الدكتور عبد الكريم رافق غني عن التعريف، وإليه الفضل في الكثير من المؤلّفات والدراسات بالعربيّة والإنجليزيّة. يغطّي الكتاب قيد المراجعة الفترة الواقعة بين ١٥١٦ و ١٧٩٨، مع مقدّمةٍ سريعة عن أواخر عهد إمبراطوريّة المماليك وبدايات الإمبراطوريّة العثمانيّة. البحث عن التاريخ السياسي تحديداً ولا يتعرّض المؤلّف إلى النواحي الثقافيّة والفنيّة والأدبيّة إلّا عَرَضاً وضمن أضيق الحدود. للتبسيط بوّب المؤلِّف، بعد التمهيد، كتابَهُ تحت ثلاثة أجزاء رئيسة:
- عهد قوّة الدولة العثمانيّة الذي بدأ بالنسبة للشرق الأدنى عام ١٥١٦، وكان ميموناً في دمشق التي شهدت حركةً عمرانيّةً لا تزال آثارُها موجودةً حتّى اليوم: جوامع درويش باشا وسنان باشا ومراد باشا ولالا باشا والتكيّة السليمانيّة. دامت هذه الفترة حوالي ستّين عاماً، وانتهت مع موت سليمان القانوني.
- عهد ضعف الدولة من الربع الأخير للقرن السادس عشر إلى الربع الأوّل للقرن الثامن عشر. تميّز في هذا العهد بعض السلاطين الأقوياء (مراد الرابع مثلاً) والصدور العظام المؤهّلين (أسرة كوپريڵّي).
- عهد الإنحطاط من حوالي ١٧٢٠ إلى حملة بوناپارت عام ١٧٩٨.
يحتوي الكتاب على كمٍّ ضخم من المعلومات، ابتغى رافق من خلالِها تغطيةَ فترةٍ قلّ حظُّها من الاهتمام، على طولِها وأهميّتها. حرِصَ المؤلِّف على الرجوع إلى الوثائق والمخطوطات الأصليّة بالعربيّة خصوصاً، واستند أيضاً على خضمٍّ من المراجع الأجنبيّة بأكثر من لغة. يتوزّع العمل على ٤٧٥ صفحة تشمل فهرساً أبجديّاً جيّداً وأربع خرائط توضيحيّة. صدرت الطبعة الأولى في دمشق في آب ١٩٦٧ والثانية قي تشرين ثاني من العام اللاحق.
____________
مزايا الكتاب كثيرةٌ، وهو أكثر موضوعيّةً من أغلب المؤلّفات العربيّة عن ذلك العهد، ويعطي تفاصيلاً ثمينة عن تطوّر الشام ومصر لفترة تتجاوز ٢٥٠ سنة. علّ أفضل الفصول المتعلّقة منها بتطوّر لبنان من المعنييّن إلى الشهابييّن، والعلاقة بين دمشق والباب العالي في عهدٍ بدّلت القسطنطينيّة خلالَهُ الولاةَ باستمرار، إلى صعود نجم آل العظم الذين شَهِدَت ولاياتُهُم نهضةً عمرانيّةً عثمانيّة ثانية في الشام: خانات سليمان باشا وأسعد باشا وقصر العظم والمدرسة الفتحيّة وغيرها. تعزّزت السلطةُ المحليّة في مطلع القرن الثامن عشر إلى حدٍّ ما على حساب السلطة المركزيّة. لم يتمسّك الدكتور رافق بسرد المناهج السوريّة التقليدي فيما يتعلّق "بالثورات" التي قامت ضدّ العثمانييّن، بل حاول جهدَهُ تسمية الأمور بمسمّياتها. حركات فخر الدين المعني الثاني أمير جبل لبنان (١)، وعلي بك الكبير مملوك مصر، وظاهر العمر ملتزم صفد وطبريّا، وغيرهم لم تكن ثورات ولا من يحزنون، ولا كان لها علاقة بتحرير العرب من الأتراك لا من قريب ولا من بعيد. هؤلاء كانوا بكل بساطة مغامرين يريدون اقتطاع ممالك لهم ولذويهم على حساب السلطة المركزيّة وكمعظم إن لم يكن جميع مؤسّسي الممالك في كل زمانٍ ومكان، مَزَجَ المتمرّدون الديپلوماسيّة بالدهاء والخداع وحتّى الغدر، ولم يتردّدوا إذا اقتضى الأمر في قَتْلِ منافسيهم دون رحمة.
