Tuesday, December 31, 2019

دفاعاً عن الجامعة السوريّة


قسّم الفرنسيّون حصّتهم من سوريا الجغرافيّة في مطلع عشرينات القرن الماضي إلى ستّة كيانات: دول دمشق وحلب والعلوييّن وجبل الدروز ولبنان الكبير وسنجق اسكندرون بينما تكفّل الإنجليز بالأردنّ بضفّتيه الشرقيّة والغربيّة (أي فلسطين). تروي الأسطر التالية المقتبسة عن الدكتور عبد الكريم رافق قصّة الصراع على هويّة الجامعة السوريّة في مطلع عهد الانتداب.

نادى عدد من الفرنسييّن في البداية بإلغاء المعهد الطبّي في دمشق ومنهم السيّد Chassevant أستاذ في كليّة الطبّ في جامعة الجزائر ورئيس لجنة امتحانات خرّيجي المعهد الطبّي الفرنسي في بيروت. رفع الأستاذ المذكور تقربراً في ٢٨ أيلول عام ١٩٢١ ذكر فيه أرقاماً وإحصائيّات أهمّها يتعلّق بالخدمات الصحيّة في دولة دمشق التي شملت أربع متصرّفيّات (دمشق وحوران وحمص وحماة) وبلغ عدد سكّانها  ٩٥٠٠٠٠ نسمة. بلغ عدد الأطبّاء في هذه "الدولة" ١٥١ منهم ١٧ من خرّيجيّ المدرسة اليسوعيّة في بيروت و ١٤ من الجامعة الأمريكيّة (الكليّة البروتستانتيّة السوريّة حتّى عام ١٩٢٠) و ٥٤ من القسطنطينيّة و ٦٦ من المعهد الطبّي في دمشق. بلغ عدد الصيادلة ٥٥ ويضاف إلى الصيادلة والأطبّاء عدد من المجبّرين والدجّالين. بالنسبة للتوزيع أخذت دمشق حصّة الأسد (١٠٢ طبيب) بينما تواجد عشرون من الأطبّاء في حمص و ١٣ في حماة و ١٦ في بقيّة المناطق. أعداد زهيدة بالكاد تكفي لاحتياجات قرابة مليون إنسان ناهيك عن تمركز أغلبيّة الأطبّاء في مناطق معيّنة. 



أوصى البعض بناءً على تقرير Chassevant بإغلاق المعهد الطبّي العربي وتأسيس معهد طبّي فرنسي-عربي عوضاً عنه (على غرار الجزائر) يتّخذ التكيّة السليمانيّة مقرّاً له ويشمل صفّاً تحضيريّاً للفيزياء والكيمياء والعلوم الطبيعيّة P.C.N أو Physique, Chimie, Science Naturelle. تشمل التوصية وضع المعهد الجديد تحت إدارة فرنسيّة بإشراف المندوب السامي وتعيين أساتذة فرنسييّن وإخضاع الطلّاب لامتحانات أمام هيئة من الكليّة اليسوعيّة في بيروت وإنهاء دراساتهم في اليسوعيّة أو الأمريكيّة والحصول على شهاداتهم منها. هنا يتعيّن التنويه أنّ عمداء كليّات الجامعة المصريّة الحكوميّة كانوا يعيّنون من قبل الإنجليز حتّى عام ١٩٢٧ عندما عيّن أوّل عميد مصري لكليّة الحقوق تلاه آخر لكليّة الطبّ بعد سنتين وثالث لكليّة الآداب ١٩٣٠ أمّا كليّة العلوم فقد تعيّن عليها الانتطار حتّى ١٩٣٦. 

أضاف السيّد Louis Jalabert ممثّل مدير المعهد الطبّي الفرنسي في بيروت لدى الحكومة الفرنسيّة في رسالة إلى رئيس الوزراء ووزير الخارجيّة الفرنسي في العاشر من تشرين أوّل عام ١٩٢٢ أنّ المدرسة الطبيّة في دمشق ستكون منافسة لنظيرتها في بيروت علاوة على المنافسة التي تواجهها هذه الأخيرة من الجامعة الأمريكيّة التي تتمتّع بموازنة كبيرة وحذّر من التدريس باللغة العربيّة في معهد دمشق ممّا قد يؤدّي إلى تحوّل الطلّاب عن الثقافة الفرنسيّة ولربّما أيضاً زيادة العداوة لفرنسا في صفوفهم. ختم السيّد Jalabert رسالته بالقول أنّ تنظيم المعهد الطبّي في دمشق غير ضروري وغير مرغوب فيه. 

بالمقابل شجّع  بعض الفرنسييّن المتنفّذين الجامعة السوريّة الفتيّة ومنهم الجنرال Gouraud وارتأوا المحافظة على معهديّ الطبّ والحقوق ورعاية تأسيس جامعة عربيّة في دمشق إرضاءً للرأي العامّ الوطني والإسلامي وخدمة للمصالح الفرنسيّة في نفس الوقت. غنيّ عن الذكر أنّه ما كان لأي دعم فرنسي للجامعة السوريّة أن يثمر لولا جهود السورييّن ومواظبتهم وولائهم لمؤسّستهم العلميّة الأولى ولعب عميد المعهد الطبّي الدكتور رضا سعيد بالذات دوراً جوهريّاً في الحيلولة دون فرنسة الجامعة التي قدّر له أن يقودها بحكمة وكياسة حتّى تقاعده في شباط ١٩٣٦.







