تبنّى العثمانيّون خلال مئات السنين "نظام الملّة" أي الدين في إدارة امبراطوريّتهم المترامية الأطراف ولهذا النظام المبني على التوزيع الطائفي بعض المزايا الإيجابيّة أهمّها إعطاء الأقليّات نوع من الحكم الذاتي يتولّى فيه رجال الدين إدارة الأمور المدنيّة كمراسم الزواج والوفاة علاوة على الأمور الروحيّة المتعلّقة بالطقوس والعبادات. كان لا مناص لهكذا نظام أن يؤدّي إلى تمايز الطوائف وتحديد الاحتكاك بينها حتّى أصبح أبناء المدينة الواحدة يجهلون في حاراتهم أبسط الأمور عن جيرانهم في الحارات المجاورة ويكفي هنا الاستشهاد بالقول الدمشقي المأثور "يللّي ما بياخذ من ملّتو بيموت بعلّتو" أي أنّ الزواج خارج الدين والطائفة محكوم عليه بالفشل.
للإنصاف هذا التفكبر وهذه الطريقة في إدارة الأمور لم تكن مقصورة على دولة معيّنة أو مكان معيّن أو طائفة معيّنة ومن الظلم الحكم على القرن التاسع عشر وما سبقه بمعايير القرن الحادي والعشرين ومن الإجحاف إسقاط قيم عصر التنوير والاتّصالات والمعلوماتيّة على العصور القديمة. للتذكير دامت الإمبراطوريّة العثمانيّة أكثر من خمسمائة سنة وهذا بحدّ ذاته معيار نجاح بغضّ النظر عمّا حلّ بها عندما هرمت وتغلغل في أوصالها الضعف الذي سبق انهيارها.
أنتقل بعد هذه المقدّمة إلى تقديم سفر نفيس بعنوان "الديار المقدّسة" La Terre Sainte لمؤلّفه المستشرق والرحّالة وعالم الآثار الفرنسي Victor Guérin وهو كتاب بطول حوالي ١٠٠٠ صفحة تتوزّع على مجلّدين ضخمين ٣٠ x ٤٠ سنتمتر صدر الجزء الأوّل منه عام ١٨٨٢ والثاني عام ١٨٨٤. يغطّي الكتاب فلسطين ولبنان ودمشق والبتراء وتدمر وفيه مئات من اللوحات الرائعة بطريقة الحفر التي يمكن الاستمتاع بها بالمجّان بالضغط على الرابطين الفائقين التاليين: الكتاب الأوّل يليه الكتاب الثاني.
فلنستعرض اليوم لبنان. ما قصده العالم الفرنسي بتعبير "لبنان" هو جبل لبنان أو ما نسمّيه اليوم سلسلة جبال لبنان الغربيّة يضاف إليها الساحل "فينيقا" الذي يمتدّ من طرطوس وجزيرة إرواد شمالاً إلى رأس الناقورة جنوباً. لا يدخل في هذا "اللبنان" البقاع وبعلبك ولا وادي التيم مع راشيّا وحاصبيّا (أضافها الفرنسيّون عندما خلقوا "دولة لبنان الكبير" في مطلع عهد الانتداب).
من الناحية الديموغرافيّة لبنان شديد الكثافة مقارنة مع سوريا وقدّر المؤلّف عدد سكّان الجبل بحوالي ٣٦٠٠٠٠ وإذا أضفنا الساحل (أي فينيقيا) يرتفع العدد إلى ٥٠٠٠٠٠ والكلام بالطبع في نهايات القرن التاسع عشر. من الناحية الطائفيّة أغلب اللبنانييّن موارنة بعدد ٢٨٠٠٠٠ بينما عدد "المسلمين" الذين يقصد بهم السنّة ٧٦٠٠٠ و"المتاولة" أي الشيعة الإثني عشريّة ٥٥٠٠٠ (بما فيهم من يقطنون البقاع) واليهود ٢٠٠٠ والباقي يتوزّع بين الطوائف المسيحيّة غير المارونيّة والدروز و"النصيريّة" أي العلوييّن.
