أجرت مؤلّفة الكتاب الدكتورة فائدة طوطح أربع زبارات إلى دمشق بين الأعوام ٢٠٠١ و ٢٠٠٨، أطولُها الأولى، عندما أقامت في شقّة في الشعلان (٢٠٠١ - ٢٠٠٢)، والثانية التي سكنت خلالها في حارة حنانيا في باب توما (تشرين أوّل ٢٠٠٣ إلى كانون أوّل ٢٠٠٤). أضافت الباحثة خلاصةَ النتائج التي حصلت عليها في دراساتِها الميدانيّة، إلى قرائاتِها وخبرتِها المهنيّة لتقّدّم لنا هذه الدراسة الممتعة الصادرة عن جامعة Syracuse عام ٢٠١٤ في حوالي ٣٠٠ صفحة تضمّنت ١٥ صورة بالأبيض والأسود.
شغلت طوطح (أعتقد أنّها فلسطينيّة الأصل) منصب أستاذ مساعد في العلوم السياسيّة في Virginia Commonwealth University. حاوَلَت المؤلِّفة في الدراسة قيد البحث، مستعينةً بطلاقَتِها بالعربيّة والإنجليزيّة، الإجابة على عدّةِ أسئلة، وخصوصاً:
أوّلاً: كيف ينظر الشوام والمقيمين في دمشق ومسؤولو الحكومة إلى الاستحالات الطارئة على المدينة؟
ثانياً: لماذا ترافقت عمليّة إعادة إحياء المدينة القديمة مع التركيز على هويّة شامية مثاليّة، علماً أن معظم الشوام هجروا هذه المدينة منذ عقود؟
ثالثاً: ما هو دور "غير الشوام" في الثقافة الشاميّة؟
رابعاً: ما هي دوافع رفض دور الثقافة الريفيّة في دمشق؟
خامساً: ما هو دور الازدواجيّة "ريف - مدينة" في التطوّرات التي شَهِدَتها دمشق؟
بدأت المؤلّفة بتعريف بعض المصطلحات التي لا غنى عنها لمن يريد استيعاب مطارحاتِها:
الشامي: هو من ينسب نفسه إلى دمشق القديمة حتى إن لم يعد يقطنها.
المقيم في دمشق: من سَكَنَ المدينة قبل بداية عمليّة الاستطباق gentrification، بغضّ النظر عن أصلِهِ. معظمُ هؤلاء من أصولٍ ريفية، وكثيرٌ من "الشوام" الذين لم يسكنوا المدينة القديمة في حياتهم يعتبرون هؤلاء وافدين مهما طالت إقامتهم ضمن السور.
عرّفت المؤلفة "الاستطباق"، بالكيفيّة التي تؤدّي فيها ظروفٌ اقتصاديّةٌ جديدة، إلى تجدّد المدن، من خلال إعادة تأهيل بيوتِها لتسخيرها لاستعمالاتٍ جديدة اجتماعيّة وثقافيّة.
يعلم المهتمون بدمشق أنّ الطبقة الموسرة والوسطى من أبنائِها هجرت بالتدريج المدينة القديمة إلى الضواحي الجديدة والشقق الحديثة اعتباراً من أواخر عهد الإنتداب الفرنسي ومنتصف القرن العشرين. ترافقت هذه الظاهرة مع وفودِ العديد من أبناء الأرياف ليشغلوا الفراغ الذي تركه الشوام ورائَهم، ويقطنوا البيوت العربيّة، ممّا أدّى إلى فقدان دمشق القديمة أهميّتَها السياسيّة والاجتماعيّة، وإن حافظت على مكانتِها الثقافيّة. ظلّ هذا الوضعُ سائداً حتّى مطلع التسعينات، عندما بدأت عملية "العودة" إلى البيوت الشاميّة عن طريق تحويلها إلى مطاعمٍ ومقاهٍ وفنادق بهدف جذب الشوام، وغير الشوام من الموسرين، مجدّداً إلى المدينة القديمة.
لا يعني هذا بالطبع غياب الأصوات التي ناشدت الجهات المعنيّة أن تفعل المزيد لإنقاذ النسيج العمراني للمدينة عبر السنوات. قامت الحكومة، على سبيل المثال، باستشارة المخطِّط الفرنسي Écochard (للمرّة الثانية) في الستّينات، وقدّم هذا الأخير عدداً من التوصيات، بيد أنّ اهتمامَهُ تركّز على إبراز المعالم الأثريّة وتسهيل المواصلات على حساب النسيج العمراني. مع ذلك لا يمكننا، حسب المؤلِّفة، أن ننفي أنّ اهتمام الفرنسييّن بدمشق ألهَمَ بعض السورييّن ومنهم خالد معاذ الذي بَذَلَ قصارى جَهْدِهِ في توثيقِ دمشق بالاشتراك مع المستشرق الفرنسي Sauvaget. هناك أيضاً تواصي عبد القادر الريحاوي في تحديث المدينة وتزويدها بالخدمات، دون المساس ببنيتِها التاريخيّة ونسيجها العمراني. يمكن إضافة أسماء وأصوات نصر الدين البحرة (دمشق الأسرار)، وناديا خوست (الهجرة من الجنّة)، والشاعر العظيم نزار قبّاني وغيرهم.
لا مناص لباحثةٍ سكنت لفترةٍ في شقّة، ثمّ في بيت عربي، من المقارنة بين الإثنين، وملاحظة تحدّيات الحياة في الدار الشاميّة التقليديّة: منها صعوبة التدفئة في الشتاء، والجهد والوقت الضروري للمحافظة على البيت نظيفاً، سواءً لدى هبوب الرياح الصيفية مع ما يرافقها من الغبار، أو في الشهور الممطرة وما يترتّب عليها من التخبّط في الوحل في الأزقّة الضيّقة التي يتعذّر دخول العربات الآليّة إليها أو يكاد. أضافت المؤلِّفة أنّ الكثيرين من سكّان البيوت القديمة يحلمون بالانتقال إلى شقّةٍ أكثر انسجاماً مع الحياة العصريّة.
ختمت طوطح دراسَتَها بالقول أنّ سبب ديمومة دمشق عبر آلافِ السنين يكمن في قدرتِِها على النموّ والتكيّف واجتذاب موجاتٍ جديدة من الناس، ولربّما أخطأ مَن اعتبرها ملكاً لمجموعةٍ أو فئةٍ معيّنة. من هذا المنطلق، هناك سلبيّات لقرار UNESCO عام ١٩٧٩ بإدراج دمشق كموقع تراث عالمي World Heritage Site بهدف حماية الأحياء الداخليّة، منها تجميد المدينة القديمة كما كانت في أربعينات القرن العشرين، عندما كان "الشوام" يقطنونها، ممّا قد يؤدّي إلى تهميش "المقيمين" فيها من سكّانِها الحالييّن.
حاشية:
تزامنت الحركة لحماية المدينة القديمة في أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات مع الاضطرابات السياسيّة التي شَهِدَتْها سوريّا في تلك الفترة، وارتأى البعض أنّ أحد أهداف تحديث المدينة وشقّ شوارع عريضة، وكشف القلعة والأموي إلخ، كان محاولةَ الحكومة احتواء الإخوان المسلمين عن طريق تسهيل دخول عناصرها وآليّاتِها إلى معاقِلِهِم في الأحياء السكنيّة. اتّخذ الفرنسيّون تدابيراً مشابهةً بشكلٍ أو بآخر في عشرينات القرن الماضي، بغيةَ عزلِ دمشق عن ثوّار الغوطة.

No comments:
Post a Comment