Saturday, June 30, 2018

قوميّات سوريا الدينيّة


تبنّى العثمانيّون خلال مئات السنين "نظام الملّة" أي الدين في إدارة امبراطوريّتهم المترامية الأطراف ولهذا النظام المبني على التوزيع الطائفي بعض المزايا الإيجابيّة أهمّها إعطاء الأقليّات نوع من الحكم الذاتي يتولّى فيه رجال الدين إدارة الأمور المدنيّة كمراسم الزواج والوفاة علاوة على الأمور الروحيّة المتعلّقة بالطقوس والعبادات. كان لا مناص لهكذا نظام أن يؤدّي إلى تمايز الطوائف وتحديد الاحتكاك بينها حتّى أصبح أبناء المدينة الواحدة يجهلون في حاراتهم أبسط الأمور عن جيرانهم في الحارات المجاورة ويكفي هنا الاستشهاد بالقول الدمشقي المأثور "يللّي ما بياخذ من ملّتو بيموت بعلّتو" أي أنّ الزواج خارج الدين والطائفة محكوم عليه بالفشل.  

للإنصاف هذا التفكبر وهذه الطريقة في إدارة الأمور لم تكن مقصورة على دولة معيّنة أو مكان معيّن أو طائفة معيّنة ومن الظلم الحكم على القرن التاسع عشر وما سبقه بمعايير القرن الحادي والعشرين ومن الإجحاف إسقاط قيم عصر التنوير والاتّصالات والمعلوماتيّة على العصور القديمة. للتذكير دامت الإمبراطوريّة العثمانيّة أكثر من خمسمائة سنة وهذا بحدّ ذاته معيار نجاح بغضّ النظر عمّا حلّ بها عندما هرمت وتغلغل في أوصالها الضعف الذي سبق انهيارها.   

أنتقل بعد هذه المقدّمة إلى تقديم سفر نفيس بعنوان "الديار المقدّسة" La Terre Sainte لمؤلّفه المستشرق والرحّالة وعالم الآثار الفرنسي Victor Guérin وهو كتاب بطول حوالي ١٠٠٠ صفحة تتوزّع على مجلّدين ضخمين ٣٠ x ٤٠ سنتمتر صدر الجزء الأوّل منه عام ١٨٨٢ والثاني عام ١٨٨٤. يغطّي الكتاب فلسطين ولبنان ودمشق والبتراء وتدمر وفيه مئات من اللوحات الرائعة بطريقة الحفر التي يمكن الاستمتاع بها بالمجّان بالضغط على الرابطين الفائقين التاليين: الكتاب الأوّل يليه الكتاب الثاني



فلنستعرض اليوم لبنان. ما قصده العالم الفرنسي بتعبير "لبنان" هو جبل لبنان أو ما نسمّيه اليوم سلسلة جبال لبنان الغربيّة يضاف إليها الساحل "فينيقا" الذي يمتدّ من طرطوس وجزيرة إرواد شمالاً إلى رأس الناقورة جنوباً. لا يدخل في هذا "اللبنان" البقاع وبعلبك ولا وادي التيم مع راشيّا وحاصبيّا (أضافها الفرنسيّون عندما خلقوا "دولة لبنان الكبير" في مطلع عهد الانتداب). 

من الناحية الديموغرافيّة لبنان شديد الكثافة مقارنة مع سوريا وقدّر المؤلّف عدد سكّان الجبل بحوالي ٣٦٠٠٠٠ وإذا أضفنا الساحل (أي فينيقيا) يرتفع العدد إلى ٥٠٠٠٠٠ والكلام بالطبع في نهايات القرن التاسع عشر. من الناحية الطائفيّة أغلب اللبنانييّن موارنة بعدد ٢٨٠٠٠٠ بينما عدد "المسلمين" الذين يقصد بهم السنّة ٧٦٠٠٠ و"المتاولة" أي الشيعة الإثني عشريّة ٥٥٠٠٠ (بما فيهم من يقطنون البقاع) واليهود ٢٠٠٠ والباقي يتوزّع بين الطوائف المسيحيّة غير المارونيّة والدروز و"النصيريّة" أي العلوييّن.  

يضيع الكثيرون في أوروبّا وأمريكا بين متاهات الطوائف المسيحيّة الإنجيليّة (البروتستانتيّة) ويمكن للوهلة الأولى خصوصاً لغير الأخصّائي الخلط بين الطوائف المسيحيّة في الشرق الأدنى وللتبسيط يكفي القول أنّه يمكن تقسيم هذه الطوائف في سوريا ولبنان إلى قسمين رئيسين: المستقلّة منها من جهة والتي تتبع الفاتيكان والسلطة البابويّة من جهة ثانية. على سبيل المثال هناك السريان الأورثوذوكس والسريان الكاثوليك، الروم الأورثوذوكس (Greek Orthodox) والروم الكاثوليك، الأرمن الأرثوذوكس والأرمن الكاثوليك وهلمّجرّا. اللاتين (Roman Catholic) كنيسة غربيّة المنشأ وكذلك الحال في الكنائس البروتستانتيّة العديدة  ولا داعي في هذا الحيّز الضيّق للدخول في أصول كنائس النساطرة واليعاقبة الشرقيّة. 

الموارنة إذاً أكبر طائفة مسيحيّة في لبنان وأكثر أصدقاء فرنسا تفانياً في بلاد الشام أو هكذا على الأقلّ يدّعي الكاتب حين يقدّر عدد الموارنة الذين دفعوا دمائهم وحياتهم في سبيل شرف المشاركة في الحروب الصليبيّة كحلفاء للإفرنج بحوالي ٤٠٠٠٠ ويضيف أنّ أحفادهم في القرن التاسع عشر يعتزّون بذلك ولا يملّون من تكراره للمؤلّف. سمح البابا للموارنة بالمحافظة على طقوسهم باللغة السريانيّة (باستثناء الكتاب المقدّس الذي كان يقرأ على المؤمنين بالعربيّة) وبادل الفرنسيّون الموارنة خصوصاً والمسيحييّن عموماً مشاعرهم عندما أرسل نابوليون الثالث حملة عسكريّة لحمايتهم في أعقاب مجازر ١٨٦٠ وأثنى المؤلّف على ما أسماه  "وطنية الشعوب المسيحيّة"   patriotisme des populations chrétiennes التي قاومت أعداء الداخل والخارج  ولولاها لخسر لبنان استقلاله ومعتقده تحت ضغط المسلمين.

لم يكن جميع مسيحييّ لبنان على نفس الدرجة من "الوطنيّة" ففيما يتعلّق بالروم الأورثوذوكس مثلاً (أو كما أسماهم المؤلّف "الروم المنشقّين" Grecs  Schismatiques) كان هؤلاء يتواطئون مع الأتراك ويحرّضونهم على اضطهاد الكاثوليك وعلاوة على ذلك لم يتمسّكوا بدينهم كما تمسّك به الموارنة والكاثوليك إذ يضيف المؤلّف أنّ التبشير البروتستانتي لم ينجح إلّا معهم (أي الأورثوذوكس) ومع الدروز. الإنجيليّون بالطبع يروّجون للنفوذ الأمريكي والإنجليزي والبروسي المعادي للكاثوليك ممّا حدا اليسوعييّن إلى نقل مركزهم Université Saint-Joseph من غزير إلى بيروت عام ١٨٧٥ لمكافحة تعاظم الدعاية البروتستانتيّة المعادية لفرنسا. يضيف السيّد  Guérin أنّ إنجلترا بحمايتها للدروز شجّعتهم بشكل غير مباشر على الاعتداء على المسيحييّن. 

