Wednesday, August 23, 2017

إسرائيل وآراميّو دمشق


حاولَ الدكتور Merrill Unger في هذا البحث، الربطَ بين سرد العهد القديم من جهة، وآخر معطيات علم الآثار بناءً على التنقيبات التي أُجْرِيَت اعتباراً من أواخر القرن التاسع عشر، والأبحاث المبنيّة عليها، حتّى صدور كتابه عام ١٩٥٧ من جهةٍ ثانية (١)

المؤلّف (١٩٠٩ - ١٩٨٠) أخصّائي بعلميّ الآثار واللاهوت، نستشفُّ باستقراء أسطر كتابِهِ أنّه جَمَعَ غزارة العلم مع الإيمان؛ لا شائبة في ذلك بالطبع مع التنويه أنّ العلاقةَ بين العلم (بمفهومه التجريبي الحديث) والإيمان علاقةٌ يشوبُها الاضطراب: المؤمن لا يحتاج لدليل مادّي أو تجريبي، وإذا بحث عنه فهو يفعل ذلك شعوريّاً أو لا شعوريّاً بهدف تعزيز قناعاتِهِ المسبقة، يتجاهل ما يعارض هذه القناعات، أو يحاول تبريره وتأويله قَدَر الإمكان ليتجنّب الخروج عمّا يسمّى بالإنجليزيّة comfort zone، أي الحدود التي يشعر ضمنها بالطمأنينة وراحة البال. يتبع الباحث المدقّق منهجاً مختلفاً، ويسعى جهدَهُ أن يكون حكماً منزّهاً، وأن يراجع، بل يتنكّر لمنطلقات فرضيّته إذا أثبت البحثُ والتجربة خطلها.

____________

يحسن أن نبدأ بلمحةٍ شديدة الاختصار عن تاريخ الشرق الأدنى كما رواه كتاب العهد القديم، وكما تبنّته المسيحيّة ومن بعدِها الإسلام مع بعض التعديلات. خلق اللّه البشر حسب التقويم العبري قبل أقلّ بقليل من ستّة آلاف سنة، وإذا تجاوزنا طوفان نوح إلى عهد الآباء Patriarchs، فيفترض أنّ هجرة إبراهيم من بلاد ما بين النهرين إلى فلسطين جرت بين ١٩٠٠ و ١٧٥٠ قبل الميلاد، وأنّ الخروج من مصر كان بين القرنين الخامس عشر والثالث عشر ق.م.، تَلَتْهُ فترة القضاة، ثمّ إمبراطوريّة داود وسليمان في القرن العاشر ق.م.، وأخيراً تقسيم المملكة إلى يهوذا وإسرائيل.   

نُقِلَ العهد القديم من العبريّة إلى اليونانيّة (٢) في الإسكندريّة في القرن الثالث قبل الميلاد أي بعد مئات السنوات من الأحداث التي روتها؛ لم يمنع هذا التفاوت الزمني المؤلّفَ من التوكيد أنّ الآباء شخصيّات تاريخيّة. ظهرت دمشق للمرّة الأولى في الكتاب المقدّس في سفر التكوين (إصحاح ١٤ آية ١٥) الذي يخبرنا (إصحاح ١٥ آية ٢) أنّ خادم إبراهيم كان إليعازر الدمشقي

____________

ظهور دمشق الأوّل خارج الكتاب المقدّس كان على لائحة المدن التي غزاها تحتمس الثالث (حوالي ١٤٦٨ ق.م.)، في كتاباتٍ على جدران معبد الكرنك، ومن ثمّ مراسلات تلّ العمارنة في القرن الرابع عشر ق.م.

لا يتعرّض الكاتب لقصّة الخروج، ولكنّه يسلّم بأنّ شخصيّات شاول (طالوت في القرآن) وداود وسليمان تاريخيّة، رغم غياب أي ذكر مستقلّ لها خارج الكتاب المقدّس قي السجلّات المعاصرة منها واللاحقة، ويستند في هذا الصدد إلى مرور مصر والإمبراطوريّة الآشوريّة في هذه الفترة بمرحلة ضعف، ممّا سمح لمملكة العبرانييّن المتّحدة أن تملأ فراغ القوّة الناجم عن بلبلة ممالك وادي النيل وما بين النهرين، أمّا عن الآرامييّن فقد توسّعوا باتجاه الغرب، بيد أنّ داود هزمهم  وقتل ٢٢٠٠٠ من رجالهم (أخبار الأيّام الأوّل إصحاح ١٨ آية ٥)، ووضع حاميةً في دمشق التي وقعت تحت سلطته الممتدّة حتّى حماة. 

