كل طبيب أو دارس للطبّ يعلم علم اليقين الفرق الشاسع بين اللوحات الملوّنة في المصوّرات التشريحيّة وبين الواقع الذي يصادف الطالب المبتدىء عندما يباشر بخطىً عرجاء محاولة تسليخ dissection الجثث في المشرحة العابقة برائحة الفورمول (Formaldehyde) الكريهة. مع ذلك لا مفرّ من عبور هذه المرحلة أذا أن أراد المرء أن يصبح طبيباً بله أن يمارس الجراحة.
الخطوة الأولى تكمن في توفير الجثث لطلّاب الطبّ وليس هذا بالأمر اليسير كما نقل الدكتور عبد الكريم رافق عن تقرير أحد الأساتذة الفرنسييّن إلى وزير المعارف الفرنسي عام ١٩٠١ عندما أشار إلى قلّة عدد الجثث في مدرسة الطبّ اليسوعيّة في بيروت والسبب بكل بساطة رفض الناس تسليمها للمشرحة. أضاف المصدر ذاته أنّ توريد الجثث من جامعة باريس عمليّة باهظة الثمن. عانت جامعة دمشق في عهد الاستقلال من هذه المشكلة وكان للدكتور مدني الخيمي (عميد كليّة الطبّ في جامعة دمشق ١٩٦٨-١٩٧٣ ورئيس جامعة دمشق ١٩٧١-١٩٧٢ ووزير الصحّة ١٩٧٢ إلى ١٩٨٠) رحمه الله الفضل في تأمين احتياجات الطلّاب من الجثث في عقد السبعينات (نقلاً عن أستاذي الدكتور أبو الخير الخطيب).
المشكلة التالية توفير من يعنى بهذه الجثث ومن البدهي أنّ قليل من الناس من يقبل مهنة كهذه وكان لابدّ بالتالي من التساهل عمّا اعتيره البعض تجاوزات من بعضهم في بيع الجثث والعظام للطلّاب بهدف التدريب (لا يخفى على كلّ من درس الطبّ أنّه من شبه المستحيل الإحاطة بتشريح القحف مهما كانت جودة المصوّرات دون جمجمة حقيقيّة) وكان الجواب دائماً: هل هناك متطوّعون وبدائل؟ تولّى الموضوع في أواخر السبعينات أبو سعيد رحمه الله وبعده أبو ابراهيم فلهما جزيل الفضل والتقدير والشكر.
رأينا سابقاً كيف بدأ تعليم الطبّ باللغة العربيّة في العهد الفيصلي. الطبّ كأي علم له مصطلحاته التقنيّة الخاصّة به والتي تحتّم على المسؤولين نقلها من اللغات الأجنبيّة (بداية بالتركيّة التي لاشكّ أنّها نقلت عن أوروبا وخصوصاً فرنسا) لتحقيق هدفهم العلمي-الوطني-العروبي وكان من أوائل المعرّبين الدكاترة سعيد السيوطي ورضا سعيد وعبد الوهاب القنواتي وعديد غيرهم وسار على خطاهم حسني سبح ومرشد خاطر وأحمد حمدي الخيّاط وصلاح الدين الكواكبي. عرّب الكواكبي وخاطر والخيّاط معجم Clairville في خمسينات القرن العشرين وعلّ المعجم الطبّي الأنجح -على الأقلّ من الناحية التجاريّة- كان "قاموس حتّي الطبّي" وهو عمل مشكور للدكتور يوسف حتّي (شقيق أستاذ التاريخ السوري-الأمريكي الشهير فيليب حتّي). كان يوسف حتّي عضواً في جمعيّة سياسيّة سوريّة-لبنانيّة متعّددة الفروع في سويسرا كما ذكر تقرير فرنسيّ من عهد الانتداب.
انتهى الأمر باعتماد "المعجم الطبّي الموحّد" وطالما تسائلت عن الدوافع لهذا "التوحيد" في وقت كانت -ولا تزال- سوريا فيه البلد الوحيد في العالم الذي يدرّس الطبّ بالعربيّة. جلّ ما توصّلت إليه أنّنا كنّا "نوحّد مع بعضنا" وأذكر عندما جرت محاولة شاملة لتحديث مصطلحات التشريح بداية من عقد السبعينات فأصبح لدينا على الأقلّ مصطلحان أو تسميتان لنفس الموصوف كلاهما بالعربيّة إحداهما "قديمة" والثانية "حديثة" كلاهما استقيتا بالعودة إلى قحطان وعدنان وعلى سبيل المثال: القمحدوة أصبحت "الناشزة القذاليّة الظاهرة" والعظم العذاري أصبح "العظم الوجني" والميزابة غدت "ثلماً" ناهيك عن التقعّر إلى درجة الحذلقة في تعابير كالمعثكلة والموثة والميكعة والعفج وهكذا دواليك.
لا داعي للقول أنّ استعمال هذه المصطلحات التي ما أنزل الله بها من سلطان لم يقتصر على التشريح ففي الكيمياء الحيويّة مثلاً peptone ترجم إلى "هضمون" و lactone إلى "لبنون" و Arachidonic Acid إلى "حمض فستق العبيد" (الأنكى حمض فستق السوداني) وثالثة الأثافي أحماض "الماعز" و"العنز" و"المعز" و"جوزة الطيب" وهلمّجرّا. بالطبع تعيّن على الطالب الراغب في متابعة دراساته خارج سوريا بعد التخرّج أن يتعلّم كافّة هذه المصطلحات -وغيرها- من جديد بإحدى اللغات الأجنبيّة.
مع كلّ ذلك هناك مزايا لا تنكر لتعليم الطبّ بالعربيّة وبشهادة الكثيرين وإن كان خيراً وأبقى اتّباع أسلوب عصري أكثر مرونة وأقلّ تشنّجاً في التعريب. رحم الله جميع من ساهم فيه.
تعود الصور إلى منتصف عشرينات القرن الماضي وهي محفوظة في الأرشيف الفرنسي في مدينة Nantes.
No comments:
Post a Comment