Monday, December 30, 2019

سمير


لربّما كانت هذه المجلّة المصوّرة الأسبوعيّة الأقدم بين دوريّات الأطفال الموجودة اليوم إذ يعود العدد الأوّل منها إلى عام ١٩٥٦ ودار الهلال العريقة. اعتمدت سمير في بداياتها إلى درجة كبيرة على القصص المترجمة عن المجلّات الأوروبيّة وخصوصاً الفرنسيّة البلجيكيّة (Tintin تحت اسم تم تم و Pom & Teddy تحت اسم سامح و Ric Hochet الذي ترجم جاسر وغيرها) والأمريكيّة the Phantom (الشبح). لم تنفرد "سمير" في هذا المضمار إذ دخلته أيضاً مجلّة بساط الريح اللبنانيّة عام ١٩٦٢ ومجلّة سوبرمان ١٩٦٤ (وتلاها الوطواط والبرق وطرزان وبونانزا ولولو الصغيرة وغيرها من الأدبيّات الأمريكيّة الموجّهة للشبيبة) وعلّ الضربة القاضية للقصص المعرّبة بالنسبة لسمير أتت مع النسخة العربيّة من مجلّة تان تان عام ١٩٧١ بورقها الصقيل وألوانها الزاهية ورواياتها المثيرة.  

أضف إلى المنافسة المحليّة والإقليميّة خسارة سمير لبعض من أقدر فنّانيها مثل كميل الذي انتهى به المطاف إلى مجلّة Spirou الفرنسيّة-البلجيكيّة تحت اسم Kiko حيث ساهم بمغامرات فوفي (نشر عدد محدود منها في سوبرمان العربيّة). 

ما كان لنكسات من هذا النوع أن تثبّط همّة سمير فهي لم تعتمد عل القصص المترجمة حصريّاً في تاريخها (وإن لجأت أحياناً ومع شديد الأسف إلى "اقتباس" سيناريهات بكاملها دون ذكر المصدر) وكان لها في عهدها الذهبي (بالنسبة لي عقد الستينات) الكثير من الإسهامات المصريّة البحتة التي أسعدت أطفال البلاد الناطقة بالعربيّة على مدى سنوات. أذكر من أبطالها "علاء وكندوز" و "أسامة وطاقيّة الإخفاء" و "جحا وأبو سحتوت" و "دندش وكراوية" وكثير غيرهم.

الصورة أعلاه لغلاف "سمير" بمناسبة عيد رأس السنة قبل إحدى وخمسين عاماً ونرى عليه من اليمين إلى اليسار بلوظة (بنت عفريتة في منتهى الظرافة) وزغلول أفندي (نشرت قصصه أيضاً في مجلّة كروان) ثمّ سمير (الحويط) وأخيراً تهته (العبيط). 

اخترت من هذا العدد المغامرات التالية للتذكرة والتاريخ:

سمير وتهته في صراع مع جيمس بوند (للفنّان نسيم)
كان جيمس بوند يتجسّس لحساب إسرائيل وبالطبع كشفه سمير وتهته كما نرى في الحوار التالي:
-ياه! أنا انكشفت!
- أيوه.... أنت جيمس بوند الجاسوس الحقير واحنا عارفين من زمان!

تنابلة الصبيان وتنابلة الخرفان (للفنّان حجازي
في هذه المغامرة يتقمّص التنابلة الكسالى دور النصّابين عندما يشكّلون شركة "وطنيّة" لتصنيع البلوبيف لا يتجاوز دورهم فيها إلصاق ماركتهم على علب مصنوعة ومستوردة من الخارج. ليس ذلك فحسب بل يتعاقدون مع عصابة المدعو "علي عليوة" ليسرق مرتّبات موظّفيهم كل أوّل شهر وبهذا لا يدفعون لهم في الواقع شيئاً. 

أبو الأفكار ومكّار
يلعب أبو الأفكار غالباً دور المغفّل الذي يحتال عليه مكّار وأحياناً دور الفتوّة البلطجي. علاقة البطلين مع بعضهما علاقة منافسة وعداوة وإن وحّدا جهودهما ضدّ إسرائيل في حرب الاستنزاف في نهاية عهد عبد الناصر.

عنترة بن شدّاد (بريشة لطفي وصفي)
مآثر عنترة في سبيل الظفر بيد ابنة عمّه ومحبوبته عبلة غنيّة عن التعريف والرسوم في رأيي رائعة والحوار في غاية الإتقان. 

 قرقورة في أمريكا
طفل مصري يزور الولايات المتّحدة والقصّة مرآة لعلاقة هذه الأخيرة مع مصر في أواخر عهد عبد الناصر وتهجوا بأسلوب ساخر أمريكا الرأسماليّة الاستهلاكيّة الاستعماريّة. جميعنا يعرف ما جرى في السبعينات وكيف عكست الآية أو على الأقلّ الرواية. 

كل عام وأنتم بخير. 

Sunday, December 29, 2019

مشفى المواساة‎


لم يعد المشفى الوطني مع نهاية ثلاثينات القرن العشرين كافياً لتلبية حاجات دمشق التي تضاعف عدد سكّانها خمس مرّات منذ إنشائه في أواخر القرن التاسع عشر ولفتت صحيفة القبس في مقال نشرته في كانون أوّل عام ١٩٣٨ أنّ المستشفى الوطني (الحميدي أو الغرباء سابقاً) خاصّ بالمعهد الطبّي وليس بالمدينة ككلّ. 

تعيّن على مشافٍ إضافيّة المساهمة بتدريب طلّاب السنة السادسة في المعهد الطبّي كمشفى Victoria (الإنجليزي أو بالأحرى السكوتلندي) والمشفى الفرنسي أو مشفى Saint Louis في دمشق والمشفى الدانماركي في النبك وقدّم الفرنسيّون دعماً ماليّاً لمشافيهم ومدارسهم إضافة إلى المدارس الخاصّة لجميع الطوائف كما دعموا ميتم القدّيس يوسف في دمشق. 

تأسّست جمعيّة المواساة الخيريّة في دمشق عام ١٩٤٦ واختير الدكتور حسني سبح (رئيس الجامعة السوريّة) رئيساً لها وبوشرت حملة لجمع التبرّعات كان أكبر المساهمين فيها السيّد عبد الهادي الربّاط بمبلغ ربع مليون ليرة (قدّرت كلفة المشفى الإجماليّة بخمسة ملايين وثلاثمائة ألف ليرة). تعهّد الفرنسيّون والإنجليز كذلك بالمساهمة بمواد البناء. 

