Sunday, September 3, 2017

العمارة في الحضارة الإسلاميّة

الدكتور عبد القادر الريحاوي أخصّائي في تاريخ الفنّ والعمارة وله عشرات من الأبحاث والمقالات والكتب نشرت خلال فترة قاربت النصف قرن وعلّ كتابه عن العمارة الإسلاميّة أكثرها طموحاً بشموليّته. نشر الكتاب عام ١٩٩١ وإن كانت الغالبيّة العظمى من المعلومات الواردة فيه تعود لعام ١٩٨٤ أو قبل. عدد صفحات الكتاب حوالي ٦٤٠ من القطع الكبير ٢٨ سم في ٢٢ سم وهي من الورق الصقيل وتزيّنها المئات من المخطّطات والصور الملوّنة او بالأبيض والأسود من نوعيّة متفاوتة ولكنّها إجمالاً مقبولة في عهد ما قبل التصوير الرقمي. كثير من هذه الصور لقطات للمؤلّف عبر ترحاله في كثير من البلدان على مدى عشرات السنين.



يغطّي الكتاب العمارة الإسلاميّة منذ البدايات في القرن السابع الميلادي وحتّى مطلع القرن التاسع عشر إذ يعتبر الفترة التالية فترة تراجع وانحطاط دخلت فيها تأثيرات أوروبا من الباروك والروكوكو والكلاسيكية الحديثة وفقد الفنّ الإسلامي أصالته وإبداعه وتحوّل إلى تقليد الغرب والإقتباس منه أمّا عن الرقعة الجغرافيّة قيد الدراسة فهي تمتدّ من الهند والسند في الشرق إلى الأندلس في الغرب. ليس العمل بالضبط موجّهاً إلى الأخصّائييّن وإنّما هو تقديم فيه الكثير من التفاصيل المفيدة لمن يرغب بالتوسّع وبالطبع أورد الكاتب العديد من المصادر والمراجع العربيّة والأجنبيّة.   

بالنسبة لنهج الكتاب فهو يبدأ بتمهيد مختصر يعرّف فبه بالخطوط العريضة للعمارة السابقة للإسلام في الشرق الأدنى والأوسط (أي إيران) وأثرها على العمارة الإسلاميّة لاحقاً وينتقل بعد هذا إلى تقديم الصفات العامّة والمشتركة للعمارة الإسلاميّة من الشرق إلى الغرب عبر إثني عشر قرناً من الزمن من ناحية التصميم والعناصر العماريّة والعناصر الزخرفيّة فمن ناحية الهندسة والتخطيط يعتمد التسقيف على القباب وهي عنصر شائع في العمارات الدينيّة والسقوف المعقودة أو الأقباء vault والصحن المحاط بالأواوين والأروقة والعقود أو الأقواس arch والعمد column والعضائد أو الدعامات pillar والقناطر arcade والعناية بالواجهات والبوّابات. من حيث المظهر العامّ تمتاز العمائر الإسلاميّة بتنويع زخرفتها التي تعتمد على المواضيع النباتيّة والهندسيّة والخطّ العربي وتتجنّب مع استثناءات نادرة التمثيل الواقعي للكائنات الحيّة.  

يقسّم متن الكتاب على عشرة فصول الأوّل يبحث العمارة في العهد الأموي والثاني العبّاسي والثالث السلجوقي ثمّ الفاطمي فالأيّوبي فالمملوكي فالمغربي-الأندلسي فالعثماني فالشرقي (إيران وتركستان وأفغانستان) وأخيراً الهندي. من الطبيعي أنّه لا يمكن تغطية هذه الرقعة الجغرافيّة الشاسعة وهذه الفترة الزمنيّة الطويلة في هذا العدد المحدود من الصفحات دون الكثير من الإختزال والإختصار وحتّى تجاوز الكثير الكثير من المعالم والأوابد التي اكتفى المؤلّف بذكر عابر لبعضها وإن حاول قصارى جهده أن يغطّي ما اعتبره أهمّها تغطية وافية ومهنيّة. يبقى الكتاب مجهوداً فرديّاً وبالتاي لا يخلو من الأغلاط أغلبها مطبعيّة أو أخطاء سهو كان من الممكن تلافيها بالتدقيق والمراجعة من جهات مختصّة أو ما يسمّى بالإنجليزيّة peer review وفي كلّ الأحوال لسيت هذه الأخطاء بذات بال ولا تؤثّر على السياق العامّ للسرد وإن توجبّ التحققّ من بعض الأرقام والتواريخ والأسماء ومقارنتها في مراجع ثانية.   

