صدر كتاب "ولاءات متضاربة، القومية والسياسات الجماهيرية في سوريا في نهاية العهد الإمبراطوري" عن مطابع جامعة كاليفورنيا عام 1998. المؤلف جيمس جلفن أمريكي من مواليد 1951 وهو أكاديمي مختص بالشرق الأدنى ومدرس في جامعة كاليفورنيا لوس أنجلوس منذ عام 1995 وكما يشرح في مقدمة الكتاب ليس الهدف سرد أحداث هذه الفترة بقدر ما هو محاولة لفحص المفاهيم المختلفة والمتنافسة للقومية والأمة وتطور السياسات الشعبية والجماهيرية في سوريا مطلع القرن العشرين.
ربي معظمنا على مفهوم الهوية العربية التي جرى الترويج لها خلال معظم القرن العشرين وقبل ظهور حزب البعث بكثير من قبل المفكرين المحليين والغربيين كمسألة مفروغ منها وموضوع تم البت فيه "كممثل شرعي ووحيد" للشعب السوري وهذه الفكرة مرفوضة من قبل الكاتب الذي يعزو أصلها إلى نخبة من المثقفين المثاليين الذين تم تبني أطروحاتهم بالنتيجة بمفعول رجعي وإهمال وجهات النظر المختلفة أو على الأقل تهميشها ويستشهد في هذا الصدد بكتاب جورج أنطونيوس الشهير "يقظة العرب" الذي صدر عام 1938 وكان له الباع الأطول في قولبة هذه الأسطورة.
كانت "السفر برلك" أو الحرب العالمية الأولى أتعس عهد في سوريا خلال القرن العشرين (لربما كان "الربيع العربي" حالياً تكراراً لها بعد قرن من الزمن) فإضافة إلى العمليات العسكرية في الجنوب عانت البلاد من سنوات عجاف تكالب فيها القحط وأرجال الجراد والحصار البحري الذي فرضه الحلفاء (على غرار المقاطعة الإقتصادية حالياً) والتضخم المالي ولجوء أعداد كبيرة من الأرمن بعد مذابح 1915 وغيرهم من النازحين إلى آخره إلى آخره لجعل حياة السوريين جحيماً لا يطاق. كل هذا لا يعني بالطبع أن "عرب سوريا" كانوا في صدد الثورة على "المستعمر التركي" فقد إستمر كثيرون منهم في التعاون مع السلطات العثمانية وإستمر أعيان دمشق في دعوة "جمال السفاح" إلى مآدبهم قبل وبعد شنق "الشهداء" في ساحة المرجة (الذين تاجرت فيهم الحكومة الفيصلية إلى أبعد الحدود وتبنت العهود اللاحقة هذه الممارسة) ومدح الشاعر خير الدين الزركلي على سبيل المثال جمال باشا في أكثر من قصيدة.
دخل الأمير فيصل دمشق بدعم البريطانيين في تشرين أول 1918 وحاول و أنصاره جهدهم لخلق هوية عربية في سوريا يقنعون بها وبالتالي بشرعيتهم ليس فقط السكان المحليين وإنما أيضاً سوريي المهجر في مصر و غيرها وخصوصاً القوى الغربية والتي بالنتيجة تملك "الحل والربط" وهذه بعض الأمثلة على ما فعلوه في هذا الصدد:
1.إستعمال الأموال البريطانية لشراء ولاء السكان وإسكات الخصوم السياسيين (على مبدأ "طعمي التم بتستحي العين") ودفع "خوة" للقبائل.
2.تنظيم المظاهرات "المؤيدة" والإحتفالات والعطل الرسمية ومشاهد المسرح ودعم الجرائد مالياً على إعتبار أن توزيعها المحدود لا يسد نفقات الطبع يشير الكاتب هنا أن بعض الصحفيين كحبيب كحالة ومحمد كرد علي كانوا يقبضون من الحكومة الفيصلية والفرنسيين في نفس الوقت.
3.رفع شعار "الدين لله والوطن للجميع" في محاولة لجمع الطوائف تحت راية موحدة وإن قام الفيصليون أيضاً بالدعوة إلى الجهاد تحت راية الإسلام عندما إعتقدوا أنها أنسب لمصالحم.
4.إختيار جماعات معينة وأشخاص معينين للقاء مبعوثي لجنة كينج كرين عام 1919 لإعطاء الغرب إنطباعاً عن وجود هوية عربية لدى أكثرية السكان لها مطالب محددة ومتفق عليها تتمثل في إستقلال سوريا ووحدتها وهلمجرا.
بالنتيجة ما كان لمملكة فيصل أن تستمر دون إستمرار الدعم البريطاني المالي والسياسي والعسكري وكما هو معروف كان التفاهم مع فرنسا أهم بكثير لإنجلترا من إرضاء أجيرها فيصل وأبيه الشريف حسين والأسرة الهاشمية التي تجاوزت طموحاتها حد المعقول وظنت أن إسهامها المتواضع (إن لم نقل الهزيل) في حرب مات فيها ملايين من شباب أوروبا يخولها الحصول على إمبراطورية دفع الغرب ثمن سلخها عن العثمانيين أموالاً طائلة وبحاراً من الدماء.
كانت بداية نهاية العهد الفيصلي في سوريا قرار البريطانيين بتخفيض ثم تجميد دعمهم المالي للحكومة العربية التي أصبحت بذلك عاجزة عن دفع مرتبات موظفيها وشراء تعاون القبائل وهذا أدى إلى فوضى أمنية في الريف والمدن وخلق لجان شعبية واللجوء إلى القبضايات لحماية الأحياء وزاد الضغط على حكومة فيصل لمقاومة المشروع الفرنسي وبلغ ذروته في إعلان إستقلال سوريا من قبل المؤتمر السوري المنعقد في 8 آذار 1920 والذي رفضه الحلفاء في سان ريمو وأدى هذا بالنتيجة إلى إنذار غورو الشهير في 14 تموز.
هبت في دمشق مظاهرات ضد حكومة فيصل في 20 تموز وهاجمت الحشود مقر فيصل و القلعة ومات أكثر من 100 دمشقي في حين فشلت قوات الحكومة في السيطرة على الشارع و هبت مظاهرات مماثلة في حلب في اليوم التالي و بالنتيجة قام بعض الزعماء الشعبيين بجمع المتطوعين الذين زحفوا إلى خان ميسلون تحت قيادة يوسف العظمة بينما فر الملك فيصل باحثاً عن مملكة جديدة في مكان جديد.
قام الفرنسيون بعد دخول دمشق بإتمام ما بدأه فيصل أي القضاء على اللجان الشعبية وكان هذا بداية ربع قرن أمضته سوريا تحت الإنتداب الفرنسي بحلوه ومره.
يقارن الكاتب بين النظرة "من الأعلى" للهاشميين و محاولتهم إدخال قيم غربية "كالتقدم" و"الحضارة" في إطار جهودهم لبهر أوروبا وأمريكا وبالتالي إقناعهما بتأييد الدولة العربية الجديدة وكون هذه النظرة لم تكن مقبولة لكثير من السوريين الذين كانوا ينظرون إلى الغرب و مشاريعه بشك وريبة و لا يثقون بالحجازيين وعلاوة على ذلك يميزون بين مفهوم "الدولة" و"الأمة" ولا يؤمنون بمشروع فيصل. إذاً لا يوجد دليل مقنع على تعريف وحيد "للقومية العربية" وما هي بالنتيجة إلا إحدى الهويات التي يتداولها السوريون.
No comments:
Post a Comment