أدرجت صحيفة القبس أسماء أعضاء الهيئة التأسيسيّة لجمعيّة المواساة التي ضمّت خمسة وعشرين عضواً منهم حسني سبح وسليم الشلّاح وعبد الهادي الربّاط

اختارت الجمعيّة في البداية شارع بغداد لبناء المشفى وعدلت عن هذا الخيار بسبب عقبات إداريّة لتصطفي بالنتيجة بستان الهبل على مرتفع قرب ربوة النيرب بلغت مساحته ستمائة وأربعين قصبة.  وضع الرئيس شكري القوّتلي حجر أساس المشفى في هذا المكان في احتفال رسميّ مهيب في الثاني من تمّوز عام ١٩٤٦. وصف الدكتور مرشد خاطر هذا الحفل وجرى بعدها تخطيط لبناء مساحته  ١٧٠٤٠ متر مربّع مؤلّف من ثلاثة أقسام: شمالي بأربع طوابق ومتوسّط بثلاث طوابق مخصّصان للمرضى وجنوبي من طابقين مكرّس للإدارة. 

أضيف المزيد من المشافي للجامعة اعتباراً من أواخر السبعينات بداية بمشفى الأطفال ولا تزال قصّة توسّع الجامعة في النصف الثاني من القرن العشرين بانتظار من يرويها على غرار ما فعله الدكتور عبد الكريم رافق بمنتهى الحبّ والدقّة والمهنيّة والموضوعيّة لملحمة نشوئها وأولى خطاها.








Saturday, December 28, 2019

الجامعة السوريّة والطبابة في عهد الانتداب


التزم المعهد الطبّي والمشفى الوطني بمداواة الفقراء بالمجّان في عياداته الخارجيّة بما في ذلك الأدوية من صيدليّة الإسعاف العامّ. ارتبط المستشفى الوطني في الأصل بالمدرسة الطبيّة العثمانيّة التي افتتحت كما رأينا عام ١٩٠٣ وأعيد افتتاح المعهد الطبّي في دمشق في العهد الفيصلي وألحق بإدارة الصحّة العامّة. تأسّست عام ١٩٢١ مصلحة الصحّة والإسعاف العامّ برئاسة الدكتور يوسف عرقتنجي وخوّلت ضمن صلاحياتها مسؤوليّة تفتيش المشافي. 

ضمّ المعهد الطبّي عام ١٩٢٧-١٩٢٨ خمسة وعشرين من الأساتذة من خرّيجي القسطنطينيّة أو مدرسة الطبّ العثمانيّة في دمشق و ١٥٩ من الطلّاب. أورد الدكتور عبد الكريم رافق أسماء بعض الأساتذة (إثنان منهم فرنسيّان) اخترت منهم الدكاترة رضا سعيد رئيس الجامعة وعميد المعهد الطبّي وأستاذ أمراض العيون ومرشد خاطر ومنيف العائدي وشوكت الشطّي (والد الدكتور إياد الشطّي أستاذ التشريح المرضي وعميد جامعة دمشق ووزير الصحّة في أواخر القرن العشرين) وحمدي الخيّاط (استمرّ ابنه الدكتور هيثم الخيّاط على خطاه في التعليم) وعبد الوهاب قنواتي. كلّف الأمير طاهر الجزائري بتدريس الفرنسيّة وعيّن حسني سبح رئيساً لمخبر السريريّات الطبيّة وإبراهيم قندلفت مساعد مخبر.   

أضيف المزيد من الأساتذة في مطلع الثلاثينات منهم صلاح الدين الكواكبي مساعد مخبر الكيمياء وأنسطاس شاهين أستاذ الأنف والأذن والحنجرة (مارس ابنه الدكتور نقولا شاهين نفس الاختصاص لاحقاً).

عن نشاطات المعهد الطبّي أجريت عام ١٩٢٨ مئات من العمليّات منها ٤٧٦ جراحيّة و ١٠٤ عينيّة و  ١٠٥ نسائيّة. عالج المستوصف الطبّي ٦٨٣٨ مريضاً وبلغ عدد الداخلين للمشفى ١٨٣٦ والخارجين ١٥٨٨ والوفيّات ١٧١. 

بلغت نسبة السورييّن في المعهد الطبّي ٦٨% عام  ١٩٢٧-١٩٢٨ واللبنانييّن ١٠% والمصرييّن قرابة ٩%. انتشر الخرّيجون في أرجاء سوريا وتواجد في دمشق ١٢٣ طبيب عام ١٩٢٩ في وقت قدّر عدد سكّان المدينة فيه بثلاثمائة ألف نسمة (طبيب لكل ٢٤٣٩ شخص) وفي حلب ١٠٨ أي طبيب لكل ٢٣١٥ شخص إذا قبلنا عدد سكّان حلب بحدود ربع مليون نسمة. لم يتجاوز عدد الأطبّاء في منطقة حمص ٤٦ وحماة ١١ أمّا لواء اسكندرون فقد كان أوفر حظّاً إذ تمتّع بإثنين وعشرين طبيباً. ندر الأطبّاء الحكوميّون في حوران والفرات والجزيرة ويبدوا أنّ الدكتور رافق لم يجد أرقاماً تستحقّ الذكر. 

للحديث بقيّة. 





الصور المرفقة من الأرشيف الفرنسي في مدينة Nantes وتعود لعام ١٩٢٦ على وجه التقريب.





Friday, December 27, 2019

دمشق بين نموذج باب الحارة وتأسيس الجامعة السوريّة


يقابل مسلسل باب الحارة الشهير بالهزء والسخرية على كثير من منصّات وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة كصورة مشوّهة عن المجتمع الشامي عموماً والبيتي-النسائي خصوصاً ويعزّز المتهكّمون رأيهم بمقالات وصور مختارة بعناية فائقة لعدد من رجالات وسيّدات سوريا في أبهى حلّة يمثّلون ويمثّلن البلاد كما كانت فعلاً في عهد الانتداب الفرنسي حسب وجهة نظرهم.   

