Sunday, September 3, 2017

تشرين الأوّل في دمشق عام ١٩٢٥ عندما هاجم الثوّار السوريّون قصر العظم

التاريخ المكتوب لكلّ الشعوب في كل زمان ومكان هو عبارة عن مجموعة مختارة بعناية فائقة من الأكاذيب وأنصاف الحقائق يقصد بها ترويج رواية أو بالأحرى أسطورة معيّنة وتجاهل كلّ ما يعاكسها أو إذا اقتضى الأمر تبريره حتّى إذا نافى هذا التبرير العقل والمنطق. قبل الدخول في صلب الموضوع سأعطي مثالاً قرأته منذ سنوات بالفرنسيّة في مجلّة الشبيبة البلجيكيّة الشهيرة tintin  نشر بالأصل على أربعة صفحات في العدد ٤٢ للعام ١٩٦٩ بعنوان Le pavé des martyrs أي بلاط الشهداء. يضع الكاتب Yves Duval فيه على لسان عبد الرحمن الغافقي تعليمات إلى جنود المسلمين بذبح النساء والأطفال من الأسرى بغية توفير نفقة غذاء "أفواه لا فائدة منها" أو بالفرنسيّة bouches inutiles. هذا بالطبع كلام فارغ يقصد به تربيّة الجيل الفرنسي الصاعد على روايات بطولة Charles Martel وهمجيّة المسلمين ولا أقول هذا لأن الغافقي كان قدّيساً إذ لا يوجد قدّيسون أو قدسيّة في الحرب والقتل بغضّ النظر عن المسمّيات ولكن لأنّ النساء الشابّات والأطفال الأصحّاء غنائم حرب ثمينة لا يفرّط فيها حتّى هولاكو وجنكيز خان. باختصار الرواية الغربيّة لا تقلّ تنميقاً وزيفاً عن نظيرتها الشرقيّة وإذا أردنا أن نبحث في حقيقة ما حصل فعلاً في Poitiers  والأحداث التي سبقتها ولحقتها في ثلاثينات القرن الثامن الميلادي فيتعيّن علينا أن نقارن بين الروايتين أو على الأقلّ أن نذكر كليهما. 

فلنقفز الآن إلى عهد الإنتداب الفرنسي وعام الثورة السوريّة الكبرى ١٩٢٥ موضوع الحديث. ليس هدفي هنا أن أدافع عن الفرنسييّن بل أن أنقل بأمانة وجهة نظر المستشرق Eustache de Lorey كما نشرت في حينه (الرابط مرفق أدناه وهو بالمجّان) أي أن أترك للفرنسييّن رواية ما جرى في خريف الغضب هذا (استعارة من عنوان كتاب الصحفي المصري الراحل محمّد حسنين هيكل) تماماً كما تترك المناهج والكتب السوريّة للسورييّن مهمّة رواية قصف فرنسا العشوائي الهمجي لسكّان دمشق المدنييّن الآمنين دون أي تحليل يستحقّ الذكر لخلفيّات هذا القصف. 

قبل أن أترك الكلمة للسيّد de Lorey (وهو عالم محترم أشرف على كشف فسيفساء الجامع الأموي) أحبّ أن أنوّه إلى الحقائق التالية:

١. لم يستول الفرنسيّون على قصر العظم عنوة بل اشتروه بمبلغ كبير من المال من الورثة من آل العظم والبالغ عددهم ٦٨ شخصاً وقاموا بتخصيص قسم السلاملك (الأصغر) أو البرّاني كمقرّ للمندوب السامي بينما خصّص الحرملك أو الجوّاني الأكبر مساحة كمقرّ للمعهد الفرنسي للآثار والفنون الإسلاميّة الذي أسّسه الجنرال غورو.
٢. من خلال استقراء التاريخ المدرّس في سوريا نعلم أنّ غورو وجّه إنذاره الشهير لفيصل قبل أن يواجه يوسف العظمة وجنده ومتطوّعيه في ميسلون ومن ثمّ دخل دمشق وذهب إلى ضريح صلاح الدين وقال "ها قد عدنا يا صلاح الدين" بل تذهب بعض الروايات إلى حدّ القول بأنّه ركل الضريح!
٣. غورو لم يكن فقط جنديّاً بل كان كاتباً وأكاديميّاً وراعياً للفنّ والتراث وهو الذي طلب من الأب Henri Lammens تأليف كتاب عن تاريخ سوريا لا يزال مرجعاً قيّماً حتّى اليوم مهما كانت التحفّظات عليه وعلى كاتبه.  