من السهل أن نرفض تعميمات المؤلّف كآراء استعماريّة عفا عليها الدهر وتجاوزتها الأحداث ولا يمكن لمن يتوخّى الموضوعيّة أن يعزوا تخلّ أوروبّا في الشرق الأدنى لدوافع إنسانيّة ومثاليّة صرفة. أضف إلى هذا وذاك أنّ مفهوم القوميّة كما نعرفه اليوم (أي بغضّ النظر عن اللون والدين والأصل) شديد الحداثة وهذا صحيح في كافّة أنحاء العالم وليس فقط سوريا. رغم كلّ هذه الاعتبارات هناك أدلّة تاريخيّة لا تدحض: قبلت -إن لم نقل رحّبت وبغضّ النظر عن الدوافع- عدّة طوائف سوريّة بالحماية الأجنبيّة في القرن التاسع عشر: فرنسا حمت الكاثوليك وروسيا الأورثوذوكس وإنجلترا الدروز والبروتستانت أمّا عن الشيعة (بكلّ طوائفهم عمليّاً) فكانوا على هامش المجتمع ومشبوهي الولاء منذ مطلع العهد العثماني إن لم نقل منذ العهد السلجوقي بينما جهل السنّة بمعتقدات كلّ من هو غير سنّي يكاد يكون مطبقاً (ولا يزال بفضل المناهج المدرسيّة "الحديثة" التي تتجاهل الفوارق المذهبيّة كأنّها غير موجودة) والإنسان مع الأسف بالغريزة عدوّ لما يجهله.  

في النهاية دود الخلّ منّو وفيه. 




Wednesday, June 27, 2018

The Great Mosque of Damascus: Dome of the Treasury

Just about the only vestige of Abbasid rule in Damascus, the Treasury Dome is thought to have been constructed in the second half of the 8th century under Governor Fadl ibn Salih ibn Ali, during what was for Syria in general and Damascus in particular a desolate dark age. This is hardly surprising given the relentless war of extermination then waged by the Abbasid against everything Omayyad; a war that claimed even tombs and graveyards and spared practically nothing though it stopped short of destroying the venerable Great Mosque.

The edicule known as the Treasury Dome is therefore most likely Abbasid but it should be kept in mind that several of its elements are clearly Classical, namely the 8 granite half-columns topped by Corinthian crowns. The structure supported by those columns was surmounted by a cupola made of lead.

We have already seen that the mosaics of the Great Mosque (not just the dome in question) were covered with a layer of lime under the Ottomans, somewhere between 1664 and 1855. What prompted the authorities then in charge to hide the mosaics is anyone's guess but mostly inconsequential; knowingly or not, they have saved those priceless treasures for the pleasure and gratitude of future generations.  The first photo dates from prior to 1885 and the credit goes to the illustrious French photographer Félix Bonfils




The 1893 great fire was the last in a long series of calamities the Great Mosque had endured since its erection. The Omayyad's most celebrated landmark was subsequently raised from its ashes and several of its walls, including the Treasury Dome, restored and repainted -in the style of the 18th century Damascene opulent residences- with horizontal bands where we see the alternating colors of blue-black, white, and red-orange. This we identify in the second photo the date of which is October 12, 1921.



The task of uncovering the mosaics fell to the French scholar Eustache de Lorey, the first director of Damascus' French Institute (Institut Français de Damas) in the late 1920's. The mosaics in all their beauty are visible in the third and final photo from 2010.







Photo credit

Félix Bonfils
Fonds Max Van Berchem

Mission Frédéric Gadmer et Lucien Le Saint au Proche-Orient 
Collection Albert Kahn

Les relevés des mosaïques de la grande mosquée de damas
Loreline Simonis
Louvre Éditions

الجامع الأموي في دمشق: قبّة الخزنة بين أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن الحادي والعشرين

للعبّاسييّن أمجادهم ومآثرهم ما في ذلك من شكّ ولكن العهد العبّاسي في سوريا عموماً ودمشق خصوصاً لم يترك لنا الشيء الكثير اللهمّ إلّا قبّة الخزنة وهي القبّة الغربيّة في صحن الجامع الأموي التي يرجعها بعض المؤرّخين إلى النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي وعهد أمير دمشق فضل ابن صالح ابن علي. القبّة إذاً عبّاسيّة على الأغلب ولكن مواد بنائها "مستعارة" من أنقاض معبد دمشق الروماني القديم بدلالة أنّها محمولة على ثمانية أعمدة (بالأحرى أنصاف أعمدة) من الغرانيت تعلوها تيجان قورنثيّة وتغطّي البنية طاسة رصاصيّة. 

الصور الثلاث الملحقة توثّق هذه القبّة وكما نرى من الصورة الأولى للفرنسي  Félix Bonfils  التي تعود لما قبل عام ١٨٨٥ كانت الخزنة مغطّاة بطلاء من الجير يعود للعهد العثماني في الفترة الواقعة بين ١٦٦٤ و ١٨٥٥ ولا نعلم بالضبط ما الذي دعى المسؤولين في الماضي لكسوة جدران القبّة وما نعلمه أنّ هذه الكسوة حافظت على الفسيفساء وصانتها على مدى أجيال. 



احترق الجامع عام ١٨٩٣ وأعيد بناءه من الهيكل المتبقّي ولكن دون كشف الفسيفساء وقام المرمّمون في حالة قبّة الخزنة وغيرها بتغطية الجدران بألوان تتناوب في عصاباتها بين الأسود-الأزرق والأبيض والأحمر البرتقالي كما نرى في الصورة الثانية التي تعود إلى ١٢ تشرين أوّل عام ١٩٢١.



يعود فضل كشف الفسيفساء لجهود ومثابرة السيّد Eustache de Lorey مدير المعهد الفرنسي في دمشق في عقد العشرينات من القرن الفائت ونرى في الصورة الثالثة والأخيرة حالة قبّة الخزنة وفسيفسائها البديعة عام ٢٠١٠ للميلاد. 




http://bornindamascus.blogspot.com/2018/06/blog-post_18.html

Photo credit

Félix Bonfils
Fonds Max Van Berchem

Mission Frédéric Gadmer et Lucien Le Saint au Proche-Orient 
Collection Albert Kahn

Les relevés des mosaïques de la grande mosquée de damas
Loreline Simonis
Louvre Éditions

Monday, June 25, 2018

The Great Mosque of Damascus

Damascus' glorious Omayyad Mosque is the latest, and longest lasting, incarnation of the Roman temenos. According to Creswell, part of the latter sanctuary was transformed into the Cathedral of St. John the Baptist in 379, during the reign of Theodosius the Great. The exact location  of the Christian edifice is unknown but was likely somewhere in the west part of the central courtyard.



Muslim sources inform us that the church was demolished by Caliph Walid I, who is credited with constructing the Omayyad Mosque within the space anciently occupied by the internal Temple (temenos) of Jupiter Optimus Maximus Damascenus. The Caliph kept the external walls of the temenos (red color in the attached plan) and rebuilt everything else practically from the scratch. In the process, several architectural elements of the venerable temple were "recycled" into the new edifice, as could easily be verified by a quick look at the Corinthian columns in the courtyard, prayer hall, and colonnades.

What is left today from al-Walid's work is quite limited, namely the arcades forming the porticoes surrounding the central courtyard, the external gates, the transept, and the Minaret of the Bride. Everything else fell victim, time and again, to natural as well as man-made catastrophes and had to be raised from the ashes repeatedly. Those calamities are too numerous to be listed in a short post though one can particularly identify as most destructive the 1069 fire (towards the end of Fatimid rule in central Syria), Tamerlane's vandalism in 1401, and the tragic 1893 fire after which quite few observers thought that the edifice was gone for good.


http://bornindamascus.blogspot.com/2018/06/blog-post_18.html


Tuesday, June 19, 2018

دمشق الكبرى: معلولا


معلولا موقع مأهول منذ أقدم الأزمنة شأنها في ذلك شأن الغالبيّة العظمى من المدن والقرى السوريّة ولربّما كانت تسمية "القلمون" مشتقّة من اسمها القديم Calamona كما تكهّن العالم الفرنسي Dussaud استناداً إلى Notitia Dignitatum وهي وثيقة لاتينيّة تعود لأواخر القرن الرابع أو مطلع القرن الخامس الميلادي وتتناول التنظيم الإداري للإمبراطوريّة الرومانيّة في ذلك الحين (النسخ المتبقيّة حاليّاً تعود للقرنين الخامس عشر والسادس عشر). 