مع احترام الخطوط العريضة المشتركة بين كافّة العمائر الإسلاميّة كما سبق فلكلّ زمان ومكان ما يميّزه سواء فيما يتعلّق بمواد البناء (الحجر في سوريا والهند مثلاً والآجرّ واللبن في العراق) وتخطيطه (الصحن المفتوح في الشام والمسقوف في البلاد الأكثر برودة كالأناضول) وأشكاله (المآذن المضلّعة لدى المماليك والنحيلة الطويلة في العهد العثماني) وزخرفته (الغنيّة للغاية في المغرب والأندلس والمتقشّفة في المباني الأيّوبيّة) إلخ وقد حرص الدكتور ريحاوي أن يحدّد العناصر المشتركة لكل عهد وطراز في مطلع كل فصل من الفصول العشرة التي سبق ذكرها. لا مجال هنا للدخول في تفاصيل الآثار الخالدة كجامع بني أميّة الكبير في دمشق والحرم الشريف في القدس والمباني العملاقة في العهد العثماني والمنشئات البديعة في ميدان أصفهان في العهد الصفوي والحمراء في غرناطة (أجمل مباني الغرب حسب المؤلّف) وتاج محلّ في الهند (أجمل مباني الشرق أيضاً حسب رأي المؤلّف) ولكن يمكن القول أنّها إجمالاً بلغت من الناحية الهندسيّة والفنيّة والجماليّة الكمال أو كادت. 

عني المؤلّف بتخصيص عدّة صفحات في نهاية الكتاب للمصطلحات glossary بهدف تسهيل مهمّة الباحث والقارىء وهي ترفق بتعريفها بالعربيّة مقابلها في الإنجليزيّة والفرنسيّة وقد وجدته مفيداً للغاية ولكن الكتاب مع الأسف الشديد يفتقر إلى فهرس أبجدي وهي نقيصة تشترك فيها العديد من الأعمال العربيّة إن لم نقل أغلبيتها الساحقة. بالنسبة للشرح التقني فهو إجمالاً أكثر من واف وإن صادفتني بعض الصعوبات في التفريق بين أنواع الأقواس (النصف دائريّة والمدبّبة سهلة ولكنّي ضعت بين الأقواس العراقيّة والفارسيّة مثلاً)  وأعتقد أنّ الوسيلة المثلى تكون بإرفاق صور لهذه الأقواس جنباً إلى جنب ليمكن التمييز بينها. أحد الصعوبات أيضاً (وهي قطعاً ليست مقصورة على هذا الكتاب إذ صادفتها في مراجع بلغات أخرى) تحديد الجهات الأربعة على المخطّطات فأحياناً ترى الشمال في الأعلى (كما تعوّد أغلبنا عليه) وأحياناً نراه مقلوباً أو معكوساً يضاف إلى ذلك أنّ أغلب هذه المخطّطات لا تحمل شروحاً ويتعيّن البحث عن هذا الشرح في النصّ ممّا يصعّب المهمّة على الهواة أمثالي. 

هناك في بعض الأماكن إضافات سياسيّة ودينيّة يصعب تبريرها في كتاب علمي موضوعه العمارة وتاريخ العمارة فمثلاً يستعمل المؤلّف في صفحة ٣٨٠ عبارة "الاستعمار الأوروبي يقضي على دولة غرناطة" وصفحة ٤٠٦ يستعمل تعبير "الاحتلال الإسباني" أيضاً عن غرناطة وهناك إشارات مماثلة في أكثر من مكان وعن أكثر من حالة من الشرق إلى الغرب وهذه اللغة عاطفيّة أكثر منها علميّة إذ لماذا نعتبر دخول طارق بن زياد إسبانيا "فتحاً" ودخول الإسبان لغرناطة "احتلالاً"؟ بالطبع هذا لا ينفي أنّ ما فعله ملوك الإسبان في أعقاب الفتح كان أمراً مستقبحاً ومستهجناً إذ القضاء على إمارة غرناطة شيء وطرد المسلمين (واليهود) من إسبانيا شيء آخر. بمعايير القرن الحادي والعشرين مسلمو إسبانيا إسبان يميّزهم فقط دينهم وعقيدتهم ولا يعقل إعتبارهم غرباء في بلاد ولدوا فبها كما ولد آباؤهم وأجدادهم ولكن العرف السائد والقيم المتعارف عليها في القرن الخامس عشر كانت مغايرة لما هو مقبول اليوم من الألف إلى الياء على الأقلّ في أوروبا. 

للأمانة يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ هذا الكتاب صدر عن "مركز النشر العلمي في جامعة الملك عبد العزيز في جدّة" ومن شبه المؤكّد أنه كان خاضعاً لرقابة دقيقة وبالتالي لربّما كانت خيارات الكاتب محدودة إذا أراد لعمله أن يرى النور في مملكة آل سعود. 

يبقى هذا السفر النفيس مرجعاً قيّماً للعمارة االإسلاميّة وإضافة ثمينة باللغة العربيّة لموضوع كتب عنه الغربيّون وإلى أمد قريب أكثر بكثير من أصحاب العلاقة المعنييّن. رحم الله المؤلّف العالم الكبير الدكتور ريحاوي.


No comments:

Post a Comment