المشكلة في هذا التحليل لا تتعلّق بباب الحارة الذي لا يتعدّى كونه مبالغة دراميّة بهدف الإثارة -بغضّ النظر عن درجة النجاح في تحقيق هذا الهدف- لا تمثّل دمشق أكثر ممّا تمثّل أفلام هاليوود المجتمع الأمريكي. الموضوع بالأحرى طريقة الردّ على نموذج باب الحارة بنموذج بديل لا يقلّ عنه زيفاً يرمي إلى إظهار سيّدات كنازك العابد وماري عجمي مع مجموعة صغيرة من أغنى أغنياء سوريا كآل القوّتلي واليوسف والعظم ومردم بك كنموذج للمجتمع السوري في وقت كانت فيه غالبيّة هذا المجتمع أميّة خصوصاً لدى النساء وفي الأرياف عندما كان معظم السوريّين من أبناء الأرياف. 

كتب محمّد كرد علي عام ١٩٢١ تقريراً عن وضع المدارس والتعليم قدّر فيه عدد سكّان دمشق (أي دولة دمشق التي أسّسها الانتداب الفرنسي عام ١٩٢٠ وليس المدينة) بحوالي المليون نسبة الأمييّن بينهم ٩٧%. تبدوا هذه النسبة لي مبالغاً بها ومع ذلك لا أعتقد بوجود خلاف جدّي على تفشّي الأميّة وقتها وحتّى المتعلّمين اقتصرت معارف معظمهم على القراءة والكتابة والحساب والحدّ الأدنى المطلوب لإدارة عمل ما أو تأدية الفرائض الدينيّة. 

تعرّضنا في مكان آخر -بفضل الدكتور عبد الكريم رافق- للمدارس بأنواعها في مطلع القرن الماضي ونأتي الآن إلى معضلة فرز المؤهّلين للالتحاق بالجامعة السوريّة من طلبة التعليم العالي ومن هنا أهميّة صدور قانون البكالوريا السوريّة في الأوّل من تشرين أوّل عام ١٩٢٨. تألّفت هذه البكالوريا من قسمين يمتحن فيهما الطالب كتابيّاً وشفهيّاً يضمّ أوّلهما شعبتين إحداهما للآداب والثانية للعلوم وثانيهما شعبة للفلسفة وثانية للرياضيّات. صدر قرار عن وزير المعارف الفرنسيّة في السادس والعشرين من تشرين أوّل عام ١٩٣١ بمنح التعادل للبكالوريا السوريّة مع الفرنسيّة ممّا يخوّل حاملها متابعة دروسه في الجامعات الفرنسيّة إذا شاء. 

تتلوا البكالوريا baccalauréat الكفاءة brevet وقبلها الابتدائيّة certificat. عزّز اعتماد هذا النظام التدريس بالعربيّة ووحدة التعليم في سوريا بشموله كافّة المدارس والطوائف والطبقات الاجتماعيّة. استفادت الجامعة من تطبيق نظام البكالوريا الذي حسّن نوعيّة المرشّحين من طلبة التعليم العالي ولكنّها في نفس الوقت خسرت الكثير من استقلاليّتها نتيجة لإلحاقها بوزارة المعارف ممّا أدّى إلى خلاف على موازنتها كما حدث عام ١٩٢٩ عندما ارتأى وزير المعارف محمّد كرد علي تحويل كميّة معيّنة من الأموال من مخصّصات الجامعة لإنشاء مدارس ابتدائيّة كخطوة على طريق التعليم الإجباري. أشارت صحيفة أصداء دمشق الفرنسيّة Les Échos de Damas وقتها إلى خلاف بين رئيس الجامعة الدكتور رضا سعيد ووزير المعارف محمّد كرد علي في هذا الصدد. 

ساهم فصل المجمع العلمي والمتحف عن الجامعة (قرار في الخامس عشر من آذار عام ١٩٢٥ بإعطاء المزيد من الصلاحيات لوزير المعارف الذي يمثّل السلطة السياسيّة العائدة في خاتمة المطاف للمندوب السامي على حساب مجلس الجامعة. 

ما كان لمعضلة شائكة كهذه أن تحلّ بسرعة ونعومة إذ حصل خلاف مماثل في جوهره إن لم يكن في تفاصيله بين الحكومة ممثلّة بالمعارف من جهة,  وبين الجامعة ممثّلة بالدكتور حسني سبح رئيس الجامعة وعميد المعهد الطبّي في مطلع عهد الاستقلال من جهة ثانية. أدّى هذا الخلاف إلى تسريحه في آب ١٩٤٦ وكانت هذه سابقة لتدخّل السلطة التنفيذيّة في شؤون الجامعة التي احترم الفرنسيّون استقلاليّتها حتّى الجلاء. تمّ احتواء الموضوع لاحقاً وأعيد الدكتور سبح إلى منصبه في رئاسة الجامعة في تشرين ثاني ١٩٤٧.


الصور المرفقة من الأرشيف الفرنسي في مدينة Nantes وتعود لعام ١٩٢٦ على وجه التقريب.



للحديث بقيّة.  







Thursday, December 26, 2019

معهد الحقوق في دمشق


رأينا كيف افتتحت مدرسة للحقوق في بيروت في تشرين أوّل عام ١٩١٣. عهد بتنظيم هذه المدرسة لفتحي بك وجعلت مدّة الدراسة فيها أربع سنوات وكانت لغة التدريس تركيّة باستثناء الفقه ومشتقّاته التي درّست بالعربيّة. جرى نقل المدرسة إلى دمشق في خريف ١٩١٤ عقب اندلاع الحرب العالميّة الأولى واستقرّت في حيّ اليهود لتعود إلى بيروت عندما وضعت الحرب أوزارها.  