تقع المدينة في منطقة القلمون والسفوح الشرقيّة لساسلة جبال لبنان الشرقيّة وتنتمي إداريّاً إلى محافظة ريف دمشق وهي على بعد حوالي ٥٦ كيلومتر شمال شرق العاصمة. مناخها معتدل صيفاً نظراً لارتفاعها ١٧٢٠ متراً عن سطح البحر وهي كما هو معروف أحد آخر معاقل اللغة الآراميّة في سوريا. 

المدينة أكثر من جديرة بالزيارة لعدّة أسباب (الصورة المرفقة من منتصف السبعينات وقد قدّر لي زيارة المدينة حوالي تلك الفترة أو بعدها بقليل). تمتلك معلولا -علاوة على تاريخها العريق وطبيعنها الخلاّبة- ديرين أثرييّن:

* دير مار تقلا للروم الأورثوذوكس: يقع على سفح الجبل في فجّ تحتضنه الصخور وتقول الروايات أنّ القدّيسة تقلا كانت ابنة أحد الأمراء السلوقييّن وتلميذة القدّيس بولس الطرسوسي. أرسل أبوها عسكره لمطاردها وقتلها عقاباً لها على اعتناق الدين المسيحي وخلال فرارها وجدت نفسها في طريق تسدّه الصخور فدعت الله أن ينقذها واستجيب دعائها عندما انفنح شقّ في الجدار الصخري (كما شقّ موسى البحر بعصاه فراراً من جنود فرعون) ممّا سمح لها باللجوء إلى كهف صغير  عاشت فيها حتّى نهاية أيّامها. أبنية الدير الحاليّة حديثة ولا توحي بوجود آثار من العهد البيزنطي وإن احتوت الكنيسة-المصلّى على عدد من الأيقونات. 

* دير مار سركيس للروم الكاثوليك أكثر ارتفاعاً ويقع على يسار الخانق الجبلي (غرب وجنوب دير مار تقلا) ونجد فيه أدلّة أكثر وضوحاً على أقدميّته. يعتقد أنّه بني في مطلع القرن الرابع الميلادي على أنقاض معبد هلنستي أو روماني.  مار سركيس Saint Sergius أحد شهداء المسيحيّة الذي يفترض أنّه قتل عندما رفض تقديم القرابين إلى Jupiter ربّ الأرباب لدى الرومان وسميّت مدينة Sergiopolis (الرصافة لاحقاً) على اسمه. يملك الدير في معلولا أيقونات أثريّة تعود إلى القرن الثالث عشر للميلاد.  


René Dussaud

TOPOGRAPHIE HISTORIQUE DE LA SYRIE ANTIQUE ET MÉDIÉVALE

 
Paris, Librarie Orientaliste Paul Geuthner, 1927 

Ross Burns
Monuments of Syria, an Historical Guide
New York University Press 1992

Ivan Mannheim & Dave Winter
Jordan, Syria, & Lebanon Handbook
Footprint Handbooks 1998

Photo credit: P Chahinian
A Tourist Guide for Damascus (circa 1975)

Greater Damascus: Seidnaya

Seidnaya is a small town in Greater Damascus (officially the Governorate of the Countryside of Damascus).  It is located in the Qalamoon Region on the edge of the Anti-Lebanon Mountain Range, 27 kilometers north of Damascus. The trip is well worth the trouble.



Situated at an altitude of 1415 meters above the sea level with its monastery towering above the town from a height of 60 meters, Seidnaya deservedly earns the appellation of citadel-village, coined in the 1930's by the French geographer Richard Thoumin.

The site, according to René Dussaud -another illustrious French orientalist and archaeologist- is an ancient one. Its fame however, dates from medieval times, when it emerged as an important center of Christianity well before this became the official religion of the Roman Empire. 

The main attraction is the Greek Orthodox Convent of Our Lady of Seidnaya, purportedly founded by the Byzantine Basileus Justinian (527-565 CE). Pilgrims flocked to the convent, attracted by the miracles associated with the image of the Virgin believed by the faithful to be painted by Saint Luke. The shrine boasts other relics said to date from the 5th to the 7th centuries. 

Virtually all Christians and quite few Muslims revere the venerable monastery that has attracted the pious as well as the profane from time immemorial. Even at the height of the Crusades, and despite warfare opposing Frank and Muslim, pilgrims were able to reach Seidnaya and pay their respect. 



References:

Richard Thoumin
Géographie humaine de la Syrie Centrale
Tours, Arnault et Cie Maîtres Imprimeurs 1936

René Dussaud

TOPOGRAPHIE HISTORIQUE DE LA SYRIE ANTIQUE ET MÉDIÉVALE


Paris, Librarie Orientaliste Paul Geuthner, 1927 

Ross Burns
Monuments of Syria, an Historical Guide
New York University Press 1992

Ivan Mannheim & Dave Winter
Jordan, Syria, & Lebanon Handbook
Footprint Handbooks 1998

Photo credit: P Chahinian
A Tourist Guide for Damascus (circa 1975)

Monday, June 18, 2018

فسيفساء جامع دمشق الأموي المفقودة

من المؤكّد أن الفسفيساء غطّت مساحات أكبر من جدران جامع بني أميّة الكبير ممّا وصلنا حاليّاً ونملك على ذلك من الأدلّة ليس شهادات زوّار الجامع من رحّالة القرون الوسطى فحسب، ولكن أيضاً وصف الفرنسي  Henri Saladin للفسيفساء التي زيّنت الجدران الداخليّة للمجاز المعترض في حرم الصلاة عام ١٨٧٩ ولوحة Phené Spiers بالألوان المائيّة قبل حريق عام ١٨٩٣. 



مع هذا فقد حالفنا الحظّ ونجا قسم لا بأس به من فسيفساء الوليد والفضل بذلك يعود بالدرجة الأولى لتغطيتها بطبقة من الجير في العهد العثماني. لا نعرف بالضبط تاريخ هذه التغطية ولكنّه يقع بين عام ١٦٦٤ عندما شاهدها الرحّالة الفرنسي  Jean de Thévenot  وعام  ١٨٥٥ عندما أهدانا المبشّر الإيرلندي Josias Leslie Porter أوّل وصف علمي لجامع دمشق الكبير مع خريطة مفصّلة وعلى اعتبار أنّه لم يذكر الفسيفساء فيمكن الاستنتاج دون عناء أو التباس أنّه لم يراها كونها في ذلك الوقت مختبئة تحت الطلاء الجيري الذي حماها لعدّة قرون. هنا تجدر الإشارة أنّ جامع دمشق لم يكن الوحيد الذي تمّت تغطية فسيفسائه فهناك مثلاً فسيفساء كاتدرائيّة آيا صوفيا في القسطنطينيّة التي غطّيت في منتصف القرن الثامن عشر. 

