قليلة هي المعلومات المتوافرة عن أسواق دمشق قبل الإسلام ولكن يرجح أنّها تركّزت حول الشارع المستقيم الذي اجتازها من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب وكان قسمه المركزيّ الأعرض مخصّصأ للعربات بينما كرّس رواقاه الجانبيّان للمشاة. أضف إلى ذلك الأنشطة التجاريّة حول معبد المشتري الخارجي (peribolos) والسوق التي تحاذي ضلعيه الشمالي والغربي والمدعوّة Gamma نسبة لشكلها Γ الذي يشبه هذا الحرف اليوناني.
لربّما تركّزت العمائر الإسلاميّة الأولى في العهد الأموي جنوب وشرق معبد المشتري الداخلي temenos وبقيت ساحة المدينة شرقه (agora أو forum) خالية تحت اسم رحبة خالد بن أسيد أمّا عن الأسواق فلم يطرأ على توزيعها تغيّرات تستحقّ الذكر إلى أن بني الجامع الأموي في مطلع القرن الثامن للميلاد وبدأ بجذب الأسواق إلى محيطه.
نتج عن سقوط الدولة الأمويّة (٧٥٠ للميلاد) تدهور وضع دمشق الإقليمي إذ انتقل مركز ثقل الإمبراطوريّة الإسلاميّة شرقاً إلى العراق وبغداد وتلى ذلك عهود سادت فيها القلاقل وأصبحت الشام أرضاً تنازع عليها العبّاسيّون والطولونيّون والإخشيديّون والفاطميّون. تلاشى مخطّط المدينة الشطرنجي وظهرت الأزقّة المنعرّجة الضيّقة وانفصلت الأحياء بعضها عن البعض الآخر لأسباب تتعلّق بالأمن والاختلافات الدينيّة والمذهبيّة والقبليّة والإثنيّة وأدّى ذلك إلى تطوّر السويقات أي الأسواق الصغيرة المتوزّعة داخل الأحياء لتأمين الحاجات اليوميّة للسكّان دون الحاجة إلى المخاطرة بمغادرة الحارة والخروج إلى السوق العامّ وأصبح للحارة مسجدها (أو كنيستها أو كنيسها) وحمّامها وبابها.
يحسن هنا تصنيف الأسواق تحت الأبواب التالية:
أوّلاً: أسواق سلع الاستهلاك اليومي (الأغذية بالدرجة الأولى) ويمكن للسويقة تأمين هذه السلع.
ثانياً: أسواق السلع الضروريّة دوريّاً أو حسب الحاجة كالحبوب والثياب والأدوات المنزليّة والأثاث (هذا الأخير بسيط للغاية حتّى القرن التاسع عشر).
ثالثاً: أسواق الكماليّات (مجوهرات ومنتجات محليّة أو مستوردة).
رابعاً: أسواق الحرفييّن المختصّة من صنّاع النحاس والفخّار والزجاج وهلمّجرّا وتتوزّع في المدينة حسب قربها من موادها الأوّليّة أو زبائنها أو طرق التجارة أو لاعتبارات تتعلّق بالضجيج والتلوّث الذي تحدثه ومن هنا الرغبة في إبعادها عن المناطق السكنيّة إلى أطراف المدينة.
تحسّن الوضع الأمني في العهد المسمّى خطأً بالبوري (بدأ في الواقع مع الأتابك ظهير الدين طغتكين) وبدأت أرباض جديدة في الظهور خارج سور المدينة: العقيبة شمالاً والشاغور جنوباً وقصر حجّاج (نسبة للحجّاج بن عبد الملك) إلى الجنوب والغرب.
ساد الرخاء والاستقرار في دمشق في عهد نور الدين وشهد ملكه نشاطاً عمرانيّاً واسع النطاق خصوصاً أنّ المدينة استعادت دورها كمركز لدولة قويّة. لا داعي للتفصيل في العمائر الدفاعيّة والمدارس والبيمارستان النوري الشهير فما يهمّنا هنا هو الأسواق وسقفها بالجملونات الخشبيّة وبناء القيساريّات الجديدة وترميم القديمة. تظهر الخارطة الملحقة توزيع هذه الأسواق حسب اخنصاصاتها: سوق القمح (البزورييّن أو البزوريّة حاليّاً) جنوب الجامع الأموي وسوق الأنسجة شرقه ودار البطّيخ (القديمة) جنوب الشارع المستقيم وفيها تباع الخضار والفواكه أمّا رحبة خالد بن أسيد فعقدت فيها الأسواق الأسبوعيّة وهكذا دواليك.
أضف إلى ذلك محلّ ضرب النقد (دار السكّ أو دار الذهب أو دار الفلوس) ومعاصر الزيت والطواحين على بردى والأحياء الجديدة خارج السور (الصالحيّة مثلاً) مع مساجدها الجامعة.
أضاف العهد الأيوّبي الكثير إلى مآثر العهد النوري وبني خلاله المزيد من المنشئات التجاريّة داخل وخارج سور المدينة.
الخريطة أدناه لدمشق في القرن الثالث عشر عن Sauvaget.
للحديث بقيّة.
ناصر الربّاط. تطوّر السوق في دمشق. الحوليّات الأثريّة العربيّة السوريّة ١٩٨٨-١٩٨٩.
No comments:
Post a Comment