أسّس معهد الحقوق العربي في دمشق عام ١٩١٩ بعد أن قام عدد من الشباب المجتمعين في النادي العربي برفع التماس لساطع الحصري الذي شغل وقتها منصب مدير المعارف في حكومة رضا باشا الركابي وكان الهدف من هذا الالتماس استئناف دراستهم التي توقّفت بعد إغلاق مدرسة الحقوق العثمانيّة بسبب ظروف الحرب وما تلاها. وافقت حكومة الركابي على الطلب وافتتح معهد الحقوق في الخامس والعشرين من أيلول وعيّن عبد اللطيف صلاح (من نابلس) عميداً وخلفه اعتباراً من حزيران ١٩٢٠ مسلّم العطّار. اتّخذ المعهد مقرّه في دار المعلّمين القديمة على ضفّة بردى وكانت مدّة الدراسة فيه ثلاث سنوات. أورد الدكتور عبد الكريم رافق جدولاً بمقرّراته وأساتذته ومنهم عبد المحسن الإسطواني لأحكام الاوقاف وفارس الخوري للماليّة وحقوق الدولة الخاصّة والأمير كاظم الجزائري (حفيد الأمير عبد القادر) للّغة الفرنسيّة بينما عيّن عبد القادر العظم رئيساً للّجنة الإداريّة ومديراً للمعهد.  

تجاوز عدد طلّاب المعهد ٣٢٠ عام  ١٩٢٨ تخرّج منهم ١٢٩ منهم ٨٥ سوري و ٤١ من الدول المجاورة وأدخل عليه عدد من الإصلاحات في عهد الانتداب الفرنسي منها اشتراط شهادة البكالوريا للقبول فيه وتعديل نظام الامتحانات لتشمل الشفهي والكتابي. 

أحد الإشكالات التي جابهت خرّيجيّ المعهد كان عدم اعتراف فرنسا بشهادتهم ممّا حدا البعض لأمّ مختلف الجامعات الأوروبيّة بهدف الاختصاص كما في حالة عدنان الاتاسي (سويسرا) وخليل مردم بك (ألمانيا). بالنتيجة نجحت المساعي الحميدة السوريّة الفرنسيّة بالحصول على هذا الاعتراف مع حلول عام  ١٩٣٦ وتمّ تجاوز هذه العقبة الكأداء. لعب الحقوقيّون -سوريّون وعرب- من خرّيجيّ المعهد دوراً بارزاً في الحكومات العربيّة اللاحقة وأورد على سبيل المثال -نقلاً عن الدكتور رافق- بعض الأسماء من طلّاب الثلاثينات التي ذاع صيتها لاحقاً وهي غيض من فيض: أكرم حوراني, بهجت تلهوني, معروف الدواليبي.

كتب مستشار المعارف العامّة بالوكالة وأستاذ الحقوق الفرنسي Jacques Estève تقريراً مفصّلاً عن التعليم العالي في سوريا عام ١٩٣٧ تفّهم فيه الصعوبات التي صادفتها الجامعة الفتيّة وأثنى على الجهود التي بذلتها للإصلاح ولكنّه حذّر من اعتبارها مؤسّسة حقيقيّة للتعليم العالي نظراً لقلّة البحث العلمي فيها وفقر مكتبتها واعتبرها بالأحرى مدرسة حرفيّة تخرّج موظّفين ومحامين وأطبّاء وصيادلة وقابلات. أضاف التقرير بصراحة ودون تنميق أنّ التعليم العالي يقوم ليس فقط على اكتساب المعلومات بل تعويد الطالب على الجهد الشخصي وإيقاظ حبّ الاستطلاع والنقد والتفكير. 

الصور المرفقة من الأرشيف الفرنسي في مدينة Nantes وتعود لعام ١٩٢٦ على وجه التقريب.

للحديث بقيّة. 








Wednesday, December 25, 2019

التشريح في الجامعة السوريّة وتعريب المصطلحات الطبيّة


كل طبيب أو دارس للطبّ يعلم علم اليقين الفرق الشاسع بين اللوحات الملوّنة في المصوّرات التشريحيّة وبين الواقع الذي يصادف الطالب المبتدىء عندما يباشر بخطىً عرجاء محاولة تسليخ dissection الجثث في المشرحة العابقة برائحة الفورمول (Formaldehyde) الكريهة. مع ذلك لا مفرّ من عبور هذه المرحلة أذا أن أراد المرء أن يصبح طبيباً بله أن يمارس الجراحة.

الخطوة الأولى تكمن في توفير الجثث لطلّاب الطبّ وليس هذا بالأمر اليسير كما نقل الدكتور عبد الكريم رافق عن تقرير أحد الأساتذة الفرنسييّن إلى وزير المعارف الفرنسي عام ١٩٠١ عندما أشار إلى قلّة عدد الجثث في مدرسة الطبّ اليسوعيّة في بيروت والسبب بكل بساطة رفض الناس تسليمها للمشرحة. أضاف المصدر ذاته أنّ توريد الجثث من جامعة باريس عمليّة باهظة الثمن. عانت جامعة دمشق في عهد الاستقلال من هذه المشكلة وكان للدكتور مدني الخيمي (عميد كليّة الطبّ في جامعة دمشق ١٩٦٨-١٩٧٣ ورئيس جامعة دمشق ١٩٧١-١٩٧٢ ووزير الصحّة ١٩٧٢ إلى ١٩٨٠) رحمه الله الفضل في تأمين احتياجات الطلّاب من الجثث في عقد السبعينات (نقلاً عن أستاذي الدكتور أبو الخير الخطيب).

المشكلة التالية توفير من يعنى بهذه الجثث ومن البدهي أنّ قليل من الناس من يقبل مهنة كهذه وكان لابدّ بالتالي من التساهل عمّا اعتيره البعض تجاوزات من بعضهم في بيع الجثث والعظام للطلّاب بهدف التدريب (لا يخفى على كلّ من درس الطبّ أنّه من شبه المستحيل الإحاطة بتشريح القحف  مهما كانت جودة المصوّرات دون جمجمة حقيقيّة) وكان الجواب دائماً: هل هناك متطوّعون وبدائل؟ تولّى الموضوع في أواخر السبعينات أبو سعيد رحمه الله وبعده أبو ابراهيم فلهما جزيل الفضل والتقدير والشكر.      