قام خبير الخطوط القديمة والمؤرّخ السويسري Max Van Berchem بدراسة الجامع بعد حريق ١٨٩٣ المدمّر وعاين بعض الفسيفساء في الجدار الشمالي للمجاز المعترض التي أزال الحريق بعضاً من الطلاء الذي غطّاها ولكن الفضل في كشف هذه الفسيفساء يعود لأوّل مدير للمعهد الفرنسي في دمشق السيّد Eustache de Lorey بالتعاون مع السيّدة Marguerite Van Berchem (ابنة السويسري Max) في أواخر العقد الثالث من القرن العشرين تحت الانتداب الفرنسي (عيّن de Lorey مديراً للمعهد الفرنسي من قبل الجنرال Gouraud أوّل مندوب سامي فرنسي في سوريا وخصم يوسف العظمة بطل ميسلون). كرّس de Lorey وقته وجهده للإشراف على كشف الفسيفساء وتأمين التمويل اللازم لعمليّة من هذا النوع وذهب إلى حدّ المساهمة بماله الخاصّ. 

تكلّلت جهود de Lorey و Van Berchem بكشف مساحة ٨٧٥ متر مربّع من الفسيفساء في الصحن (جدار المجاز المعترض الشمالي) والنهاية الشرقيّة للرواق الشمالي وقبّة الخزنة وأخيراً ولكن بالتأكيد ليس آخراً الرواق الغربي وأهمّ كنوزه "لوحة بردى" بطول ٣٤ متر وعرض  ٣,٧ متر. كانت الخطوة التالية بعد كشف الفسيفساء التقاط حوالي ٣٠٠ صورة وثائقيّة بالأبيض والأسود وتوكيل ثلاثة فنّانين سورييّن (السادة فهمي قبّاني وكمال كلّاس ونظمي خير) تحت إشراف المهندس العماري Lucien Cavro بنسخ قطع من هذه الفسيفساء بالحجم الطبيعي والألوان كما وجدوها وكان عدد هذه القطع تسعة ولربّما كان الهدف أصلاً نسخ كافّة الفسيفساء ولكن هذا لم يحصل. 

آلت ملكيّة الصور الفوتوغرافيّة والنسخ الملوّنة إلى متحف Louvre الشهير والذي قام بالتعاون مع de Lorey بعرض هذه الكنوز في جولات في معارض أوروبا والولايات المتّحدة الأمريكيّة ليستمتع بها من لا يستطيع زيارة الجامع لرؤية الأصول. 

طوى النسيان وزوايا ال Louvre الصور والنسخ في النصف الثاني من القرن العشرين إلى أن "أعيد اكتشافها" بين الأعوام ١٩٩٩ و ٢٠٠٩ واليوم يملك المتحف الفرنسي المجموعة كاملة وسأعرض بعض الصور المتعلّقة بها وبتاريخها في الأسابيع المقبلة. 





<ميع المعلومات أعلاه مأخوذة من الكتاب في الصورة لمؤلّفته السيّدة Loreline Simonis فلها وللسيّدة Van Berchem والسيّد de Lorey جمّ الاحترام والتقدير والشكر. 

Sunday, June 17, 2018

قلعة الحصن

للمديريّة العامّة للآثار والمتاحف أياد بيضاء على التاريخ والتراث السورييّن وقد أسعفني الحظّ مؤخّراً بالعثور على أحد أعمال العالم الراحل الدكتور  عبد القادر ريحاوي  في مطلع حياته المهنيّة الغنيّة. الكتيّب المنشور عام ١٩٦٣ هو بالأحرى ترجمة من العربيّة للإنجليزيّة ووددت لو استطعت الحصول على الأصل ولكن هكذا كان. تولّى المؤلّف وقتها رئاسة تفتيش  الآثار في المديريّة وقدّر له في السنوات اللاحقة أن يركّز على العمارة الإسلاميّة وله فيها من المقالات والكتب الكثير ممّا لا مجال لسرده هنا. 



قلعة الحصن كما نعرفها صليبيّة بل لعلّها أكمل وأجمل القلاع الصليبيّة في العالم ولا تزال في حالة جيّدة رغم توالي القرون وتقلّبات السياسات. الكتيّب موجّه للسيّاح بالدرجة الأولى ولا يتجاوز الأربعين صفحة من القطع الصغير التي تتخلّلها صور بالأبيض والأسود من نوعيّة متوسّطة مع خريطة سهلة الاستعمال. الترجمة معقولة ويمكن تحسينها ومن السهل لمن هو أليف بكتابات الدكتور ريحاوي أن يتحرّى أسلوبه السلس الأخّاذ من خلال الأسطر. المرجع الوحيد المذكور لمن أراد التوسّع وكان مستعدّاً لقراءة مئات الصفحات فرنسي صدر عام ١٩٣٤ بعنوان Le Crac des Chevaliers للسيّد Paul Deschamps.   

يبدأ الدليل بتحديد موقع القلعة ثمّ ينتقل إلى لمحة تاريخيّة فيخبرنا أنّها كانت معروفة في القرن الحادي عشر الميلادي تحت اسم حصن الأكراد وسقطت في أيدي الصليبييّن عام ١١١٠ليتمّ توسيعها وترميمها وإعادة بناء أجزاء منها على مدى عشرات السنين. حاول نور الدين زنكي الاستيلاء عليها وفشل ولم يكن صلاح الدين أكثر من سلفه نجاحاً وقدّر للصليبييّن أن يحتفظوا بهذا الحرز المنيع حتّى عام ١٢٧١ عندما نجح الظاهر بيبرس (الباني الفعلي لدولة المماليك) باقتحامها ويفيد الدكتور ريحاوي أنّ بيبرس عامل الإفرنح بعد استسلامهم بمنتهى الكرم وإن ذكرت مصادر ثانية أنّه أمر بقطع أعناق جميع فرسان القديّس يوحنّا الجرحى منهم والأصحّاء وأميل لتصديق الرواية الثانية لسبب بسيط: كان بيبرس بلا شكّ موهوباً من الناحيتين السياسيّة والعسكريّة ويمكن القول أنّه كان شديد التديّن ولكنّ الرحمة والرأفة لم يكونا من خصاله ويحمّله كثيرون جريمة قتل سيّده المظفّر قطز غدراً وخيانة ولا يوجد خلاف أنّه دمّر أنطاكيا وذبح واستعبد سكّانها. أصيبت القلعة بأضرار خلال حصار بيبرس جرى ترميمها في عهده ومن ثمّ عهد السلطان المنصور قلاوون.  

فيما يتعلّق بتاريخ القلعة الحديث فمن المعروف أنّها تحوّلت إلى قرية سكنيّة إلى أن قامت سلطات الانتداب الفرنسي بإخلائها في ثلاثينات القرن العشرين وتمّت إزالة المساكن التي أضيقت عليها مع التعويض على السكّان. أجريت عليها أعمال ترميم بهدف استثمارها تراثيّاً وسياحيّاً وكانت أجرة الدخول إليها ليرة سوريّة واحدة عام ١٩٦٣. 



القلعة واسعة المساحة (شبه منحرف بأبعاد ٢٠٠ متر x ١٤٠متر وتحتلّ ٣ هكتار ولكن زيارة هذا التيه المعقّد سهلة بفضل الدكتور ريحاوي الذي يأخذ بيد السائح ويقوده في ثلاث جولات: الأولى حول الأسوار الخارجيّة والثانية داخل هذه الأسوار والثالثة ضمن الأسوار الداخليّة. متابعة الأبراج والجدران والأبهاء ممكنة من خلال الأسهم على الخريطة الملحقة ويساعد في هذا ترقيم الأمكنة المختلفة والرجوع لهذا الترقيم في النصّ. القلعة مدينة كاملة صمّمت لحامية يبلغ عددها ٤٠٠٠ جندي وهي مزوّدة بخزّانات مياه وعنابر ومطبخ ومطاهر وخنادق وحرز ومصلّى (حوّل فيما بعد إلى مسجد) علاوة على أبراجها وأسوارها الداخليّة منها والخارجيّة أمّا عن أهميّتها الاستراتيجيّة فلا تحتاج إلى تعريف كونها تهيمن على "فجوة حمص" التي تصل الداخل مع الساحل بين جبال العلوييّن شمالاً وسلاسل جبال لبنان جنوباً.

