منعت الرقابة الفرنسيّة توزيع كتاب السيّدة Alice Poulleau في البلاد تحت الانتداب عندما صدر عام ١٩٢٦ والسبب بسيط: تجاوزت المؤلّفة من خلال ٢٥٠ صفحة جميع الخطوط الحمراء وكذّبت الرواية الرسميّة الفرنسيّة عن ما عرف لاحقاً بالثورة السوريّة الكبرى على جميع الأصعدة عمليّاً وأدانت تصرّفات المسؤولين الفرنسييّن في بلاد الشام ووصفتها بالجهل والفوقيّة وقصر النظر (إن لم نقل الغباء) والعنف الذي لا يمكن تبريره تحت ستار "بعثة التمدين" أو Mission Civiltatrice لمساعدة البلاد المتخلّفة على اللحاق بركب الحضارة.
لا لزوم للموافقة على جميع ما قالته الكاتبة سلباً أو إيجاباً فمثلاً مع تسليمي بأنّ فرنسا أرسلت عدداً لا بأس به من الأجلاف والأوباش فهي أيضاً أرسلت العلماء والباحثين أمثال de Lorey و Sauvaget و Dussaud و Shaeffer (نقّب في أوغاريت) و Parrot (مدينة ماري) وكثير غيرهم تماماً كما رافق عسكر نابوليون إلى مصر علماء من أمثال Champollion الذي فكّ طلاسم حجر رشيد.
أهميّة ما كتبته Poulleau بالدرجة الأولى أنّها كانت ليس فقط شاهد عيان وإنّما أيضاً "شاهد من أهله" ومع كرهها لممارسات قيادات الجيش الفرنسي (لم يمنعها هذا من التعاطف مع الجنود الفرنسييّن الأبرياء الأطهار الذين يجرحون ويموتون دفاعاً عمّا وصفه الجنرال Sarrail المندوب أو المفوّض السامي في سوريا بشرف فرنسا l'honneur de la France) فهي لم تكن غافلة عن بعض ممارسات الثوّار (أو المتمرّدين حسب الجهة) السورييّن التي يصعب الدفاع عنها وبالتالي فالصورة التي رسمتها أقرب بكثير إلى الواقعيّة منها إلى الرومانسيّة والخيال وجميع من قرأ كتب التاريخ السوريّة يعرف ما أقول: في هذه الكتب كل شيء أبيض أو أسود والثوّار ملائكة أخيار (البطل فلان والشهيد فلان والمجاهد علتان) بينما الفرنسيّون ظلمة أشرار يقتلون للقتل وهدفهم الوحيد استملاك البلاد وظلم العباد ونهب الثروات الدفينة وإذلال الناس وهلمّجرّا.
اتّبعت السيّدة Poulleau أسلوب اليوميّات بداية من ٧ كانون أوّل عام ١٩٢٤ عندما وصلها خبر رحيل الجنرال Weygand (ثاني مندوب سامي بعد Gouraud) وتعيين Sarrail الليبرالي "المسيح المنتظر". ينتهي الكتاب في ١٧ أيّار عام ١٩٢٦ على نبرة تفاؤل بجهود de Jouvenel (المندوب السامي الرابع) في سبيل احتواء الأزمة. في رأيي أنّ هذا الكتاب ضروري لكلّ من يهتمّ بعهد الانتداب في سوريا ولا مجال لتلخيصه في صفحة أو صفحتين وأكتقي يرسم صورة عامّة عن طريق التركيز على عدّة نقاط تكرّرت مراراً في السرد وسألتزم قدر الإمكان بوجهة نظر المؤلّفة وللقارىء الحكم ومن يريد التحقّق والتوسّع يستطيع الرجوع إلى الأصل الذي أعيد نشره مؤخّراً (٢٠١٢).
* امتدّت الفتنة من جبل الدروز إلى دمشق رغم جهود الفرنسييّن في بناء المدارس والمتاحف وشقّ الطرقات وتزويد السويداء بالماء وتعامل الفرنسيّن مع الأزمة منذ البداية بشكل عنيف وأخرق لا بل ورفض Sarrail وساطة الأمير سعيد الجزائري مع الدروز عندما عرضت عليه. امتدّ التمرّد إلى دمشق وخصوصاً الغوطة الشرقيّة وقام الفرنسيّون بقصف العديد من قراها (حرستا، القابون، برزة، جرمانا، المليحة، كفر بطنا، جسرين، إلخ) ووقع أهل الغوطة بين مطرقة الفرنسييّن وسندان الثوّار ونزح كثير من أهل القرى إلى دمشق.
