لا زلنا في مصر أواخر القرن الثامن عشر والعهد الذي شهد تمرّد علي بك الكبير مع حليفه السوري ضاهر العمر. كانت مقاليد الأمور وقتها في أيدي المماليك ولم يكن هؤلاء في وارد التزاوج مع النساء المحليّات إذ اقتصروا على الجواري اللواتي استوردن كأزواجهنّ من جورجيا واللواتي اشتهرن بجمالهنّ. لم يكن الأوروبيّون عموماً والفرنسي de Volney خصوصاً في وضع يمكّنهم من تقييم هذا الجمال المحجوب عن الأنظار وإن قال المؤلّف أنّ الملاحة في الشرق تقاس ببياض البشرة و"بالقنطار" أي كلّما زادت بدانة المرأة كلّما زاد حسنها وتفتّحت مفاتنها.
حكم المماليك مصر بدرجات متفاوتة منذ منتصف القرن الثالث عشر بعد أن هوت الامبراطوريّة الأيّوبيّة وهم -كما يعني اسمهم- أصلاً عبيد جرى عتقهم ومن امتيازات هذا العتق السماح لهم بإطلاق لحاهم. المماليك طغاة وخبثاء -الكلام دوماً للمؤلّف- وجهلة وغدّارين وفاسدين ويمارسون اللواطة التي اقتبسوها من الإغريق والتتار وهي أوّل ما يتعلّمونه من سادتهم الذي يلقّنونهم أيضاً فنّ الحرب. يستسلم الكاتب هنا ككثيرين غيره في الشرق والغرب إلى التعميم والوصف النمطي ولا يقتصر هذا على المماليك فهو مثلاً ينعت مسيحييّ الإمبراطوريّة العثمانيّة بأنّهم "أكثر كفراً حتّى من الأتراك" و"أسوأ أخلاقاً من المسلمين". ممّا أدّى لتدهور التجارة الفرنسيّة في القاهرة مقارنة مع غيرها.
جغرافيّاً المقصود بمصر قديماً مصر السفلى أو الدلتا (الوجه البحري) بينما مصر العليا (الوجه القبلي) تدعى أيضاً النوبة وبلاد كوش أو Thébaïde نسبة لطيبة (حيث الأقصر والكرنك) أمّا بالنسبة لعدد سكّان مصر وقتها فقد قدّره المؤلّف بحوالي مليونين وثلاثمائة ألف وإن حذّر فقال أنّ سجلّات الولادات والوفيّات غير موجودة في الشرق الأدنى.
قدّر البعض عدد سكّان القاهرة وقتها -بما فيها ضاحية وميناء بولاق المفصولة عن المدينة- بسبعمائة ألف نسمة ولكن هذا الرقم اعتباطي نظراً لغياب الإحصاء اللهمّ إلّا بالنسبة للمسيحييّن وبهدف تقدير ضرائب الخراج والجزية فقط. احتلّت القاهرة حينئذ مساحة تعادل تقريباً مساحة باريس التي بلغ عدد سكّانها ٧٠٠٠٠٠ ولكن هذه الأخيرة أكثر اكتظاظاً ويصل ارتفاع بعض أبنيتها إلى خمس طوابق بينما لا يتجاوز في القاهرة طابقين أو ثلاثة على أبعد تقدير وبالتالي استنتج Volney أنّ رقم ربع المليون أقرب إلى الصواب.
أغلب بيوت القاهرة مبنيّة من الطين والآجرّ وكميّة معيّنة من الحجارة وهي أشبه ما تكون بالسجن كونها محرومة من إطلالة على الشارع. توزيع البيوت من الداخل سيّء وإن وجدنا علامات الترف في البيوت الموسرة حيث نرى الخزف والرخام الملوّن والبسط والسجّاد الثمين الذي يتربّع أهل الدار فوقه. يلي ذلك وصف الطنافس والجدران المخطوطة بالآيات القرآنيّة والرفوف المزيّنة بالآنية الصينيّة واليابانيّة والبوّابات والنوافذ والمشربيّات وصحن البيت الداخلي. وصف معقول وإن لم يحدث بيت القاهرة الانطباع المأمول في زائره الفرنسي الذي ارتأى أنّ الأغنياء يكتسون بثياب لا تناسب مناخ البلاد الحرّ وأنّ ولعهم بالفراء يعرّضهم لأمراض تبدوا أقلّ وطأة على عامّة الناس الذين يرتدون القمصان الزرقاء البسيطة.
للحديث بقيّة
No comments:
Post a Comment