لسبب ما يخنم الدكتور ريحاوي الكتاب بذكر سريع (صفحتين ونيّف) لدير مار جرجس الأثري الواقع على مسافة قصيرة غرب القلعة والذي يعتقد أنّه بني في القرن الرابع أو الخامس الميلادي وإن كان بشكله الحالي أحدث من ذلك بكثير.    



Saturday, June 16, 2018

في دمشق تحت القصف


منعت الرقابة الفرنسيّة توزيع كتاب السيّدة Alice Poulleau في البلاد تحت الانتداب عندما صدر عام ١٩٢٦ والسبب بسيط: تجاوزت المؤلّفة من خلال ٢٥٠ صفحة جميع الخطوط الحمراء وكذّبت الرواية الرسميّة الفرنسيّة عن ما عرف لاحقاً بالثورة السوريّة الكبرى على جميع الأصعدة عمليّاً وأدانت تصرّفات المسؤولين الفرنسييّن في بلاد الشام ووصفتها بالجهل والفوقيّة وقصر النظر (إن لم نقل الغباء) والعنف الذي لا يمكن تبريره تحت ستار "بعثة التمدين" أو Mission Civiltatrice لمساعدة البلاد المتخلّفة على اللحاق بركب الحضارة. 



لا لزوم للموافقة على جميع ما قالته الكاتبة سلباً أو إيجاباً فمثلاً مع تسليمي بأنّ فرنسا أرسلت عدداً لا بأس به من الأجلاف والأوباش فهي أيضاً أرسلت العلماء والباحثين أمثال de Lorey و Sauvaget و Dussaud و Shaeffer (نقّب في أوغاريت) و Parrot (مدينة ماري) وكثير غيرهم تماماً كما رافق عسكر نابوليون إلى مصر علماء من أمثال Champollion الذي فكّ طلاسم حجر رشيد. 

أهميّة ما كتبته Poulleau بالدرجة الأولى أنّها كانت ليس فقط شاهد عيان وإنّما أيضاً "شاهد من أهله" ومع كرهها لممارسات قيادات الجيش الفرنسي (لم يمنعها هذا من التعاطف مع الجنود الفرنسييّن الأبرياء الأطهار الذين يجرحون ويموتون دفاعاً عمّا وصفه الجنرال Sarrail المندوب أو المفوّض السامي في سوريا بشرف فرنسا l'honneur de la France) فهي لم تكن غافلة عن بعض ممارسات الثوّار (أو المتمرّدين حسب الجهة) السورييّن التي يصعب الدفاع عنها وبالتالي فالصورة التي رسمتها أقرب بكثير إلى الواقعيّة منها إلى الرومانسيّة والخيال وجميع من قرأ كتب التاريخ السوريّة يعرف ما أقول: في هذه الكتب كل شيء أبيض أو أسود والثوّار ملائكة أخيار (البطل فلان والشهيد فلان والمجاهد علتان) بينما الفرنسيّون ظلمة أشرار يقتلون للقتل وهدفهم الوحيد استملاك البلاد وظلم العباد ونهب الثروات الدفينة وإذلال الناس وهلمّجرّا.  

اتّبعت السيّدة Poulleau أسلوب اليوميّات بداية من ٧ كانون أوّل عام ١٩٢٤ عندما وصلها خبر رحيل الجنرال Weygand (ثاني مندوب سامي بعد Gouraud) وتعيين Sarrail الليبرالي "المسيح المنتظر". ينتهي الكتاب في ١٧ أيّار عام ١٩٢٦ على نبرة تفاؤل بجهود de Jouvenel (المندوب السامي الرابع) في سبيل احتواء الأزمة. في رأيي أنّ هذا الكتاب ضروري لكلّ من يهتمّ بعهد الانتداب في سوريا ولا مجال لتلخيصه في صفحة أو صفحتين وأكتقي يرسم صورة عامّة عن طريق التركيز على عدّة نقاط تكرّرت مراراً في السرد وسألتزم قدر الإمكان بوجهة نظر المؤلّفة وللقارىء الحكم ومن يريد التحقّق والتوسّع يستطيع الرجوع إلى الأصل الذي أعيد نشره مؤخّراً (٢٠١٢). 

* امتدّت الفتنة من جبل الدروز إلى دمشق رغم جهود الفرنسييّن في بناء المدارس والمتاحف وشقّ الطرقات وتزويد السويداء بالماء وتعامل الفرنسيّن مع الأزمة منذ البداية بشكل عنيف وأخرق لا بل ورفض Sarrail وساطة الأمير سعيد الجزائري مع الدروز عندما عرضت عليه. امتدّ التمرّد إلى دمشق وخصوصاً الغوطة الشرقيّة وقام الفرنسيّون بقصف العديد من قراها (حرستا، القابون، برزة، جرمانا، المليحة، كفر بطنا، جسرين،  إلخ) ووقع أهل الغوطة بين مطرقة الفرنسييّن وسندان الثوّار ونزح كثير من أهل القرى إلى دمشق. 

* استعمل المتمرّدون الغوطة كما يستعمل البدو الصحراء أو القراصنة البحار: هي نقطة انطلاقهم في غاراتهم على الفرنسييّن وأعوان الفرنسييّن في المدينة يهاجمون منها ثمّ يتراجعون للاختفاء بين البساتين وقد حدا هذا سلطات الانتداب إلى هدم جدران البساتين الطينيّة وشقّ الشوارع العريضة (شارع بغداد مثلاً) لتسهيل عبور جنودهم وآلياتهم. 

* اعتمد الفرنسيّون على المرتزقة في محاولة منهم لحقن دماء جنودهم. كان المأجورون من الأرمن والشركس والسنغالييّن وغيرهم من الأفارقة وترتأي المؤلّفة أنّهم لطّخوا سمعة الفرنسييّن في اضطّهادهم للأهالي وسرقتهم وابتزازهم للناس وكان لا مناص من أن يهاجمهم الثوّار وأتباعهم ويقتلونهم كلّما أتيحت لهم الفرصة. 

* هاجم المتمرّدون قصر العظم  (اعتقاداً منهم بوجود المندوب السامي فيه) في تشرين أوّل ١٩٢٥ ونهبوه ودمّروه وهناك خلاف -الكلام دوماً للمؤلّفة- فيما إذا كان الجناة من الثوّار أو الدهماء الذين استغلّوا الفوضى الناجمة للسرقة والتخريب. في كلّ الأحوال قام الفرنسيّون بقصف سيدي عامود انتقاماً وأحرقوا بيت البكري عن سابق تصميم. فرضت سلطات الانتداب بعدها مباشرة غرامة ١٠٠٠٠٠ ليرة ذهبيّة على المدينة واجبة الدفع خلال ثلاثة أيّام وإلّا يستأنف القصف. مدّدت الجهات المعنيّة لاحقاً تاريخ الاستحقاق. أرسل أعيان المدينة وفداً إلى الثوّار -أو زعماء العصابات حسب وجهة النطر- يناشدهم الامتناع عن دخول المدينة لتجنيبها انتقام الفرنسييّن.  

* كان الثوّار أيضاً بحاجة إلى المال واتّبعوا في ذلك عدّة أساليب منها فرض خوّة على الأهالي (كان رضا سعيد أحدهم) وخطف رهائن لطلب الفدية إذا لزم الأمر. استهدفوا خصوصاً أصدقاء فرنسا و"محاسيبها" من الأقليّات ولكنّهم وفّروا الفقراء. 