رأينا سابقاً كيف بدأ تعليم الطبّ باللغة العربيّة في العهد الفيصلي. الطبّ كأي علم له مصطلحاته التقنيّة الخاصّة به والتي تحتّم على المسؤولين نقلها من اللغات الأجنبيّة (بداية بالتركيّة التي لاشكّ أنّها نقلت عن أوروبا وخصوصاً فرنسا) لتحقيق هدفهم العلمي-الوطني-العروبي وكان من أوائل المعرّبين الدكاترة سعيد السيوطي ورضا سعيد وعبد الوهاب القنواتي وعديد غيرهم وسار على خطاهم حسني سبح ومرشد خاطر وأحمد حمدي الخيّاط وصلاح الدين الكواكبي. عرّب الكواكبي وخاطر والخيّاط معجم Clairville في خمسينات القرن العشرين وعلّ المعجم الطبّي الأنجح -على الأقلّ من الناحية التجاريّة- كان "قاموس حتّي الطبّي" وهو عمل مشكور للدكتور يوسف حتّي (شقيق أستاذ التاريخ السوري-الأمريكي الشهير فيليب حتّي). كان يوسف حتّي عضواً في جمعيّة سياسيّة سوريّة-لبنانيّة متعّددة الفروع في سويسرا كما ذكر تقرير فرنسيّ من عهد الانتداب.

انتهى الأمر باعتماد "المعجم الطبّي الموحّد" وطالما تسائلت عن الدوافع لهذا "التوحيد" في وقت كانت -ولا تزال- سوريا فيه البلد الوحيد في العالم الذي يدرّس الطبّ بالعربيّة. جلّ ما توصّلت إليه أنّنا كنّا "نوحّد مع بعضنا" وأذكر عندما جرت محاولة شاملة لتحديث مصطلحات التشريح بداية من عقد السبعينات فأصبح لدينا على الأقلّ مصطلحان أو تسميتان لنفس الموصوف كلاهما بالعربيّة إحداهما "قديمة" والثانية "حديثة" كلاهما استقيتا بالعودة إلى قحطان وعدنان وعلى سبيل المثال: القمحدوة أصبحت "الناشزة القذاليّة الظاهرة" والعظم العذاري أصبح "العظم الوجني" والميزابة غدت "ثلماً" ناهيك عن التقعّر إلى درجة الحذلقة في تعابير كالمعثكلة والموثة والميكعة والعفج وهكذا دواليك. 

لا داعي للقول أنّ استعمال هذه المصطلحات التي ما أنزل الله بها من سلطان لم يقتصر على التشريح ففي الكيمياء الحيويّة مثلاً peptone ترجم إلى "هضمون" و lactone إلى "لبنون" و Arachidonic Acid إلى "حمض فستق العبيد" (الأنكى حمض فستق السوداني) وثالثة الأثافي أحماض "الماعز" و"العنز" و"المعز" و"جوزة الطيب" وهلمّجرّا. بالطبع تعيّن على الطالب الراغب في متابعة دراساته خارج سوريا بعد التخرّج أن يتعلّم كافّة هذه المصطلحات -وغيرها- من جديد بإحدى اللغات الأجنبيّة.

مع كلّ ذلك هناك مزايا لا تنكر لتعليم الطبّ بالعربيّة وبشهادة الكثيرين وإن كان خيراً وأبقى اتّباع أسلوب عصري أكثر مرونة وأقلّ تشنّجاً في التعريب. رحم الله جميع من ساهم فيه. 



 تعود الصور إلى منتصف عشرينات القرن الماضي وهي محفوظة في الأرشيف الفرنسي في مدينة Nantes. 


Tuesday, December 24, 2019

نساء الجامعة السوريّة في عهد الانتداب الفرنسي


لا يزال حضور الجنس اللطيف طاغياً في مهنة التمريض في الولايات المتّحدة الأمريكيّة حيث تتجاوز نسبة النساء ٩٠% ومؤخّراً تجاوز عدد طالبات الطبّ في السنوات الأولى بقليل ٥٠% ويعني استمرار هذا الاتّجاه أنّ المسألة مسألة وقت قبل أن تشكّل النساء أغلبيّة أطبّاء أمريكا الشماليّة باستثناء الاختصاصات الجراحيّة التي لا تزيد نسبة الإناث فيها على الربع ولكن حتّى هذا المعقل الأخير لهيمنة الرجال يتآكل يوماً بعد يوم مع دخول المزيد ثمّ المزيد من الشابّات -جرّاحات المستقبل- غرف العمليّات. 

لربّما ساعدت الفروقات البيولوجيّة بين الرجل والمرأة في تفسير ما يمكن دعوته شبه احتكار نسائي للتمريض. المرأة كمربيّة وأمّ أكثر صبراً وجلداً على العناية بالأطفال -وغير الأطفال- كوالدة وممرّضة ومعلّمة ومجالسة babysitter وقليل من العائلات من يأتمن ذكوراً على العناية بصغارهم. موضوع الطبّ مختلف فالمنافسة عليه أكبر لعدّة اعتبارات ماديّة واجتماعيّة وحتّى سياسيّة. 

عودة على سوريا. يخبرنا الدكتور عبد الكريم رافق نقلاً عن أستاذ الجراحة الفرنسي Lecercle عن وجود طالتين مسيحيّتين في المعهد الطبّي في دمشق عام ١٩٢٦ الثانية منهما لوريس ماهر التي انتسبت للمعهد للعام الدراسي ١٩٢٤-١٩٢٥ لتتخرّج منه في التاسع والعشرين من حزيران ١٩٣٠ مع ستّة من زملائها الذكور وتتسلّم شهادتها في حفل التخرّج على مدرّج الجامعة بحضور رئيس الوزراء عندما دوّت القاعة بالتصفيق لأولى أوانس سوريا من حملة شهادة الطبّ. 

