كتاب صدر عام 1979 لمؤلفه نيقولاوس فان دام و هو أكاديمي هولندي ملم بالشرق الأوسط شغل سابقاً منصب سفير للعراق و مصر و أندونيسيا و غيرها. يتوقف الكتاب في النصف الثاني لسبعينات القرن العشرين و قد صدر طبعة جديدة موسعة تغطي العقود الثلاث اللاحقة عام 2011 و لكن لم يتح لي الإطلاع عليها حتى الآن و بناء عليه فسأقوم بمراجعة سريعة للطبعة الأصلية
يسلط الكتاب الأضواء على سياسات سوريا الداخلية و أثر الولاءات العشائرية و الطائفية و الإقليمية في هذه السياسات. لا يتعرض البحث لتمرد الإخوان المسلمين في أواخر السبعينات و عل هذا يعود إلى توقيت صدوره و ميول الكاتب.
يعزو فان دام زيادة نفوذ الأقليات في الجيش إلى عزوف أغنياء التجار عن تشجيع أولادهم على الإلتحاق بالجيش لعدة أسباب إمتزجت فيها الريبة مع الإزدراء و مع ذلك جرت جميع الإنقلابات العسكرية في مطلع عهد الإستقلال بقيادة سنية و حتى زياد الحريري منفذ إنقلاب 8 آذار 1963 كان سنياً و لم يكن حتى بعثياً و إن نجح البعث بالنتيجة بإحتكار السلطة.
حرص البعثيون بإستمرار على التوكيد على علمانية الحزب و إدانة الخطاب الطائفي و بالطبع لم يمنع هذا بعضهم عن محاولة إستغلال النزعة الطائفية الكامنة أبداً تحت الرماد لتحقيق مآربهم و لكن الطائفية العلنية كانت من المحرمات وألحقت الضرر بمن جاهر بها و على سبيل المثال طرد محمد عمران من سوريا بتهمة محاولة خلق كتلة طائفية (علوية) في الجيش و إشترك في إدانته أمين الحافظ (سني) و صلاح جديد (علوي) و حافظ الأسد (علوي). تجدر الإشارة هنا إلى نقطة في غاية الأهمية ألا و هي أن إستغلال الطائفية للحصول على السلطة لا يعني أن الطائفية هي سبب الصراع على هذه السلطة.
بالنتيجة إتسعت شقة الخلاف بين أمين الحافظ و صلاح جديد و إتهم الحافظ جديد بمحاولة بناء كتلة طائفية (علوية) في الجيش و لكن هذا أحدث ردة فعل عكسية إذ زاد إلتفاف الضباط العلويين حول صلاح جديد بينما فشل الحافظ في بناء كتلة سنية في الجيش و خسر بعدها ولاء الدروز و حتى بعض ضباط السنة (مصطفى طلاس و أحمد سويداني). حاول الحافظ أن يحتوي النفوذ المتزايد لصلاح جديد عن طريق إستدعاء محمد عمران لمنصب وزير دفاع (بهدف شق صفوف العلويين) و لكن تعاونهما لم يثمر إذ وصل الحافظ إلى مرحلة الشك بكل ما هو علوي و بعد هذا بقليل جرى إنقلاب 23 شباط 1966 و الإطاحة بأمين الحافظ.
شهدت المرحلة التالية تصفية النفوذ الدرزي في الجيش: حمد عبيد كان يطمح بمنصب وزير الدفاع الذي عين فيه حافظ الأسد و تم بالنتيجة عزله (عبيد) و توقيفه. لعب سليم حاطوم دوراً أساسياً في إنقلاب 23 شباط ضد الحافظ ولم يكافأ كما كان يأمل و بناء عليه باشر بمحاولة تشكيل قاعدة درزية و عندما أوفدت الحكومة نور الدين الأتاسي وصلاح جديد لتقصي الأمور في السويداء قام حاطوم بإعتقال المبعوثين في إنقلاب 8 أيلول 1966 و أجرى إتصالاً هاتفياً مع حافظ الأسد حاول فيه فرض "شروطه" و التي رفضها الأسد جملة و تفصيلاً و أدى هذا إلى فرار حاطوم إلى الأردن بعد أن أدرك أنه خسر المعركة و لم يبق له بعدها إلا بث الدعاية الطائفية من راديو عمان و هذا ما فعله.
الخلاصة ضباط من كافة الطوائف حاولوا بشكل أو بآخر إستغلال النعرات الطائفية: على سبيل المثال السني الحافظ، العلوي عمران، و الدرزي حاطوم. ما ينطبق على الطوائف ينطبق على الأقاليم (مثلاً السويداني كان أحد ضباط حوران المتنفذين و جرى عزله من الأركان عام 1968).
تم رسم خطوط جديدة للصراع على السلطة في هذه المرحلة بين تياري صلاح جديد و حافظ الأسد. كان أنصار جديد أكثر راديكالية و كانوا يطالبون بإعطاء الأولوية "للتحويل الإشتراكي" (لا زلت أذكر "الإشتراكية العلمية" التي صدعوا دماغنا فيها في دروس التربية الوطنية) أما أولوية الأسد فكانت للحرب مع إسرائيل و إن تطلب هذا التعاون مع "أنظمة رجعية".
عمل حافظ الأسد على فصل الجهاز العسكري عن القيادة المدنية التي سيطر عليها صلاح جديد و إنتهت "إزدواجية السلطة" مع تشرين ثاني 1970 و "الحركة التصحيحية" و أصبح الأسد رئِيساً لسوريا في شباط 1971 و دون منازعة جدية اللهم إلا من ضمن الطائفة العلوية كبقايا أنصار صلاح جديد (جرى إعتقال بعضهم في حزيران 1971 و كانون أول 1972) و المنفي محمد عمران و الذي إغتيل في لبنان في آذار 1972.
حاول الأسد جهده لإنهاء عزلة سوريا عربياً و دولياً و تشارك مع مصر السادات في حرب تشرين أول 1973 ضد إسرائيل و لكن الزعيم المصري إختار سبيل الصلح المنفرد مع الصهاينة و أدى هذا إلى تبادل حملات إعلامية شديدة اللهجة بين القاهرة و دمشق لم يتورع فيها السادات و راديو القاهرة عن إستعمال اللغة الطائفية المقيتة مثل "بعث دمشق العلوي" (كان راديو القاهرة وقتها يستعمل بشكل روتيني تعابيراً سمعتها بنفسي مثل "المؤامرة البعثية الحمراء" في لبنان و "بعث سوريا العلوي" و "بعث العراق التكريتي") و كان مما قاله السادات في إحدى خطبه "النظام السوري علوي ثم بعثي ثم سوري". و من سخرية الأقدار أن مصرع السادات جاء عام 1981 على يد نفس الإسلاميين المتطرفين الذين حاول إستمالتهم بصفته " الرئِيس المؤمن".
No comments:
Post a Comment