* تفاوتت علاقات الطوائف السوريّة بعضها مع البعض الآخر وكان للسياسة الفرنسيّة دور في ذلك نظراً لكون فرنسا "حامية الأقليّات" خصوصاً المسيحيّة في الشام. صدرت على سبيل المثال تعليمات للبطركيّات في دمشق لوضع شراشف بيضاء يتوسّطها صلبان حمر على سطوحها كي يتعرّف عليها الطيّارون الفرنسيّون ويتجنّبون قصفها. قامت هذه البطركيّات بالمقابل بفتح أبوابها للنازحين المسلمين كما أرسل الأمير طاهر الجزائري أتباعه لحماية المسيحييّن. هدّد بعض الثوّار مع الأسف بالجهاد ضدّ المسيحييّن وسرقوا طحين دير صيدنايا وحاصروا معلولا وفرضوا ضرائب "حماية" للمنطقة الواقعة بينها وبين يبرود. 

* خرجت عدّة أحياء في المدينة عن سيطرة الفرنسييّن عام ١٩٢٥-١٩٢٦ وتعرّض الميدان للقصف (ربيع ١٩٢٦) وفرضت غرامة ١٠٠٠ ليرة ذهبيّة على أهله تحت طائلة قطع مياه عين الفيجة.  نزح عن دمشق ألوف من سكّانها بينما اعتصم الفرنسيّون بطريق الصالحيّة معقل جاليتهم وأقاموا الأسلاك الشائكة بذريعة حماية المسيحييّن في القصّاع وباب توما. 



باختصار لم توفّر السيّدة Poulleau أحداً ولكن سطورها تعبق بحبّ دمشق وغوطة دمشق وتراث دمشق وأهل دمشق. المؤلّفة تدين الانتداب دون تردّد أو مواربة ودون "ظروف مخفّفة" وكتابها في نهاية المطاف أكثر من جدير بالقراءة.   

الصورتان الأخيرتان من الطبعة الأصليّة للكتاب من مقتنيات الصديق العالم الأستاذ الياس بولاد مع خالص الشكر. 





Friday, June 15, 2018

ولاة دمشق من القرن الثالث عشر إلى القرن الثامن عشر


عنوان الكتاب الأصلي باللغة الفرنسيّة "حكّام دمشق تحت المماليك والعثمانييّن الأوائل" وهو يغطّي الفترة بين عام ١٢٦٠ (عندما حلّ المماليك محلّ الأيّوبييّن في الشام بعد عشر سنوات من الإطاحة بهم في مصر) وعام ١٧٤٣-١٧٤٤ أو بداية ولاية أسعد باشا العظم في دمشق. المؤلّف هو العالم الراحل Henri Laoust والكتاب ترجمة فرنسيّة لمخطوط ابن طولون الصالحي الدمشقي (مات ١٥٤٦) ومخطوط ابن جمعة (مات بعيد ١٧٤٤). الناشر هو معهد دمشق الفرنسي (يسمّى حاليّاً معهد الشرق الأدنى الفرنسي) وسنة النشر ١٩٥٢.



قام Laoust بتحقيق عمل ابن طولون وترجمته  قبل أن يصبح هذا العمل في متناول القرّاء العرب بفضل العلّامة محمّد أحمد دهمان (١٨٩٩-١٩٨٨) عام ١٩٦٤ فالأسبقيّة هنا للفرنسييّن وإن كان تحقيق دهمان أغنى بالحواشي والشروحات القيّمة. يقوم العالم الفرنسي من خلال مقدّمة شديدة الأهميّة بطول ٢٣ صفحة بتعريفنا بالمؤلّف ابن طولون وهو فقيه حنفي من مواليد صالحيّة دمشق وتلميذ نجيب لجلال الدين السيوطي والنعيمي (صاحب المرجع النفيس "الدارس في تاريخ المدارس") . عنوان كتاب ابن طولون قيد البحث هنا "إعلام الورى بمن ولّي نائباً من الأتراك بدمشق الشام الكبرى"وهو صاحب سيرة ذاتيّة (الفلك المشحون في أحوال محمّد ابن طولون) وله عدد كبير من الكتب الإضافيّة التي لا مجال للدخول بها هنا (مثلاً "القلائد الجوهريّة في تاريخ الصالحيّة" و مفاكهة الخلّان في حوادث الزمان"). يميّز Laoust في "إعلام الورى" منهجين لابن طولون: الأوّل يغطّي ٢٠٠ سنة بين ١٢٦٠ إلى ١٤٥٨ تغطية شديدة الاختصار وسطحيّة ومنقولة عن السلف خصوصاً شمس الدين الزملكاني وتتخلّلها أخطاء. الفترة الثانية من ١٤٥٨ إلى ١٥٣٦ أغنى بكثير في التفاصيل بعضها منقولة عن شهود عيان وكثير منها عاصره ابن طولون بل ورآه بأمّ عينه خصوصاً المرحلة الانتقاليّة بين آخر العهد المملوكي وأوّل العثماني وهنا لا يوجد إسناد: المعلومات مباشرة وليس "عن فلان وفلان أنّ فلاناً قال". 

نأتي الآن إلى ابن جمعة (أيضاً دمشقي وحنفي) ومخطوط "الباشات والقضاة" والذي يغطّي الفترة بين ١٥١٦ (أي بداية العهد العثماني في أعقاب معركة مرج دابق ومصرع قانصوه الغوري) وعام ١٧٤٤. أسلوب ابن جمعة أكثر اختصاراً وأقرب للعاميّة وما وصلنا من تسلسله الزمني يحتوي على الكثير من الفجوات وهو أقرب إلى المسودّة منه إلى كتاب أو مخطوط جاهز للنشر. علاوة على ذكر أسماء الولاة والقضاة في دمشق يركّز الفقيه على أصحاب الكرامات وبعض ما يقصّه صعب التصديق على الأقلّ بالنسبة للقارىء المعاصر. في كلّ الأحوال أسبقيّة تحقيق "الباشات والقضاة" ليست ل Laoust بل للعالم الكبير المرحوم صلاح الدين المنجّد (١٩٢٠-٢٠١٠) عام ١٩٤٩ أي قبل المستشرق الفرنسي بثلاث سنوات وقام المنجّد مشكوراً بمحاولة تغطية الثغرات من مصادر إضافيّة قدر الإمكان مع ذيول وشروحات (بالذات عندما يتعلّق الموضوع بمعلومات طبوغرافيّة أو منشئات عمرانيّة في دمشق وغيرها) تسهّل المطالعة ولكنّه أغفل الهوامش التي كتبها ابن جمعة بخطّ يده وأضافها Laoust إلى النصّ في المكان الذي اعتقده مناسباً. 

يركّز المؤرّخان (ابن طولون وابن جمعة) بالدرجة الأولى على الأحداث السياسيّة والظروف المعيشيّة والكوارث الطبيعيّة منها والناجمة عن طمع وجهل البشر ومعظمها شديد الكآبة ومع ذلك يمكننا الحصول عن معلومات محدودة ولكنّها ثمينة عن آوابد ومعالم دمشق المندثرة منها والموجودة (دار السعادة، جامع الأفرم، قبّة النصر، وحتّى مكان الشنق الذي كان في حيّ الخراب ثمّ انتقل إلى "ما بين النهرين" أو الجزيرة" المعروفة حاليّاً باسم ساحة المرجة أو ساحة الشهداء). الفضل في تحديد الكثير من هذه المواقع يعود لحواشي دهمان والمنجّد . هنا لا بدّ من التنويه أنّ العديد من أهمّ معالم دمشق غير مذكور على الإطلاق ومن الغريب فعلاً ألّا يشير ابن جمعة لا تلميحاً ولا تصريحاً للتكيّة السليمانيّة التي قامت على أنقاض قصر بيبرس الأبلق وحتّى الأبنية المذكورة ذكرت عرضاً ومرّ عليها الكاتبان مرور الكرام.  بالمقابل هناك فيض من أسماء علماء الدين والعسكر الذين نسيهم التاريخ أو كاد. 