خرّج المعهد الطبّي أيضاً عدداً من القابلات والممرّضات (١٥ منهنّ واكبن تخرّج الدكتورة ماهر) وتولّى تدريبهنّ ممرّضات فرنسيّات أسندت إليهنّ العناية بالمشفى الجامعي بينما أعلن رئيس الجامعة الدكتور رضا سعيد عن نيّة بناء دار للتوليد مستقلّة عن المشفى. 

رأينا كيف افتتحت مدرسة الآداب في نهاية العشرينات وكان عدد الذكور أكبر بكثير من الإناث في عامها الأوّل (١٣٢ فتى مقابل سبع فتيات) وتغيّر هذا في السنة الأخيرة (قبل إلغاء المدرسة) عندما التحق بها عشر طالبات وستّة عشر طالباً. معظم المنتسبات كنّ من المعلّمات أو الطامحات إلى ترقية في وظيفتهنّ ومنهنّ من أردن الثقافة للثقافة. 

انتسبت أوّل فتاة إلى معهد الحقوق عام  ١٩٢٩-١٩٣٠ وأوّل طالبة لفرع طبّ الأسنان ١٩٣٢-١٩٣٣.

للحديث بقيّة. 



الصور محفوظة في الأرشيف الفرنسي في مدينة Nantes.





Monday, December 23, 2019

تنظيم مهنة طبّ الأسنان تحت الانتداب الفرنسي‎


ميّز قانون صدر في السادس عشر من تشرين الثاني عام ١٩٢٣ عن المندوب السامي الفرنسي في المشرق Maxime Weygand بين الجرّاحين أطبّاء الأسنان من خرّيجيّ المعاهد الطبيّة -بما فيها معهد دمشق- وبين من تعاطى طبّ الأسنان دون شهادات اختصاصيّة فمنع ممارسة هذه الفئة الأخيرة ما لم تنجح في امتحان أمام لجنة فرنسيّة كما حظر هذا القانون استعمال ممارسيّ طبابة الأسنان المخدّر "بنج" دون الاستعانة بطبيب كفء أو جرّاح في طبّ الأسنان ومنع غير المؤهّلين من كتابة الوصفات. 

بلغ عدد "حكماء" الأسنان في سوريا عام ١٩٢٧ ما عدده ١٤٣ منهم ٦٠ من أصحاب الشهادات و ٨٣ من المتمرّنين الذين أجازتهم المفوّضيّة العليا أمّا عن توزيعهم فقد شمل ولايتيّ الشام  (٦٩) وحلب (٥٤)  ولواء اسكندرون (١٠) وأعداد قليلة في دير الزور وحماة وحمص وحوران. 

استمرّ النزاع على مسألة من هو مؤهّل للممارسة بين أخذ وردّ عدّة سنوات إلى أن أصدر رئيس الوزراء ووزير الخارجيّة الشيخ تاج الدين الحسني قراراً في الرابع من كانون الأوّل عام  ١٩٢٩ خوّل الحقّ بحمل لقب دكتور في جراحة الأسنان إلى الحائزين على شهادة من معهديّ الطبّ الأمريكي والفرنسي (لبنان) والمعهد الطبّي في دمشق أو شهادة دوليّة معترف بها. سمج لممارسي طبابة الأسنان الذين لم يتلقّوا تدريباً نظاميّاً بممارسة المهنة بشكل مؤقّت في المناطق التي لا يقيم فيها طبيب أسنان مجاز (وكانت كثيرة في ذلك الوقت). 

أذاعت وزارة الداخليّة السوريّة في تشرين ثاني عام  ١٩٣١ أسماء أطبّاء الأسنان المسموح لهم باستعمال لقب دكتور وبلغ عددهم سبعة عشر من المعهد الطبّي العربي في دمشق بينهم مسيحيّان ويهودي (حاييم شالوح) وستّة من الجامعة الأمريكيّة في بيروت (منهم ابراهيم قندلفت) وواحد من المعهد الطبّي الفرنسي في بيروت وواحد من جامعة أمريكيّة في ولاية Missouri. أوّل دفعة تخرّج من شعبة الأسنان في المعهد الطبّي في دمشق كانت عام  ١٩٢٥ وبلغ عدد خرّيجيها  ١٢.

الصورة أعلاه مع معظم الصور التي عرضت حتّى الآن محفوظة في الأرشيف الفرنسي في مدينة Nantes.

للحديث بقيّة. 









Sunday, December 22, 2019

توسّع الجامعة السوريّة تحت الانتداب الفرنسي‎


بالكاد يكفي وجود معهد للطبّ -مع ملحقاته من صيدلة وأسنان وقبالة وتمريض- وآخر للحقوق لإضفاء لقب جامعة على مؤسّسات التعليم العالي السوريّة حسب المفاهيم العصريّة ومن هنا دعوة الشيخ بهجة البيطار عضو المجمع العلمي في دمشق في مطلع عام ١٩٢٥ لإنشاء مدارس إضافيّة وتحديداً كليّة للآداب العربيّة وثانية للإلهيّات (التعبير التركي لكليّة الشريعة). تعيّن على كليّة الشريعة أن تنتظر عهد الاستقلال وعام ١٩٥٤ وبالتالي فتغطيتها (شأنها في ذلك شأن كليّة أو كليّات الهندسة والعلوم بما فيها الإنسانيّة وغيرها- خارجة عن نطاق دراسة الدكتور عبد الكريم رافق التي تغطّي الفترة حتّى عام ١٩٤٦. ماذا عن الآداب؟

