لا يقتصر هذا الدليل على عاصمة الشام بل يغطّي سوريا المركزيّة والجنوبيّة بما فيها فلسطين مع تركيز خاصّ على القدس والبتراء ودمشق وتدمر. الكتاب أحد العديد من الأدلّة الصادرة عن شركة John Murray في لندن وطبعته الأولى التي أتعرّض لها اليوم تعود اعام ١٨٥٨ وأعيدت طباعته عام ١٨٦٨. حتّى الآن هذا أقدم دليل سياحي عثرت عليه باللغة الإنجليزيّة عن سوريا وطبعته الأولى تسبق الطبعة الأولى لدليل Baedeker بثمانية عشر عاماً أمّا عن المؤلّف فهو المبشّر الإيرلندي Josias Leslie Porter صاحب الكتاب الشهير "خمسة سنوات في دمشق" الذي طبع للمرّة الأولى عام ١٨٥٥. عدد صفحات الدليل تتجاوز الستمائة وهو مبّوب بعناية ومزوّد بفهرس أبجدي (أمر نادر في ذلك الوقت) وتلحق به بعض الخرائط. لا يتجاوز القسم المخصّص لمدينة دمشق ٢٤ صفحة ولكن نظراً لدقّة الطباعة يمكن أن تتجاوز ترجمتها العربيّة أربعة أضعاف هذا العدد بكل سهولة وهي شديدة الغنى بالمعلومات.
يعتمد السيّد Porter في مختصره لتاريخ المدينة إلى درجة كبيرة على الكتاب المقدّس وبالذات العهد القديم ولكنّه ذو إلمام معقول بالمصادر العربيّة والإسلاميّة إذ يستشهد بإبن كثير وإبن عساكر أمّا عن رأيه بالمسلمين -العرب منهم والأتراك- فهو شديد السلبيّة وأضيف إلى ذلك أنّ رأيه بمسيحييّ الشرق لم يكن أفضل بكثير فهو بروتستانتي وبريطانيّ الهوى يفخر بالتبشير الإنجيلي في الشرق الأدنى (طبعاً بين المسيحييّن كون التبشير العلني بين المسلمين غير وارد) ويستشهد بالدكتور ميخائيل مشاقة الذي "يمهّد الطريق لنشر الحقيقة الإنجيليّة". تعصّب الكاتب مفهوم خاصّة في القرن التاسع عشر والعهد الفيكتوري وهذا لا يقلّل من أهميّة ما كتبه من الناحية التاريخيّة والتوثيقيّة.
قدّر المؤلّف عدد سكّان دمشق بحوالي ١٥٠٠٠٠ نسمة منهم ١٥٠٠٠ مسيحي و ٦٠٠٠ يهودي والباقي مسلمون وهذا الرقم يشمل الصالحيّة التي تراوح عدد سكّانها بين ١٠٠٠٠ إلى ١٢٠٠٠. هناك فندقان في المدينة: الأوّل فندق تدمر على الشارع المستقيم وهو قذر وصاحبه غشّاش والثاني اللوكاندة الجديدة أو لوكاندة الملّوك وهي في الواقع بيت علي آغا خزنة كاتبي (يعرف حاليّاً تحت اسم بيت نظام) ولا يزال ملكاً لابنته ويديره الإخوان ملّوك. هناك بعد ذلك وصف عامّ للمدينة -أكبر مدن تركيّا الآسيويّة حسب الكاتب- يشمل قبّة النصر على قمّة جبل قاسيون (دمّرت في أيّار عام ١٩٤١) قبل أن يبدأ بجولة ممنهجة في المدينة وحولها بوّبها كما يلي:
١. المشوار الأوّل حول سور دمشق يبدأ من الباب الشرقي الذي ينصح الكاتب قرّائه بتسلّق مئذنته المهجورة بهدف رؤيا بانوراميّة للمدينة. نتّجه بعد ذلك جنوباً وهنا وصف Porter برجاً في سور المدينة عليه شعارات ملكيّة فرنسيّة (زهرة الزنبق) وإنجليزيّة (الأسد) لم أسمع بها في حياتي ويقع هذا البرج بين الباب الشرقي وباب كيسان الذي كان مسدوداً وقتها. كان الخندق جنوب سور المدينة موجوداً آنذاك وأفاد الكاتب بوجود آثار سور خارجي موازي للسور الحالي وأضاف أنّ ابراهيم باشا أزال هذا السور وردم معظم الخندق. إذا تابعنا من باب كيسان باتجاه الشرق نرى قبّة سيدي بلال ويؤكّد Porter أنّ بلال هذا غير بلال الحبشي المدفون في الباب الصغير الذي يعدّد بعض القبور الشهيرة فيه (معاوية وابن عساكر وفاطمة وثلاثة من زوجات محمّد). نتابع المسيرة إلى الشرق والشمال حتّى جامع سنان باشا عند باب الجابية ومن ثمّ إلى السرايا (المشيريّة) التي تمتدّ شرقها ثكنات بناها ابراهيم باشا. هنا يأتي وصف معقول للقلعة والتي كانت لا تزال محاطة بالخندق وتحتاج زيارتها إلى إذن خاصّ. نتابع إلى سوق السروجيّة فباب الفرج ومن ثمّ باب الفراديس وبين السورين وباب السلام وباب توما مع ذكر بعض المقاهي على الطريق ثمّ نعرّج على الشيخ رسلان وبيت النعمان (مستشفى الجذام) لنكمل دورة أسوار المدينة حيث بدأنا لدى الباب الشرقي.