الخلاصة المعطيات التي يمكن استخلاصها من المخطوطان أعلاه محدودة وناقصة وهذا بالطبع لا يقلّل من أهميّتها ولا من فضل ابن طولون وابن جمعة أوّلاً ودهمان والمنجّد و Laoust ثانياً في تغطية فترة طويلة من تاريخ دمشق لم تأخذ حقّها في المصادر المتوافرة. 



Wednesday, June 6, 2018

دليل السائح إلى دمشق منتصف السبعينات

كثير من المطبوعات السوريّة قديماً السياحيّة منها وغير السياحيّة لا تتجشّم عناء ذكر تاريخ النشر وليس هذا الدليل الصغير باستثناء. استطعت مع ذلك تخمين هذا التاريخ بواسطة دليلين: الأوّل أرقام الهاتف السداسيّة (إذاً تجاوزنا عقد الستينات) والثاني وهو الأهمّ قائمة الفنادق التي يتصدّرها الشيراتون والميريديان اللذان "يتوقّع إنجازهما خلال عام ١٩٧٦" وبناء عليه نحن على الأغلب في عام ١٩٧٥ أو نحو ذلك. 



الكتيّب صغير الحجم: ستّون صفحة بقياس ١٢ x ١٧ سم فيها ٢٠ صورة ونيّف بالأبيض والأسود آمل مسحها ومشاركتها في الأيّام القليلة المقبلة. المؤلّف شخص يدعى P شاهينيان ولا يوجد أي معلومات عنه في متن الدليل وإن كنت أعتقد أنّها أو أنّه يمتهن التصوير. 

هناك مآخذ على هذا العمل الموجّه للسيّاح الناطقين بالإنجليزيّة. الأخطاء اللغويّة وأخطاء التهجئة كثيرة والأنكى من ذلك الأخطاء التاريخيّة وسأكتفي بمثال واحد يشرح نفسه بنفسه حتّى لا يعتقد البعض أنّني "حنبلي" أكثر من اللزوم:

صفحة ١٤: "غزا المغول سوريا بقيادة جنكيز خان عام ١٢٦٠ ودمّروا المدينة وقتلوا أهلها. استولى الملك الظاهر بيبرس على مقاليد الحكم وحارب الصليبييّن وأخذ أنطاكيا ثمّ تصدّى لاحقاً للمغول ولكن هذا كان عديم الفائدة لانّ الضعف الذي ألحقه هؤلاء بالمدينة أدّى إلى تحوّل التجارة إلى مصر". 

مع ذلك للكتاب حسناته التي لا تنكر ومنها إمكانيّة حمله في الجيب وصوره الصغيرة الجميلة ولا يقلّ عن هذا وتلك أهميّة الملحقات التالية:

١. فنادق دمشق وعناوينها وأرقام هواتفها وتصنيفها حسب درجتها وأعلاها وقتها أميّة (شارع البرازيل) وسميراميس وقطّان (بانتظار افتتاح الشيراتون والميريديان كما ذكرت أعلاه). 

٢. دور السينما (أيضاً مع العناوين والهواتف) والمذكور منها ١١ (لا ذكر لسينما غازي مثلاً). 

٣. المطاعم وما إذا كانت وجباتها شرقيّة أم غربيّة وما إذا كانت تخدم المشروبات الروحيّة. بعض هذه المطاعم داخل المدينة (الفاندوم وعلي بابا وأبو كمال مثلاً) وبعضها في الضواحي (القصر والسهل الأخضر) وبعضها للوجبات السريعة (الإيتوال في ساحة النجمة والسبكي هام عند الحديقة التي تحمل نفس الاسم). لا وجود لمطاعم ومحلّات بيع التسقية والفول والفلافل والشاورما. 

٤. النوادي الليليّة داخل المدينة (الكاف دو روا ونادي الشرق والكازا)  وخارجها (كازينو المطار). 

٥. الكباريهات: الطاحونة الحمراء والكروان وغيرها. 

إجمالاً يغلب على الكتيّب الإخراج المتقشّف الذي درج في عقود الستينات إلى الثمانينات ومن استقرائي للأدلّة السياحيّة التي صدرت قبل (الأربعينات والخمسينات) أو بعد (التسعينات فلاحقاً) هذه الفترة نرى فروقات ملموسة من ناحية التجليد واللغة والتوثيق. في كلّ الأحوال يمكن على أقلّ تقدير الاستمتاع بالصور ويبقى الدليل مرجعاً لا بأس به لحقبة معيّنة بانتظار أن تعطى كامل حقّها.  



  

Tuesday, June 5, 2018

دليل زائر دمشق عام ١٨٥٨



لا يقتصر هذا الدليل على عاصمة الشام بل يغطّي  سوريا المركزيّة والجنوبيّة بما فيها فلسطين مع تركيز خاصّ على القدس والبتراء ودمشق وتدمر. الكتاب أحد العديد من الأدلّة الصادرة عن شركة John Murray في لندن وطبعته الأولى التي أتعرّض لها اليوم تعود اعام ١٨٥٨ وأعيدت طباعته عام ١٨٦٨. حتّى الآن هذا أقدم دليل سياحي عثرت عليه باللغة الإنجليزيّة عن سوريا وطبعته الأولى تسبق الطبعة الأولى لدليل Baedeker بثمانية عشر عاماً أمّا عن المؤلّف فهو المبشّر الإيرلندي Josias Leslie Porter صاحب الكتاب الشهير "خمسة سنوات في دمشق" الذي طبع للمرّة الأولى عام ١٨٥٥. عدد صفحات الدليل تتجاوز الستمائة وهو مبّوب بعناية ومزوّد بفهرس أبجدي (أمر نادر في ذلك الوقت) وتلحق به بعض الخرائط. لا يتجاوز القسم المخصّص لمدينة دمشق ٢٤ صفحة ولكن نظراً لدقّة الطباعة يمكن أن تتجاوز ترجمتها العربيّة أربعة أضعاف هذا العدد بكل سهولة وهي شديدة الغنى بالمعلومات. 



يعتمد السيّد Porter في مختصره لتاريخ المدينة إلى درجة كبيرة على الكتاب المقدّس وبالذات العهد القديم ولكنّه ذو إلمام معقول بالمصادر العربيّة والإسلاميّة إذ يستشهد بإبن كثير وإبن عساكر أمّا عن رأيه بالمسلمين -العرب منهم والأتراك- فهو شديد السلبيّة وأضيف إلى ذلك أنّ رأيه بمسيحييّ الشرق لم يكن أفضل بكثير فهو بروتستانتي وبريطانيّ الهوى يفخر بالتبشير الإنجيلي في الشرق الأدنى (طبعاً بين المسيحييّن كون التبشير العلني بين المسلمين غير وارد) ويستشهد بالدكتور ميخائيل مشاقة الذي "يمهّد الطريق لنشر الحقيقة الإنجيليّة". تعصّب الكاتب مفهوم خاصّة في القرن التاسع عشر والعهد الفيكتوري وهذا لا يقلّل من أهميّة ما كتبه من الناحية التاريخيّة والتوثيقيّة.  