تأسّست المدرسة العليا للآداب بقرار صدر في الأوّل من آب ١٩٢٨ عندما كان محمّد كرد علي وزيراً للمعارف وكان اسمها في البداية مدرسة الدروس الأدبيّة العليا حتّى ١٦ أيلول عام ١٩٢٩ وحدّدت تخصّصاتها في اللغة العربيّة واللغة الفرنسيّة والفلسفة واتّخذت مقرّاً لها بناء معهد الحقوق (لاحقاً وزارة السياحة على ضفّة بردى) . عانت المدرسة من نقص التمويل وتأثّرت بالاضطرابات السياسيّة والأزمة الاقتصاديّة في مطلع الثلاثينات ولم تدمج موازنتها مع موازنة الجامعة بينما أعطي الأساتذة تعويضات عن محاضراتهم عوضاً عن رواتب ثابتة. قام وزير المعارف حقّي العظم بإصدار قرار إلغاء المدرسة في السادس عشر من تشرين الثاني ١٩٣٣ وتأخّر تنفيذه للسماح لطلّاب الصفّين الثاني والثالث بالتقدّم لامتحان التخرّج. إذاً أجهضت مدرسة الآداب في منتصف الثلاثينات ولم يعد افتتاحها حتّى بداية النصف الثاني للأربعينات ومن حسن الحظّ لم ينعكس إلغاؤها سلباً على المعهد الطبّي ومعهد الحقوق. 

مع حلول عام ١٩٢٦ أصبحت شهادة المعهد الطبّي معترفاً عليها في العراق والحجاز وإمارة شرق الأردنّ وليس في فلسطين مصر. بذل الأساتذة السوريّون ما في وسعهم لإعداد الكتب العربيّة وتعريب المصطلحات الطبيّة ونشروا مقالات في مجلّة المعهد الطبّي العربي التي رأت النور عام  ١٩٢٤ وعهد في رئاسة تحريرها للدكتور مرشد خاطر أستاذ الأمراض والسريريّات الجراحيّة واستمرّت حتّى عام ١٩٤٧ (اشتركت لعام واحد في المجلّة الطبيّة العربيّة في مطلع الثمانينات ويؤسفني القول أنّ مستواها كان محزناً لا يقارن لا كمّاً ولا نوعاً مع الحوليّات الأثريّة السوريّة مثلاً).

أنشأ الدكتور رضا سعيد مطبعة خاصّة للجامعة السوريّة عام ١٩٣١ لمؤلّفات الأساتذة والمجلّة المذكورة التي بدأت في مطابع خاصّة (الإصلاح ثمّ فتى العرب ثمّ المطبعة البطريركيّة الأورثوذوكسيّة) قبل أن تنتقل إلى مطبعة الجامعة. شجّع الدكتور سعيد أيضاً مكتبة الجامعة على اقتناء الكتب والدوريّات العربيّة والأجنبيّة. 

للحديث بقيّة.






Saturday, December 21, 2019

شهادات الجامعة السوريّة في عهد الانتداب الفرنسي


ترجم تفكيك الإمبراطوريّة العثمانيّة السياسي في أعقاب الحرب العالميّة الأولى إلى تفكّك على الأصعدة العلميّة والفكريّة. كان لخرّيجيّ المدرسة الطبيّة العثمانيّة في دمشق ملء الحقّ في ممارسة مهنتهم أنّى شاؤوا ضمن حدود الإمبراطوريّة ولكن الواقع الجديد الذي خلقه تقسيم الشرق الأدنى إلى مناطق نفوذ بريطانيّة وفرنسيّة أدّى -في جملة ما أدّى إليه- إلى بلبلة أكاديميّة عجز فيها الأطبّاء والحقوقيّون الجدد من معهديّ دمشق عن الحصول على تراخيص عمل في الكيانات الجديدة المجاورة. لم يقتصر الضرر على السورييّن بل امتدّ ليشمل الطلّاب العرب في المؤسّسات التعليميّة السوريّة فمثلاً تواجد في دمشق في مطلع عهد الانتداب عشرون طالباً مصريّاً لم تعترف مصر بشهاداتهم السوريّة (تأخّر الاعتراف المصري بشهادة معهد الطبّ السوريّة حتّى عام ١٩٣٩).  

اعترفت دولة الانتداب الفرنسيّة رسميّاً بالجامعة السوريّة في الخامس عشر من حزيران عام ١٩٢٣ ومع ذلك بقي في فرنسا الكثيرون ممّن أثاروا العقبات وأشار صبحي بركات -رئيس اتّحاد الدول السوريّة- في رسالة بتاريخ الخامس من نيسان عام ١٩٢٤ إلى جهل رئيس جامعة باريس المطبق بالجامعة السوريّة ومناهجها وبناءً عليه تمّ تزويده ببرامج الدروس مع تفاصيل عن مجلس الجامعة السوريّة الذي ضمّ في الحادي والثلاثين من آذار لنفس العام الأساتذة رضا سعيد (حامل وسام جوقة الشرف الفرنسي légion d'honneur) ومحمّد كرد علي رئيس المجمع العلمي وعبد القادر العظم عميد معهد الحقوق والأطبّاء مرشد خاطر ومنيف العائدي وحمدي الخيّاط وأساتذة الحقوق ومنهم فارس الخوري وفوزي الغزّي. أسماء معظم هؤلاء غنيّة عن التعريف. 

وافقت فرنسا على معادلة الشهادات السوريّة قبل الدول المجاورة (فلسطين ومصر والعراق وتركيّا) بدلالة سفر الدكتور حسني سبح للتخصّص في جامعة Montpellier  في الأمراض العقليّة والعصبيّة عام ١٩٢٤. التمس الحقوقيّون والأطبّاء الجدد من سلطات الانتداب الفرنسي أن تستعمل نفوذها لمساعدتهم على اعتبار شهاداتهم في سائر الكيانات الجغرافيّة-السياسيّة الجديدة في المنطقة وتفاوت نجاحهم في الوصول إلى هذه الغاية بتفاوت الاستجابة خصوصاً وأنّ الأمر لم يكن بيد فرنسا فقط وإنّما عرضة لتيّارات السياسات البريطانيّة (خصوصاً فيما يتعلّق بفلسطين والمشروع الصهيوني) والتركيّة التي تمخّضت بالنتيجة عن تغييرات جذريّة ليس أقلّها نبذ الأبجديّة العربيّة واعتماد الحرف اللاتيني. 

للحديث بقيّة.