عساكر أوّل أساتذتها كما أقام بها الرحّالة الأندلسي إبن جبير لدى زيارته دمشق في أواخر القرن الثاني عشر. أصبحت أنقاضاً بعد حريق ١٨٩٣ المدمّر.
خامساً. حمّام نور الدين أو حمّام البزوريّة.
سادساً. المدرسة العادليّة الكبرى وقد بوشر في بنائها في عهد نور الدين ولكنّها لم تكتمل حتّى ما بعد وفاة الملك العادل الذي دفن فيها عام ١٢٢٢ ومن هنا اسمها. علّم فيها إبن خلكان وكانت حسب إبن بطوطة أكبر مدرسة شافعيّة في دمشق. أصبحت في القرن العشرين مقراً للمجمع العلمي العربي أو مجمع اللغة العربيّة في دمشق.

ترك نور الدين الكثير من المعالم في حلب وغيرها يمكن الرجوع إليها في المقال المذكور أعلاه وهو بطول ٣٨ صفحة ولا أدري ما إذا ترجم إلى اللغة العربيّة.