قدّر المؤلّف عدد سكّان دمشق بحوالي ١٥٠٠٠٠ نسمة منهم ١٥٠٠٠ مسيحي و ٦٠٠٠ يهودي والباقي مسلمون وهذا الرقم يشمل الصالحيّة التي تراوح عدد سكّانها بين ١٠٠٠٠ إلى ١٢٠٠٠. هناك فندقان في المدينة: الأوّل فندق تدمر على الشارع المستقيم وهو قذر وصاحبه غشّاش والثاني اللوكاندة الجديدة أو لوكاندة الملّوك وهي في الواقع بيت علي آغا خزنة كاتبي (يعرف حاليّاً تحت اسم بيت نظام) ولا يزال ملكاً لابنته ويديره الإخوان ملّوك. هناك بعد ذلك وصف عامّ للمدينة -أكبر مدن تركيّا الآسيويّة حسب الكاتب- يشمل قبّة النصر على قمّة جبل قاسيون (دمّرت في أيّار عام ١٩٤١) قبل أن يبدأ بجولة ممنهجة في المدينة وحولها بوّبها كما يلي:


١. المشوار الأوّل حول سور دمشق يبدأ من الباب الشرقي الذي ينصح الكاتب قرّائه بتسلّق مئذنته المهجورة بهدف رؤيا بانوراميّة للمدينة. نتّجه بعد ذلك جنوباً وهنا وصف Porter برجاً في سور المدينة عليه شعارات ملكيّة فرنسيّة (زهرة الزنبق) وإنجليزيّة (الأسد) لم أسمع بها في حياتي ويقع هذا البرج بين الباب الشرقي وباب كيسان الذي كان مسدوداً وقتها. كان الخندق جنوب سور المدينة موجوداً آنذاك وأفاد الكاتب بوجود آثار سور خارجي موازي للسور الحالي وأضاف أنّ ابراهيم باشا أزال هذا السور وردم معظم الخندق. إذا تابعنا من باب كيسان باتجاه الشرق نرى قبّة سيدي بلال ويؤكّد Porter أنّ بلال هذا غير بلال الحبشي المدفون في الباب الصغير الذي يعدّد بعض القبور الشهيرة فيه (معاوية وابن عساكر وفاطمة وثلاثة من زوجات محمّد). نتابع المسيرة إلى الشرق والشمال حتّى جامع سنان باشا عند باب الجابية ومن ثمّ إلى السرايا (المشيريّة) التي تمتدّ شرقها ثكنات بناها ابراهيم باشا. هنا يأتي وصف معقول للقلعة والتي كانت لا تزال محاطة بالخندق وتحتاج زيارتها إلى إذن خاصّ. نتابع إلى سوق السروجيّة  فباب الفرج ومن ثمّ باب الفراديس وبين السورين وباب السلام وباب توما مع ذكر بعض المقاهي على الطريق ثمّ نعرّج على الشيخ رسلان وبيت النعمان (مستشفى الجذام) لنكمل دورة أسوار المدينة حيث بدأنا لدى الباب الشرقي. 

٢. المشوار الثاني يبدأ من الباب الشرقي أيضاً ولكن إلى داخل المدينة باتّجاه الغرب على الشارع المستقيم حيث نشاهد على الطريق دير الأرمن وكنائس السريان والروم الكاثوليك وبيت حنانيا (عل اليمين) وبجواره أنقاض كنيسة المصلّبة التي استعملت لفترة طويلة كمسجد قبل أن تهجر. نتابع على الشارع المستقيم إلى الكنيسة أو الكاتدرائيّة المريميّة (وصفها الكاتب أنّها حديثة بنيت في القرن التاسع عشر وكبيرة وخالية من الذوق إلخ من النعوت السلبيّة وهذا طبعاً قبل تدميرها في مجزرة ١٨٦٠)  فبقايا القوس الرومانيّة فبيت يهوذا المزعوم (حيث نزل القدّيس بولس) حتّى نصل إلى سوق البزوريّة ومعالمه الشهيرة (خان أسعد باشا وقصر العظم) ونعرّج على مدرسة وتربة نور الدين وسوق الخيّاطين وخان التتن فسوق الصاغة الذي يمكن لقاء بخشيش تسلّق سقفه لرؤية الجانب الجنوبي للجامع الأموي.


هناك وصف لا بأس به أبداً للجامع الكبير ومحيطه ورغم أنّ دخوله كان ممنوعاً وقتها على غير المسلمين على الأقلّ من الناحية النظريّة (وإن كان من المسموح النظر من خلال بابيّ جيرون والبريد) فلم يمنع هذا الكاتب من وصف حرم الصلاة ووضع خريطة جيّدة للجامع في كتابه "خمس سنوات في دمشق" مع المنطقة المحيطة به بما فيها معالم اندثرت مع نهاية القرن التاسع عشر كالرواق المعمّد جنوب باب الزيادة. 
ننتقل من الجامع إلى المدرسة الظاهريّة وضريح صلاح الدين والمسكيّة "سوق الكتب" غرب باب البريد ومن ثمّ شرق الجامع إلى منطقة النوفرة والمقهى الشهير قربها ويفيد السيّد Porter بوجود نقش باللغة الإغريقيّة على حجر كبير في باب جيرون يشهد بأنّ الإمبراطور Arcadius رمّم كنيسة يوحنّا المعمدان المباركة. 
يمكن ابتياع الكثير من النفائس الشرقيّة من سوق الأروام (جنوب القلعة مكان مدخل سوق الحميديّة حاليّاً) وهنا يحذّر الكاتب الزوّار من غشّ وكذب التجّار الشرقييّن الذين لا يتردّدون في رفع أسعارهم عدّة أضعاف خاصّة للزوّار الإفرنج ويقسمون زوراً بأغلظ الايمان أنّهن يبيعون على مضض وبخسارة.  

٣. المشوار الثالث للضواحي ونبدأ من سوق الحلوانييّن (شارع الملك فيصل حاليّاً) فسوق المحايريّة وشجرة الدلب المعمّرة الضخمة (قطعت في مطلع القرن العشرين) فسوق الخيل ثمّ المرج الأخضر (بني عليه في القرن العشرين المتحف ومعرض دمشق الدولي) والتكيّة السليمانيّة التي يقول الكاتب أنّ من بناها السلطان سليم الأوّل عام ١٥١٦ (ادّعاء ردّده بعده عدد من الرحّالة كالببّغاوات).  
إذا عدنا على خطانا من الغرب إلى الشرق نصل إلى جامع سنان باشا ونتّجه منه جنوباً إلى الميدان "أكبر ضواحي دمشق" كما نعته الكاتب ويلي ذلك وصف لطريق ومحمل الحجّ.

هناك وصف جيّد وموجز للبيوت الدمشقيّة. يتعذّر دخول الحرملك في بيوت المسلمين وليس هذا الحال في البيوت اليهوديّة والمسيحيّة. البيوت اليهوديّة هي الأكثر بذخاً ولكن المسيحيّة أقضل بكثير جمالاً وذوقاً. ذكر Porter من البيوت اليهوديّة قصري فارحي ولزبونة ومن المسيحيّة بيتا شاميّة وفريج ولم أستطع الحصول عن معلومات عن هذا الأخير حتّى في دراسة الدكتور Weber الموسوعيّة ولكن كاتب الدليل يخبرنا أنّ السيّد فريج كان تاجراً للسجّاد العجمي في خان أسعد باشا.   

نختم بثلاث مشاوير خارج المدينة الأوّل إلى جوبر وكنيسها الشهير والعريق شرقاً والثاني إلى الصالحيّة شمالاً عبر "بوّابة الصالحيّة" مروراً بطريق الصالحيّة حيث نرى على اليمين بيت "رئيس باشا" الجميل (علّها جادّة الرئيس المجاورة للمشفى الإيطالي حاليّاً). لا توجد معلومات تذكر عن الصالحيّة ذاتها التي نتّجه منها غرباً إلى خانق الربوة. المشوار الأخير يبدأ من باب توما إلى برزة ومقام إبراهيم نحو صيدنايا. سأتوقّف هنا وعذراً للإطالة.  

http://bornindamascus.blogspot.com/2017/05/blog-post_20.html

http://bornindamascus.blogspot.com/2018/01/blog-post_20.html