* استعمل المتمرّدون الغوطة كما يستعمل البدو الصحراء أو القراصنة البحار: هي نقطة انطلاقهم في غاراتهم على الفرنسييّن وأعوان الفرنسييّن في المدينة يهاجمون منها ثمّ يتراجعون للاختفاء بين البساتين وقد حدا هذا سلطات الانتداب إلى هدم جدران البساتين الطينيّة وشقّ الشوارع العريضة (شارع بغداد مثلاً) لتسهيل عبور جنودهم وآلياتهم.
* اعتمد الفرنسيّون على المرتزقة في محاولة منهم لحقن دماء جنودهم. كان المأجورون من الأرمن والشركس والسنغالييّن وغيرهم من الأفارقة وترتأي المؤلّفة أنّهم لطّخوا سمعة الفرنسييّن في اضطّهادهم للأهالي وسرقتهم وابتزازهم للناس وكان لا مناص من أن يهاجمهم الثوّار وأتباعهم ويقتلونهم كلّما أتيحت لهم الفرصة.
* هاجم المتمرّدون قصر العظم (اعتقاداً منهم بوجود المندوب السامي فيه) في تشرين أوّل ١٩٢٥ ونهبوه ودمّروه وهناك خلاف -الكلام دوماً للمؤلّفة- فيما إذا كان الجناة من الثوّار أو الدهماء الذين استغلّوا الفوضى الناجمة للسرقة والتخريب. في كلّ الأحوال قام الفرنسيّون بقصف سيدي عامود انتقاماً وأحرقوا بيت البكري عن سابق تصميم. فرضت سلطات الانتداب بعدها مباشرة غرامة ١٠٠٠٠٠ ليرة ذهبيّة على المدينة واجبة الدفع خلال ثلاثة أيّام وإلّا يستأنف القصف. مدّدت الجهات المعنيّة لاحقاً تاريخ الاستحقاق. أرسل أعيان المدينة وفداً إلى الثوّار -أو زعماء العصابات حسب وجهة النطر- يناشدهم الامتناع عن دخول المدينة لتجنيبها انتقام الفرنسييّن.
* كان الثوّار أيضاً بحاجة إلى المال واتّبعوا في ذلك عدّة أساليب منها فرض خوّة على الأهالي (كان رضا سعيد أحدهم) وخطف رهائن لطلب الفدية إذا لزم الأمر. استهدفوا خصوصاً أصدقاء فرنسا و"محاسيبها" من الأقليّات ولكنّهم وفّروا الفقراء.
* تفاوتت علاقات الطوائف السوريّة بعضها مع البعض الآخر وكان للسياسة الفرنسيّة دور في ذلك نظراً لكون فرنسا "حامية الأقليّات" خصوصاً المسيحيّة في الشام. صدرت على سبيل المثال تعليمات للبطركيّات في دمشق لوضع شراشف بيضاء يتوسّطها صلبان حمر على سطوحها كي يتعرّف عليها الطيّارون الفرنسيّون ويتجنّبون قصفها. قامت هذه البطركيّات بالمقابل بفتح أبوابها للنازحين المسلمين كما أرسل الأمير طاهر الجزائري أتباعه لحماية المسيحييّن. هدّد بعض الثوّار مع الأسف بالجهاد ضدّ المسيحييّن وسرقوا طحين دير صيدنايا وحاصروا معلولا وفرضوا ضرائب "حماية" للمنطقة الواقعة بينها وبين يبرود.
* خرجت عدّة أحياء في المدينة عن سيطرة الفرنسييّن عام ١٩٢٥-١٩٢٦ وتعرّض الميدان للقصف (ربيع ١٩٢٦) وفرضت غرامة ١٠٠٠ ليرة ذهبيّة على أهله تحت طائلة قطع مياه عين الفيجة. نزح عن دمشق ألوف من سكّانها بينما اعتصم الفرنسيّون بطريق الصالحيّة معقل جاليتهم وأقاموا الأسلاك الشائكة بذريعة حماية المسيحييّن في القصّاع وباب توما.
باختصار لم توفّر السيّدة Poulleau أحداً ولكن سطورها تعبق بحبّ دمشق وغوطة دمشق وتراث دمشق وأهل دمشق. المؤلّفة تدين الانتداب دون تردّد أو مواربة ودون "ظروف مخفّفة" وكتابها في نهاية المطاف أكثر من جدير بالقراءة.
الصورتان الأخيرتان من الطبعة الأصليّة للكتاب من مقتنيات الصديق العالم الأستاذ الياس بولاد مع خالص الشكر.
No comments:
Post a Comment