للمديريّة العامّة للآثار والمتاحف أياد بيضاء على التاريخ والتراث السورييّن وقد أسعفني الحظّ مؤخّراً بالعثور على أحد أعمال العالم الراحل الدكتور عبد القادر ريحاوي في مطلع حياته المهنيّة الغنيّة. الكتيّب المنشور عام ١٩٦٣ هو بالأحرى ترجمة من العربيّة للإنجليزيّة ووددت لو استطعت الحصول على الأصل ولكن هكذا كان. تولّى المؤلّف وقتها رئاسة تفتيش الآثار في المديريّة وقدّر له في السنوات اللاحقة أن يركّز على العمارة الإسلاميّة وله فيها من المقالات والكتب الكثير ممّا لا مجال لسرده هنا.
قلعة الحصن كما نعرفها صليبيّة بل لعلّها أكمل وأجمل القلاع الصليبيّة في العالم ولا تزال في حالة جيّدة رغم توالي القرون وتقلّبات السياسات. الكتيّب موجّه للسيّاح بالدرجة الأولى ولا يتجاوز الأربعين صفحة من القطع الصغير التي تتخلّلها صور بالأبيض والأسود من نوعيّة متوسّطة مع خريطة سهلة الاستعمال. الترجمة معقولة ويمكن تحسينها ومن السهل لمن هو أليف بكتابات الدكتور ريحاوي أن يتحرّى أسلوبه السلس الأخّاذ من خلال الأسطر. المرجع الوحيد المذكور لمن أراد التوسّع وكان مستعدّاً لقراءة مئات الصفحات فرنسي صدر عام ١٩٣٤ بعنوان Le Crac des Chevaliers للسيّد Paul Deschamps.
يبدأ الدليل بتحديد موقع القلعة ثمّ ينتقل إلى لمحة تاريخيّة فيخبرنا أنّها كانت معروفة في القرن الحادي عشر الميلادي تحت اسم حصن الأكراد وسقطت في أيدي الصليبييّن عام ١١١٠ليتمّ توسيعها وترميمها وإعادة بناء أجزاء منها على مدى عشرات السنين. حاول نور الدين زنكي الاستيلاء عليها وفشل ولم يكن صلاح الدين أكثر من سلفه نجاحاً وقدّر للصليبييّن أن يحتفظوا بهذا الحرز المنيع حتّى عام ١٢٧١ عندما نجح الظاهر بيبرس (الباني الفعلي لدولة المماليك) باقتحامها ويفيد الدكتور ريحاوي أنّ بيبرس عامل الإفرنح بعد استسلامهم بمنتهى الكرم وإن ذكرت مصادر ثانية أنّه أمر بقطع أعناق جميع فرسان القديّس يوحنّا الجرحى منهم والأصحّاء وأميل لتصديق الرواية الثانية لسبب بسيط: كان بيبرس بلا شكّ موهوباً من الناحيتين السياسيّة والعسكريّة ويمكن القول أنّه كان شديد التديّن ولكنّ الرحمة والرأفة لم يكونا من خصاله ويحمّله كثيرون جريمة قتل سيّده المظفّر قطز غدراً وخيانة ولا يوجد خلاف أنّه دمّر أنطاكيا وذبح واستعبد سكّانها. أصيبت القلعة بأضرار خلال حصار بيبرس جرى ترميمها في عهده ومن ثمّ عهد السلطان المنصور قلاوون.
فيما يتعلّق بتاريخ القلعة الحديث فمن المعروف أنّها تحوّلت إلى قرية سكنيّة إلى أن قامت سلطات الانتداب الفرنسي بإخلائها في ثلاثينات القرن العشرين وتمّت إزالة المساكن التي أضيقت عليها مع التعويض على السكّان. أجريت عليها أعمال ترميم بهدف استثمارها تراثيّاً وسياحيّاً وكانت أجرة الدخول إليها ليرة سوريّة واحدة عام ١٩٦٣.
القلعة واسعة المساحة (شبه منحرف بأبعاد ٢٠٠ متر x ١٤٠متر وتحتلّ ٣ هكتار ولكن زيارة هذا التيه المعقّد سهلة بفضل الدكتور ريحاوي الذي يأخذ بيد السائح ويقوده في ثلاث جولات: الأولى حول الأسوار الخارجيّة والثانية داخل هذه الأسوار والثالثة ضمن الأسوار الداخليّة. متابعة الأبراج والجدران والأبهاء ممكنة من خلال الأسهم على الخريطة الملحقة ويساعد في هذا ترقيم الأمكنة المختلفة والرجوع لهذا الترقيم في النصّ. القلعة مدينة كاملة صمّمت لحامية يبلغ عددها ٤٠٠٠ جندي وهي مزوّدة بخزّانات مياه وعنابر ومطبخ ومطاهر وخنادق وحرز ومصلّى (حوّل فيما بعد إلى مسجد) علاوة على أبراجها وأسوارها الداخليّة منها والخارجيّة أمّا عن أهميّتها الاستراتيجيّة فلا تحتاج إلى تعريف كونها تهيمن على "فجوة حمص" التي تصل الداخل مع الساحل بين جبال العلوييّن شمالاً وسلاسل جبال لبنان جنوباً.
لسبب ما يخنم الدكتور ريحاوي الكتاب بذكر سريع (صفحتين ونيّف) لدير مار جرجس الأثري الواقع على مسافة قصيرة غرب القلعة والذي يعتقد أنّه بني في القرن الرابع أو الخامس الميلادي وإن كان بشكله الحالي أحدث من ذلك بكثير.
No comments:
Post a Comment