اعتبر المؤلّف عام ١٥١٦ بداية العصور الحديثة في الشرق الأدنى، ونقطة انطلاق لا تقلُّ أهميّةً عن سقوط القسطنطينيّة عام ١٤٥٣، أو اكتشاف العالم الجديد عام ١٤٩٢، خاصّة مع انتقال مركز الخلافة للمرّة الأولى خارج "العالم العربي"، بغضّ النظر عن هويّة ولغة حكّام هذا العالم قبل العهد العثماني. هناك من يرى أنّ العصور الحديثة للبلاد العربيّة بدأت فعلاً مع حملة ناپوليون، واستئناف الاحتكاك المباشر مع الأوروپييّن الذي انقطع مع نهاية الحروب الصليبيّة.
____________
لا ضير في إبداء بعض الملاحظات على هذا العمل الموسوعي:
- القسم المخصّص لمصر أقلّ من وزنها وبالإمكان مضاعفته بكل سهولة.
- هناك تيهور من الأسماء في النصّ، يضيع فيها القارئ أو يكاد على الرغم من الفهرس الأبجدي. لربّما كان من الأفضل وضع جداول مستقلّة بأسماء السلاطين والولاة والحكّام وتاريخ ملكهم وولايتهم يسهل الرجوع إليه، مع إضافة شجرات عائلة مبسّطة لبعض الأسر، كآل العظم وآل شهاب.
- توحي الخاتمة أنّ الدكتور رافق عروبي الاتجاه. هذا حقّه دون أدنى شكّ وليس فيه ما يعيب على الإطلاق، بيدَ أنّهُ ناقَضَ نَفْسَهُ أو كاد عندما تحدّثَ (صفحة ٤١٩) عن "احتلال العثمانييّن"، ثمّ كتبَ (صفحة ٤٢١) أنّهم "دفعوا الخطر الصفوي عن البلاد العربيّة". لماذا "الخطر الصفوي"؟ وإذا كان الوجود العثماني "احتلالاً"، أفلا يعني هذا أنّه لا يقلّ "خطراً" عن التهديد الصفوي؟ خاصّةً وأنّه ذَكَرَ في نفس الصفحة "الصراع القومي بين العرب والأتراك". تعابير مثل "افتقار الأتراك لتراث حضاري قوي"، و"الوعي القومي العربي"، لا تنسجم كثيراً مع عملٍ من هذا النوع، وما هي إلاّ إسقاط قيم الحاضر على الماضي البعيد. الأتراك لم يدخلوا الشرق الأدنى مع العثمانييّن، بل مع السلاجقة قبل العثمانييّن بقرابة ٥٠٠ سنة، إن لم نقل منذ عهد المعتصم في القرن التاسع (٢)، أمّا عن "الوعي القومي العربي" المزعوم، فقد اختُرِعَ في مطلع القرن العشرين بعد سقوط الإمبراطوريّة العثمانيّة؛ شئنا أم أبينا حارب كثيرٌ من السورييّن خصوصاً طوعاً أو عنوةً في صفوف الجيش العثماني تقريباً حتّى النهاية المرّة.
تبقى هذه التحفّظات من الهنات الهيّنات. الدكتور رافق عالم كبير وصاحب فضل على أجيالٍ من الطلّاب والمعلّمين والباحثين، وعمله القيّم في هذا الكتاب ما هو إلّا غيض من فيض من المؤلّفات والأبحاث التي لا تزال مرجعاً لا يقدّر بثمن بعد عقودٍ من تحريرها.
(١) دُعِيَ جبل الدروز قبل معركة عين دارة بين القيسييّن واليمنييّن عام ١٧١١، التي هاجر بعدها كثير من الدروز إلى جبل حوران ليعطوه اسمهم. بعبارة ثانية جبل لبنان هو جبل الدروز الأوّل وجبل حوران هو الثاني.
(٢) "وامعتصماه" الذي نهب عسكره عمّورية وقتلوا الآلاف من أهلها.

No comments:
Post a Comment