أنتقل الآن إلى ترجمة ما كتبه السيّد de Lorey دون أن أزكّيها وأدعو القارىء إلى مقارنتها مع الأدبيّات السوريّة والحكم بالنهاية له في تصديق أو تكذيب أي من الطرفين:

"قامت عصابات مسلّحة منذ بداية التمرّد في ١٨ تشرين الأوّل بمهاجمة المقرّ اعتقاداً منهم أن يجدوا المندوب السامي فيه. هاجم المتمرّدون الحرس بعنف مستعملين الرمّانات اليدويّة واستطاعوا السيطرة على السطوح بسرعة ممّا أجبر الحرس على التراجع إلى صحن الحرملك.
قامت جماعة من العصاة حوالي الساعة السادسة يوم الإثنين بالعودة إلى مهاجمة المقرّ ونجحوا باقتحام باب القصر ونهبوا المقرّ ثمّ رشّوه بالبترول وأحرقوه كما ذكر إبن زعيم العصابة حسن الخرّاط الذي اشترك في الهجوم ومّما ساعد على انتشار الحريق الخشبيّات الملوّنة التي تزيّن القاعات ورقّة الجدران التي وصلت الأخشاب عناصر بنائها مع بعضها بعضاً وانتشرت النار حثيثاً إلى الباب والجناح الخشبي قرب المدخل حيث يقطن مدير المعهد.
تمّ تخليص الحرس يوم الثلاثاء في العشرين من تشرين الأوّل وكانت جميع غرف القصر لا تزال سالمة لدى الإخلاء مع استثناء المقرّ والجناح. بقيت أغلب هذه الغرف مغلقة ولكن إخلاء الحرس تركها دون حماية وبالتالي استؤنف النهب بعد الظهر وفي ليلة تشرين أوّل ٢١-٢٢ انتشرت النار إلى قاعة الإحتفالات في الحرملك.
بدأ النهب بعد ظهر ٢٠ تشرين أوّل بعد إخلاء القصر ولكن معظمه كان صباح ٢١ تشرين أوّل إذ سمح احتراق الباب بالدخول إلى المعهد دون عوائق ونهبه واقتحام أبوابه.
رميت المصنّفات في المكاتب على الأرض ودهست بالأقدام ومزّقت بل وضبط بعضها لاحقاً مع اللصوص الذين أخذوها اعتقاداً منهم أنّها وثائق ثمينة ولاقت المعاينات الأثريّة والرسوم ومجموعات القوالب نفس المصير أمّا أثاث الصالونات والسجّاد الثمين والأعمال الفنيّة فقد سرق. حتّى الأسلاك الكهربائيّة تمّ اقتلاعها. 
كان الأذى الذي لحق بالمكتبة بالغاً خاصّىة المجلّدات الحاوية على الصور والمؤلّفات المتعلّقة بالآثار. بالمقابل العديد من اللوحات والأوراق مزّقت عمداً أو ألقيت بالأحواض المائيّة إزدراءً لقيمتها. 
اختفى الزجاج الملوّن والنحاس المنحوت والنقود من المتحف مع الكأس المقدّسة من بلدة طفس والحرير الأثري وأجمل قطع مجموعات الخزف الدمشقيّة التي عثر عليها من خلال التنقيب في حنانيا والباب الشرقي. أسقط مذبح الإله مناف (أعتقد أنّ المقصود الإلهة مناة) عن قاعدته وكسر النقش الجصّي من ري وهو أهمّ تمثيل بشري معروف نحته فنّان مسلم وكان بارتفاع ٧٥ سم لشخص مستدير الوجه منتصب القامة يحمل هراوة من النموذج الإيراني. بالنسبة لرداء هذا الشخص فهو عمامة وقفطان مخطّطين ونرى على الذراع اليمنى كتابات كوفيّة ويرتدي التمثال صدريّة طويلة في غاية الأهميّة لدراسة نسيج أقمشة بدايات العصور الإسلاميّة إذ يعتقد أنّه يعود للقرن التاسع أو العاشر الميلادي.
يجب أيضاً أن نذكر خسارة الأجهزة الفوتوغرافيّة ومجموعة الصفائح التي ينتظم فيها أكثر من ألفي صورة للآثار الإسلاميّة من دمشق وحلب وحماة وبلاد ما بين النهرين".



http://www.persee.fr/doc/syria_0039-7946_1925_num_6_4_3127?q=de%20lorey



  

No comments:

Post a Comment