صدر هذا الكتاب عن المعهد الفرنسي للدراسات العربيّة في دمشق عام ١٩٧٧ وعلى ما يبدو كحلقة أولى في دراسة شاملة لمقابر المدينة لم يقدّر لها الاستمرار. رأى هذا العمل النور بفضل تعاون العالم والفنّان الراحل الأستاذ خالد معاذ مع الباحثة الفرنسيّة الآنسة Solange ory ونشرته المطبعة الكاثوليكيّة في بيروت. لخالد معاذ الكثير من المؤلّفات على مدى السنين وقام بتوثيق العديد من المعالم التاريخيّة من خلال ١٤٠٠٠ صورة التقطها خلال جولاته وأبحاثه وهذه المجموعة التي لا تقدّر بثمن توثّق معالماً منها ما لا يزال موجوداً ومنها ما اندثر إلى غير عودة ولم يبق عليه من شاهد سوى سرد الرواة وصور خالد معاذ.
تتوزّع الدراسة وهي باللغة الفرنسيّة على ٢٠٠ صفحة من القطع الكبير ٢٣ سم x ٣٠ سم يضاف إليها أكثر من خمسين صفحة للصور التاريخيّة بالأيبض والأسود وهي تغطّي شواهد القبور منذ البدايات وحتّى نهاية العهد المملوكي ويبلغ عددها الإجمالي ٨٥ شاهدة ٤٦ منها لا تزال في مقبرة الباب الصغير في مكانها و ١٢ في المقبرة ولكن ليس في مكانها الأصلي وستّة شواهد نقلت لمتحف دمشق الوطني و ٢٠ اختفت منذ أن بدأ السيّد معاذ عمله ولم يبق منها إلّا الصور والذكر في المراجع التاريخيّة. ٤٩ من هذه الشواهد تحمل تواريخاً والباقي يمكن تخمين تاريخها بصورة تقريبيّة اعتماداً على نموذج الخطّ.. ٢٠٪ من هذه الشواهد أعيد استعمالها في قبور لاحقة وهي ظاهرة دمشقيّة حديثة نسبيّاً يقوم فيها أهل الفقيد بالاتفاق مع القيّم على المقبرة بشراء شاهدة أثريّة يطمسون فيها اسم صاحب القبر الأصلي لينقشون عليه اسم المتوفّي حديثاً. كانت هناك نيّة في إنشاء متحف للشواهد الأثريّة داخل مقبرة الباب الصغير ولا يبدو أنّ هذا قد تحقّق.
بالنسبة لتنظيم الكتاب فالشواهد متسلسلة زمنيّاً من الأقدم إلى الأحدث ويبدأ بحث كلّ منها بوصف عامّ لشكل الشاهد وأبعاده والمكان الذي وجد فيه وما إذا كان لا يزال موجوداً ثمّ نصّ الكتابة بالعربيّة مع ترجمتها الفرنسيّة ثمّ ذكر هذا القبر أو الشاهد في التراجم والمصادر التاريخيّة إن وجد. هناك أيضاً حيّز كبير مخصّص لتحليل الخطّ ونوعه (أقدم الشواهد بالكوفي وتمّ الإنتقال بالتدريج إلى النسخي بداية من عهد نور الدين زنكي) ومدى إتقانه والزخارف النباتيّة والهندسيّة الملحقة إذا كانت موجودة. سأذكر فيما يلي باختصار بعض أهمّ هذه الشواهد وهي ليست إلّا نذراً يسيراً ممّن دفنوا في هذه المقبرة الأثريّة حسب المصادر التاريخيّة والذين اندثرت قبورهم منذ قرون. كما سنرى أقدم هذه الشواهد تعود للقرن الحادي عشر الميلادي والعهد الفاطمي وكثير من المشاهير الذين يفترض أنّهم دفنوا في هذه المقبرة لم يتركوا ورائهم دليلاً ملموساً (ذكر بعضهم بشكل عابر مثل أمّ حبيبة ابنة أبي سفيان وزوج النبي التي تباكى تيمورلنك المنافق على حالة قبرها المزرية عام١٤٠٠ وفضّة جارية النبي والخليفة الأموي عمر ابن عبد العزيز ولكن دون دراسة شواهدهم وهذا على الأغلب يعني أنّها تعود للعهد العثماني الذي لا تغطّيه الدراسة).