يضيع الكثيرون في أوروبّا وأمريكا بين متاهات الطوائف المسيحيّة الإنجيليّة (البروتستانتيّة) ويمكن للوهلة الأولى خصوصاً لغير الأخصّائي الخلط بين الطوائف المسيحيّة في الشرق الأدنى وللتبسيط يكفي القول أنّه يمكن تقسيم هذه الطوائف في سوريا ولبنان إلى قسمين رئيسين: المستقلّة منها من جهة والتي تتبع الفاتيكان والسلطة البابويّة من جهة ثانية. على سبيل المثال هناك السريان الأورثوذوكس والسريان الكاثوليك، الروم الأورثوذوكس (Greek Orthodox) والروم الكاثوليك، الأرمن الأرثوذوكس والأرمن الكاثوليك وهلمّجرّا. اللاتين (Roman Catholic) كنيسة غربيّة المنشأ وكذلك الحال في الكنائس البروتستانتيّة العديدة ولا داعي في هذا الحيّز الضيّق للدخول في أصول كنائس النساطرة واليعاقبة الشرقيّة.
الموارنة إذاً أكبر طائفة مسيحيّة في لبنان وأكثر أصدقاء فرنسا تفانياً في بلاد الشام أو هكذا على الأقلّ يدّعي الكاتب حين يقدّر عدد الموارنة الذين دفعوا دمائهم وحياتهم في سبيل شرف المشاركة في الحروب الصليبيّة كحلفاء للإفرنج بحوالي ٤٠٠٠٠ ويضيف أنّ أحفادهم في القرن التاسع عشر يعتزّون بذلك ولا يملّون من تكراره للمؤلّف. سمح البابا للموارنة بالمحافظة على طقوسهم باللغة السريانيّة (باستثناء الكتاب المقدّس الذي كان يقرأ على المؤمنين بالعربيّة) وبادل الفرنسيّون الموارنة خصوصاً والمسيحييّن عموماً مشاعرهم عندما أرسل نابوليون الثالث حملة عسكريّة لحمايتهم في أعقاب مجازر ١٨٦٠ وأثنى المؤلّف على ما أسماه "وطنية الشعوب المسيحيّة" patriotisme des populations chrétiennes التي قاومت أعداء الداخل والخارج ولولاها لخسر لبنان استقلاله ومعتقده تحت ضغط المسلمين.
لم يكن جميع مسيحييّ لبنان على نفس الدرجة من "الوطنيّة" ففيما يتعلّق بالروم الأورثوذوكس مثلاً (أو كما أسماهم المؤلّف "الروم المنشقّين" Grecs Schismatiques) كان هؤلاء يتواطئون مع الأتراك ويحرّضونهم على اضطهاد الكاثوليك وعلاوة على ذلك لم يتمسّكوا بدينهم كما تمسّك به الموارنة والكاثوليك إذ يضيف المؤلّف أنّ التبشير البروتستانتي لم ينجح إلّا معهم (أي الأورثوذوكس) ومع الدروز. الإنجيليّون بالطبع يروّجون للنفوذ الأمريكي والإنجليزي والبروسي المعادي للكاثوليك ممّا حدا اليسوعييّن إلى نقل مركزهم Université Saint-Joseph من غزير إلى بيروت عام ١٨٧٥ لمكافحة تعاظم الدعاية البروتستانتيّة المعادية لفرنسا. يضيف السيّد Guérin أنّ إنجلترا بحمايتها للدروز شجّعتهم بشكل غير مباشر على الاعتداء على المسيحييّن.
من السهل أن نرفض تعميمات المؤلّف كآراء استعماريّة عفا عليها الدهر وتجاوزتها الأحداث ولا يمكن لمن يتوخّى الموضوعيّة أن يعزوا تخلّ أوروبّا في الشرق الأدنى لدوافع إنسانيّة ومثاليّة صرفة. أضف إلى هذا وذاك أنّ مفهوم القوميّة كما نعرفه اليوم (أي بغضّ النظر عن اللون والدين والأصل) شديد الحداثة وهذا صحيح في كافّة أنحاء العالم وليس فقط سوريا. رغم كلّ هذه الاعتبارات هناك أدلّة تاريخيّة لا تدحض: قبلت -إن لم نقل رحّبت وبغضّ النظر عن الدوافع- عدّة طوائف سوريّة بالحماية الأجنبيّة في القرن التاسع عشر: فرنسا حمت الكاثوليك وروسيا الأورثوذوكس وإنجلترا الدروز والبروتستانت أمّا عن الشيعة (بكلّ طوائفهم عمليّاً) فكانوا على هامش المجتمع ومشبوهي الولاء منذ مطلع العهد العثماني إن لم نقل منذ العهد السلجوقي بينما جهل السنّة بمعتقدات كلّ من هو غير سنّي يكاد يكون مطبقاً (ولا يزال بفضل المناهج المدرسيّة "الحديثة" التي تتجاهل الفوارق المذهبيّة كأنّها غير موجودة) والإنسان مع الأسف بالغريزة عدوّ لما يجهله.
في النهاية دود الخلّ منّو وفيه.
No comments:
Post a Comment