شهدت الفترة اللاحقة لانقسام المملكة المتّحدة صراعاً على القوّة بين آرامييّ دمشق وإسرائيل، استعر أو خَمَدَ حسب الظروف الإقليميّة: تُرْجِمَت زيادة التهديد الآشوري إلى اتّحاد الممالك السوريّة لمواجهته، بما فيها آرام وإسرائيل، كما حدث في معركة قرقر (٣)، وعنى انحسار هذا الخطر عودة هذه الدويلات إلى الاقتتال والتناحر إلى أن سقطت دمشق بيد الآشورييّن عام ٧٣٢ ق.م.، وتلتها إسرائيل عام ٧٢٢. قُدِّرَ ليهوذا أن تستمر حتّى أخذها نبوخذ نصّر البابلي الكلداني عام ٥٨٦ ق.م.، بيد أنّ هذه القصّة تخرج عن الفترة قيد الدراسة.

____________

القائمة التالية تلخّص ما نعرفه عن ملوك آرام دمشق:

- حزيون أو Rezon قرن عاشر ق.م. ولا ذكر له خارج كتاب العهد القديم.
- بنهدد الأوّل (قرن تاسع ق.م.)  وهو حسب المؤلّف مذكور في لوحة ملقرت التي اكتُشِفَت عام ١٩٣٩ قرب حلب (نُقِلَت بعدها إلى متحف حلب)، بيد أنّ Wayne Pitard شكّك في هذا الزعم وارتأى أنّ الشخصين على الأغلب مختلفان.
- حزائيل (قرن تاسع ق.م.). بلغت آرام دمشق في عهده أقصى اتّساعها. مذكور في نقش عاجي من أرسلان طاش محفوظ حاليّاً في متحف حلب.
- بنهدد الثاني أو الثالث (مطلع القرن الثامن ق.م.) وهو مذكور على Zakir Stele لوح زكير الذي اكتُشِفَ عام ١٩٠٣ جنوب شرق حلب وهو حاليّاً في متحف اللوڤر.
- رصين Rezin آخر ملوك دمشق الآرامييّن قبل سقوطها على يد الآشورييّن عام ٧٣٢ ق.م.

____________

بالنسبة لذكر ملوك إسرائيل خارج كتاب العهد القديم:

- أخاب (٨٧٥ - ٨٥٣ قبل الميلاد) في نصب كرخ Kurkh Monoliths الذي اكتُشِفَ عام ١٨٦١ وهو الآن في المتحف البريطاني. شكّك بعض الباحثين في تطابق هويّة المذكور على النصب مع الملك الإسرائيلي في الكتاب المقدّس.
- ياهو أو Jehu (٨٤١ - ٨١٤ ق.م.) في المسلّة السوداء التي اكتُشِفَت عام ١٨٤٦ (حاليّاً في المتحف البريطاني) ونرى فيها ملك إسرائيل ساجداً أمام شلمنصر الثالث

____________

يمكن بالطبع إضافة العديد من معطيات التنقيب، وخضمّ من المقالات والأبحاث التي نُشِرَت منذ صدور الكتاب عام ١٩٥٧، وفيها مع ما سَبَقَها أكثر من الكفاية لإثبات أنّ ممالك آرام دمشق وإسرائيل حقيقيّة، وبالتالي ليس كلّ ما ذُكِر في العهد القديم مجرّد أساطير وأقاصيص لا إسناد لهاخارج النصوص المقدّسة. نال التاريخ السوري القديم الكثير من الاهتمام، أمْلَتْهُ اعتباراتٌ دينيّة، ويبقى ما نعرفه أو على الأقلّ ما يمكن البرهنة عليه محدوداً للغاية. 

____________


١. الكتاب متوافر للتحميل بالنقر هنا
٢. الترجمة السبعينيّة أو Septuagint وهي تقارب النصّ الحالي.
٣. قرقر (٨٥٣ ق.م.) غير مذكورة في الكتاب المقدّس ومعرفتنا عنها مستمدّةٌ من النصوص الآشوريّة.




No comments:

Post a Comment