أوّلاً. الشاهدة الأقدم على الإطلاق تعود للعام ١٠٤٨ للميلاد والعهد الفاطمي وهي لضريح فاطمة إبنة أحمد إبن الحسين إبن السبطي والتي يخلط الكثيرون بينها وبين فاطمة الصغرى إبنة الحسين إبن علي إبن أبي طالب (المفروض أنّها ماتت حوالي عام ٧٢٨ للميلاد) والسبب بسيط كون ساكف باب غرفة المدفن يشهد بذلك!
ثانياً. شاهد قبر مؤرّخ دمشق الشهير الحافظ إبن عساكر الذي مات عام ١١٧٦ للميلاد وهذه الشاهدة اندثرت ونعرفها فقط نقلاً عن العلموي (ترجمه للفرنسيّة Sauvaire وهو ملخّص عن النعيمي).
ثالثاً. شاهد قبر بلال الحبشي (يفترض أنّه مات حوالي عام 640 للميلاد) المؤذّن الأوّل للإسلام ويعود للعام ١٢٢٨ للميلاد أي العهد الأيّوبي عندما جرى تجديده. هناك أكثر من مكان مفترض لدفن بلال ويقول بعضهم أنّه وري الثرى في داريّا.
رابعاً. ضريح سكينة بنت الحسين إبن علي إبن أبي طالب (يفترض أنّها ماتت حوالي ٧٣٥ للميلاد) ويعود للنصف الأوّل من القرن الثاني عشر.
خامساً. شاهدة قبر الصحابي أبي الدرداء وهي حاليّاً في متحف دمشق الوطني وتعود للنصف الأوّل من القرن الثاني عشر. يقول بعض الرواة أنّ أبا الدرداء دفن في مسجد قلعة دمشق ولكنّ هذه الرواية حديثة نسبيّاً (شاهدة أمّ الدرداء أيضاً موجودة في متحف دمشق. هناك أمّان للدرداء حسب الرواة ويرجح البعض أنّها أمّ الدرداء الصحابيّة وليست أمّ الدرداء الدمشقيّة).
سادساً. ضريح كعب الأحبار وهو من التابعين (الذين عاصروا الصحابة ولكن على خلاف هؤلاء لم يعاصروا النبي) وهو يهودي الأصل اعتنق الإسلام وتنسب إليه الكثير من الأحاديث والروايات القديمة العبريّة المصدر عن الأنبياء. يعود الضريح للنصف الأوّل من القرن الثاني عشر للميلاد.
سابعاً. ضريح مؤسّس الخلافة الأمويّة في دمشق معاوية إبن أبي سفيان وقد جدّد عام ١٧٠٣ في العهد العثماني أمّا عن شاهدة القبر المفترض فتعود للعهد المملوكي.
هذا غيض من فيض من هذه الدراسة الشديدة الأهميّة. هناك بالطبع بعض الأخطاء فمثلاً (صفحة ١٥) يخلط المؤلّفان بين يزيد أبن أبي سفيان ويزيد إبن معاوية. هناك أيضاً أخطاء نادرة لدى تحويل التاريخ الهجري إلى ميلادي (اعتمدت في هذا العرض السريع التاريخ الميلادي حصراً بهدف التسهيل) وبعض الأغلاط الإملائيّة ومن نافل الذكر أنّ هذه الهنات لا تؤثّر على مضمون الدراسة لا كثيراً ولا قليلاً وإن كان يحسن التدقيق والتمحيص والمقارنة مع مصادر ثانية وثالثة عندما تدعو الحاجة.
رحم اللّه العالم الكبير خالد معاذ وكم نحن بحاجة لأشخاص من هذا النوع.
لو سمحتوا بدي نسخة الكتاب pdf
ReplyDeleteعلى حدّ علمي لا يوجد نسخة رقميّة مع الأسف
Deleteشكرا جزيلا
ReplyDeleteالشكر لاهتمامك سيّدتي
ReplyDelete