٢. المشوار الثاني يبدأ من الباب الشرقي أيضاً ولكن إلى داخل المدينة باتّجاه الغرب على الشارع المستقيم حيث نشاهد على الطريق دير الأرمن وكنائس السريان والروم الكاثوليك وبيت حنانيا (عل اليمين) وبجواره أنقاض كنيسة المصلّبة التي استعملت لفترة طويلة كمسجد قبل أن تهجر. نتابع على الشارع المستقيم إلى الكنيسة أو الكاتدرائيّة المريميّة (وصفها الكاتب أنّها حديثة بنيت في القرن التاسع عشر وكبيرة وخالية من الذوق إلخ من النعوت السلبيّة وهذا طبعاً قبل تدميرها في مجزرة ١٨٦٠) فبقايا القوس الرومانيّة فبيت يهوذا المزعوم (حيث نزل القدّيس بولس) حتّى نصل إلى سوق البزوريّة ومعالمه الشهيرة (خان أسعد باشا وقصر العظم) ونعرّج على مدرسة وتربة نور الدين وسوق الخيّاطين وخان التتن فسوق الصاغة الذي يمكن لقاء بخشيش تسلّق سقفه لرؤية الجانب الجنوبي للجامع الأموي.
هناك وصف لا بأس به أبداً للجامع الكبير ومحيطه ورغم أنّ دخوله كان ممنوعاً وقتها على غير المسلمين على الأقلّ من الناحية النظريّة (وإن كان من المسموح النظر من خلال بابيّ جيرون والبريد) فلم يمنع هذا الكاتب من وصف حرم الصلاة ووضع خريطة جيّدة للجامع في كتابه "خمس سنوات في دمشق" مع المنطقة المحيطة به بما فيها معالم اندثرت مع نهاية القرن التاسع عشر كالرواق المعمّد جنوب باب الزيادة.
ننتقل من الجامع إلى المدرسة الظاهريّة وضريح صلاح الدين والمسكيّة "سوق الكتب" غرب باب البريد ومن ثمّ شرق الجامع إلى منطقة النوفرة والمقهى الشهير قربها ويفيد السيّد Porter بوجود نقش باللغة الإغريقيّة على حجر كبير في باب جيرون يشهد بأنّ الإمبراطور Arcadius رمّم كنيسة يوحنّا المعمدان المباركة.
يمكن ابتياع الكثير من النفائس الشرقيّة من سوق الأروام (جنوب القلعة مكان مدخل سوق الحميديّة حاليّاً) وهنا يحذّر الكاتب الزوّار من غشّ وكذب التجّار الشرقييّن الذين لا يتردّدون في رفع أسعارهم عدّة أضعاف خاصّة للزوّار الإفرنج ويقسمون زوراً بأغلظ الايمان أنّهن يبيعون على مضض وبخسارة.
٣. المشوار الثالث للضواحي ونبدأ من سوق الحلوانييّن (شارع الملك فيصل حاليّاً) فسوق المحايريّة وشجرة الدلب المعمّرة الضخمة (قطعت في مطلع القرن العشرين) فسوق الخيل ثمّ المرج الأخضر (بني عليه في القرن العشرين المتحف ومعرض دمشق الدولي) والتكيّة السليمانيّة التي يقول الكاتب أنّ من بناها السلطان سليم الأوّل عام ١٥١٦ (ادّعاء ردّده بعده عدد من الرحّالة كالببّغاوات).
إذا عدنا على خطانا من الغرب إلى الشرق نصل إلى جامع سنان باشا ونتّجه منه جنوباً إلى الميدان "أكبر ضواحي دمشق" كما نعته الكاتب ويلي ذلك وصف لطريق ومحمل الحجّ.
هناك وصف جيّد وموجز للبيوت الدمشقيّة. يتعذّر دخول الحرملك في بيوت المسلمين وليس هذا الحال في البيوت اليهوديّة والمسيحيّة. البيوت اليهوديّة هي الأكثر بذخاً ولكن المسيحيّة أقضل بكثير جمالاً وذوقاً. ذكر Porter من البيوت اليهوديّة قصري فارحي ولزبونة ومن المسيحيّة بيتا شاميّة وفريج ولم أستطع الحصول عن معلومات عن هذا الأخير حتّى في دراسة الدكتور Weber الموسوعيّة ولكن كاتب الدليل يخبرنا أنّ السيّد فريج كان تاجراً للسجّاد العجمي في خان أسعد باشا.
نختم بثلاث مشاوير خارج المدينة الأوّل إلى جوبر وكنيسها الشهير والعريق شرقاً والثاني إلى الصالحيّة شمالاً عبر "بوّابة الصالحيّة" مروراً بطريق الصالحيّة حيث نرى على اليمين بيت "رئيس باشا" الجميل (علّها جادّة الرئيس المجاورة للمشفى الإيطالي حاليّاً). لا توجد معلومات تذكر عن الصالحيّة ذاتها التي نتّجه منها غرباً إلى خانق الربوة. المشوار الأخير يبدأ من باب توما إلى برزة ومقام إبراهيم نحو صيدنايا. سأتوقّف هنا وعذراً للإطالة.
http://bornindamascus.blogspot.com/2017/05/blog-post_20.html
http://bornindamascus.blogspot.com/2018/01/blog-post_20.html
No comments:
Post a Comment